الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب الثامن والعشرين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الربع الأول من الحزب الثامن والعشرين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إلى قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} .
ــ
في بداية هذا الربع، يؤكد كتاب الله الحقيقة الدينية الأولى، التي نادت بها جميع الكتب المنزلة، كتابا بعد كتاب، والتي بشر بها كافة الأنبياء والرسل، نبيا بعد نبي ورسولا إثر رسول، ألا وهي انفراد الحق سبحانه وتعالى بالألوهية والربوبية عن كل ما سواه، وضرورة التوجه إليه وحده بالخوف والرجاء دون ما عداه، وذلك قوله تعالى:{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} . وكيف لا يفرد الخلق خالقهم بالعبادة والطاعة والتوجه إليه في السراء والضراء، وهو سبحانه وتعالى بديع السماوات والأرض، وهو الذي شرع لهم الدين الحق وهداهم إليه منذ البداية، ومنه وحده ينتظرون الجزاء في النهاية:
{وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} . وقوله تعالى هنا: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} يماثل في معناه قوله تعالى في سورة الزمر: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الآية: 3]، وينظر إليه قوله تعالى في سورة غافر:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الآية: 14].
ثم يتجه كتاب الله بخطابه إلى الناس كافة، مذكرا إياهم بأن كل ما يتقلبون فيه من النعم على اختلافها، إنما هو هبة إلهية وهبها لهم بمحض إرادته، وأن من تفضل بالعطاء، يمكن أن يعاقب بالسلب {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} .
ووصف كتاب الله في هذا السياق، حالة من الحالات اليومية التي تعرض لكثير من الناس عندما يمسهم الضر، وينزل بساحتهم الأذى، فتنكشف عن أعينهم جميع الغشاوات والحجب، وتبدو لهم أنفسهم عارية على حقيقتها من الضعف والعجز والاحتياج، ولا يستطيعون لدفع الضر عن ساحتهم حيلة ولا يهتدون سبيلا، فلا يجدون مفتوحا أمامهم إلا بابا وحيدا هو باب الرحمان الرحيم، يلجأون إليه مضطرين صاغرين، ويطرقون بابه بالشكوى صارخين مبتهلين، فيجيب بفضله دعاءهم، ويكشف برحمته ضرهم، الأمر الذي كان كافيا ليوقظ في نفوسهم على الدوام حاسة الإيمان، ويحملهم باستمرار على الشكر والطاعة والإذعان، لكنهم على العكس من ذلك، بمجرد ما يكشف الحق سبحانه عنهم الضر، ويدفع عنهم الأذى، ينسون فضل الله، ويتنكرون لنعم الله، وينتكسون مرة أخرى فيعودون إلى ما كانوا عليه من
المعتقدات الباطلة والتصرفات الفاسدة، وهكذا تتحرك فيهم فطرة الخير مؤقتا، تحت ضغط الضعف والمرض والأذى، لكن بمجرد ما يستعيدون القوة والصحة والسلامة، تطغى عليهم من جديد نزغات الشر والعصيان، ويتصدون لنعم الله وحقوقه بالجحود والكفران، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} .
ويعقّب كتاب الله على اتجاه هذا الفريق المنحرف من الناس المنكر للجميل، الذي لم يستخلص العبرة من لطف الله به ورعايته إياه، فيخاطب أفراده مهددا ومتوعدا قائلا:{فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} . وإذن فهم يعتبرون في حالة إمهال، لا إهمال، ومآل تمتعهم مهما طال، فهو إلى زوال.
واستعرض كتاب الله صورا من معتقدات المشركين وآرائهم السخيفة، في معرض النقض والإبطال، وفي طليعة هذه المعتقدات الباطلة، ما كان المشركون يخصصونه للأصنام والأوثان، من أنعام لا يركبونها ولا يذوقون لحومها، ومن عطايا ونذور لا يقتطعون منها شيئا، وما كانوا ينسبون لمقام الألوهية من اختيار البنات، وهي الملائكة في نظرهم.
واستنكر كتاب الله سخافة عقولهم، وسماجة عوائدهم، التي كانت تقضي باحتقار الأنثى والتشاؤم بها، مستغربا كيف أنهم تجرأوا على أن يختاروا لله في زعمهم ما يكرهونه لأنفسهم، وذلك
ما يشير إليه قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ} ، أي: للأصنام والأوثان، التي لا سند لها من العلم والدين، وإنما جرهم إلى عبادتها، الجهل والوهم والتقليد. {نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} ، أي: ظل وجهه كئيبا من الهم، وهو ساكت من شدة الحزن، يكظم غيظه وهمه. {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} ، أي: يختفي حتى لا يراه الناس، وذلك:{مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} ، وهذه إشارة إلى ما كان يقدم عليه بعض المشركين من وأد البنات وهن أحياء، وما كان يقوم به البعض الآخر من إبقائهن أحياء، لكن في حالة من الضعة والهوان، وفي هذا الموضوع نفسه، ورد في مكان آخر من هذا الربع، قوله تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} ، وقوله تعالى: تنزيها للحق سبحانه عن كل ذلك: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
ثم عقَّب كتاب الله منددا بهذه النظرة الجاهلية السخيفة، هادما لها من الأساس، معيدا بذلك للأنثى كرامتها الأصيلة، معترفا لها بحقها الثابت في الحياة العزيزة الكريمة مثل شقيقها الذكر، فقال تعالى ناقضا لحكم الجاهلية في شأن الأنثى، ومنددا بموقف المشركين منها:{أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} .
ونبَّه كتاب الله إلى أن: (الإيمان بالآخرة)، المنبثق عن
الإيمان بالله، والذي هو له كالنتيجة بالنسبة للمقدمة، هو مصدر جميع أنواع الكمال عند المؤمن؛ لأن الإيمان بالآخرة وتوابعها، يستلزم مراقبة الله في جميع الأحوال، ومن راقب الله قولا وعملا، ظاهرا وباطنا، كان أقرب إلى الكمال، وأبعد عن النقص، بخلاف من لم يؤمن بالآخرة وأصر على إنكارها، فإنه يظل غريقا في أوحال المساوئ والنقائص، بحيث لا يتصور في حقه أي كمال، ولا غرابة في ذلك، فهو سيء العقيدة في الله وفي الناس، وهو سيء السلوك نحو الله ونحو الناس، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} ، أي: النقص قائم بهم، ومنسوب إليهم. {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} ، أي: له الكمال المطلق من كل وجه.
ونبَّه كتاب الله إلى ما تواطأ عليه البشر في مختلف العصور، من تظالم فيما بينهم بالبغي والعدوان، رغما عما أمرهم الله به من التزام العدل، وما تواطأوا عليه من ظلم يرتكبونه في حق خالقهم ورازقهم، بالشرك وعبادة الأوثان، رغما عما هداهم إليه من عقيدة التوحيد، وبيَّن أن رحمة الله وحكمته اقتضتا أن تستمر عمارة الأرض إلى اليوم الموعود، فأخر لذلك مؤاخذتهم على ظلمهم، وتركهم يتقلبون في نعمه إلى حلول أجلهم، حتى إذا ما حل الأجل أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وذلك قوله تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} ، أي: لأباد من الأرض الحياة والأحياء، {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} .
وواضح أن " المؤاخذة " التي يؤخرها الله عن الظالمين، هي المؤاخذة الكلية التي لا تبقي ولا تذر، أما مؤاخذتهم الجزئية بالخوف، والجوع، والنقص من الأموال والأنفس والثمرات، وتسليط الكوارث والأزمات، وقيام الفتن والحروب، فهي ملازمة لهم، مستمرة معهم إلى يوم الدين، على حد قوله تعالى:{فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، وقوله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155].
ثم عقَّب كتاب الله على ظاهرة الجحود والعناد، والتواطؤ على الضلال والفساد، التي لازمت البشر قرونا طوالا، فلم يستفيدوا من رسالات الرسل الفائدة المرجوة، ملوحا إلى أن عناد مشركي العرب للرسالة المحمدية إنما هو عود على بدء، وليس هو الأول والآخر، فقال تعالى:{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وتناول كتاب الله تحديد جملة من الأهداف التي توختها الحكمة الإلهية من الرسالة المحمدية، التي هي خاتمة الرسالات، وهذه الأهداف المشار إليها هنا ثلاثة أمور:
الأمر الأول: وضع حد للخلاف والنزاع القائم بين أتباع الأديان السالفة، وإلقاء الأضواء على ما دخل تلك الأديان من تزييف وتحريف وسوء تأويل، وتعريف الناس كافة بالحقيقة الدينية
الأصيلة على وجهها الكامل الصحيح، خالصة من الشوائب، صافية من الأكدار.
الأمر الثاني: هداية الإنسانية إلى الصراط المستقيم الذي ينظم سلوكها، ويقود خطواتها، وينقذها من مهاوي الضلال والفساد، ويعرج بها إلى معارج الصلاح والرشاد.
الأمر الثالث: إشاعة الرحمة والإحسان في مجتمعات بني الإنسان، على اختلاف الأجناس والألوان.
وإلى هذه الأهداف الثلاثة يشير قوله تعالى هنا في إعجاز وإيجاز: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، ويؤكد هذه المعاني قوله تعالى في الربع القادم:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} .
وانتقل كتاب الله إلى تعداد جملة من النعم الإلهية الكبرى، امتن بها على عباده حتى يطيب لهم العيش، ويستمتعوا بالحياة، فقال تعالى:{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ، وقال تعالى:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} ، وقال تعالى:{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} ، وقال تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} ، و " الوحي " في هذا المقام بمعنى الإلهام، {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ
فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}.
وواضح من سياق هذه الآيات أنها واردة في معرض امتنان الله على عباده، والامتنان لا يقع إلا بمحلل لا بمحرم، فالماء واللبن والعسل كلها حلال، و " السكر " الوارد معها في نفس السياق لا يصح أن يفهم منه معنى المسكر الحرام، وإنما معناه ما يستخرج من الثمرات والفواكه الناضجة ذات المواد السكرية بشكل عادي، كعصير الرطب والعنب، وبذلك يظل سياق الآيات كله منسجما ومتلائما في الامتنان بما هو حلال.
ويؤكد هذا الفهم قول أبي عبيد: " السكر نقيع التمر الذي لم تمسه النار " نقله عنه ابن منظور في (لسان العرب)، ويزيد هذا الفهم تأكيدا ورود قوله تعالى في نفس السياق:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، عقب قوله:{سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} ، مباشرة ودون فاصل، فالعقل الذي يتمكن من التدبر العميق والتفكير السليم في آيات الله ونعمه هو العقل الذي لم تفسده المسكرات والمخدّرات، بل بقي مصونا من كل ما يفسده، سليما من كل ما يلوثه.
ولا شك أن النفع العميم الذي يناله الخلق بواسطة هذه النعم الإلهية يتطلب منهم مقابلتها والاستزادة منها بالحمد والشكر، كما أن الحكمة الربانية البارزة في إيجادها من العدم، وإمداد الخلق بها دون انقطاع، تتطلب منهم الإيمان بمبدعها، والتوجه بالطاعة إلى ممدهم بها:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .