المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الثالث من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٣

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الشريف (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الشريف (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة يونس

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والعشرينمن المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة هود

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والعشرينمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة يوسف

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الرعد

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة إبراهيم

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحجر

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النحل

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الإسراء

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والعشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الكهف

- ‌الربع الأول من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الثالث من الحزب الثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الثالث من الحزب الثلاثين

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

حصة هذا اليوم نتناول الربع الثالث من الحزب الثلاثين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} إلى قوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} .

ــ

في الربع الماضي أوصى كتاب الله رسوله وورثته من حملة الدعوة الإسلامية بأن يؤثروا بعنايتهم من عندهم حرص على تلقي الدعوة، واستعداد لقبولها، وأن لا يعيروا أي اهتمام للاعتبارات الجانبية والمظاهر المادية، إذ قال تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، وانسياقا مع نفس المبدأ، وسيرا في نفس الاتجاه جاء في حصة هذا اليوم قوله تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} [الآيات: 32، 33، 34، 35، 36، 37، 38، 39، 40، 41، 42، 43، 44]، وقوله تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الآية: 45].

- أما المثل الأول الذي جاء في هذا الربع فقد تضمنت

ص: 440

آياته البينات محاورة بين رجلين، أحدهما مؤمن بالله وباليوم الآخر، شاكر لأنعمه، قانع بما أعطاه مولاه، وثانيهما متمرد على الله، كافر بأنعمه وباليوم الآخر، لا حد لمطامعه وما يتمناه، وكل منهما ينطق لسانه في هذه المحاورة بما يوضح اتجاهه ومنحاه.

والظاهر من سياق هذه الآيات وما بين السطور أن الرجلين كان يملك كل منهما مزرعة منسقة من المزارع الفيحاء، ذات الحدائق الغناء، التي يضرب بها المثل، في المياه الجارية، والأشجار الباسقة، والثمار الشهية، ثم اضطر أحدهما للتخلي عن مزرعته، فباعها للآخر، بغية الوفاء بالتزامات كانت في ذمته، وهكذا آلت إحدى المزرعتين إلى الثاني، فأصبحت المزرعتان معا " جنة واحدة " في ملكه، بينما الآخر أصبح لا يملك شيئا {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} ، غير أن الثاني الذي اتسعت دائرة ملكه زاده ذلك طغيانا وعدوانا، فأخذ يتبجح على رفيقه بسعة المال وكثرة الولد، واطمأن إلى أن مزرعته الكبرى أصبحت في مأمن من جميع الجوائح، وأعلن شكه في قيام الساعة نفسها، ثم عقب على شكه بأنه حتى على فرض قيام الساعة سيكون محظوظا في الآخرة كما هو محظوظ في الدنيا، كأنه مفروض على الله أن يملي له باستمرار، ناسيا قوله تعالى:{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ، وإلى هذا الموقف يشير

ص: 441

قوله تعالى حكاية عنه: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} ، وحيث إن هذا الشخص وأمثاله من الكافرين بنعمة الله، والمكذبين بلقائه، لا ينتظر أن يكون له نصيب في " جنة الخلد " قال كتاب الله في شأنه " ودخل جنته "، أي دخل جنته التي في دنياه، إشارة إلى أن المزرعة الكبرى التي يتبجح بها ويتكبر هي جنته الأولى والأخيرة {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20].

لكن صاحبه لم يلبث أن رد عليه قوله، مستنكرا ما فاه به من عبارات كلها كفر بالله، وتطاول على الله، واعتماد كلي على المال والولد، مذكرا إياه بقدرة الله التي يسرت له أسباب الرخاء والازدهار، وبقوة الله التي بيدها تصريف مجاري الأقدار، بحيث لا يصعب عليها تحويل الموقع الخصب إلى موقع جدب، ولا تحويل مجرى الماء عن المكان الذي فيه الزرع، إلى مكان سحيق لا زرع فيه ولا نبات، فتنقلب المزرعة الفيحاء إلى أرض بلقع هي عبارة عن خلاء وعراء، وإلى هذا الجواب الذي يعتبر في مثل هذا الباب، هو فصل الخطاب، يشير قوله تعالى هنا:{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أي لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف بأنه هو الله ربي {وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ

ص: 442

تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} أي صاعقة أو عذابا من السماء {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} أي أرضا ملساء لا ينبت فيها نبات، ولا يثبت عليها قدم {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} أي غائرا وغائبا في أعماق الأرض {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} أي لن تستطيع الحصول عليه ولا على غيره بدلا منه، لأن الماء " الغائر " يطلب أسفل الأرض، على عكس الماء " المعين " الذي يطلب وجه الأرض.

وقوله تعالى هنا {لكنا هو الله ربي} قال أبو عبيد: الأصل لكن أنا، فحذفت الألف، فالتقت نونان، فجاء التشديد لذلك، وفي قراءة أبي {لَّكِن أَنَا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} .

ومضت الآيات الكريمة في استعراض ما آل إليه أمر المزرعتين، مبينة أن ما توقعه الرجل المؤمن لهما، وما تنبأ به لصاحبهما عن مصيرهما -نظرا لكفره وعدم شكره، وغروره وكبره- لم يلبث أن أصبح هو الأمر الواقع، الذي ليس له من دافع، إذ المؤمن ينظر بنور الله، وحينئذ ندم صاحبهما على كفره دون أن ينفعه الندم، وذاق من مرارة الخيبة والإفلاس أشد الألم، وإلى هذه الحالة يشير قوله تعالى في إيجاز وإعجاز:{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} أي هلك كل ما كان في مزرعته من الثمار، يقال: أحاط به العدو إذا أهلكه {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} أي يضرب إحداهما على الأخرى ندما وتحسرا {عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} أي من مال وجهد {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي

ص: 443

أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي لم يجد من يدفع عنه عذاب الله، ولم ينفعه ما كان يفتخر به على صاحبه من المال والولد {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} .

وفي أعقاب هذه المحاورة وما تضمنته من مواقف تدعو إلى التأمل والاعتبار أكد كتاب الله أن الملجأ الوحيد الذي ينبغي الالتجاء إليه، والركن الركين الذي ينبغي الاعتماد عليه، في السراء والضراء، والشدة والرخاء، والدنيا والآخرة، هو الحق سبحانه وتعالى، فهو ولي من والاه، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، فقال تعالى:{هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} فعاقبة من آمن به وتوكل عليه عاقبة خير ونصر {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]. و " الولاية " بالفتح النصرة والتولي، وبالكسر الحكم والملك، وقال أبو عبيد:" الولاية بفتح الواو للخالق، وبكسرها للمخلوق " وكلمة {الْحَقِّ} هنا بخفض القاف نعت لله عز وجل، على غرار قوله تعالى في آية أخرى:{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62].

- وأما المثل الثاني الذي ورد في هذا الربع فهو يتضمن تشبيه حال الدنيا في نضارتها وبهجتها وما يعتورها من هلاك وفناء -بالنسبة لحياة كل فرد في حد ذاته، وبالنسبة لحياة النوع البشري على العموم- بحال النبات الذي يستمد غذاءه من الماء، فينمو ويترعرع، ويصبح أخضر يانعا تعلوه الأزهار، وتزينه الثمار، ثم يميل نجمه إلى الأفول، ويحل به اليبس والذبول، وهذا

ص: 444

المعنى هو الذي يتضمنه قوله تعالى هنا: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا} أي يابسا {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أي تنسفه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} أي مقتدرا على الخلق والإنشاء، كما هو مقتدر على الإبادة والإفناء، والقصد من ضرب هذا المثل هو الحض على العمل الصالح الذي ينفع في الدارين معا.

وإزالة لكل لبس فيما يخص موقف الإسلام من الاستمتاع بالطيبات، وتناول ما هو مشروع من الملذات، عقب كتاب الله على هذا المثل مباشرة، فقال تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} على غرار قوله تعالى في سورة آل عمران: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [الآية: 14]. وبذلك أكد الإسلام قيمة المال والولد بالنسبة لحياة الأفراد، وما ينال حياتهم من كمال بوجودهما، ومن نقص بفقدهما، منبها في نفس الوقت إلى أن اهتمام الأفراد يجب أن يتجه إلى الجانب الأنفع والأدوم والأبقى من الاثنين، كإيقاف الصدقة الجارية التي لا ينقطع نفعها بعد الموت، وكتربية الولد الصالح الذي يواصل سيرة والده الصالحة، فيجلب له الدعاء والثناء، بحيث لا يقتصر من آتاه الله المال والولد على الانتفاع بهما انتفاعا أنانيا وشخصيا

ص: 445

محدودا، خاليا من نفع الغير، ناسيا حقوق الله وحقوق الخلق، وقد قال عليه السلام:(نعم المال الصالح للرجل الصالح). فالمذموم إذن ليس هو كسب المال ولا إنجاب الولد، وإنما هو تسخيرهما لما ليس فيه رضا الله، ولما لا منفعة فيه لعيال الله، قال القرطبي في تفسيره:" وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا، لأن في المال جمالا ونفعا، وفي البنين قوة ودفعا، فصارا زينة الحياة الدنيا ".

أما {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} فمن جملة ما روى في تفسيرهما قول ابن عباس رضي الله عنه: " أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة "، وإلى مثل هذا القول ذهب عبد الرحمان بن زيد بن أسلم إذ قال:" هي الأعمال الصالحة كلها "، واختاره ابن جرير الطبري، وقال القرطبي:" إنه هو الصحيح إن شاء الله، لأن كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا ". وهكذا تندرج في " الباقيات الصالحات " وتكون جزءا منها نفس الصلوات الخمس، والأذكار المأثور فضلها، وهي " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " مما خرجه مالك في الموطأ والنسائي والترمذي وابن ماجة في السنن، ويشهد لتفسير (الباقيات الصالحات) بالمعنى العام الذي أوردناه قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به، أو صدقة جارية)، فهذه الأمور الثلاثة كلها بمقتضى الحديث الشريف " صالحات باقيات " لأنها أعمال خير تبقى ثمرتها

ص: 446

للإنسان، ولا تنقطع بالموت، ويصدق عليها أنها (خير ثوابا وخير أملا)، وقد أعاد كتاب الله الحديث عن الباقيات الصالحات في سورة مريم، فقال تعالى:{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [الآية: 76].

وكما أنهى كتاب الله الربع الماضي بوصف الجزاء الذي يلقاه الكافرون في جهنم إذ قال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} وختمه بقوله {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} خصص بداية هذا الربع لوصف الجزاء الذي يلقاه المؤمنون في الجنة، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} ، وختم وصف جزائهم بقوله:{نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} .

وفي نهاية هذا الربع ركز كتاب الله الحديث حول قيام الساعة وما يرافقها من أهوال وأحوال، بما فيها النشر والحشر والعرض والحساب، فقال تعالى:{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} أي قاعا صفصفا وسطحا مستويا، فلا بنيان ولا شجر، ولا جبل ولا وادي، وإنما هو الانقلاب الشامل، {وَحَشَرْنَاهُمْ} أي قبل تسيير الجبال، ليشاهدوا تلك الأهوال {فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} أي يعرضون صفا وراء صف، دون اختلاط ولا اختلال، أمة تتلوها أمة، وزمرة تتلوها زمرة، كما فسر ذلك مقاتل، فمن أعلن أنه من أهل الخير كان سروره بمعرفة الناس بحاله أعظم، لوقوف الخلائق على حقيقة أمره، ومن أعلن أنه من أهل الشر كان غمه بمعرفة الناس

ص: 447

بحاله أعظم، لوقوف الخلائق على جلية سره، {لَقَدْ جِئْتُمُونَا} أي قلنا لهم ذلك {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي فرادى عراة حفاة لا مال معكم ولا ولد، على غرار قوله تعالى في سورة الأنعام:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الآية: 94]، وقوله تعالى في سورة مريم:{لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [الآية: 95]. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا) أي غير مختونين.

وقوله تعالى: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} هذا خطاب لمنكري البعث من المشركين والملحدين ومن على شاكلتهم.

وقوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} المراد " بالكتاب " كتاب الأعمال وسجل الحساب الخاص بها، والمراد " بالإشفاق " الفزع والجزع الذي يصيب المجرمين من جراء الجرائم المسجلة عليهم {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} أي من المعاصي {إِلَّا أَحْصَاهَا} ، وهذه الآية دليل على أن المرء يؤاخذ بالصغائر والكبائر، الصغائر إذا أصر عليها، والكبائر إذا لم يتب منها.

وقوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} أي وجدوا إحصاء ما عملوا وجزاءه حاضرا، على غرار قوله تعالى في سورة

ص: 448

آل عمران: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} .

وقوله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} أي لا يعذب أحدا بغير جرم، ولا يؤاخذ أحدا بجرم آخر، كما أنه سبحانه لا ينقص طائعا من ثوابه، ولا يزيد عاصيا في عقابه، وبمثل هذا المعنى ورد قوله تعالى في آية أخرى:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].

ص: 449