الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الخوارج ورأيهم في الخلافة
هذه الطائفة هي التي خرجت على علي كرم الله وجهه، لما أن قبل التحكيم. ومن عجيب أمرهم أنهم قبلوا التحكيم أولا وارتضوه، في حين أن عليا كرهه وأباه، وحذر أصحابه عواقبه فلم يستجيبوا له.
مبدؤهم العام:
كان من رأيهم أن الخلافة يجب أن تكون باختيار حر، فإذا ما اختير الإمام فليس له أن يتنازل أو يحكم، وأن الخلافة ليست في بيت بعينه، فهي ليست في قريش وحدهم ولم يفرق الخوارج بين كافر، وفاسق بل كل من تعدى حدود الله فهو فاسق والفاسق كافر؛ لأن العمل عندهم جزء من الإيمان، فمرتكب الكبيرة في نظرهم كافر.
اعترف الخوارج بصحة خلافة الشيخين أبي بكر، وعمر لصحة
انتخابهما. وبصحة خلفة عثمان في سنيه الأولى، التي سار فيها سيرة الشيخين، فلما آثر قرابته بالولاية نقموا عليه. كذلك أقروا بصحة خلافة علي رضي الله عنه إلى أن قبل التحكيم بينه، وبين معاوية في "صفين"، فحكموا بكفره؛ لأنه حكم الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله مستندين إلى قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، وأنكروا على معاوية استبداده بالخلافة، فهو في نظرهم غاصب لها، وكان من مذهبهم أن من تعاون مع معاوية، ولم يبرأ من علي وعثمان فهو كافر يستباح دمه. فعلي وشيعته ومعاوية، وأعوانه وعثمان، ومن لم يبرأ منه كل هؤلاء في نظر الخوارج كفار تستحل دماؤهم.
والذي يظهر أن الخوارج في مبدئهم، كانوا قوما من الأعراب الجفاة الغلاظ، الذين قال الله تعالى في شأنهم:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} ، فليس فيهم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين استضاءوا بنور النبوة وفهموا القرآن على وجهه الصحيح. فلا عجب أن يغتر الخوارج بظواهر القرآن، ولو كلفوا أنفسهم النظر في وحده لاهتدوا إلى آيات تأمر بالتحكيم، فالله تعالى يقول في سورة النساء:{فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ، فالتحكيم أمر مشروع، والحكمان إنما يحكمان حسب ما ما أمر القرآن العزيز:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، وإنما لم يرض علي بالتحكيم أولا؛ لأنه كان يرى الحق معه، وأن طلب التحكيم إنما هو خدعة من معاوية وعمر بن العاص، يريدان بها توهين جيش علي وتخدير أعصابهم، لما رأياه من تفوقهم في الموقعة، فرفعوا المصاحف على أسنة الرماح طالبين تحكيم كتاب الله.
ولو أن أصحاب علي أطاعوه في عدم قبول التحكيم
لتغير وجه التاريخ ولوقع معاوية وأهل الشام في براثن الأسد، ولكن أراد الله ما قد كان ولا راد لقضائه. قال العلامة ابن حزم في كتابه الفصل "4-156""إنما حكم علي رضي الله عنه أبا موسى، وعمروا ليكون كل منهما مدليا بحجة من قدمه، وليكونا متخاصمين عن الطائفتين، ثم حاكمين لمن أوجب القرآن الحكم له. وإذ من المحال الممتنع الذي لا يمكن أن يفهم لغط العسكريين، أو أن يتكلم جميع أهل العسكر بحجتهم، فصح يقينا لا محيد عنه صواب علي في التحكيم، والرجوع إلى ما أوجبه القرآن، وهذا الذي لا يجوز غيره، ولكن أسلاف الخوارج، كانوا أعرابا قرءوا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء، لا من أصحاب ابن مسعود ولا من أصحاب عمر، ولا أصحاب علي، ولا أصحاب عائشة، ولا أصحاب أبي موسى، ولا أصحاب معاذ بن جبل، ولا أصحاب أبي الدرداء، ولا أصحاب سلمان، ولا أصحاب زيد وابن عباس وابن عمر، ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضا عند أقل نازلة، تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها، فظهر ضعف القوم وقوة جهلهم". ا. هـ.
استحل الخوارج قتال جمهور المسلمين، وقتلهم فحاربوا خلفاء بني أمية، وظلوا شجى في حلق الدولة الأموية، طيلة أيامها يقاتلونها في شجاعة نادرة، حتى أوشكوا أن يقضوا عليها. واستمر المهلب بن أبي صفرة ينازلهم الحروب، وهم مستبسلون في حربه لا يفترون عنها، حتى أروه الأهوال. واستمروا على ذلك حتى جاءت الدولة العباسية، فناوءوها في أول أمرها، ولكن أطاحت بهم تلك الحروب الطويلة، فخمدت جذوتهم، وانكسرت شوكتهم وأراح الله المسلمين من شرهم.
فقه الخوارج:
كان جهلهم بالحديث وعدم تحملهم له عن غيرهم؛ لأنه متهم في نظرهم سببا في أن فقههم، جاء مخالفا لأحكام الشريعة الإسلامية، بل منه ما جاء من النصوص القرآن الكريم. فمنهم من يرى أن التيمم جائز، ولو على رأس بئر، ومنهم من يرى أن الواجب من الصلاة، إنما هو ركعة واحدة بالغداة، وأخرى بالعشي، ومنهم من يرى الحج في جميع شهور السنة.
ومنهم من يبيح دم الأطفال، والنساء ممن لا ينتمي إلى عسكرهم. ومنهم من أباح نكاح بنات البنات وبنات البنين، مما يدل على جهل عميق، حتى بالقرآن الكريم، وأكثر ذلك أتاهم كما قلنا من أنهم لا يعتدون برواية جمهور المسلمين، وكيف يأخذون دينهم عن قوم هم كفار في نظرهم، وإنما يعتمدون ما رواه لهم أئمتهم، وهم كما قلنا خلو من العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل خلو من فهم أحكام القرآن على وجهها الصحيح، ثم لا يغيب عن البال، أن هذا الحكم لا يسري على جميع أفراد الخوارج، بل قد وجد منهم فيما بعد أفراد، وأئمة تفقهوا في الدين ورووا الحديث، واعتمدهم كما قال ابن الصلاح في مقدمته: بعض أئمة الحديث كالبخاري، فقد احتج بعمران بن حطان، وهو من الخوارج لا سيما، إذا علمت أن الخوارج يحكمون بكفر من يكذب؛ لأن مرتكب الكبيرة كافر في ينظرهم والكذب من الكبائر.
الخوارج، ووضع الحديث:
هذا ومع أن الخوارج يحكمون بكفر الكاذب، فقد وجد من بعضهم الوضع في الحديث، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد
مذاهبهم الباطلة، حتى تروج لدى أتباعهم، فابن الجوزي في مقدمة كتاب الموضوعات، يروي عن ابن لهيعة أنه قال: سمعت شيخا من الخوارج تاب ورجع فجعل يقول: إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا، وهذا عبد الرحمن بن مهدي، يقول فيما نسبوه إلى النبي صلى الله علهي وسلم من قولهم:"إذا أتاكم الحديث عني، فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته" إلخ: أن الخوارج والزنادقة، وضعوا ذلك الحديث. وهذا ليس ببعيد من قوم وقفوا عند ظواهر الكتاب وردوا الحديث، إذا جاء من غير من ينتمون إليه. إلا أن وضع الخوارج للحديث لم يكن بالكثرة، التي جاءت عن الشيعة وذلك لأمور:
1-
أن الخوارج كان من مذهبهم تكفير الكاذب، وذلك مما يجعل الكذب فيهم قليلا.
2-
أنهم كانوا لبداوتهم وجفاء طبعهم، وغلظتهم غير مستعدين لقبول أفراد من الأمم الأخرى، كالفرس، واليهود الذين اندسوا في الشيعة، ووضعوا كثيرا من الأحاديث.
3-
كان عماد الخوارج في محاربة خصومهم، إنما هو أسلحتهم وقوتهم وشجاعتهم، وكانوا مع ذلك صرحاء لا يعرفون التقية، التي استخدمها الشيعة. لذلك تراهم لم يلجأوا إلى الكذب لانتقاص أعدائهم؛ لأنهم في نظرهم كفار، وليس بعد الكفر عيب ينتقص به صاحبه فلم يبق سوى السيف يعملونه في رقابهم من غير مداهنة، ولا مداجاة.
فكل هذه العوامل كان لها أثر في تقليل الكذ في الحديث، من الخوارج بالنسبة إلى غيرهم من الفرق الأخرى. ومع ذلك لم يعدموا أفرادا منهم اصطنعوا الأكاذيب، واختلقوا الأحاديث كما رأيت.