المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الأخير من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٣

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الشريف (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الشريف (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة يونس

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والعشرينمن المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة هود

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والعشرينمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة يوسف

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الرعد

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة إبراهيم

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحجر

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النحل

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الإسراء

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الكهف

- ‌الربع الأول من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الأخير من الحزب الثامن والعشرين

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

في حصة هذا اليوم نتناول الربع الأخير من الحزب الثامن والعشرين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} .

ــ

أول آية في هذا الربع تؤكد عدل الله تعالى المطلق، بالنسبة لجزاء الأبرار والفجار، والأخيار والأشرار، وتنبه إلى أن كل نفس ستكون مسؤولة أمام الله عن عملها، مطالبة بالدفاع عن موقفها، إذ لا تقبل نيابة أحد عن أحد في عرصات يوم القيامة:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، حتى إذا انتهى كل واحد من الدفاع عن نفسه نال جزاءه العادل، لا ينقص شيء من ثوابه إن كان خيرا، ولا يزاد شيء في عقابه إن كان شرا، وذلك قوله تعالى:{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} ، أي: توفى جزاء ما عملت، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .

وتحدث كتاب الله عما يصيب البشر من ابتلاء وعقاب في

ص: 362

الحياة الدنيا قبل الآخرة، جزاء كفرهم بنعمه الوافرة، فكم من مدن وقرى أنعم الله على أهلها بالأمن والطمأنينة ورغد العيش، وسهولة الحصول على الضروريات والحاجيات من كل مكان، فلم يقدروا نعمه حق التقدير، ولم يصدقوا بشارة أي بشير، ولا نذارة أي نذير، فمثل هؤلاء القوم يعاقبهم الله بالسلب بعد العطاء، ويسلط عليهم الخوف والجوع وما يرافقهما من أنواع البلاء، جزاء كفرهم، وعدم شكرهم، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} .

والقرية المشار إليها في هذه الآية على سبيل المثال يظهر أن المراد بها مكة في عهد سيطرة الشرك والمشركين عليها، فقد أصر مشركو قريش في بداية عهد الإسلام على مقاومة الرسالة المحمدية، وبالغوا في إذاية الرسول عليه السلام وإذاية المؤمنين، إلى أن اضطر للدعاء عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة واحدة أذهبت لهم كل شيء، وكانت كافية في ردعهم عن طغيانهم نوعا ما، ولم يسعهم بعدما رأوا العذاب، ولمسوا أثر استجابة الله دعاء رسوله، إلا أن يلتجئوا إليه قاصدين بابه، سائلين منه الدعاء لهم باللطف والرفق، فما كان منه عليه السلام إلا أن رق لحالهم، ودعا الله فاستجاب الله دعاءه، وكان ذلك الموقف النبوي الكريم من أهم العوامل التي زعزعت ثقتهم بالشرك

ص: 363

والوثنية، وشرحت صدر كثير منهم للإيمان بالرسالة الإلهية.

ثم وجه كتاب الله دعوة كريمة إلى الناس كافة -ولا سيما المؤمنين- فقد دعاهم جميعا إلى الإقبال على مائدة الله التي أنزلها لهم للتمتع بها، والتناول منها، كما دعاهم إلى الاستزادة من خيراتها بالشكر عليها، وذلك رحمة بهم، لإقامة أودهم، واستمرار النوع الإنساني المستخلف في الأرض، وحفظه من الهلاك والبوار، وهذه المائدة الإلهية التي دعاهم إليها كتاب الله تنحصر أنواعها في (الحلال الطيب)، ففي أنواع الحلال ما يكفيهم عن كل حرام، وفي أنواع الطيبات ما يغنيهم عن كل خبيث، وذلك قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .

وبمناسبة هذه الدعوة الكريمة نبه كتاب الله إلى جملة من المحرمات والخبائث التي لا يسوغ للإنسان تناولها، لما فيها من ضرر محقق، وأذى بالغ، فقال تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وقد سبق نفس هذا الموضوع مفسرا في مثل هذه الآية من سورة البقرة.

وما دام الحديث جاريا عن الحلال والحرام، والطيب والخبيث، فقد بين كتاب الله أن السلطة الإلهية العليا هي وحدها التي لها صلاحية الحكم بتحليل ما هو حلال وتحريم ما هو حرام، وأن القول الأول والأخير في هذا الشأن، مرجعه إلى الله

ص: 364

لا إلى هوى الإنسان، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فليس للناس أن يحلوا ما حرم الله، ولا أن يحرموا ما أحل الله، تبعا لمجرد أهوائهم وشهواتهم.

وحذر كتاب الله من الحكم على الأشياء بالتحليل والتحريم دون سند شرعي، واعتبر المغامرين بذلك من عند أنفسهم متطاولين على الشرع ومفترين على الله، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} .

ونظرا إلى أن الشهوة الغالبة، والمتعة الزائفة، هما أهم سبب فيما يقدم عليه بعض الناس من تحليل الحرام جاء التعقيب على ذلك بما ينفر من تلك الشهوة وتلك المتعة، فقال تعالى:{مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

وما دام الحق سبحانه وتعالى يعلم ضعف الإنسان، وما توحي إليه به نفسه الأمارة بالسوء، وأنه عرضة للتورط في المعصية والإثم، فقد فتح الله سبحانه لعباده باب التوبة على مصراعيه، حتى يمكنهم أن يستأنفوا الطاعة بعد المعصية، والاستقامة بعد الانحراف، وحتى يمارسوا من جديد عمل الحسنات، تكفيرا عما ارتكبوه من السيئات، وذلك قوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} .

وقوله تعالى هنا: {لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} ، يتضمن

ص: 365

إشارة لطيفة إلى أن مرتكب المعصية عندما يهجم على ارتكابها يكون في حالة شبيهة بحالة الإغماء والجنون، بحيث يفقد -تحت ضغط الشهوة- وعيه الديني تقريبا، فينسى حكم الدين، وينسى يوم الدين، حتى إذا ما استرجع وعيه ندم على ما فرط منه، وأخذ يتلمس الأسباب، ويطرق الأبواب، ليريح ضميره من العذاب، فيفتح الحق سبحانه وتعالى في وجهه باب التوبة، وما أوسعه من باب، وبذلك يعود المؤمن العاصي إلى أحضان الرشد والصواب، {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} ، أي: من بعد التوبة، {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} .

ونظرا إلى المقام الكريم الذي يحتله في تاريخ الخليقة خليل الرحمان ونبيه إبراهيم، وادعاء الكثير من أتباع الملل والنحل أنهم معتمدون عليه، وأن مللهم ونحلهم منه وإليه، -ومن بين المدعين لهذه الدعوى مشركو العرب وبنو إسرائيل- فقد تصدى كتاب الله لإبطال دعواهم، مبينا هنا أن إبراهيم عليه السلام لم يكن من المشركين، بل كان قانتا لله حنيفا، كما بين كتاب الله في موضع آخر أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، وإنما كان حنيفا مسلما، وبهذه المناسبة أثنى كتاب الله على خليله إبراهيم، ونوه بفضائله ومزاياه في الدنيا والآخرة، ودعا خاتم الأنبياء والمرسلين إلى رفع رايته، وإتباع ملته، وإلى هذه المعاني المتعددة يشير قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ

ص: 366

مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. وبمقتضى هذا الأمر الإلهي المطاع أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد بكل ما أوحي إليه من ملة إبراهيم، وورد قوله تعالى في سورة الأنعام:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الآية: 161].

وقوله تعالى في وصف إبراهيم: {كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} ، قال ابن مسعود:" الأمة هو الذي يعلم الناس الخير، والقانت هو المطيع ". ويطلق لفظ الأمة أيضا ويراد به الإمام الذي يقتدى به، وقد كان إبراهيم عليه السلام في آن واحد: مطيعا لربه، ومعلما للخير، وإماما لأتباع ملة التوحيد على العموم، و (الحنيف) في هذه الآية وما ماثلها معناه المخلص، والمنحرف عن الشرك قصدا إلى التوحيد. قال أبو بكر (ابن العربي):" فعلى كل عبد أن يطيع الله ويعلم الأمة، فيكون في دين إبراهيم على الملة ".

وبعدما أمر الحق سبحانه وتعالى خاتم الأنبياء والمرسلين باتباع ملة إبراهيم خاطبه موجها ومرشدا، مبينا له نوع الدعوة الموكولة إليه، وأحسن الطرق التي يلزمه سلوكها لتبليغ تلك الدعوة، فقال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} ، والدعوة إلى سبيل الله هي جوهر الدعوة وصميمها، ثم قال تعالى:{بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . وهذه هي الشروط الأساسية لكل دعوة يكتب لها الانتشار والانتصار، إذ متى كانت الدعوة -من أي نوع- يقود خطواتها داعية غير حكيم ولا متبصر، أو داعية غير مهذب القول ولا مهذب الطبع، أو داعية

ص: 367

حريص على الجدل مولع بالشغب، إلا وباءت دعوته بالتقهقر السريع، والفشل الذريع.

وواضح أن الخطاب في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} ، وإن كان موجها في البداية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو موجه في النهاية إلى جميع أفراد أمته، ومن بينهم العلماء والحكام، والمعلمون والمعلمات، والآباء والأمهات، فكلهم مطالب بالدعوة إلى ما دعا إليه الرسول بنفس الروح التي دعا بها، وحض كتاب الله عليها، وقد تجدد هذا المعنى في كتاب الله عدة مرات، ومن ذلك قوله تعالى يأمر موسى وهارون عندما بعثهما إلى فرعون:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، وقوله تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46].

وقوله تعالى في ختام هذا الربع: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} ، هذه معية خاصة، كقوله تعالى:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]، وكقوله تعالى:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. إشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق وهما في الغار.

وأما المعية العامة بمعنى علم الله المطلق الشامل لما ظهر وما بطن، في السر والعلن، فكقوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]، قال ابن كثير:

ص: 368

" ومعنى {الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}، أي: تركوا المحرمات وفعلوا الطاعات، فهؤلاء يكون الله معهم بتأييده ونصره، ومعونته وهديه "، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} .

ص: 369