المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: منهج الصحابة في رواية الحديث - الحديث والمحدثون

[محمد محمد أبو زهو]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌الإهداء

- ‌الداعي لنشر هذا الكتاب:

- ‌مقدمة المؤلف:

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌المبحث الأول: معنى السنة لغة واصطلاحا

- ‌المبحث الثاني: السنة من الوحي

- ‌المبحث الثالث: منزلة السنة النبوية في الدين

- ‌المبحث الرابع: في أن السنة النبوية مبينة للقرآن الكريم

- ‌السنة في أدوارها المختلفة

- ‌الدور الأول: السنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: استعداد الصحابة لحفظ السنة ونشرها

- ‌المبحث الثاني: "مجالس النبي صلى الله عليه وسلم العلمية

- ‌المبحث الثالث: كيف كان الصحابة يتلقون الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: البعوث والوفود، وأثرها في انتشار الحديث النبوي:

- ‌الدور الثاني: السنة في زمن الخلافة الراشدة

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية لهذا العهد

- ‌المبحث الثاني: منهج الصحابة في رواية الحديث

- ‌المبحث الثالث: رد شبه واردة على منهج الصحابة في رواية الحديث، والعمل به

- ‌الدور الثالث: السنة بعد زمن الخلافة الراشدة إلى نهاية القرن الأول

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية وظهور الفرق

- ‌المبحث الثاني: الخوارج ورأيهم في الخلافة

- ‌المبحث الثالث: الشيعة ومعتقداتهم

- ‌المبحث الرابع: جهود الصحابة والتابعين في جمع الحديث ورواياته ومناهضتهم للكذابين

- ‌المبحث الخامس: كتابة الحديث

- ‌المبحث السادس: تراجم لبعض مشاهير الرواة من الصحابة، رضي الله عنهم

- ‌المبحث السابع: تراجم لبعض رواة الحديث من التابعين

- ‌المبحث الثامن:

- ‌الدور الرابع: السنة في القرن الثاني

- ‌المبحث الأول: تدوين الحديث في هذا العصر وأشهر الكتب المؤلفة فيه

- ‌المبحث الثاني: شيوع الوضع في الحديث في هذا العصر

- ‌المبحث الثالث: النزاع حول حجية السنة في القرن الثاني

- ‌المبحث الرابع: تراجم لبعض مشاهير المحدثين في القرن الثاني

- ‌المبحث الخامس: الرد على تمويهات لبعض المستشرقين لها صلة بهذا العصر، وما قبله

- ‌الدور الخامس: السنة في القرن الثالث

- ‌المبحث الأول: النزاع بين المتكلمين وأهل الحديث وأثر ذلك في الحديث

- ‌المبحث الثاني: نشاط أهل الأهواء في وضع الأحاديث

- ‌المبحث الثالث: تراجم لبعض أئمة الحديث في هذا العصر

- ‌المبحث الرابع: تدوين الحديث في هذا العصر وطريقة العلماء في ذلك

- ‌الدور السادس

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية في هذا الدور

- ‌المبحث الثاني: السنة في القرن الرابع

- ‌المبحث الثالث: السنة بعد القرن الرابع إلى آخر هذا الدور

- ‌الدور السابع

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية

- ‌المبحث الثاني: منهج العلماء رواية السنة في هذا الدور

- ‌المبحث الثالث: عناية المسلمين بالسنة في الممالك المختلفة

- ‌المبحث الرابع: طريقة العلماء في تصنيف الحديث في هذا الدور

- ‌الخاتمة:

- ‌خاتمة الطبع:

- ‌تقاريظ الكتاب:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌المبحث الثاني: منهج الصحابة في رواية الحديث

وكان على رأسهم ذلك الطاغية المدعو بعبد الله بن سبأ اليهودي الحميري. جعل هذا الخبيث ينفخ في بوق الفتنة، ويؤلب الناس على عثمان في مختلف الأقطار، حتى كان ما كان من قتل الخليفة في بيته ظلما بلك الأيدي الأثيمة. ومن ذلك الحين انفتح على المسلمين باب شر عظيم، ودب فيهم داء الخلاف الذي أطاح برءوس الكثير، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما كاد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، يتولى الخلافة حتى قام معاوية يطالب بدم عثمان، فوقعت بينهما حروب مزقت المسلمين، وفرقت كلمتهم، وانتهت بمعركة صفين، التي كان على أثرها انشقاق أصحاب علي إلى خوارج وشيعة. فاستغل هذا النزاع طوائف من الأمم المغلوبة على أمرها من يهود، وفرس وغيرهم، وأخذوا يكيدون للإسلام، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

ص: 65

‌المبحث الثاني: منهج الصحابة في رواية الحديث

طالما كان النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهراني أصحابه، يعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم كانوا سعيدين به في أمر دينهم، ودنياهم فلم يعد هناك خوف على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أعمال المنافقين ودجل الكذابين. فالوحي ما دام يتنزل على نبي الله يفضح أمرهم ويكشف سرهم، والسنة في أمن من عبثهم وكيدهم:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} ، كما أنه لم يكن هناك مجال لنقد الحديث، وروايته بدون الرجوع إلى صاحب الرسالة، فقد كانوا إذا جد بينهم خلاف لجأوا إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، كما أمرهم الله بذلك:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، هذا عمر بن

ص: 65

الخطاب يسمع هشام بن حكيم، يقرأ سورة الفرقان على غير ما يقرؤها هو فيلببه بردائه، ثم يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول له: هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم هشاما بالقراءة، ويقول:"هكذا أنزلت"، ثم يأمر عمر بالقراءة، ويقول:"هكذا أنزلت ثم يقول: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه". والحديث مروي في البخاري، وغيره إلى غير ذلك من الأمثلة والحوادث، التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي فيها على النزاع، أو يصحح فيها الرواية عنه.

ومن ذلك نرى أن حياته عليه الصلاة والسلام، كانت قاضية على الخلاف إذا نشب، والشك إذا عرض بل والخاطر إذا هجس.

فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يعد هناك حارس للسنة إلا صدور الصحابة، فقد انقطع الوحي واشرأب النفاق، وارتد كثير من العرب، ومنع بعضهم الزكاة، فلا نعجب إذن من منافق يملي عليه نفاقه أن يكذب على رسول الله، ولا نعجب من بعض الأعراب، الذي يدعي أن رسالة محمد تنتهي بموته، أن يعبث بحديث رسول الله.

ولكن أبا بكر وقف وقفة الحيطة والحذر، فكما قلم أظفار المرتدين ومانعي الزكاة كذلك سد الباب في وجوه الكذابين، بما وضعه من قوانين الرواية.

وجاء عمر من بعده سائرا على نهجه، فأرهب الكذابين وخوف المكثرين وإليك طرفا من تلك الأعمال الجليلة.

أ- أمر الصحابة بتقليل الرواية:

نظر الخلفاء الراشدون، وتابعهم سائر الصحابة إلى السنة الشريفة، فألفوها كنوزا ثمينة في صدور الذين أوتوا العلم فلم، يشاءوا أن يعرضوها في سوق الرواية، لئلا يتخذ المنافقون من شيوع الحديث

ص: 66

صلى الله عليه سلم ثلاث سنين، وأتى من الرواية عنه ما لم يأتب به أحد من السابقين الأولين، فلما أخبرهم بأنه كان ألزمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يشغله عن مجالسته تجارة، ولا بيع، ولا زرع ولا غرس، فحظ ما لم يحفظوا سكتوا عنه. ومع ذلك فقد كان أبو هريرة يمسك عن التحديث زمن عمر، الذي كان شديدا على الرواة حذرا من خطر الإكثار. فقد قيل لأبي هريرة: أكنت تحدث في زمن عمر هكذا؟، قال: لوكنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته".

كان عمر بن الخطاب يأمر الناس بتقليل الرواية، وكان مهيبا عند جميع الصحابة، روى الشعبي عن قرظة بن كعب أنه قال: خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر إلى صرار فتوضأ، فغسل اثنتين ثم قال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قالوا: نعم، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيت معنا. فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن، كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، امضوا وأنا شريككم فلما قدم قرظة، قالوا: حدثنا، قال: نهانا عمر بن الخطاب"، وإنما ذكرنا هذه الرواية على فرض صحتها، وإلا فقد طعن فيا ابن عبد البر.

وهذا عبد الله بن الزبير يسأل الزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان، فيقول له: أما أني لم أفارقه ولكن سمعته يقول: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار"، وها زيد بن أرقم يقال له حدثنا فيقول: كبرنا ونسينا والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد"، والسائب بن يزيد يقول: صحبت سعد بن مالك من المدينة إلى مكة فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا واحدا"، والشعبي يقول: جالست ابن عمر سنة، فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا"، وكان أنس بن

ص: 68

مالك يتتبع الحديث، عن النبي صلى اله عليه وسلم بقوله:"أو كما قال" حذرا من الوقوع في الكذب عليه.

من هذه الآثار -وغيرها كثير- تجد أن الصحابة، وقفوا على حذر في شأن الحديث، فأقلوا من الراوية خشية أن يتخذها المنافقون مطة لأغراضهم الخبيثة، ولغير ذلك مما سبق، وهم مع ذلك واقفون عند قوله صلى الله عليه وسلم:"إياكم وكثرة الحديث، ومن قال عني فلا يقولن إلا حقا" 1 واقفون عند سنة الخلفاء الراشدين المهديين، كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين".

ب- تثبت الصحابة في رواية الحديث:

وكما أشار الصحابة بالإقلال من رواية الحديث، وأمسكوا عن الإكثار منها كذلك ساروا على منهاج التثبت في الراوي والمروي، مستضيئين في ذلك بكتاب الله مسترشدين بما تواتر، أو اشتهر من سنة رسول الله.

فأخذوا الحديث بحيطة بالغة وحذر شديد. فما اطمأنت قلوبهم إليه من الحديث بأن كان متواترا، أو مشهورا أو آحادا لم يكن في رواته من يشك، في حفظه وضبطه قبلوه، وعملوا به ولم يطلبوا عليه شهيدا ولا دليلا. وما وقع فيه شك طلبوا عليه ظهيرا. وما لم تقم البينة على صدقه مما وقع فيه الشك، أو كان مخالفا لكتاب الله ردوه على قائله.

ونحن ذاكرون لك طرفا من الروايات توضح ذلك.

1-

روى الحافظ الذهبي في تكرة الحفاظ في ترجمة أبي بكر الصديق قال: كان أول من احتاط في قبول الأخبار، فروى ابن شهاب عن قبيصة أن الجدة، جاءت إلى أبي بكر تلتمس أو تورث. قال: ما أجد

1 رواه أحمد والحاكم وابن ماجه.

ص: 69

لك في كتاب الله شيئا. وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر لك شيئا. ثم سأل الناس فقام المغيرة، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس. فقال له هل معك أحد، فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنقذه لها أبو بكر رضي الله عنه.

2-

وروى في ترجمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، قال: وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في خبر الواحد، إذا ارتاب روى الجريري عن أبي نضرة، عن أبي سعيد أن أبا موسى، سلم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات. فل يؤذن له فرجع، فأرسل عمر في أثره فقال: لم رجعت. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاثا، فلم يجب فليرجع"، قال: لتأتيني على ذلك بينة أو لأفعلن بك. فجاءنا أبو موسى منتقعا لونه ونحن جلوس فقلنا: ما شأنك فأخبرنا وقال: فهل سمع أحد منكم فقلنا: نعم كلنا سمعه فأرسلوا معه رجلا منهم فأخبره.

3-

وروى الذهبي أيضا، عن هشام عن أبيه عن المغيرة بن شعبة.

أن عمر استشارهم في أملاص المرأة -يعني السقط- فقال المغيرة:

قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة1. فقال له عمر: إن كنت صادقا فأت واحد يعلم ذلك. قال: فشهد محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به.

4-

وروى الذهبي أيضا أن عمر قال لأبي -وقد روى له حديثا- لتأتيني على ما تقول بينه، فخرج فإذا ناس من الأنصار، فذكر لهم.

قالوا: قد سمعنا هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أما إني لم أتهمك، ولكن أحببت أن أثبت.

1 الغرة، بضم الغين وتشديد الراء المفتوحة، هي عند الجمهور ما بلغ نصف عشر المدية.

ص: 70

5-

وفي ترجمة أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب يروي الذهبي، عن أسماء بن الحكم الفزاري أنه سمع عليا يقول: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني به.

وكان إذا حدثني غيره استحلفته، فإذا حلف صدقته. وحدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر- قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد مسلم يذنب ذنبا، ثم يتوضأ ويصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له".

6-

وهذه عائشة، أم المؤمنين ترد حديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، ليلة المعراج بظاهر قوله تعالى:{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} ، وتقول: من زعم أن محمدًا رأى ربه ليلة الإسراء، فقد أعظم على الله الفرية. وهذا اجتهاد منها رضي الله عنها، وقد خالفها بعض العلماء في ذلك، وتأولوا الآية على معنى لا تحيط به الأبصار، وبذلك لا تتنافى الآية مع الحديث -وكما كان لعائشة رضي الله عنها نظرة في متن الحديث، حيث تنقده بعرضه على القرآن، كذلك كان لها نظرة في الراوي، فكانت تختبر حفظه لتقف على مبلغ ضبطه للحديث. جاء في الصحيحين عنها، أنها قالت لعروة بن الزبير. يا بن أختي بلغني أن عبد الله بن عمرو سار بنا إلى الحج، فألقه فاسأله فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا. قال: فلقيته فسألته عن أشياء يذكرها عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال عروة: فكان فيما ذكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعا، ولكن يقبض العلماء، فيرفع العلم معهم. ويبقى في الناس رؤوس جهال يفتونهم بغير علم فيضلون ويضلون"، قال عروة: فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك، وأنكرته قالت: أحدثك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال عروة: نعم. حتى إذا كان عام قابل قالت لي: أن ابن عمرو قد

ص: 71

قدم فألقه، ثم فاتحه حتى تأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم.

قال: فلقيته فسالته فذكر لي نحو ما حدثني به في المرة الأولى. قال عروة: فلما أخبرتها بذلك قالت: ما أحسبه إلا قد صدق أراه لم يزد فيه شيئا، ولم ينقص. "ا. هـ. من أعلام الموقعين 1-43".

فهذا من عائشة رضي الله عنها، اختبار لحفظ عبد الله بن عمرو، فأول مرة تشككت في ضبطه ثم لما وجدته في المرة الثانية، لم يزد في الحديث حرفا ولم ينقص، وقد مضى على ذلك عام كامل، علمت أنه حافظ للحديث جيد الضبط فصدقته وقبلت حديثه.

وهذه الآثار -وغيرها كثير- تدل دلالة واضحة على أن الصحابة، كانوا يتثبتون في أمر الحديث، ويزنون الراوي والمروي بميزان النقد العلمي الصحيح، وهذا أمر طبيعي بعد أن لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، فقد كان في حياته، يكفيهم هذه المهمة كما أشرنا من قبل.

ج- منع الصحابة الرواة من التحديث بما يعلو على فهم العامة:

تقدم لك الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يخص بنوع من العلم من يرى عليه أثر النبوغ، والفهم من الصحابة، وكان يمنعهم من أن يحدثوا العامة بذلك، خشية ألا يفهموه فيفتتنوا. روى البخاري في كتاب العلم من صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان راكبا، ومعاذ رديفه على الرحل فقال:"يا معاذ بن جبل". قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: "ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله صدقا من قلبه، إلا حرمه الله على النار". قال معاذ: يا رسول الله أفلا أخبر الناس فيستبشروا. قال: "إذن يتكلوا". وأخبر بذلك معاذ عند موته تجنبا لإثم كتمان العلم.

وهذا عمر بن الخطاب يرد أبا هريرة -وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم، أن يبشر الناس بمثل ما في حديث معاذ- ويقول: ارجع

ص: 72

يا أبا هريرة، ويدخل عمر من فوره على النبي صلى الله عليه وسلم، يقول له:

يا رسول الله أنت قلت لأبي هريرة كذا وكذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"نعم"، فقال عمر: لا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس فخلهم يعملون. وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقال:"فخلهم"، رواه مسلم في كتاب الإيمان. وروى في مقدمة صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع"، وذلك؛ لأن تحديث العامة بكل شيء -ومعلوم أن عقولهم لا تهضم كل شيء- مدعاة إلى تكذيبهم للمحدث فيما لا يفهمونه، وبذلك تضيع ثقتهم به، ولعلهم إن لم يكذبوه، وعملوا بما فهموا تركوا بعض الأحكام الشرعية، وكان هو كالكاذب على الله ورسوله، فقد صرفهم عن العمل بأحكام الدين بسبب تحديثهم بما يعلو على أفهامهم، وكفى بذلك كذبا.

بل نقول: أن تحديث العامة بما يعلو على أفهامهم، مدعاة لارتيابهم في الدين نفسه، ولهذا قال ابن عباس:"حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله".

هذا وقد سار الصحابة على هذا الهدي النبوي، في ذلك العصر فامتنعوا عن التحديث بما لا تدركه عامة الناس، خشية أن يفتنوا فيتركوا بعض الفرائض الدينية. يروي مسلم في مقدمة صحيحه، عن ابن مسعود أنه قال:"ما أنت محدث قوماحديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة"، ويروي البخاري عن أبي هريرة أنه كان يقول:"حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم"، ويروى عن علي أيضا، "حدثوا الناس بما يعرفون. أتحبون أن يكذب الله ورسوله"، وروى ابن عبد البر مثل ذلك، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وما زال الصحابة والتابعون، والأئمة من بعدهم يكرهون التحديث بما يكون مثار فتن، وقلاقل بسبب قصور بعض الناس

ص: 73

في الفهم أو استغلال أصحاب الأهواء، والسلاطين ظاهر النصوص لتأييد بدعهم وتسويغ ظلمهم وغشمهم. ولقد أنكر الحسن البصري تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يفعله من المبالغة في سفك الدماء، ولا حجة له في ذلك سوى تأويلاته الواهية.

وهذا أحمد بن حنبل، يكره التحديث بعض الأخبار، التي يكون ظاهرها الخروج على الأمير. وهذا أبو يوسف يكره التحديث بالغرائب. وكان ذلك منهم رضي الله عنهم، محافظة على سلامة الدين من أصحاب الأهواء، وسلامة الأمة من أهل الشغب والفتن. فكثيرا ما تعلل المبطلون والإباحيون بظواهر أحاديث، غير ماردة فتحللوا من أحكام الإسلام، وخرجوا إلى صريح الكفر من حيث يشعرون أو لا يشعرون. وكثيرا ما يوجد ذلك في أقوام ينصبون أنفسهم دعاة للدين، سواء أكانوا مغرضين أم غير مغرضين وصدق القائل: وآفة الأديان من جهل الدعاة.

لذلك أمسك الصحابة عن التحديث بما يكون ذريعة للتقصير، والتهاون بسبب قصور النظر، أو يكون سلما لأهل الأهواء والبدع، ومن هو على شاكلتهم حتى لا تكون فتنة في الأرض وفساد كبير1.

1 فتح الباري "1-160".

ص: 74