الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكن في عصره حافظ سواه، ألف كتبا كثيرة، وأملى أكثر من ألف مجلس"، ومنهم الحافظ السخاوي تلميذ ابن حجر العسقلاني، قال في كتابه فتح المغيث: "أمليت بمكة وبعدة أماكن من القاهرة، وبلغ عدة ما أمليته من المجالس إلى الآن نحو الستمائة، والأعمال بالنيات". ا. هـ.
الآن أن هذه الطريقة كانت غير منتشرة انتشارا في العصور الأولى، بل كان جل علماء الحديث في هذا الدور، عاكفين على كتب الأولين بالجمع والاختصار، والشرح والتخرييج، وما إلى ذلك إلا أنه في أواخر هذا الدور انعدمت العناية بالحديث، وعكف الناس على الفروع، إلا في قليل من البلدان، وأفراد قلائل من العلماء. هذا وفي حدود هذه الإمكانيات، كان هناك نشاط في علوم الحديث تتناوبه الأقطار الإسلامية في أوقات مختلفة، وهذا ما نريد أن نحدثك عنه، بعون الله تعالى فنقول:
المبحث الثالث: عناية المسلمين بالسنة في الممالك المختلفة
إنه إذا ما استثنينا البلاد المغربية، التي كان لها فضل مشكور على السنة في جميع العصور، وجدنا أنفسنا أمام بلدين عظيمين يتناوبان النشاط العلمي، الحديثي وهما البلاد المصرية والهندية، فمن يوم أن سقطت بغداد عاصمة الخلافة العباسية على أيدي التتار -الذين بلغ من جهلهم وغشمهم، أن ألقوا بالمكتبة الإسلامية العظيمة في "دجلة"، ليجعلوا منها جسرا تعبر عليه جيوشهم الغاشمة- نقول: من هذا اليوم أخذت العلوم، والمعارف ترحل عن بغداد إلى أقطار أخرى، ثم كانت بينها دولا، فينما نجد الديار المصرية بعد سقوط بغداد مزدهرة بعلوم السنة زاخرة بالعلم والعلماء، طيلة القرون الثلاثة الأولى من هذا الدور.
حتى كان لمصر القدح المعلى، دون جميع البلدان إذا بنا نجدها في منتصف القرن العاشر وقد آذنت شمس الحديث فيها بمغيب، وأخذت السنة وعلومها ترحل عنها إلى بلد آخر هو القطر الهندي، ومن هذا الوقت أخذت البلاد الهندية تسعد بخدمة السنة، ودام الأمر على هذا الحال إلى وقتنا هذا قرابة أربعة قرون أو تزيد، ولنتكلم على أشهر الممالك، التي كان لها أثر ملموس في خدمة السنة لهذا العصر:
دور مصر في العناية بالسنة وعلومها:
في هذه الفترة من الزمان -أي بعد سقوط بغداد- كانت مصر محكومة لدولتي المماليك البحرية والبرجية، ويحدثنا التاريخ عما كان عليه هؤلاء السلاطين من حب للعلم وتقدير للعلماء. ومن أجل ذلك شيدوا الجامعات، والمدارس الحديثية، واستقدموا لهذه العرض العلماء من الأقطار البعيدة. وحبسوا الأموال الطائلة على تلك المؤسسات الدينية، والعلمية، وها هي آثارهم الخالدة ماثلة للعيان. تحدث عما كان للقوم من عناية بعلوم الشريعة والسنة.
هذا ولم يقف الأم عند حد المعاونة بالمال أو السلطان. بل لقد انغمر السلاطين في حلبة الدروس مع المتعلمين، وتتلمذوا للعلماء وأئمة الحديث، وتحملوا السنة بأسانيدها الصحيحة، حتى صار بعهم حافظا، يتلقى عنه الحديث ويسمع منه الصحيح، فهذا هو "الظاهر برقوق"، يتفقه على الإمام أكمل الدين "البابرتي"، ويشارك المحدثين في رواية الصحيحين، ويستقدم المسندين أمثال "ابن أبي المجد" من الأقطار النائية. رغبة منه في إعلاء الإسناد لدى المتعلمين بمصر، لسماعهم الحديث من أصحاب الأسانيد العالية، وهذا هو "المؤيد"، يروي الصحيح عن
السراج "البلقيني"، حتى إن الحافظ ابن حجر يسمع الحديث من "المؤيد"، ويترجم له في عداد مشايخه في "المعجم المفهرس"، وقد استقدم "المؤيد" إلى مصر العلامة "شمس الدين الديري"، المحدث العظيم، صاحب كتاب "المسائل الشريفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة"، وهذا هو "الظاهر جقمق"، يسمع الصحيح من ابن الجزري، ويستقدم كبار المسندين إلى مصر، ليتلقى عنهم المتعلمون مروياتهم في السنة من الصحاح والمسانيد، ويجعل من القلعة المصرية مجمعا علميا للعلماء، وناديا يؤمه طلاب الحديث يتلقون المرويات عن الحفاظ المتقنين، والمحدثين النابهين، وبهذه العناية من السلاطين والأمراء، كانت مصر دار حديث وفقه وأدب طيلة هذه القرون الثلاثة الأولى من هذا الدور، وكانت أسعد بلاد الإسلام حظا بالحديث، وعلومه، وها هي كتب التاريخ قد اكتظت بتراجم لرجال نبهاء، وفطاحل علماء. أنجبتهم مصر في تلك القرون الذهبية، وكانت لهم مؤلفات كثيرة جدا في علوم شتى. بحيث يعدون بحق مفخرة الإسلام، وإن مآثرهم المحفوظة في خزانات العالم، ومكتباته لما يشهد لمصر بالمجد التالد والشرف الرفيع.
استمرت النهضة العلمية بمصر -على ما وصفنا- إلى أوائل القرن العاشر الهجري، إذ بانقراض دولة المماليك البرجية في أوائل هذا القرن، أخذ النشاط العلمي يتضائل ويضمحل، وطفق يرحل شيئا فشيئا إلى بلاد أخرى، ألا وهي البلاد الهندية التي أفسحت صدرها للحديث، وعلومه وسهرت على خدمته فكانت أسعد بلاد المسلمين بعلوم السنة إلى يومنا هذا.
دور الهند في العناية بالسنة:
كان للبلاد الهندية حظ كبير في خدمة السنة -بعد أن كان الهنود قبل منتصف القرن العاشر الهجري منصرفين إلى العلوم النظرية، والأحكام الفقهية المجردة، فمن هذا الوقت أخذوا يعكفون على دراسة الحديث، وعلومه ويعنون برواية السنة وبحث الروايات، وانتقاد الأسانيد، ولو ذهبنا نستعرض ما لهؤلاء الأعلام، من همة عظيمة في علوم الحديث، في الوقت الذي قعدت فيه الهمم عن خدمة السنة، لوقع ذلك موقع الإعجاب والشكر البليغ، فكم لعلماء الهند من شروح ممتعة، وتعليقات نافعة على الأصول الستة وغيرها، وكم لهم من مؤلفات كبيرة في أحاديث الأحكام، وكم لهم من أياد بيضاء في نقد الرجال، وبيان علل الحديث، وشرح الآثار، وكم لهم من مؤلفات في شتى فنون الحديث، وما يتصل به1.
ومما هو جدير بالتقدير، والإعجاب أن هؤلاء القوم لم تفتنهم المدنية الغربية عن دينهم. بل إنها زادتهم تمسكا به وتعصبا له، فكثيرا ما ألفوا الكتب في الرد على القساوسة والمستشرقين، وكثيرا ما كانت تقام مجالس للمناظرة أمام الحكام -الانجليز، فينتصر حق المسلمين على باطل المستشرقين، وكثيرا ما كان يفر هؤلاء القسس من مجالس المناظرة، قبل أن تتم فصولها يجرون أذيال الخيبة ويعثرون في أثواب الهزيمة، هذا ومما يدل على حرص هؤلاء القوم على السنة، وحدبهم على نشر علومها أن بعض المبعوثين منهم إلى جامعات أوربة، كان يشتغل بطبع كتب الحديث، وها هو "الدكتور السيد معظم حسين"، الذي كان يتلقى دروسه بجامعة أكسفورد بانجلترا، يأخذ في طبع كتاب "معرفة علوم
1 عن مقالات العلامة، المرحوم الشيخ محمد زاهد الكوثري ص71، وما بعدها بتصرف.
الحديث" للحاكم أبي عبد الله النيسابوري، ويعتني بتصحيحه، ويقدم له مقدمة عظيمة يذكر فيها ترجمة المؤلف. ونبذة قيمة عن تاريخ تدوين الحديث، ونشأة علم المصطلح، وقد رحل في سبيل نشر هذا الكتاب إلى بلدان عديدة من أوربة، وتردد على مكتباتها العامة في عواصمها المختلفة، وقابل ما كتبه على نسخ خطية كثيرة، كان منها ما هو محفوظ في مكتبة المتحف البريطاني بلندن، كما رحل إلى عدة مكتبات في بلاد الشرق، كمصر والشام واستنبول، ثم طبع الكتاب، وأخرجه للناس في غاية من الضبط والإتقان. إنها لهمة عالية من هؤلاء القوم، فلله درهم وبورك جهادهم.
النهضة العلمية بالمملكة السعودية:
أنه لا يسعنا أن نترك الكلام على هذا الدور، من غير أن ننوه بتلك الأعمال المجيدة، والجهود المشكورة، التي قام بها جلالة العاهل الراحل الملك "عبد العزيز آل سعود" عليه رحمة الله، فإنه والأمراء السعوديين من بعده قد عنوا كل العناية بطبع كثير من كتب السنة النبوية، التي لها أهمية عظمى في المكتبة الإسلامية، ولنذكر منها على سبيل المثال "جامع الأصول من أحاديث الرسول"، و"مختصر وشرح وتهذيب سنن أبي داود" و"زاد المعاد في هدي خير العباد" و"البداية والنهاية في السيرة، والتاريخ لابن كثير"، ومختصر "الفتاوى المصرية" لابن تيمية.
وتفسير الحافظ ابن كثير، ومعه تفسير البغوي وكتاب المغني لابن قدامة، وهو من أنفس الكتب الفقهية الحديثية، الجامعة إلى غير ذلك وهو كثير جدا، وفي الحق أن لآل سعود فضلا يشكر، وجهودا لا ينبغي أن تنكر لما لهم من أياد بيضاء على السنة النبوية، ولما أنفقوه من الأموال الطائلة في سبيل هذا الغرض النبيل، في الوقت الذي ماتت فيه القلوب، وركدت
فيه النفوس وتسلط الجانب المادي على الجانب الروحي، ولقد سنوا بذلك للناس سنة حسنة، حتى نسج على منوالهم بعض وزرائهم.
هذا ومما يكتب لهذه الأسرة بمداد الفخار، أنهم لم يقتصروا في خدمة السنة النبوية على طبع الكتب الحديثية، وتوزيعها على الناس دون مقابل، ولكنهم مع ذلك نهضوا بنشر علوم الشريعة الإسلامية، والسنة النبوية نهضة كبرى، فأسسوا معاهد علمية في جميع أنحاء الجزيرة العربية، كما أسسوا للدراسات العليا الكليات، ومن ذلك كلية الشريعة بمكة المكرمة، وكليتا الشريعة واللغة العربية بمدينة الرياض، وانتدبوا لهذه الغاية الشريفة خيرة العلماء من الجامع الأزهر، للقيام بالدراسة على الطريقة التحليلية المنتجة في علوم القرآن، والحديث، والفقه واللغة العربية، وغيرها.
ولقد شهدت عن كثب أيام، كنت مدرسا بالمعهد العلمي بالرياض هذه النهضة، ولمست العناية التامة، التي يقوم بها آل الشيخ، وعلى رأسهم "الشيخ الرئيس"، المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ أطال الله بقاءه، ونفع به المسلمين، فجزاهم الله من ملوك وأمراء، وعلماء عن السنة أفضل الجزاء.