الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: منزلة السنة النبوية في الدين
1-
وجوب اتباعها، والتحذير عن مخالفتها:
السنة النبوية وحي من الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أصل من أصول الدين، وركن في بنائه القويم يجب اتباعها وتحرم مخالفتها، على ذلك أجمع المسلمون وتضافرت الآيات على وجه لا يدع مجالا للشك. فمن أنكر ذلك فقد نابذ الأدلة القطعية، واتبع غير سبيل المؤمنين.
ومن الآيات في ذلك:
أ- قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
ب- قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} .
ج- قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
د- قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} .
و قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
2-
الرد على من ينكر الاحتجاج بالسنة، وأنها من أصول الدين:
المنكرون لذلك طائفتان: طائفة ردوا السنة جملة، سواء كانت متواترة أم آحادية زعما منهم أن لا حاجة إليها، وفي القرآن غنية عنها وأن النظر فيه يوصل إلى مقاصده، بدون الرجوع إليها، وبنوا هذا الزعم على شبه منها:-
أ- ما فهموه من قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} .
ب- وما فهموه من قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} .
ج- وما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله. فإن وافق كتاب الله فأنا قلته. وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله".
وطائفة ردوا أخبار الآحاد، فقط زعما منهم أن الراوي ليس معصوما من الكذب، وأنه يجوز عليه الخطأ والنسيان.
الرد على من ينكر الاحتجاج بالسنة جملة:
هؤلاء القوم محجوجون بالأدلة السابقة، وبغيرها مثل قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، فلو كان القرآن في غنى عن السنة لما كان لهذه الآية معنى، ونحن إذ نستمسك بالسنة، ونعمل بما جاء فيها إنما نعمل بكتاب الله. قيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير: لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال: والله ما نبغي بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله"، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، فقالت: يا أبا عبد الرحمن بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو في كتاب الله. فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف، فما وجدته فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه. أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورُوي أن طاوسا كان يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس: اتركهما فقال: إنما نهى عنهما أن تتخذا سنة. فقال ابن عباس: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن صلاة بعد صلاة العصر، فلا أدري أتعذب عليهما أم تؤجر؛ لأن الله تبارك وتعالى قال:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ، وعن عمران بن حصين أنه قال لرجل:"إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله الظهر أربعا، لا يجهر فيها بالقراءة، ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ونحو هذا. ثم قال: أتجد ذلك في كتاب الله مفسرا. إن كتاب الله أبهم هذا، وإن السنة تفسر ذلك". ذكر هذه الآثار كلها ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله""2-188".
وأما ما استندوا إليه فشبه واهية نجيب عنها بما يأتي:-
1-
المراد من قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} أن القرآن بيان لأمور الدين، إما بطريق النص أو بالإحالة على السنة، وإلا لناقض قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} .
2-
وأما قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، فالمراد بالكتاب فيه اللوح المحفوظ لا القرآن بدليل السياق. قال تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} ، أي مكتوبة أرزاقها وآجالها، وأعمالها كما كتبت أرزاقكم، وآجالكم، وأعمالكم
{مَا فَرَّطْنَا} أي ما تركنا وما أغفلنا {فِي الْكِتَابِ} أي في اللوح المحفوظ {مِنْ شَيْءٍ} أي من ذلك لم نكتبه، ولم نثبت ما وجب أن يثبت مما يخص به {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} يعنى الأمم كلها من الدواب والطير، فيعوضها وينصف بعضها من بعض، أفاده في الكشاف وعلى تقدير أن المراد بالكتاب هنا القرآن فتأويله: ما فرطنا فيه من شيء من أمور الدين، فهو دال عليها إما بطريق النص، أو بالإحالة على السنة كما سبق.
3-
وأما الحديث الذي نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أئمة الحديث أنه مكذوب، وضعته الزنادقة والخوارج.
قال الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ما نصه: "أمر الله عز وجل بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباعه أمرا مطلقا مجملا لم يقيد بشيء، كما أمرنا باتباع كتاب الله، ولم يقل: إذا وافق كتاب الله، كما قال بعض أهل الزيغ. قال عبد الرحمن بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث؛ يعني ما رووا عنه صلى الله عليه وسلم: "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته. وإن خالف كتاب الله فلم أقله. وإنما أنا موافق كتاب الله وبه هداني الله".
وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم، وقالوا: نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء، ونعتمد على ذلك قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفا لكتاب الله؛ لأنا لم نجد في كتاب الله أنه لا يقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق كتاب الله؛ بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به، والأمر بطاعته، ويحذر من المخالفة عن أمره جملة على كل حال. اهـ "2-190".
ونقل صاحب كشف الخفاء، عن الصغاني أن هذا الحديث موضوع، فلم يبق لهؤلاء المبتدعة الذين نابذوا السنة، وتأولوا القرآن على غير وجهه من حجة إلا اتباع الهوى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} ، ولقد أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أطلعه الله عليه من الغيب، عن هذه الفرق ومسلكها، وأنهم لا يرفعون للسنة رأسا مع أنها من وحي الله سبحانه فقال:"يوشك رجل منكم متكئا على أريكته، يحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي حرم الله"، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. وروى ابن عبد البر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بين فسقه؛ ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله".
3-
الرد على من ينكر الاحتجاج بالسنة الآحادية:
قسم المحدثون الحديث النبوي إلى متواتر وآحاد:-
الحديث المتواتر: هو ما نقله جمع يحصل العلم بصدقهم، ضرورة بأن يكونوا عددا كثيرا لا يمكن تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم من أوله إلى آخره، ولذا كان مفيدا للعلم الضروري، وهو الذي يضطر إليه الإنسان بحيث لا يمكنه دفعه، ويجب العمل به من غير بحث عن رجاله، ولا يعتبر فيه عدد معين في الأصح.
ثم المتواتر قسمان: لفظي: وهو ما تواتر لفظه. ومعنوي: وهو ما تواتر القدر المشترك فيه.
وللأول أمثلة منها حديث: "من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار".
وللثاني أمثلة كثيرة منها أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث فيه رفع يديه في الدعاء؛ لكنها في قضايا مختلفة وكل قضية منها لم تتواتر، والمتواتر هو القدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء.
خبر الواحد:
وأما خبر الواحد، فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر، سواء كان الراوي له واحدا أم أكثر، وهو نوعان "مقبول"، وهو ما اتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن مثله من مبدئه إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة. "ومردود"، وهو ما لم يتصل إسناده كذلك.
خبر الواحد الثقة حجة يلزم بها العمل:
الذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع، يلزم العمل بها ويفيد الظن ولا يفيد العلم، ويقابل هذا المذهب مذاهب أخرى؛ منها:
1-
ما ذهب إليه القدرية والرافضة وبعض أهل الظاهر أنه لا يجب العمل به.
2-
وقال الجبائي من المعتزلة. لا يجب العمل إلا بما رواه اثنان عن اثنين.
3-
وقال بعضهم: لا يجب العمل إلا بما رواه أربعة عن أربعة.
وهذه الأقاويل التي تقابل ما عليه جماهير المسلمين كلها باطلة، فلم تزل كتب النبي صلى الله عليه وسلم، وآحاد رسله يعمل بها ويلزمهم
النبي صلى الله عليه وسلم العمل بذلك، واستمر على ذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم. ولم يزل الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة فمن بعدهم من السلف والخلف على امتثال خبر الواحد إذا أخبرهم بسنة وعلى قضائهم به ورجوعهم إليه في القضاء والفتيا، ونقضهم به ما حكموا على خلافه، وطلبهم خبر عند عدم الحجة ممن هو عنده، واحتجاجهم به على من خالفهم، وانقياد المخالف لذلك، وهذا كله معروف لا شك فيه، والعقل لا يحيل العمل بخبر الواحد، وقد جاء الشرع بوجوب العمل به فوجب المصير إليه.
واحتج بعض العلماء لقبول خبر الواحد، بأن كل صحابي أو تابعي سئل عن نازلة في الدين، فأخبر السائل بما عنده فيها لم يشترط على السائل ألا يعمل بما أخبره به من ذلك، حتى يسأل غيره فضلا عن أن يسأل الكافة، بل كان كل منهم يخبره بما عنده، فيعمل بمقتضاه ولا ينكر عليه ذلك، فدل على اتفاقهم على وجوب العمل بخبر الواحد. وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال، فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد من ريبة في الصحة، أو تهمة للراوي، أو وجود معارض راجح، أو نحو ذلك.
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان ما ملخصه: "ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات بتفرد الراوي، فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة، وقبله الأئمة كلهم فلم يرده أحد منهم، وكم من حديث تفرد به واحد من التابعين، ولم يرده أحد من الأئمة، ولا نعلم أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا، قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل، وإنما يحكى عن أهل البدع -ومن تبعهم في ذلك- أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء، وقد تفرد الزهري بنحو ستين سُنة لم يروها غيره، وعملت بها الأئمة ولم يردوها لتفرده، ثم إن هذا القول
لا يمكن أحدا من أهل العلم ولا من الأئمة ولا من أتباعهم طرده، ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم. فإن قيل: فهذا هو الحديث الشاذ، وأقل أحواله أن يتوقف فيه، ولا يجزم بصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: ليس هذا هو الشاذ، وإنما الشذوذ أن يخالف الراوي الثقات فيما رووه فيشذ عنهم بروايته، فأما إذا روى الثقة حديثا منفردا به، لم يروِ الثقات خلافه؛ فإن ذلك لا يسمى شاذا، وإن اصطلح على تسميته شاذا بهذا المعنى، لم يكن هذا الاصطلاح موجبا لرده ولا مسوغا له. قال الشافعي رحمه الله: وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث، بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات، قال: في مناظرته بعض من رد الحديث بتفرد الراوي فيه". اهـ.
وقد جود الكلام على قبول خبر الواحد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في رسالته المشهورة في باب على حدة، فارجع إليه إن شئت، وسيأتيك طرف منه إن شاء الله تعالى.
4-
عذر الأئمة في ترك العمل ببعض الأحاديث، وأنه لا يعد طعنا منهم في السنة:
قد يقول قائل: قررت أن السنة بنوعيها -المتواتر منها والآحاد- يجب اتباعها ولا تجوز مخالفتها، ولكننا نرى كثيرا من الأئمة المجتهدين يعمل في بعض المسائل على خلاف ما جاءت به الأحاديث.
والجواب: أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة، يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق أو جليل؛ فإنهم مجمعون على وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له من عذر في تركه، والأعذار في هذا الباب كثيرة جدا، وإليك أمثلة من هذه الأعذار:
1-
ألا يكون الحديث قد بلغه في تلك المسألة، ومن لم يبلغه الحديث لا يكلف العمل به، وهذا هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفا لبعض الأحاديث. والإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد من الأئمة كائنا من كان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يحدث أو يفتي أو يقضي أو يفعل الشيء فيسمعه أو يراه من يكون حاضرا، ثم يبلغه أولئك الحاضرون أو بعضهم لمن يبلغونه، فينتهي علم ذلك إلى من شاء الله من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فلم تكن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيط بها صحابي واحد، أو تابعي واحد، أو إمام من الأئمة. ومن ادعى ذلك فقد أحال، وإنما يتفاضل العلماء من الصحابة ومن بعدهم بكثرة العلم أو جودته، واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين، الذين كانوا أعلم الأمة بأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأحواله. فهذا أبو بكر رضي الله عنه لما سئل عن ميراث الجدة قال:"ما لك في كتاب الله من شيء؛ ولكن أسأل الناس"، فسألهم فقام المغيرة بن شعبة، ومحمد بن مسلمة، فشهدا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن يعلم سنة الاستئذان، حتى أخبره بها أبو موسى رضي الله عنه، ولم يكن يعلم أن المرأة ترث من دية زوجها، حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان -أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض البوادي- يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها"، ولم يكن يعلم حكم المجوس في الجزية، حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"سنوا بهم سنة أهل الكتاب"، ولما قدم "سرغ"، وبلغه أن الطاغوت بالشام، استشار المهاجرين الأولين الذين معه، ثم الأنصار، ثم مسلمة الفتح، فأشار
كل عليه بما رأى ولم يخبره أحد بسُنة، حتى قدم عبد الرحمن بن عوف، فأخبره بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون، وأنه قال:"إذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه، وإذا سمعتتم به بأرض فلا تقدموا عليه"، وهذا عثمان رضي الله عنه لم يكن عنده علم بأن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيت زوجها، حتى حدثته الفريعة بنت مالك -أخت أبي سعيد الخدري- بقضيتها لما توفي زوجها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:"امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله"، فأخذ به عثمان.
وأُهدي لعثمان مرة صيد كان قد صيد لأجله فهَمَّ بأكله، فأخبره علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رد لحما أُهدي له، وهذا علي رضي الله عنه يقول:"كنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وإذا حدثني غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر، وذكر حديث صلاة التوبة المشهور". وأفتى هو وابن عباس وغيرهما بأن المتوفى عنها زوجها، إذا كانت حاملا تعتد أبعد الأجلين، ولم يكن قد بلغهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيعة الأسلمية؛ حيث أفتاها النبي صلى الله عليه وسلم بأن عدتها وضع حملها. وأفتى هو وزيد وابن عمر وغيرهم بأن المفوضة إذا مات عنها زوجها فلا مهر لها، ولم تكن قد بلغتهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق، وأنه قضى لها بمهر مثلها، وهذا باب واسع يبلغ المنقول منه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عددا كثيرا، وأما المنقول منه عن غيرهم، فلا يمكن الإحاطة به، ومن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة أو إماما معينا، فهو مخطئ خطأ بينًا.
2-
ان يكون للحديث طريقان؛ أحدهما صحيح، وثانيها غير صحيح، فيبلغ هذا الحديث بعض الأئمة من الطريق الذي لم يصح فلا يعمل به، ويبلغ آخرين من الطريق الصحيح فيعملون به، ولهذا وجد في كلام غير واحد من الأئمة تعليق القول بموجب الحديث على صحته، فيقول: قولي في هذه المسألة كذا، وقد رُوي فيها حديث بكذا، فإن كان صحيحا فهو قولي.
3-
أن يكون للحديث طريق واحد، ولكنه يختلف فيه الأئمة؛ فيراه بعضهم صحيحا لعدم القادح لديه في متنه أو سنده، ويراه بعضهم غير صحيح لقادح في سنده أو متنه. وهذا باب واسع، وللعلماء بالرجال وأحوالهم وفي فهم المرويات ودلالتها ما لسائر العلماء في الفنون الأخرى من الاختلاف.
4-
أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده ولكنه نسيه، وهذا كثير في السلف والخلف؛ ومن ذلك الحديث المشهور عن عمر رضي الله عنه، أنه سئل عن الرجل يجنب في السفر، فلا يجد الماء فقال:"لا يصلى حتى يجد الماء" فقال له عمار. "يا أمير المؤمنين، أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل، فأجنبنا فأما أنا فتمرغت كما تمرغ الدابة، وأما أنت فلم تصل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما يكفيك هكذا، وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه" فقال له عمر:"اتق الله يا عمار". فقال: إن شئت لم أحدث به، فقال:"بل نوليك من ذلك ما توليت".
فهذه سنة شهدها عمر، ثم نسيها حتى أفتى بخلافها، وذكَّره عمار فلم يذكر، ومع ذلك لم يكذِّب عمارًا، وأمره أن يحدث به.
5-
أن يبلغه الحديث ولكنه يرى أن دلالته على الحكم قد عارضها ما يدل على أنها ليست بمرادة، مثل معارضة العام بخاص أو المطلق بمقيد
أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب أو الحقيقة بما يدل على المجاز، إلى غير ذلك من أنواع التعارض.
6-
أن يبلغه الحديث، ولكنه يرى نسخه بدليل آخر، ومن أمثلة ذلك حديث شداد بن أوس، وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أفطر الحاجم والمحجوم"، بين الشافعي رحمه الله أن هذا الحديث منسوخ بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، وذلك أنه روي في حديث شداد، أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم زمان الفتح، فرأى رجلا يحتجم في شهر رمضان فقال:"أفطر الحاجم والمحجوم"، وروي في حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم، فبان بذلك أن الأول كان زمن الفتح في سنة ثمان من الهجرة، وأن الثاني كان في حجة الوداع سنة عشر، ومن الأمثلة أيضا حديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، فإنه منسوخ بدليل الإجماع على ترك العمل به.
وهذا وفي كثير من الأحاديث، يجوز أن يكون للإمام حجة في ترك العمل بالحديث، لم نطلع نحن عليها؛ فإن مدارك العلم واسعة، ولم نطلع نحن على جميع ما في بواطن العلماء، والعالم قد يبدي حجته وقد لا يبديها، وإذا أبداها فقد تبلغنا وقد لا تبلغ، وإذا بلغتنا فقد ندرك موضع احتجاجه وقد لا ندركه، سواء أكانت الحجة صوابا في نفس الأمر أم لا، وقد ذكرنا أمثلة بارزة من أعذارهم في ترك العمل ببعض الأحاديث، وأنه لا يعد طعنا منهم في السنة، أو قصورا في العلم، وجماع هذه الأعذار ثلاثة:"أحدها" عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحديث، "ثانيها" عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك الحديث، "ثالثها" اعتقاده أن ذلك
الحديث منسوخ، وبالله التوفيق. راجع كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لشيخ الإسلام ابن تيمية.
5-
ما يطلب من المسلم إذا وجد حديثا على خلاف مذهبه:
1-
ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق العلماء على أنه ليس أحد معصوما في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2-
عَمِلَ الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة بهذا الأصل، فكانوا يطلبون الحكم في المسائل التي تقع من الكتاب والسنة، فإن لم يجدوا اجتهدوا واستنبطوا، وقاسوا معترفين أن اجتهادهم يحتمل الخطأ والصواب، وإن كان يغلب على ظن المجتهد في هذه الحالة أنه إلى الصواب أقرب، وكان من طريقتهم أنهم إذا وجدوا حديثا في الحكم الذي اجتهدوا فيه على خلاف رأيهم رجعوا عن اجتهادهم إليه؛ عملًا بقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ، وقال غير واحد من هؤلاء الأئمة: كل أحد يُؤخذ من كلامه ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3-
وقد ذكرنا فيما سبق أمثلة من رجوع الصحابة عن آرائهم إلى السنة حينما ظهرت لهم، وهؤلاء الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المدونة، قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه، وقرروا أن الدليل إذا قام على خلاف رأيهم كان أولى بالاتباع، وصح عن كل واحد منهم أنه
قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، ولما اجتمع أبو يوسف بإمام دار الهجرة مالك بن أنس، وسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضراوات، ومسألة الإحباس؛ فأخبره مالك بما دلت عليه السنة في ذلك قال:"رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت"، ومالك رحمه الله كان يقول:"إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة"، والشافعي رحمه الله كان يقول:"إذا صح الحديث بخلاف قولي، فاضربوا بقولي عرض الحائط. وإذا رأيت الحجة موضوعة على طريق فهي قولي"، وقال ابن القيم في أعلام الموقعين:"كان الإمام أحمد إذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان؛ ولذا لم يلتفت إلى خلاف عمر رضي الله عنه في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس"، إلى أمثلة كثيرة ذكرها، فلتراجع "1-32" طبع المنيرية.
4-
ومع هذه الوصايا المتكررة، نرى كثيرًا من العلماء المقلدين لهؤلاء الأئمة إذا وجدوا حديثا يخالف مذهبهم، ولم يستطيعوا الجواب عنه؛ نراهم يلتزمون المذهب، ويهملون العمل بالحديث، ويعمدون إلى فتح باب الاحتمالات البعيدة، ويلتمسون لمذاهب أئمتهم أوجهًا من الترجيح.
وإن عجزوا عن ذلك ادعوا النسخ، بلا دليل أو الخصوصية أو عدم العمل به أو غير ذلك. فإن عجزوا عن ذلك كله ادعوا أن إمامهم اطلع عل كل مروي. فما ترك هذا الحديث إلا لأنه مطعون فيه. وتارة يقولون: إن أمر الحديث عظيم، وليس لمثلنا أن يفهمه، فكيف يعمل به؟! وما دروا أن تعظيم الحديث إنما هو في العمل به، وأن تركه إهانة له، وأن فهمه على الوجه الذي هو مناط التكليف حاصل، وإلا لما قامت لله ولا لرسوله حجة إلا على أمثال الأئمة المجتهدين.
وقد عاب عليهم صنيعهم هذا كثير من العلماء، منهم العز بن عبد السلام؛ حيث قال: "ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على
ضعف مأخذ إمامه؛ بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، وهو مع ذلك يقلده فيه، ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم جمودا على تقليد إمامه، بل يتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة؛ نضالا عن مقلَّده" بفتح اللام المشددة.
قال: "ولم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقيد بمذهب ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب، ومتعصبوها من المقلدين، فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة، مقلدا له فيما قال كأنه نبي أرسل، وهذا نأى عن الحق، وبعد عن الصواب، لا يرضى به أحد من أولي الألباب". انظر كتاب حجة الله البالغة "1-155".
5-
والذي نراه بعد هذا أن من تفقه على مذهب إمام من الأئمة وتبصر فيه، ثم اشتغل بعده بالحديث، وراض نفسه على استنباط الأحكام منه، فوجد أحاديث صحيحة على خلاف مذهب إمامه، ولا يعلم لها ناسخا ولا مخصصا ولا معارضا أنه لا مناص له من العمل بالحديث وترك المذهب، لا سيما إذا قال بالحديث إمام من الأئمة الموثوق بهم، وأن في هذا المسلك العمل بنصوص الشريعة، وتنفيذ ما أجمع عليه الأئمة، والوقوف من أصحاب المذاهب موقفهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقال لمن يفعل هذا: أنت أعلم من إمامك الذي خالفته؛ لأن إمامه قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره فالمصير إلى الحديث في هذه الحالة أولى، والإلزم عليه الإعراض عن أمر الله ورسوله، وبقي كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته، واعتبر بما ورد عن ابن عباس، وقد ناظره مناظر في المتعة فقال له:"قال أبو بكر وعمر"، فقال ابن عباس:"يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر"، وكذلك ابن عمر رضي الله عنه لما سألوه عنها، فأمر بها فعارضوه بقول عمر، فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه
فألحوا عليه فقال لهم: "أرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع أم عمر" مع علم الناس بأن أبا بكر وعمر أعلم من ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، والمراد بالمتعة متعة الحج لا متعة النكاح.
6-
ولا بأس أن نذكر هنا كلمات عن بعض العلماء من أتباع الأئمة، تؤيد ما ذهبنا إليه، وأنه لا ينبغي لأهل العلم والمعرفة، أن يتركوا الأحاديث إلى المذاهب؛ فنقول:
المقالة الأولى:
قال ابن الصلاح: "من وجد من الشافعية حديثا يخالف مذهبه؛ نظر إن كملت له آلة الاجتهاد مطلقا، أو في ذلك الباب، أو المسألة؛ كان له الاستقلال بالعمل به، وإن لم يكمل له آلة الاجتهاد، وشق عليه مخالفة الحديث بعد أن يبحث، فلم يجد للمخالف جوابا شافيا عنه؛ فله العمل به إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي، ويكون هذا عذرا له في ترك مذهب إمامه ههنا"، وحسنه النووي قاله الدهلوي في حجة الله البالغة "1-158".
المقالة الثانية:
قال الإمام الشعراني في الميزان: "فإن قلت: فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي، ولم يأخذ بها؟ فالجواب: ينبغي لك أن تعمل بها؛ فإن إمامك لو ظفر بها، وصحت عنده لربما كان أمرك بها، فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشريعة، ومن فعل ذلك فقد حاز الخير بكلتا يديه، ومن قال: لا أعمل بالحديث إلا إن أخذ به إمامي فاته خير كثير، كما عليه كثير من المقلدين لأئمة المذاهب، وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم تنفيذًا لوصية الأئمة، فإن اعتقادنا فيهم أنهم لو عاشوا، وظفروا بتلك الأحاديث، التي صحت بعدهم لأخذوا بها، وعملوا بها، وتركوا كل قياس كانوا قاسوه، وكل قول كانوا قالوه، وقد بلغنا من طرق صحيحة أن الإمام الشافعي أرسل يقول للإمام أحمد بن حنبل إذا صح عندكم حديث، فأعلمونا به لنأخذ به، ونترك كل قول قلناه قبل ذلك، أو قاله غيرنا، فإنكم أحفظ للحديث، ونحن أعلم به". اهـ.
المقالة الثالثة:
وقال الإمام السندي الحنفي: "تقرر أن الصحابة ما كانوا كلهم مجتهدين على اصطلاح العلماء، فإن فيهم القروي، والبدوي ومن سمع منه صلى الله عليه وسلم حديثا واحدا، أو صحبه مرة ولا شك أن من سمع حديثا، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن واحد من الصحابة رضي الله عنهم، كان يعمل به حسب فهمه مجتهدا كان أو لا، ولم يعرف أن غير المجتهد منهم كلف بالرجوع إلى المجتهد، فيما سمعه من الحديث لا في زمانه، صلى الله عليه وسلم، ولا بعده في زمان الصحابة رضي الله عنهم، وهذا تقرير منه صلى الله عليه وسلم بجواز العمل بالحديث لغير المجتهد، وإجماع من الصحابة عليه، ولولا ذلك لأمر الخلفاء غير المجتهد منهم سيما أهل البودي، أن لا يعلموا بما بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم مشافهة، أو بواسطة حتى يعرضوا على المجتهدين منهم، ولم يرد في هذا عين ولا أثر، وهذا هو ظاهر قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، ونحوه من الآيات، حيث لم يقيد بأن ذلك على فهم الفقهاء. ومن هنا عرفت أنه لا يتوقف العمل بعد وصول الحديث الصحيح على معرفة عدم الناسخ، أو عدم الإجماع على خلافه، أو عدم المعارض، بل ينبغي العمل به إلى أن يظهر شيء من الموانع، فينظر ذلك ويكفي في العمل كون الأصل عدم هذه العوارض المانعة عن العمل، وقد بنى الفقهاء على اعتبار الأصل في شيء أحكاما كثيرة في الماء، ونحوه لا تخفى على المتتبع لكتبهم. ومعلوم أن من أهل البوادي، والقرى البعيدة من كان يجيء إليه صلى الله عليه وسلم مرة، أو مرتين ويسمع شيئا، ثم يرجع إلى بلاده ويعمل به، والوقت كان وقت نسخ وتبديل، ولم يعرف أنه صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من هؤلاء بالمراجعة، ليعرف الناسخ من المنسوخ بل أنه صلى الله عليه وسلم قرر من:قال "لا أزيد على هذا ولا أنقص" على ما قال ولم ينكر عليه بأنه يحتمل النسخ