المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامس: الرد على تمويهات لبعض المستشرقين لها صلة بهذا العصر، وما قبله - الحديث والمحدثون

[محمد محمد أبو زهو]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌الإهداء

- ‌الداعي لنشر هذا الكتاب:

- ‌مقدمة المؤلف:

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌المبحث الأول: معنى السنة لغة واصطلاحا

- ‌المبحث الثاني: السنة من الوحي

- ‌المبحث الثالث: منزلة السنة النبوية في الدين

- ‌المبحث الرابع: في أن السنة النبوية مبينة للقرآن الكريم

- ‌السنة في أدوارها المختلفة

- ‌الدور الأول: السنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: استعداد الصحابة لحفظ السنة ونشرها

- ‌المبحث الثاني: "مجالس النبي صلى الله عليه وسلم العلمية

- ‌المبحث الثالث: كيف كان الصحابة يتلقون الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: البعوث والوفود، وأثرها في انتشار الحديث النبوي:

- ‌الدور الثاني: السنة في زمن الخلافة الراشدة

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية لهذا العهد

- ‌المبحث الثاني: منهج الصحابة في رواية الحديث

- ‌المبحث الثالث: رد شبه واردة على منهج الصحابة في رواية الحديث، والعمل به

- ‌الدور الثالث: السنة بعد زمن الخلافة الراشدة إلى نهاية القرن الأول

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية وظهور الفرق

- ‌المبحث الثاني: الخوارج ورأيهم في الخلافة

- ‌المبحث الثالث: الشيعة ومعتقداتهم

- ‌المبحث الرابع: جهود الصحابة والتابعين في جمع الحديث ورواياته ومناهضتهم للكذابين

- ‌المبحث الخامس: كتابة الحديث

- ‌المبحث السادس: تراجم لبعض مشاهير الرواة من الصحابة، رضي الله عنهم

- ‌المبحث السابع: تراجم لبعض رواة الحديث من التابعين

- ‌المبحث الثامن:

- ‌الدور الرابع: السنة في القرن الثاني

- ‌المبحث الأول: تدوين الحديث في هذا العصر وأشهر الكتب المؤلفة فيه

- ‌المبحث الثاني: شيوع الوضع في الحديث في هذا العصر

- ‌المبحث الثالث: النزاع حول حجية السنة في القرن الثاني

- ‌المبحث الرابع: تراجم لبعض مشاهير المحدثين في القرن الثاني

- ‌المبحث الخامس: الرد على تمويهات لبعض المستشرقين لها صلة بهذا العصر، وما قبله

- ‌الدور الخامس: السنة في القرن الثالث

- ‌المبحث الأول: النزاع بين المتكلمين وأهل الحديث وأثر ذلك في الحديث

- ‌المبحث الثاني: نشاط أهل الأهواء في وضع الأحاديث

- ‌المبحث الثالث: تراجم لبعض أئمة الحديث في هذا العصر

- ‌المبحث الرابع: تدوين الحديث في هذا العصر وطريقة العلماء في ذلك

- ‌الدور السادس

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية في هذا الدور

- ‌المبحث الثاني: السنة في القرن الرابع

- ‌المبحث الثالث: السنة بعد القرن الرابع إلى آخر هذا الدور

- ‌الدور السابع

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية

- ‌المبحث الثاني: منهج العلماء رواية السنة في هذا الدور

- ‌المبحث الثالث: عناية المسلمين بالسنة في الممالك المختلفة

- ‌المبحث الرابع: طريقة العلماء في تصنيف الحديث في هذا الدور

- ‌الخاتمة:

- ‌خاتمة الطبع:

- ‌تقاريظ الكتاب:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌المبحث الخامس: الرد على تمويهات لبعض المستشرقين لها صلة بهذا العصر، وما قبله

‌المبحث الخامس: الرد على تمويهات لبعض المستشرقين لها صلة بهذا العصر، وما قبله

اطلعت أيها القارئ على تاريخ السنة في القرن الأول، والثاني للهجرة المباركة ورأيت أن علماء الصحابة والتابعين، ومن بعدهم كان يتلقاها بعضهم عن بعض في أمانة وضبط، وأنهم كانوا يذبون عنها أكاذيب الشيعة، والخوارج والزنادقة، ومن كان على شاكلتهم في الكيد للإسلام عن طريق الحديث، وما زالوا يجاهدون صادقين في سبيل السنة، حتى أسلموها إلى علماء القرن الثالث كاملة غير منقوصة، وصحيحة غير مكذوبة عن طريق الأسانيد التي تطمن لها القلوب، ثم قام علماء القرن الثالث بدورهم في رواية السنة، وحفظها وكتابتها وتدوينها، حتى وصلت إلينا طاهرة نقية.

ولكن شرذمة من أهل الكفر والضلال، يدعون بالمستشرقين كبر عليهم أن تبقى هذه الثروة الإسلامية المباركة محفوظة من التبديل، والتحريف في وقت ضعف فيه المسلمون، واستولت عليهم الأمم الكافرة، فعمل هؤلا المستشرقون جاهيدن على تشكيك المسلمين في دينهم، عن طريق الطعن في الحديث ورواته باسم البحث الحر، وطريقة هؤلاء القوم التي اختاروها لأنفسهم، وأملتها عليهم أغراضهم السياسية، هي توهين القوي من الحديث وتقوية الضعيف، أو الموضوع وتضخيم الصغير وتحقير العظيم، وتشويه الحقائق والتعامي عما تقضي به الأدلة والبراهين. كل هذا ليشوهوا.

محاسن الإسلام علمائه في أنظار من افتتن بمدنيتهم المادية الزائفة من صغار الأحلام، وضعفاء الإيمان. وما موقفهم هذا من الإسلام إلا ما يقول القائل.

إذا رأوا هفوة طاروا بها فرحًا

مني وما علموا من صالح دفنوا

ونحن1 نذكر مثلا من تمويهات هؤلاء المبطلين، تكشف لك عن نواياهم الخبيئة ونعقب عليها بما يدحضها، وإن كانت عند التأمل كهشيم تذروه الرياح لا تقوم، إلا على مجرد الدعوى والتغافل عن الحقائق الثابتة فنقول:

أولا: زعموا "أن القسم الأكبر من الحديث ليس إلا نتيجة

1 نقلنا هذه الشبه من كتاب تاريخ الفقه الإسلامي، للأستاذ علي حسن عبد القادر ص121، وما بعدها.

ص: 302

للتطور الديني والسياسي، والاجتماعي للإسلام في القرنين الأول، والثاني وأنه ليس صحيحا ما يقال: من أنه وثيقة للإسلام في عهده الأول عهد الطفولة، ولكنه أثر من آثار جهود الإسلام في عصر النضوج". ونحن نقول: هذا قول من يتجاهل الحقائق الثابتة، ويخلط الحق بالباطل، ثم يقول: إن الجميع باطل وإنهم بما يقولون يطعنون في الأحاديث النبوية بأمرين.

أولهما: إن الأغلبية العظمى منها من وضع المسلمين، لا من قول نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.

ثانيهما: أن الأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم قليلة، ومع قلتها لم تكن حجة يعتمد عليها في العهد الذهبي للإسلام عصر النبوة، وما بعده الذي أطلقوا عليه عصر الطفولة.

والنتيجة التي يريدونها من ذلك أن السنة قامت على غير أساس، ولا فائدة منها للمسلمين في قليل، ولا كثير سواء الصحيح منها، وهو قليل وغير الصحيح منها، وهو الغالب الكثير.

أما زعمهم أن أغلب الأحاديث من وضع المسلمين نتيجة للتطور الديني، والسياسي، والاجتماعي للإسلام فهذا منهم كذب على الواقع، والتاريخ فقد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدار وفير جدا من الأحاديث في الأحكام، وغيرها حفظها عنه أصحابه، ثم تلقاها عنهم الثقات من الرواة طبقة بعد طبقة وعصرا بعد عصر، حتى وصلت إلينا صحيحة الأسانيد نقية المتون، والأئمة في جميع العصور كانوا ينفون عنها الكذب، والدخيل ويبالغون في التثبت، والحفظ ويشددون في نقد المتون، والأسانيد امتثالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر: "من كذب علي

ص: 303

متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، وبعملهم هذا سلمت الأحاديث من وضع الزنادقة والخوارج، ومن سار على طريقهم، وقد اطلعت على ما قدمناه من الجهود الجبارة التي قام العلماء بها في القرن الأول، والثاني حيال الأحاديث وتمحيصها.

وأما زعمهم أن السنة ليست حجة، يعتمد عليها في الدين فهذا زعم باطل سبقهم إليه أهل الأهواء في العصور الأولى، والكتاب والسنة وإجماع العلماء وعمل المسلمين في جميع العصور يناقض هذه الدعوى، ويأتي على بنيانها من القواعد، هذا وتقدمت البراهين الساطعة على حجية السنة في المقدمة، وفي كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه، ومناظراته لبعض من ينكر حجية السنة فارجع إليها إن شئت1.

ثانيا: قالوا: إن العصر الأول كان مثار خصومة بين الأمويين، والعلماء الأتقياء الذين اشتغلوا بجمع الحديث والسنة، ونظرا؛ لأن ما بأيديهم من الأحاديث لم يسعفهم في تحقيق أغراضهم أخذوا يخترعون أحاديث، لا تنافي الروح الإسلامية في مناقب آل بيت علي بن أبي طالب، وامتداحهم فيكونون بذلك قد ثلبوا الأمويين، وهاجموهم ولكن من طريق غير مباشر، وبرروا عملهم هذا بأنهم إنما يحاربون الظلم، والطغيان وقد ردت عليهم الحكومة، فوضعت الأحاديث ودعت إلى وضعها، وقد كانت طريقة الأمويين كما قال معاوية للمغيرة بن شعبة:"لا تهمل في أن تسب عليا، وأن تطلب الرحمة لعثمان، وأن تسب أصحاب علي، وتضطهد من أحاديثهم وعلى الضد من هذا أن تمدح عثمان، وأهله وأن تقربهم وتسمع إليهم"، وقد استغل الأمويون لذلك أمثال الإمام الزهري في وضع الأحاديث، ومن هذه الأحاديث حديث:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى"، فهذا الحديث يمثل

1 انظر ص21، وص272.

ص: 304

ميولهم السياسية في تقديس بيت المقدس، وجعله مثل البيت الحرام، ومسجد المدينة حتى يكون محجا للناس في الوقت الذي منع فيه ابن الزبير أهل الشام من الحج إلى الكعبة، ونحو هذا أحاديث في فضل بيت المقدس والشام. ا. هـ.

ونقول في الرد عليهم: نحن لاننكر أنه قامت خصومة سياسي بين الأمويين والشيعة وأن الشيعة وضعوا أحاديث في مناقب الإمام علي بن أبي طالب، وأن الأمويين ردوا عليهم بأحاديث وضعوها في مناقب أبي بكر وعمر، وعثمان ومعاوية ولكنلم يكن هؤلاء، ولا هؤلاء هم أهل الحديث، ولا العلماء الأتقياء كما يموهون علينا بذلك، وإنما كان من العلماء الأتقياء أمثال الإمام الزهري، وسعيد بن المسيب وابن عباس، وابن عمر العمل على حفظ الأحاديث الصحيحة، ونشرها والاحتياط لها، وبيان الأحاديث التي نسبت كذبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا تجوز روايتها ولا نشرها من غير أن يخافوا في الله لومة لائم أو سطوة ظالم، ومما يثير العجب أن يطلق هؤلاء المستشرقون على الشيعة لقب "العلماء الأتقياء"، مع أن منهم من كانوا أداة فساد، وإفساد يتظاهرون بحب آل علي رضي الله عنه، ويغالون في ذلك حتى ألهوه، ووضعوا الأحاديث في تأليهه، ويضمرون في أنفسهم كيد الإسلام والمسلمين. أما ما نسبوه إلى معاوية رضي الله عنه، فنحن في شك منه، ومما يقوله المؤرخون المتساهلون في نقل الأخبار وتدوينها، فإن معاوية صحابي جليل ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكتابة الوحي، ورضيه الخلفاء الراشدون الثلاثة، لإمارة الشام وما حصل بينه، وبين علي كرم الله وجهه، فإنما كان عن اجتهاد، فيبعد كل البعد أن يأمر المغيرة بن شعبة بسب علي، والعمل على إخفاء الأحاديث، التي صحت في فضله لا سيما، وقد أثبت التاريخ أن

ص: 305

الحسن بن علي رضي الله عنه تنازل له عن الخلافة، طائعا، مختارا ولم يقاتله يوما واحدا، وأنه كان يترحم على علي كرم الله وجهه، وقد طلب إلى ضرار الصدائي أن يصف له عليا فاستعفاه، فأبى فوصفه له بأبلغ وصف، فبكى معاوية رضي الله عنه، وقال: رحم الله أبا الحسن، فقد كان كذلك، وأثبت التاريخ أيضا أنه كان حليما واسع الحلم، سياسيا ثاقب النظر، فلا يعقل بعد هذا كله أن يأمر المغيرة أو غيره بإثارة فتنة، يكون من ورائها تمزيق الوحدة وتفريق الكلمة.

نعود بعد ذلك إلى زعمهم أن الأمويين استغلوا أمثال الإمام الزهري في وضع الأحاديث، التي تتفق وميولهم، وهذا محض افتراء على أئمة الدين لا سند له من الواقع. وقد شهد للإمام الزهري بالورع، والحفظ والضبط مئات بل ألوف من فحول العلماء، فالشافعي يقول فيه:

"لولا الزهري لذهبت السنن من المدينة"، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه يقولان فيه:"أصح الأسانيد مطلقا الزهري، عن سالم، عن أبيه"، وعمرو بن دينار يقول فيه:"ما رأيت أنص للحديث من الزهري، وما رأيت أحدا الدينار والدرهم أهون عنده منه أن كانت الدنانير والدراهم بمنزلة البعر"، أفنترك مثل هذه الشهادات الثابتة إلى أقوال شرذمة من أئمة الكفر، ليسوا من الإنصاف في شيء.، ودعوى أن حديث:"لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"، من وضع الزهري، تبعا لميول الحكام السياسية

إلخ. دعوى خاطئة كاذبة فإن الزهري، ثقة بإجماع أئمة المسلمين، فلو انفرد بهذا الحديث لكان صحيحا لا ريب فيه، فكيف ولم ينفرد به، وقد أخرجه مسلم من غير طريقه1 في آخر

1 صحيح مسلم أواخر كتاب الحج.

ص: 306

كتاب الحج من صحيحه، قال: حدثنا هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الحميد بن جعفر أن عمران بن أبي أنس، حدثه أن سلمان الأغر، حدثه أنه سمع أبا هريرة، يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء"، وأخرجه الشيخان1. من غير طريقه أيضًا عن شعبة عن عبد الملك سمعت قزعة مولى زياد، قال: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، يحدث بأربع عن النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبنني، وآنقنني قال: "لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم. ولا صوم في يومين، الفطر والأضحى. ولا صلاة بعد صلاتين بعد الصبح، حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب. ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجد الحرام، ومسجد الأقصى ومسجدي".

ثم ما لهذا الحديث، وصرف الناس عن حج بيت الله الحرام إلى المسجد الأقصى، وغاية ما يدل عليه أن الرحال لا تشد إلى مسجد من المساجد بقصد الصلاة فيه، إلا لهذه المساجد الثلاثة، فهو إنما يدل على فضل الصلاة في المسجد الأقصى، كما يدل على فضلها في المسجدين الآخرين. ثم ماذا يقولون فيما ثبت من أن المسلمين، كانوا يصلون إلى بيت المقدر قبل أن يصلوا إلى الكعبة، وهو يدل على أنه موضع احترام لدى المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، من أول يوم فرضت فيه الصلاة. وماذا يقولون في قول الله عز وجل:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ، أما أن بني أمية لو كانوا بحاجة إلى ما يدل على فضل بيت المقدس لكفتهم هذه الآية، أم يقولون أن الآية من وضع الزهري أيضا! سبحانك هذا بهتان عظيم.

1 شرح مسلم في الحج، وفتح الباري "جـ3 ص46".

ص: 307

نحن لا ننكر أن هناك أحديث وضعت في فضل الأمويين، والعلويين أو في فضل بعض الأماكن، ولكنا ننكر أن يكون واضعوها من العلماء الأتقياء حقا كما ننكر أن أئمة الأحاديث سكتوا عن هذه الموضوعات، وها هي آثارهم تدل على ما بذلوه من جهد في تمحيص الأحاديث ونقدها، فماذا بعد الحق إلا الضلال.

ثالثا: قالوا: "ولم يقتصر الأمر على وضع أحاديث سياسية، بل تعدى ذلك إلى الناحية الدينية في أمور العبادات، التي لا تتفق مع ما يراه أهل المدينة، مثل ما هو معروف من أن خطبة الجمعة كانت خطبتين، وكان يخطب الخلفاء وقوفا، وأن خطبة العيد كانت تتبع الصلاة، فغير الأمويون من ذلك فكان يخطب الخليفة خطبة الجمعة الثانية جالسا، وجعلوا خطبة العيد قبل الصلاة، واستدلوا لذلك بما رواه رجاء بن حيوة، من أن الرسول والخلفاء كانوا يخطبون جلوسا في حين قال جابر بن سمرة: من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب جالسا فقد كذب. ومثل ذلك ما حصل من زيادة معاوية في درجات المنبر، وما كان من جعله المقصورة، التي زالها العباسيون بعد ذلك. كما لم يقتصر الأمر على نشر أحاديث ذات ميول، بل تعداه إلى اضطهاد أحاديث لا تمثل وجهات النظر، والعمل على إخفائها وتوهينها. فمما لا شك فيه أنه كان هناك أحاديث في مصلحة الأمويين، اختفت عند مجيء العباسيين".

ونقول: حقا إن الوضع في الحديث لم يقتصر على الميول السياسية، بل تعداه إلى العبادات، لكن لم يكن ذلك من علماء الملة، وأئمة الحديث إنما كان من زنديق يكيد للإسلام، أو من داعية سوء يريد أن يتقرب إلى أهل الأهواء، أو من جاهل لم يخالط قلبه بشاشة الإيمان، أما علماء الإسلام فقد قذفوا بالحق على الباطل، وأخلصوا للأمة النصح من غير

ص: 308

أن تأخذهم فيه لومة لائم، وما ذكره المستشرقون هنا من الشواهد، لا دلالة فيه والتاريخ يحدثنا أن ما أحدثه بعض الخلفاء، من اتخاذ المقوصرة في المسجد أو تقديم الخطبة على صلاة العيد، أو الجلوس في خطبة الجمعة الثانية إلى غير ذلك لم يكن منهم بناء على أحاديث وضعوها، أو وضعت لهم، وإنما كان عن اجتهاد، أو عذر قضى بذلك سواء أكانوا في ذلك مصيبين، أم مخطئين فعن الشعبي1 أنه قال:"أول من خطب الناس قاعدا معاوية، وذلك حين كثر شحمه، وعظم بطنه"، أخرجه ابن أبي شيبة، وذكر ابن خلدون في مقدمته2 أن أول من اتخذ المقصورة في المسجد معاوية بن أبي سفيان، حين طعنه أحد الخوارج طعنة كادت تقضي عليه. وعن طارق3 بن شهاب، قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة قد ترك ما هنالك، فقال أبوسعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، رواه الإمام مسلم في الصحيح، ومن ذلك ترى أن معاوية رضي الله عنه خطب جالسا، واتخذ المقصورة في المسجد لعذر قاهر لا لحديث رواها، أو رويت له وأن مروان بن الحكم معترف بأن السنة تقديم صلاة العيد على الخطبة، لكن أداه اجتهاده إلى تقديم الخطبة، لئلا ينصرف الناس عن سماعها بعد الصلاة، وكأنهم فعلوا معه ذلك بدليل قوله لمن أنكر عليه:"قد ترك ما هنالك"، ولم يستدل لما فعل بشيء من الأحاديث، إنما استدل بتغير أحوال الناس

1 تاريخ الخلفاء ص143.

2 ص299.

3 صحيح مسلم في كتاب الإيمان.

ص: 309

ومع ذلك فقد أنكروا عليه، وبين أبو سعيد الخدري أن من قال لمروان:"الصلاة قبل الخطبة"، قد قضى ما عليه، وهو إنكار المنكر بلسانه حيث عجز عن إزالته بيده، ثم روى الحديث الدال لما يقول على ملأ من الناس ومروان يسمع، ودعوى أن رجاء بن حيوة روى:"أن النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء من بعده كانوا يخطبون من جلوس"، دعوى كاذبة ليست إلا في أوهام هؤلاء المسشرقين، ولا يعقل بحال أن يختلق عالم جليل ومحدث أمين كرجاء حادثة يكذبها الواقع والحس، أمام كثير من الصحابة والتابعين، ثم يعدونه بعد ذلك من ثقاة الرواة، وأساطين المحدثين.

ثم نقول ثانيا: لا يبعد أن يكون التنافس السياسي بين الأمويين، والعباسين له أثر في خفاء بعض الأحاديث، وظهور بعض آخر منها، ولكن الذي لا نقره أن ينسب ذلك إلى حفاظ السنة ورواة الحديث الموثوق بهم، فإن هؤلاء جدوا في خدمة السنة تحملا وأداء، وذبوا عنها الكذب بكل ما أوتوا من قوة، ولم يكتموا شيئا مما ثبت لديهم، أنه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهما لقوا من عنت واضطهاد، ولقد دلتنا أخبارهم على أنهم كانوا أشجع الناس في الحقد، وأجرأهم على الحكام، وأصبرهم على الأذى وأخشاهم لله، وأحرصهم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى أن كان أحدهم ليرحل الليالي ذوات العدد إلى الخليفة، إذا بلغه أنه خالف شيئًا، مما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون من بعده.

رابعا: أخذ هؤلاء القوم يؤيدون ما ذهبوا إليه، من أن أكثر الأحاديث من وضع العلماء في القرن الأول، والثاني بما ورد من كلام علماء الجرح، والتعديل كقول عاصم بن نبيل المتوفى سنة 212: ما رأيت الصالح يكذب في شيء أكثر من الحديث، وقول يحيى بن سعيد القطان

ص: 310

نحو ذلك وقول يزيد بن هارون: إن أهل الحديث بالكوفة في عصره ما عدا واحدا، كانوا مدلسين حتى السفيانان ذكرا بين المدلسين، قالوا: وقد شعر المسلمون في القرن الثاني بأن الاعتراف بصحة الأحاديث، يجب أن يرجع إلى "الشكل" فقط، وأنه يوجد بين الأحاديث الجيدة الإسناد كثير من الأحاديث الموضوعة، وساعدهم على هذا ما ورد من الحديث:"سيكثر التحديث عني فمن حدثكم بحديث، فطبقوه على كتاب الله فما وافقه فهو مني قلته، أو لم أقله"، هذا هو المبدأ الذي حدث بعد قليل عند انتشار الوضع. قالوا: ويمكن أن نتبين شيئا من ذلك في الأحاديث الموثوق بها. فمن ذلك ما رواه مسلم عن ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ألا كلب صيد، أو كلب ماشية" فأخبر ابن عمر أن أبا هريرة يزيد: "أو كلب زرع"، فقال ابن عمر: إن أبا هريرة كانت له أرض يزرعها. فملاحظة ابن عمر تشير إلى ما يفعله المحدث لغرض نفسه. ا. هـ.

ونحن نقول: الناظر في قولهم هذا يرى أنهم يستدلون على دعواهم، أن أغلب الأحاديث النبوية من وضع العلماء في القرن الأول، والثاني بأدلة.

1-

نسبة بعض الصالحين إلى الكذب في الحديث، كما يدل لذلك قول عاصم وغيره.

2-

تدليس كثير من المحدثين، كما قال يزيد بن هارون.

3-

وجود أحديث حكم العلماء عليها بالوضع وهي جيدة الإسناد.

4-

اتجاه العلماء إلى النقد الشكلي في الأحاديث، وهو عرضها على كتاب الله فما وافقه قبلوه، وما لم يوافقه ردوه من غير نظر إلى الإسناد.

5-

اعتراف ابن عمر أن أبا هريرة زاد في الحديث السابق، الذي رواه "أو كلب زرع".

ص: 311

وللرد على دعواهم الباطلة نقول: تكرر منا تزييف هذه الدعوى، وأن أئمة الدين ورجال الحديث لم يتقولوا على النبي صلى الله عليه وسلم، بشيء من الأقاويل، بل عملوا على نشر سنته الصحيحة، وإبطال ما نسبه إليه أهل الأهواء كذبا وزورا.

وما استدل به المستشرقون لدعواهم الزائفة باطل، وبيان ذلك:

1-

إن رد المحدثين لبعض أحاديث الصالحين دليل على تحريهم البالغ في الأحاديث، ونفي الدخيل عنها، فإنهم لم يكتفوا في الرواة بالصلاح، وحسن السيرة حتى يجمعوا إلى ذلك الحفظ والضبط، واليقظة التامة، فكثيرا ما يروج على الصالح، إذا لم يجمع الأوصاف المذكورة أحاديث الكذابين، بناء على ما يظهر له من أحوالهم، وكثيرا ما تدخل عليه الغفلة لسوء حفظه.

2-

وأن التدليس ليس هو الكذب -كما فهم المستشرقون- حتى يستلد به على أن من فعله من العلماء كان يكذب في الحديث. وبيان ذلك أن التدليس عند علماء الحديث قسمان:

أحدهما: تدليس الإسناد، وهو أن يروي المحدث عمن لقيه من الرواة ما لم يسمعه منه، موهما أنه سمعه منه، أو عمن عاصره ولم يلقه موهما أنه قد لقيه وسمعه منه. ومن شأنه ألا يقول في ذلك:"أخبرنا فلان"، ولا "حدثنا فلان" وما أشبههما، وإلا كان كذبا صريحا وإنما يقول:"قال فلان أو عن فلان"، ونحو ذلك من العبارات التي ليست صريحة في السماع.

ثانيها: تدليس الشيوخ، وهو أن يروى عن شيخ حديثا، سمعه منه فيسميه أو يكنيه، أو يصفه بما لا يعرف به. كأن يروي عن أبي داود

ص: 312

السجستاني فيقول: "حدثنا أبو عبد الله"، مع أنه لم يشتهر بذلك، وقد كرهه العلماء بقسميه ورأوا أن البعد عنه أقرب إلى الثقة بالراوي، والاطمئنان إلى مروياته، وإن كانت كراهتهم للقسم الأول منه أشد، ومع ذلك فلم يجرحوا به الراوي الثقة، ولكنهم احتاطوا لقبول الأحاديث، التي يرويها المدلس أعظم حيطة. فما رواه المدلس بلفظ محتمل لم يبين فيه السمع والاتصال، فحكمه عندهم حكم المنقطع من الأحاديث. وما رواه بلفظ مبين للاتصال نحو "سمعت، وحدثنا، وأخبرنا"، وأشباهها فهو مقبول محتج به. وهذا؛ لأن التدليس ليس كذبا وإنما هو ضرب من الإيهام بلفظ محتمل. ويجري هذا الحكم على الراوي المدلس، إذا ثبت عنه التدليس، ولو مرة كما قال الإمام الشافعي رحمه الله1، ومن ذلك يتبين أن التدليس شيء، والكذب شيء آخر وأن العلماء يقلون أحاديث المدلس إذا كان ثقة، وصرح بما يدل على السماع من تحديث أو أخبار أو نحوهما، وأنهم توقفوا فيما رواه بلفظ موهم، حتى يتبين حال ما عسى أن يكون قد أسقطه من شيوخه أفبعد ذلك يقال:"إن العلماء كانوا يضعون الأحاديث، وإنها ليست في الغالب من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم": إنه لبهتان عظيم.

هذا وقد كان لعلماء الحديث في عصوره المختلفة عناية تامة بالبحث عن المدلسين، من الرواة وحصرهم في بلدانهم، وتمييزهم بأسمائهم ومن أمثلة ذلك ما جاء في معرفة علوم الحديث للحاكم أبي عبد الله قال: أهل الحجاز والحرمين، ومصر، والعوالي وخراسان، والجبال، وأصبهان، وبلاد فارس وخوزستان، وما وراء النهر ليس التدليس من مذهبهم، ولا يعلم أحد من أئمتهم دلس، وأكثر المحدثين تدليسا أهل الكوفة، ونفر يسير

1 مقدمة ابن الصلاح في النوع الثاني عشر.

ص: 313

من أهل البصرة فأما مدينة مدينة السلام "بغداد"، فقد خرج منها جماعة من أئمة الحديث -وذكر أسماءهم وطبقاتهم- لا يذكر عنهم، وعن أقرانهم التدليس إلا أبي بكر محمد بن سليمان الباغندي الواسطي، فإن اخذ أحد من أهل بغداد فعن الباغندي وحده. ا. هـ باختصار1.

وهذا من أئمة الحديث غاية في البحث، والتحري عن أحوال الرواة في جميع المواطن، مما يدل على أنهم بذلوا جهودا جبارة في خدمة الحديث.

3-

وأما الحكم بالوضع على أحاديث صحت أسانيدها، فهذا من العلماء نهاية الأمانة، وغاية التحري واليقظة، وأنه لم يرج عليهم ما كان يفعله بعض أهل الزيغ، والجهلة من تركيب حديث مختلق على إسناد مقبول. وهذا يدل على عكس ما يدعونه.

4-

ومن الباطل دعوى أن العلماء اتجهوا في نقد الأحاديث، إلى عرض متونها على كتاب الله من غير نظر إلى الإسناد، وأنه شجعهم على ذلك حديث "سيكثر التحديث عني، إلخ"، ثم الاستدلال بذلك على أن الحديث أكثره من وضع العلماء.

والمعروف عند المحدثين في قبول الأحاديث، أنه لا بد من أن يتصل السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، برواية الثقة مع سلامة متن الحديث من الشذوذ، والعلة، وأنه لا يغني في ذلك سلامة الإسناد من غير نظر إلى المتن، ولا سلامة المتن من غير نظر إلى الإسناد. وأما حديث "سيكثر التحديث عني، فمن حدثكم بحديث فاعضروه على كتاب الله فما وافقه فهو مني قلته، أو لم أقله"، فهو حديث باطل بإجماع أئمة الحديث، وضعه الزنادقة لترويج الأحاديث الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العوام والجهلة.

1 انظر معرفة علوم الحديث للحاكم ص111-112.

ص: 314

5-

ومن الخطأ البين والكذب الفاضح دعواهم أن أبا هريرة رضي الله عنه، زاد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:"أو كلب زرع"، لمصلحته بناء على ما فهموه من قول ابن عمر رضي الله عنه.

والصواب أن قول ابن عمر هذا تثبيت منه لأبي هريرة فيما قال: لا تكذيب له بدليل أنه رواه بعد ذلك كما رواه أبو هريرة، وأن أبا هريرة لم ينفرد بهذه الزيادة وحده، بل رواه كذلك من الصحابة عبد الله بن مغفل، وسفيان بن أبي زهير. قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم:"ليس هذا -يعني قول ابن عمر أن لأبي هريرة زرعا- توهينا لرواية أبي هريرة، ولا شكا فيها بل معناه أنه لما كان صاحب زرع، وحرث اعتنى بذلك، وحفظه، وأتقنه والعادة أن المبتلى بشيء يتقنه ما لا يتقنه غيره، ويتعرف من أحكامه ما لا يعرفه غيره. وقد ذكر مسلم هذه الزيادة، وهي "كلب زرع" من رواية ابن المغفل، ومن رواية سفيان بن أبي زهير، عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرها أيضا مسلم من رواية ابن الحكم -واسمه عبد الرحمن بن أبي نعيم البجلي- عن ابن عمر، فيحتمل أن ابن عمر لما سمعها من أبي هريرة، وتحققها عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها عنه بعد ذلك، وزادها في حديثه الذي كان يرويه بدونها، ويحتمل أنه تذكر في وقت أنه سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، فرواها ونسيها في وقت فتركها. قال: والحاصل أن أبا هريرة ليس منفردا بهذه الزيادة، بل وافقه جماعة من الصحابة في روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو انفرد بها لكانت مقبولة مرضية مكرمة1، ا. هـ من شرح مسلم في باب الأمر بقتل الكلاب، وبيان نسخة وبيان تحريم اقتنائها، إلا لصيد أو زرع، أو ماشية ونحو ذلك من كتاب المساقاة والمزارعة.

1 جـ 6 ص452-453 من هامش القسطلاني.

ص: 315