المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الأول من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٣

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الشريف (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الشريف (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة يونس

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والعشرينمن المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة هود

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والعشرينمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة يوسف

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الرعد

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة إبراهيم

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحجر

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النحل

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الإسراء

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الكهف

- ‌الربع الأول من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الأول من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الأول من الحزب السابع والعشرين

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

حصة هذا اليوم تتناول الربع الأول من الحزب السابع والعشرين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في مطلع سورة الحجر المكية:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} إلى قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} .

ــ

في نهاية الربع الماضي ختمنا بفضل الله " سورة إبراهيم المكية "، وفي بداية هذا الربع نشرع بعون الله في تفسير " سورة الحجر المكية "، أيضا، وسميت هذه السورة سورة الحجر، أخذا من قوله تعالى:{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .

وسورة الحجر مبدوءة بحروف الهجاء المقطعة {أ. ل. ر.}

ص: 279

نظير كل من: سورة يونس، وسورة هود، وسورة يوسف، وسورة الرعد، وسورة إبراهيم الواردة قبلها على التوالي دون فاصل بينها، والمفتتحة كلها بنفس النوع من الحروف الهجائية المنفصلة، على نفس النهج الذي بدئت به كل من سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة الأعراف، وقد تكرر في هذه المجموعة من السور التسع حرف الألف وحرف اللام، وتكرر حرف الراء في ست منها، وتكرر حرف الميم في أربع منها، وورد حرف الصاد في واحدة منها.

وهناك مجموعة أخرى من السور على هذا النمط يبلغ عددها العشرين، وهي حسب ترتيب كتابتها في المصحف الكريم: سورة مريم، وسورة طه، وسورة الشعراء، وسورة النمل، وسورة القصص، وسورة العنكبوت، وسورة الروم، وسورة لقمان، وسورة السجدة، وسورة يس، وسورة ص، وسورة غافر، وسورة فصلت، وسورة الشورى، وسورة الزخرف، وسورة الدخان، وسورة الجاثية، وسورة الأحقاف، وسورة {ق} وسورة {ن} . وقد تكرر حرف الميم في ثلاث عشرة منها، وتكرر حرف الحاء في سبع منها، وورد حرف الطاء وحرف السين فيها أربع مرات، وورد فيها كل من حرف الصاد وحرف الياء وحرف الهاء مرتين، وورد فيها كل من حرف الكاف وحرف القاف وحرف النون مرة واحدة.

وكل هذه السور المفتتحة بالحروف المقطعة يأتي في مطلعها الحديث عن معجزة القرآن، والتنويه بها تنويها خاصا، ومن بين من نبه على ذلك ابن كثير، ودل عليه الاستقراء في علم

ص: 280

التفسير، كقوله تعالى هنا في سورة الحجر التي نحن بصدد تفسيرها {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} .

وكأن إيراد الحروف الهجائية المقطعة في مطلع هذه السور إشارة إلى أن حكمة الله البالغة اقتضت أن تحول الحروف العادية الجارية على ألسنة الناس، والتي لا يصوغون منها أي كلام معجز للبشر، إلى مادة إعجاز إلهي يقف الجنس البشري كله أمامها مبهوتا ومبهورا، سواء من آمن منه أو من كفر، كما هو الأمر بالنسبة إلى مواد أخرى هي في متناول البشر جميعا، ولكنهم عاجزون عن أن يصنعوا منها أي شيء خارق للعادة، بينما القدرة الإلهية تصنع منها أعجب الأعاجيب، وفي طليعتها الإنسان المخلوق من طين، والطين في متناول كل الناس، ولكنهم عاجزون عن أن يصنعوا منه بأيديهم حتى أخس الحشرات، وأضعف الجراثيم، فضلا عما هو أعلى وأدق، {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11].

وقوله تعالى هنا: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} إخبار عن الكافرين بأنهم سيندمون على ما هم فيه، وسيتمنون عندما يعرفون حقيقة الإسلام أن لو كانوا مسلمين، ولاسيما عندما يكون أحدهم في حالة الاحتضار وتتجلى أمامه الحقائق الرهيبة، وهذا أمر واقع ما له من دافع، فكم من الكفار يقارنون معتقداتهم الباطلة بعقيدة التوحيد الحق، ويقارنون تشريعاتهم الإباحية بشريعة الإسلام الأخلاقية، ويتمنون لو أنهم كانوا على عقيدة الإسلام الصحيحة، وشريعته الفاضلة، ونفس

ص: 281

الموقف سيقفه الكفار عندما يواجهون عذاب الله في الدار الآخرة، كما قال تعالى في آية ثانية في سورة الأنعام:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الآية: 27]. ولفظ (رب) يأتي غالبا للتقليل، وأحيانا للتكثير، و (ربما) الواردة هنا من هذا القبيل.

وقوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} إشارة إلى سنة الله التي خلت من قبل في الأمم والشعوب عندما ترتكس في أوحال الضلال، وتصر على السير في طريق الخبال، فإن الله يسلط عليها أسباب الإبادة والهلاك، وعلى مدنها وقراها عوامل الخراب والاضمحلال. وبين كتاب الله أن هناك قانونا ثابتا لا يتخلف لارتقاء الأمم وسقوطها، وسعادتها وشقائها، وعزها وذلها، فقال تعالى:{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} ومعنى ذلك أن الله جعل لكل أمة عمرا كأعمار الأفراد، وأجلا لحياتها كأجل العباد.

ثم عرض كتاب الله بعض الادعاءات والاتهامات التي اعتاد توجيهها إلى الرسل والأنبياء خصوم النبوات والرسالات، فقال تعالى حكاية عن مشركي قريش -وهم يخاطبون الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} على غرار ما قالته الأقوام السابقة لمن جاء قبله بالرسالة، إذ وصفوهم بالغباوة والسفاهة والضلالة.

وقول المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} لم يصدر منهم على أنه اعتراف حقيقي بأنه رسول يوحى

ص: 282

إليه من عند الله، وإلا لأصبحوا مؤمنين، وإنما صدر منهم في صورة استخفاف بدعواه، كأنهم يقولون له: يا أيها الذي يزعم أنه نزل عليه الذكر، وما هم له بمؤمنين.

وردا على استخفافهم، وإبطالا لادعائهم، عقب كتاب الله على قولهم في نفس السياق فقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وهكذا ركز كتاب الله جوابه حول المعنى الذي دار عليه كلامهم وهو: {نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} فجاء بما يثبت ذلك المعنى ويؤكده تأكيدا قاطعا، وأخبر بأن الله تعالى هو الذي نزل الذكر على رسوله حقيقة لا خيالا، وصدقا لا ادعاء، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} .

ثم أضاف إلى ذلك ما هو أجل وأخطر، وهو أنه سبحانه قد تعهد، لا بتنزيل القرآن من عنده فحسب، بل تعهد بصيانة القرآن وحفظه من كل خلل على مر الأعصار، ورغم أنف جميع الخصوم والأعداء، فهو محفوظ بحفظ الله في الصدور والسطور من كل تبديل أو تغيير، وهو محفوظ بحفظ الله، من جميع العوارض التي تعرض للبشر عادة فيما يتناقلونه ويتحملونه على عهدتهم، ويتولون حفظه بأنفسهم، وإذا كان غير القرآن من الكتب المنزلة قد لحقه تغيير وتبديل، وتحريف وسوء تأويل، فإن ذلك آت من أن الله تعالى قد ابتلى أهلها عندما وكل حفظها إليهم، فضيعوها ولم يحافظوا عليها، كما قال تعالى في شأنهم في سورة المائدة:{وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [الآية: 44].

ص: 283

وقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} يصف فيه كتاب الله جميع الكفار والمنافقين المعاندين الذين أصموا آذانهم عن سماع دعوة الدين، وتلقي الحق المبين، والمراد هنا أن هذا الصنف من الخلق لو رأوا بأعينهم أعظم خارق للعادة، وعرج بهم إلى السماء، والتحقوا بالملأ الأعلى، لأنكروا أمره، وادعوا أنه مجرد سحر أو تخييل، على غرار ما قاله فرعون وملأوه لموسى الكليم.

وقوله {يَعْرُجُونَ} أي يصعدون، وقوله حكاية عنهم:{سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} إما من السكر ضد الصحو، فيكون معنى:{سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} : كنا في غيبوبة، ورأينا الأمر على غير حقيقته، أو من السكر بمعنى السد، فيكون معنى:{سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} . حبست أبصارنا ومنعت من النظر، وهذا تصوير لادعائهم الكاذب، ولتهربهم بجميع الوسائل من الاعتراف بالحق.

وانتقل كتاب الله إلى التذكير بآيات الله في السماوات والأرض، التي هي أكبر من خلق الناس، عسى أن يتدبروها، ويدركوا ما فيها من حكم عامة لجميع المخلوقات، مصالح خاصة للإنسان وغيره من الحيوان، فقال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا

ص: 284

خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}. والمراد بالبروج ما يشمل منازل الشمس والقمر، والكواكب والشهب، والمذنبات والمجرات، وكل ما هو سابح في الفضاء من عوالم السماء.

وقوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} إشارة إلى حكمة الله الدقيقة في أنواع النبات والثمرات، مما يتجدد خلقه دون انقطاع، حسب نواميس ثابتة لا تتخلف، وموازين دقيقة لا تختل ولا تضطرب.

وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} فيه إشارة إلى خزائن الله الواسعة التي بثها ووزعها في العالم العلوي والعالم السفلي، والتي خزن فيها كل ما يتوقف عليه الإنسان، في مختلف العصور والأزمان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وفيه إشارة أيضا إلى أن هذه الخزائن لا يطلع الله عليها الإنسان جملة واحدة، ولا يضعها تحت تصرفه دفعة واحدة، وإنما يتم ذلك " بقدر معلوم "، أي بمقدار محدود، طبقا لحكمة الله العليا، المسيرة لهذا الكون، والسارية في جميع أجزائه.

وقوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} إشارة إلى المياه التي يكرم الله بها عباده للشرب والسقي والنبات، وأنه سبحانه قادر على أن يذهبها ويغورها فلا يبقى منها عين ولا أثر، لكنه رحمة بعباده، يدخر منها لصالحهم في جوف الأرض، ما يرتفقون به من

ص: 285

العيون والآبار، ويدخر منها على سطح الأرض ما تجري به الوديان والأنهار، وهكذا يتولى الله خزنها رحمة منه بالإنسان، إذ قيام الإنسان بخزنها كلها والمحافظة عليها ليس في الإمكان.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} إشارة إلى أن علم الله محيط بكل شيء، وأنه لا يخفى عليه شيء، أزلا وأبدا، من الأوائل والأواخر، ثم أكد كتاب الله أنه سيجمعهم وسيحشرهم جميعا في اليوم الموعود {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} ، والتعبير بقوله {هُوَ يَحْشُرُهُمْ} للتنبيه على أن جمعهم جميعا وحشرهم في صعيد واحد- رغما عن كثرتهم وتفرقهم وتطاول أعصارهم -هو وحده القادر عليه، وليس على الله بعزيز.

وانتقل كتاب الله من الحديث عن خلق السماوات والأرض إلى الحديث عن قصة خلق الإنسان، وما جاهر به إبليس آدم وبنيه من العداوة والبغضاء والحسد، مبينا أن مشيئة الله اقتضت أن يخلق الإنسان {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} . وأن حكمته اقتضت أن يأمر ملائكته بالسجود لآدم بعد أن يسويه وينفخ فيه روح الحياة، تكريما لما خصه به سبحانه من الخصائص والمزايا التي لم يمنحها لسواه، وذلك قوله تعالى:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} .

ومعنى قوله: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} من الوجهة اللغوية: " من طين يابس غير مطبوخ "، ومعنى قوله:

ص: 286

{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} : أنعمت عليه بنعمتي الإيجاد والإمداد، وليس هناك نفخ ولا منفوخ، وإنما هو تمثيل وتصوير لما أمر به الحق سبحانه وتعالى من تجهيز الإنسان وتزويده بالأجهزة الضرورية لحياته فوق سطح الأرض {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .

وقوله تعالى في نهاية هذه القصة، خطابا لإبليس اللعين:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} هو الذي سيضطر إلى الاعتراف به إبليس اللعين، عندما يفتضح أمره يوم الدين، قائلا لأتباعه الغاوين، فيما حكاه كتاب الله في سورة إبراهيم:{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [الآية: 22]، فما نفاه الحق سبحانه عن إبليس في البداية {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} هو الذي أقر به إبليس في النهاية - {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} ، وصدق الله العظيم إذ قال:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 115].

وختم هذا الربع بالحديث عما ينتظر المؤمنين المتقين في جنات النعيم فقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} أي يقال لهم: سلام عليكم ادخلوها سالمين {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} أي إخوانا في الآخرة كما كانوا إخوة في الدنيا -إنما المؤمنون إخوة- {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} أي تعب {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} .

ص: 287