المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: النزاع حول حجية السنة في القرن الثاني - الحديث والمحدثون

[محمد محمد أبو زهو]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌الإهداء

- ‌الداعي لنشر هذا الكتاب:

- ‌مقدمة المؤلف:

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌المبحث الأول: معنى السنة لغة واصطلاحا

- ‌المبحث الثاني: السنة من الوحي

- ‌المبحث الثالث: منزلة السنة النبوية في الدين

- ‌المبحث الرابع: في أن السنة النبوية مبينة للقرآن الكريم

- ‌السنة في أدوارها المختلفة

- ‌الدور الأول: السنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: استعداد الصحابة لحفظ السنة ونشرها

- ‌المبحث الثاني: "مجالس النبي صلى الله عليه وسلم العلمية

- ‌المبحث الثالث: كيف كان الصحابة يتلقون الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: البعوث والوفود، وأثرها في انتشار الحديث النبوي:

- ‌الدور الثاني: السنة في زمن الخلافة الراشدة

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية لهذا العهد

- ‌المبحث الثاني: منهج الصحابة في رواية الحديث

- ‌المبحث الثالث: رد شبه واردة على منهج الصحابة في رواية الحديث، والعمل به

- ‌الدور الثالث: السنة بعد زمن الخلافة الراشدة إلى نهاية القرن الأول

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية وظهور الفرق

- ‌المبحث الثاني: الخوارج ورأيهم في الخلافة

- ‌المبحث الثالث: الشيعة ومعتقداتهم

- ‌المبحث الرابع: جهود الصحابة والتابعين في جمع الحديث ورواياته ومناهضتهم للكذابين

- ‌المبحث الخامس: كتابة الحديث

- ‌المبحث السادس: تراجم لبعض مشاهير الرواة من الصحابة، رضي الله عنهم

- ‌المبحث السابع: تراجم لبعض رواة الحديث من التابعين

- ‌المبحث الثامن:

- ‌الدور الرابع: السنة في القرن الثاني

- ‌المبحث الأول: تدوين الحديث في هذا العصر وأشهر الكتب المؤلفة فيه

- ‌المبحث الثاني: شيوع الوضع في الحديث في هذا العصر

- ‌المبحث الثالث: النزاع حول حجية السنة في القرن الثاني

- ‌المبحث الرابع: تراجم لبعض مشاهير المحدثين في القرن الثاني

- ‌المبحث الخامس: الرد على تمويهات لبعض المستشرقين لها صلة بهذا العصر، وما قبله

- ‌الدور الخامس: السنة في القرن الثالث

- ‌المبحث الأول: النزاع بين المتكلمين وأهل الحديث وأثر ذلك في الحديث

- ‌المبحث الثاني: نشاط أهل الأهواء في وضع الأحاديث

- ‌المبحث الثالث: تراجم لبعض أئمة الحديث في هذا العصر

- ‌المبحث الرابع: تدوين الحديث في هذا العصر وطريقة العلماء في ذلك

- ‌الدور السادس

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية في هذا الدور

- ‌المبحث الثاني: السنة في القرن الرابع

- ‌المبحث الثالث: السنة بعد القرن الرابع إلى آخر هذا الدور

- ‌الدور السابع

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية

- ‌المبحث الثاني: منهج العلماء رواية السنة في هذا الدور

- ‌المبحث الثالث: عناية المسلمين بالسنة في الممالك المختلفة

- ‌المبحث الرابع: طريقة العلماء في تصنيف الحديث في هذا الدور

- ‌الخاتمة:

- ‌خاتمة الطبع:

- ‌تقاريظ الكتاب:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌المبحث الثالث: النزاع حول حجية السنة في القرن الثاني

‌المبحث الثالث: النزاع حول حجية السنة في القرن الثاني

رأيت كيف عمل الوضاعون على إفساد الحديث النبوي، كما رأيت جهود الأئمة في مناهضتهم، وتزييف ما قذفوا به من أباطيلهم وأكاذيبهم.

والآن نحدثك عن خصوم آخرين للسنة، ظهروا في هذا العصر أيضا بمبدأ خبيث وأقاموها حربا شعواء على الحديث وأئمة الحديث. كان هؤلاء القوم طوائف مختلفة، فطائفة رفضوا السنة جملة وتفصيلا، وأنكروا أن تكون أصلا من أصول التشريع الإسلامي، زاعمين أن في القرآن غنية لهم عن كل ما سواه، وأنه يتعذر الاطمئنان إلى الأحاديث من جهة أنه يجوز على رواتها الخطأ، والنسيان، والكذب، وطائفة أخرى قالوا: لا نقبل من الحديث، إلا ما كان بيانا لما نطق به الكتاب العزيز، وطائفة ثالثة قالوا: لا نقبل من السنة أخبار الخاصة التي ترعف عند المحدثين "بأخبار الآحاد" مهما كان رواتها من العدالة والضبط، ولا نعتمد إلا ما تواتر نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم. تلك هي الطوائف، التي لم تقم للسنة وزنا، ولم ترفع لها رأسا في هذا العصر، وهي لا تقل خطرا عن الطوائف الأخرى، التي حاول تزييف السنة عن طريق الكذب عليه صلى الله عليه وسلم.

وقد تصدى للرد على هذه الفرق المبطلة، كثير من أئمة المسلمين وفي مقدمتهم الإمام الجليل، محمد بن إدريس الشافعي، الذي وهبه الله تعالى بيانا ناصعا، وحجة دامغة، ومقدرة علمية فائقة. وقد جاء في كتابه المعروف "بالأم" رواية الربيع بن سليمان المرادي عنه حوار بينه، وبين بعض المنسوبين إلى هذه الفرق، كما جاء في رسالته المشهورة دفاع مجيد عن السنة وحجيتها. ونحن نذكر لك طرفا من أقواله، لتكون على بينة مما قام به العلماء في القضاء على هذه الطوائف الزائغة.

مناظرة الإمام الشافعي لمن يرد الأحاديث كلها:

قال الشافعي رحمه الله تعالى: قال لي قائل: ينسب إلى العلم بمذهب أصحابه. أنت عربي والقرآن نزل بلسان من أنت منهم. وأنت أدرى بحفظه. وفيه لله فرائض أنزلها. لو شك شاك قد تلبس عليه القرآن.

ص: 272

بحرف منها استتبته فإن تاب وإلا قتلته. وقد قال الله عز وجل في القرآن: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، فكيف جاز عند نفسك، أو لأحد في شيء فرضه الله أن يقول مرة الفرض فيه عام. ومرة الفرض فيه خاص، ومرة الأمر فيه فرض ومرة الأمر فيه دلالة. وإن شاء ذو أباحه. وكثر ما فرقت بينه من هذا. عندك حديث ترويه عن رجل، عن آخر، عن آخر أو حديثان، أو ثلاثة حتى تبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد وجدتك، ومن ذهب مذهبك لا تبرئون أحدا لقيتموه، وقدمتموه في الصدق والحفظ. ولا أحدا لقيت ممن لقيتم من أن يغلط، وينسى ويخطئ في حديثه، بل وجدتكم تقولون لغير واحد منهم أخطأ فلان في حديث كذا، وفلان في حديث كذا.

ووجدتكم لو قال رجل لحديث أحللتم به، وحرمتم من علم الخاصة.

"لم يقل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما أخطأتم أو من حدثكم وكذبتم، أو من حدثكم"، لم تستتيبوه ولم تزيدوا على أن تقولوا له: بئس ما قلت، أفيجوز أن يفرق بين شيء من أحكام القرآن، وظاهره واحد عند من سمعه بخبر من هو كما وصفتم، وتقيمون أخبارهم مقام كتاب الله، وأنتم تعطون بها وتمنعون بها. قال: وإذا أقمتم على أن تقبلوا أخباهم، وفيهم ما ذكرت فما حجتكم فيه على من ردها، وقال: لا أقبل منها شيئا إذا كان يمكن فيهم الوهم، ولا أقبل إلا ما أشهد به على الله1، كما أشهد بكتابه الذي لا يسع أحدا الشك في حرف منه.

أو يجوز أن يقوم شيء مقام الإحاطة2، وليس بها؟ فقلت له: من علم اللسان الذي به كتاب الله، وأحكام الله دله علمه بهما على قبول أخبار

1 لا يقال إن هذا المشتبه يعترف بالسنة المتواترة أخذا من هذه العبارة لا يقال هذا؛ لأن بقية الكلام لا يدل عليه، ولعل سند هذه الطائفة في رد المتواتر أيضا أنه جاء من طرق آحادها ظني.

2 المراد من الإحاطة العلم اليقيني.

ص: 273

الصادقين عن رسول الله صلى الله وسلم

قال: فاذكر شيئا أن حضرك. قلت: قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ، قال: فقد علمنا أن الكتاب كتاب الله. فما الحكمة؟. قلت: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أفيحتمل أن يكون يعلمهم الكتاب جملة، والحكمة خاصة وهي أحكامه؟ قلت: تعني بأن يبين لهم عن الله عز وجل مثل ما بين لهم في جملة الفرائض من الصلاة، والزكاة والحج وغيرها، فيكون الله تعالى قد أحكم فرائض من فرائضه بكتابه، وبين كيف هي على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، قال: إنه ليحتمل ذلك. قلت: فإن ذهبت هذا المذهب، فهو في معنى الأول قبله الذي لا تصل إليه، إلا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن ذهبت مذهب تكرير الكلام؟، قلت: وأيهم أولى به إذا ذكر الكتاب والحكمة أن يكونا شيئين أو شيئا واحدا. قال: يحتمل أن يكونا كما وصفت كتابا، وسنة فيكونا شيئين، ويحتمل أن يكونا شيئا واحدا، قلت: فأظهرهما أولاهما وفي القرآن دلالة على ما قلنا، وخلاف ما ذهت إليه قال: وأين؟.

قلت: قول الله عز وجل. {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} ، فأخبر أنه يتلى في بيوتهن شيئان.

قال: فهذا القرآن يتلى فكيف تتلى الحكمة؟، قلت: إنما معنى التلاوة أن ينطق بالسنة كما ينطق بالقرآن. قال: فهذه أبين في أن الحكمة غير القرآن من الأولى. وقلت: افترض الله علينا اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، قال: وأين؟. قلت: قال الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وقال الله عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} .

ص: 274

وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، قال: ما من شيء أولى بنا أن نقوله في الحكمة من أنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان كما قال بعض أصحابنا.

"إن الله أمر بالتسليم لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكمه إنما هو لما أنزله"، لكان من لم يسلم له أولى أن ينسب إلى عدم التسليم، لحكم الله منه إلى عدم التسليم لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قلت: لقد فرض الله عز وجل علينا اتباع أمره. فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، قال: إنه لبين في التنزيل أن علينا فرضا أن نأخذ الذي أمرنا به، وننتهي عما نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: والفرض علينا وعلى من هو قبلنا، ومن بعدنا واحد. قال: نعم. فقلت: فإن كان ذلك علينا فرضا في اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنحيط أنه إذا فرض علينا شيئا، فقد دلنا على الأمر الذي يؤخذ به فرضه قال: نعم. قلت: فهل تجد السبيل إلى تأدية فرض الله عز وجل في اتباع أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحد قبلك أو بعدك ممن لم يشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت له أيضا. يلزمك هذا في ناسخ القرآن ومنسوخه. قال: فاذكر منه شيئا قلت. قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ، وقال في الفرائض:{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} .

فزعمنا1 بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آية الفرائض

1 أي علمنا.

ص: 275

نسخت الوصية للوالدين والأقرين، فلو كنا ممن لا يقبل الخبر فقال قائل: الوصية نسخت الفرائض، هل نجد الحجة عليه إلا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: هذا شبيه بالكتاب والحكمة، والحجة لك ثابتة بأن علينا قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد صرت إلى أن قبول الخبر لازم للمسلمين لما ذكرت، وما في مثل معانيه من كتاب الله، وليست تدخلني أنفة من إظهار الانتقال، عما كنت أرى إلى غيره إذا بانت الحجة فيه، بل أتدين بأن علي الرجوع عما كنت أرى إلى ما رأيته الحق، وهنا سأل المناظر عن العام في القرآن، يبقى على عمومه مرة ويخصص مرة، فأجابه الإمام بأمثلة كثيرة ثم قال للمناظر: "فقد بان لك في أحكام الله تعالى في كتابه فرض طاعة رسوله، والموضع الذي وضعه الله عز وجل به من الإبانة عنه، ما أنزل خاصا، وعاما، وناسخا، ومنسوخا.

قال: نعم، وما زلت أقول بخلاف هذا حتى بأن لي خطأ من ذهب هذا المذهب، ولقد ذهب فيه أناس مذهبين. أحد الفريقين لا يقبل خبرا، وفي كتاب الله البيان. قلت: فما لزمه؟. قال: أفضى به ذلك إلى عظيم من الأمر فقال: من جاء بما يقع عليه اسم صلاة، وأقل ما يقع عليه اسم زكاة، فقد أدى ما عليه لا وقت في ذلك ولو صلى ركعتين في كل يوم، أو في كل أيام. وقال: ما لم يكن فيه كتاب الله فليس على أحد فيه فرض، وقال غيره: ما كان فيه قرآن يقبل فيه الخبر، فقال بقريب من قوله فيما ليس فيه قرآن، فدخل عليه ما دخل على الأول أو قريب منه. ودخل عليه أن صار إلى قبول الخبر بعد رده، وصار إلى ألا يعرف ناسخا، ولا منسوخا، ولا خاصا، ولا عاما، وأخطأ. قال: ومذهب الضلال في هذين المذهبين واضح لست أقول بواحد منهما. ولكن هل من حجة في أن تبيح المحرم بإحاطة بغير إحاطة؟ قلت: نعم. قال: ما هو، قلت: ما تقول في هذا الرجل

ص: 276

إلى جنبي، أمحرم الدم والمال؟ قال: نعم. قلت: فإن شهد عليه شاهدان بأنه قتل رجلا، وأخذ ماله وهو هذا الذي في يديه. قال: أقتله فور وأدفع ماله الذي في يديه إلى ورثة المشهود له. قلت: أو يمكن في الشاهدين أن يشهدا بالكذب والغلط؟. قال: نعم. قلت: فكيف أبحث الدم والمال المحرمين بإحاطة شاهدين، وليسا بإحاطة قال: أمرت بقبول الشهادة.

قلت: فإن كنت أمرت بذلك على صدق الشاهدين في الظاهر، فقبلتهما على الظاهر، ولا يعلم الغيب إلا الله، فأنا لنطلب في المحدث أكثر مما نطلب في الشاهد، فنجيز شهادة البشر لا نقبل حديث واحد منهم، ونجد الدلالة على صدق المحدث، وغلطه ممن شركه من الحفاظ، وبالكتاب وبالسنة ففي هذه الدلالات، ولا يمكن هذا في الشهادات. فقال لي: قد قبلت منك أن أقبل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمت أن الدلالة على معنى ما أراد بما وصفت من فرض الله طاعته، فأنا إذا قبلت خبره فعن الله قبل ما أجمع عليه المسلمون، فلم يختلفوا فيه، وعلمت ما ذكرت من أنهم لا يجتمعون، ولا يختلفون إلا على حق إن شاء الله تعالى". ا. هـ بحذف بعض الجمل1.

استدلال الإمام الشافعي، رضي الله عنه على حجية خبر الواحد:

ننقل لك فقرات مما جاء في رسالة الإمام القرشي، رضي الله عنه تحت عنوان "الحجة2 في تثبيت خبر الواحد"، قال الشافعي: قال لي قائل.

اذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنص خبر، أو دلالة يه أو إجماع فقلت له: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله

1 ثم سأله عن حجية القياس، فأجابه وإن شئت أن تطلع على هذه المناظرة بتمامها، فانظر الجزء السابع من "الأم" ص250، وما بعدها.

2 ص401، وما بعدها طبع الحلبي.

ص: 277

ابن مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها، ووعاها وأداها فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم"، فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها، وأدائها امرأ يؤديها والمرء واحد دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يؤدي عنه حلال يؤتى وحرام يجتنب وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى ونصيحة في دين، ودنيا ودل على أنه قد يحمل الفقه غير فقيه يكون له حافظا، ولا يكون فيه فقيها وأمر رسول الله بلزوم جماعة المسلمين، مما يحتج به في أن إجماع المسلمين إن شاء الله لازم.

قال الشافعي: أخبرنا مالك عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال:"بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ أتاهم آت فقال: إن رسول الله قد أنزل عليه قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إل الكعبة"، وأهل قباء أهل سابقة من الأنصار وفقه، وقد كانوا على قبلة فرض الله عليهم استقبالها، ولم يكن لهم أن يدعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم به عليهم الحجة، ولم يلقوا رسول الله ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه في تحويل القبلة، فيكونوا مستقبلين بكتاب الله، وسنة نبيه سماعا من رسول الله، ولا بخبر عامة وانتقلوا بخبر واحد إذا كان عندهم من أهل الصدق عن فرض كان عليهم، فتركوه إلى ما أخبرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أحدث عليهم من تحويل القبلة. ولم يكونوا ليفعلوه إن شاء الله بخبر إلا عن علم بأن الحجة، تثبت بمثله إذا كان من أهل الصدق، ولا ليحدثوا أيضا مثل هذا العظيم في دينهم، إلا عن علم بأن لهم أحداثه، ولا يدعون أن يخبروا رسول

ص: 278

الله بما صنعوا منه. ولو كان ما قبلوا من خبر الواحد عن رسول الله في تحويل القبلة -وهو فرض- مما لا يجوز لهم لقال لهم: -إن شاء الله- رسول الله صلى الله عليه وسلم. قد كنتم على قبلة، ولم يكن لكم تركها إلا بعد علم تقوم به عليكم حجة من سماعكم مني، أو خبر عامة أو أكثر من خبر واحد عني.

قال الشافعي: أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال:"كنت أسقي أبا طلحة، وأبا عبيدة بن الجرح، وأبي بن كعب شرابا من فضيح1، وتمر فجاءهم آت. فقال: إن الخمر قد حرمت. فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس2 لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت"، وهؤلاء في العلم والمكان من النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم صحبته بالموضع، الذي لا ينكره عالم، وقد كان الشراب عندهم حلالًا يشربونه، فجاءهم آت واحد، وأخبرهم بتحريم الخمر. فأمر أبوطلحة -وهو مالك الجرار- بكسر الجرار ولم يقل هو ولا هم ولا واحد منهم: نحن على تحليلها، حتى نلقى رسول الله مع قربه منا أو يأتينا خبر عامة. وذلك أنهم لا يهرقون حلالا إهراقه سرف، وليسوا من أهله والحال أنهم لا يدعون أخبار رسول الله بما فعلوا، ولايدع -لو كان ما قبلوا من خبر الواحد ليس لهم- أن ينهاهم عن قبول مثله.

قال الشافعي: وأمر سول الله أنيسا أن يغدو على امرأة رجل ذكر أنها زنت. "فإن اعترف فارجمها"، فاعترفت فرجمها.

قال الشافعي: وبعث رسول الله أبا بكر واليا على الحج في سنة

1 قال في النهاية، هو شراب يتخذ من البسر المفضوح أي المشدوخ.

2 المهراس حجر مستطيل منقور يتوضأ منه ويدق فيه.

ص: 279

تسع وحضره الحاج من أهل بلدان مختلفة، وشعوب متفرقة فأقام لهم مناسكهم، وأخبرهم عن رسول الله بما لهم وما عليهم. وبعث علي بن أبي طالب في تلك السنة فقرأ عليهم في مجمعهم يوم النحر آيات من سورة براءة، ونبذ إلى قوم على سواء، وجعل لقوم مددا، ونهاهم عن أمور، فكان أبو بكر وعلي معروفين عند أهل مكة بالفضل والدين، والصدق، وكان من جهلهما، أو أحدهما من الحاج وجد من يخبره عن صدقما وفضلها. ولم يكن رسول الله ليبعث واحدا، إلا والحجة قائمة بخبره على من بعثه إليه إن شاء الله.

قال الشافعي: وقد فرق النبي عمالا على نواحي عرفنا أسماءهم، والمواضع التي فرقهم عليها. وكل من ولي فقد أمره أن يأخذه ما أوجب الله على من ولاه عليه، ولم يكن لأحد عندنا في أحد ممن قدم عليه من أهل الصدق، أن يقول أنت واحد، وليس لك أن تأخذ منا ما لم نسمع رسول الله يقول أنه علينا. ولا أحسبه بعثهم مشهورين في النواحي، التي بعثهم إليها بالصدق، إلا لما وصفت من أن تقوم بمثلهم الحجة على من بعثه إليه.

قال الشافعي: ولم تزل كتب رسول الله تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي، ولم يكن لأحد من ولاته ترك إنفاذ أمره، ولم يكن ليبعث رسولا إلا صادقا عند من بعثه إليه، وهكذا كانت كتب خلفائه بعده، وعمالهم وما أجمع المسلمون عليه من أن يكون الخليفة واحدا، والقاضي واحدا، والأمير واحدا والإمام واحدا قال: والولاة من القضاة وغيرهم يقضون، وتنفذ أحكامهم ويقيمون الحدود، وينفذ من بعدهم أحكامهم، وأحكامهم أخبار عنهم.

قال الشافعي: ففيما وصفت من سنة رسول الله، ثم ما أجمع المسلمون عليه منه دلالة على فرق بين الشهادة، والخبر، والحكم.

ص: 280

احتياط علماء هذا العصر في قبول خبر الواحد:

وقفت على ما كان من أهل الأهواء، نحو العمل بالسنة وأن منهم من ردها جمبلة، ومنهم من ردها إذا لم تكن بيانا للقرآن الكريم، ومنهم من لم يقبل منها إلا المتواتر خاصة.

أما علماء الإسلام، فكانوا على وفاق في أن السنة أصل من أصول الدين المتواتر منها، وغير المتواتر إذا صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنهم اختلفوا في بعض الشروط، التي تصح بها السنة الآحادية.

فاشترط الإمام مالك في قبول خبر الواحد، أن لا يعمل على خلافه الجمهور، والجم الغفير من أهل المدينة، إذ إن عملهم بمنزلة روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواية جماعة عن جماعة أولى بالقبول من رواية فرد عن فرد، واشترط الإمام أبو حنيفة في قبول خبر الواحد شروطا منها:

1-

ألا يخالف السنة المشهورة سواء أكانت سنة فعلية، أم قولية عملا بأقوى الدليلين.

2-

ألا يخالف المتوارث بين الصحابة، والتابعين في أي بلد نزلوه بدون اختصاص بمصر دون مصر.

3-

ألا يخالف عمومات الكتاب، أو ظواهره فإن الكتاب قطعي الثبوت وظواهره، وعموماته قطعية الدلالة، والقطعي يقدم على الظني أما إذا لم يخالف الخبر عاما، أو ظاهرا في الكتاب، بل كان بيانا لمجمل فيه، فإنه يأخذ به حيث لا دلالة فيه بدون بيان.

4-

أن يكون راوي الخبر فقيها إذا خالف الحديث قياسا جليا؛ لأنه إذا كان غير فقيه، يجوز أن يكون قد رواه على المعنى فأخطأ.

5-

أن لا يكون فيما تعم به البلوى، ومنه الحدود والكفارات التي

ص: 281

تدرأ بالشبهات؛ لأن العادة قاضية أن يسمعه الكثير دون الواحد، أو الاثنين فلا بد والحالة هذه من أن يشتهر، أو تتلقاه الأمة بالقبول.

6-

ألا يسبق طعن أحد من السلف فيه، وألا يترك أحد المختلفين في الحكم من الصحابة الاحتجاج بالخبر الذي رواه.

7-

وألا يعمل الراوي بخلاف خبره، كحديث أبي هريرة في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا، فإنه مخالف لفتوى أبي هريرة، فترك أبو حنيفة العمل به لتلك العلة.

8-

أن لا يكون الراوي منفردا بزيادة في المتن، أو السند عن الثقات، فإن زاد شيئا من ذلك كان العمل على ما رواه الثقات احتياطا في دين الله، ولا تقبل زيادته1.

أما جمهور المحدثين، والفقهاء وفي مقدمتهم الإمام الشافعي، رحمه الله فعلى أن صحة الحديث تثبت برواية الثقة عن الثقة، حتى يبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الراوي واحدا فقط، ولم يقيموا لغير ذلك من الشروط وزنا، فإذا صح الحديث على هذا الوصف، كان أصلا من أصول الشريعة لا يقدم عليه عمل، ولا غيره وقد أطال الشافعي الحجاج، لهذا المذهب في الأم والرسالة ورد على المخالفين، وقد نال بهذا الدفاع، وغيره حظا كبيرا عند أهل الحديث الذين كانت لهم الكلمة العليا، ولهذا أطلق عليه أهل بغداد "ناصر السنة".

هذا، والشافعي لا يحتج بالأحاديث المرسلة أخذا بالاحتياط، وإن خالف في ذلك كثيرا من العلماء قبله كالثوري، ومالك، وأبي حنيفة، واستثنى من

1 تأنيب الخطيب للعلامة، الشيخ محمد زاهد الكوثري ص153، 154، وشرح التوضيح في أصول الحنفية. جـ2 ص250.

ص: 282

ذلك مراسيل كبار التابعين إن جاءت من وجه آخر، ولو مرسلة أو اعتضدت بقول صحابي، أو أكثر العلماء، أو كان المرسل لو سمي لا يسمى إلا ثقة، فحينئذ يكون مرسله حجة عنده، ولا ينتهض إلى رتبة الحديث المتصل، وأما مراسيل غير كبار التابعين، فلا يحتج بها بحال1.

ومما تقدم يتبين أن الاختلاف كان عظيما في تقدير قيمة الحديث المروي، فقد تجد الحديث يعمل به الحنفي لشهرته، ويرفضه الشافعي لضعف في سنده، وتجد المالكي يرفض الحديث؛ لأن عمل أهل المدينة جرى على خلافه، ويعمل به الشافعي لقوة في سنده، ولما جاءت طبقة الناصرين للمذاهب، والناقدين لها لم يلتفتوا إلى هذه الأصول، التي أخذ بها أئمتهم، وصاروا يأخذون على خصومهم مخالفة أي حديث صح سنده، وإن لم يستوف تلك الشروط التي اشترطها من ينتقدونه، كذلك نجدهم يجتهدون في إضعاف كل حديث لم يأخذ به إمامهم بالطعن في سنده، أو بأي مأخذ آخر مع أنه كان من السهل أن يقال إن الإمام لم يأخذ بهذا الحديث، لعدم استيفائه الشرط، الذي جمعله أصلا للعمل بالحديث2.

أبو حنيفة كان واسع الاطلاع في الحديث ويعمل به:

ترك أبو حنيفة رحمه الله العمل بكثير من الحاديث الآحادية، بناء على أصوله التي قدمناها لك، واحتج بالأحاديث المرسلة المشهورة، وأكثر من القياس فيها لم يصح فيه أثر فرماه بعض المتعصبين من أهل الفقه، والحديث بأنه:

1 اختصار علوم الحديث لابن كثير ص39.

2 تاريخ التشريع الإسلامي للخضري ص210.

ص: 283

1-

كان قليل البضاعة في الحديث.

2-

وأنه كان يقدم الرأي على الحديث.

3-

وأنه لذلك لم يخرج له البخاري، ومسلم في صحيحهما.

ولما كان هذا القول بمعزل عن الحق رأينا أن نتعقب هذه الشبه الثلاث بالرد عليها واحدة واحدة فنقول:

1-

زعمهم أنه كان قليل البضاعة في الحديث، زعم باطل بعد أن أجمعت الأمة على أنه من أئمة الهدى المجتهدين، الذين لهم خبرة واسعة بالكتاب والسنة ومعانيهما، وقد جمع محمد بن محمود الخوارزمي المتوفى سنة 665 مسند لأبي حنيفة، أخذه من خمسة عشر مسندا، جمعها لأبي حنيفة علماء الحديث، ورتبه على أبواب الفقه مع حذف المعاد، وعدم تكرير الإسناد قال في خطبته: "وقد سمعت في الشام عن بعض الجاهلين بمقداره ما ينقصه، ويستصغره، وينسبه إلى قلة الحديث، ويستدل على ذلك بمسند الشافعي، وموطأ مالك. وزعم أنه ليس لأبي حنيفة مسند، وكان لا يروي إلا عدة أحاديث، فلحقتني حمية دينية، فأردت أن أجمع بين خمسة عشر من مسانيده، التي جمعها له فحل علماء الحديث -وسرد أسماءهم واحدا واحدا ثم قال: فجمعتها على ترتيب أبواب الفقه بحذف المعاد، وترك تكرير الإسناد. ا. هـ.

وقال الحافظ، محمد بن يوسف الصالحي، الشافعي، محدث الديار المصرية في عقود الجمان: "كان أبو حنيفة من كبار حفاظ الحديث، وأعيانهم، ولولا كثرة اعتنائه بالحديث ما تهيأ له استنباط مسائل الفقه.

وذكره الذهبي في -طبقات الحفاظ، ولقد أصاب وأجاد". ا. هـ.

ثم قال في الباب الثالث والعشرين من عقود الجمان. "إنما قلت الرواية

ص: 284

عنه وإن كان متسع الحفظ لاشتغاله بالاستنباط، وكذلك لم يرو عن مالك والشافعي، إلا القليل بالنسبة إلى ما سمعاه للسبب نفسه، كما قلت رواية أمثال أبي بكر، وعمر من كبار الصحابة رضي الله عنهم، بالنسبة إلى كثرة اطلاعهم وقد كثرت رواية من دونهم بالنسب إليهم". ا. هـ. ثم ساق أخبارا تدل على كثرة ما عند أبي حنيفة من الحديث، ثم سرد أسانيده في رواية مسانيد أبي حنيفة السبعة عشر لجامعيها، تدليلا على كثرة حديثه. هذا ولأبي حنيف مسانيد أخرى، غير السبعة عشر منها مسند أبي حنيفة للدارقطني، ومسنده لابن شاهين، ومسنده للخطيب، ومسنده لابن عقده.

وذكر البدر العيني في تاريخه الكبير: أن سند أبي حنيفة لابن عقده، يحتوي وحده على ما يزيد على ألف حديث، وابن عقدة كما قال السيوطي في "التعقبات" من كبار الحفاظ، وثقة الناس وما ضعفه إلا متعصب1. ا. هـ.

2-

زعمهم أنه كان يقدم الرأي على الحديث زعم باطل على إطلاقه. بل كانت طريقته في الاستنباط ما قاله عن نفسه: "إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآثار الصحاح عنه، التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله، ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم فإذا انتهى الأم إلى إبراهيم والشعبي، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب وعدد رجالا قد اجتهدوا فلي أن أجتهد كما اجتهدوا"2. ا. هـ. ومن ذلك ترى أنه يأخذ بقول الصحابي، إذا أعوزته السنة الصحيحة عنده، ويقدمه على اجتهاده فكيف ينسب إليه، أنه يقدم الرأي على السنة، بل نقول: إن الإمام كان شديد

1 تأنيب الخطيب ص156.

2 تاريخ التشريح للخضري ص244.

ص: 285

التمسك بالسنة بدليل أنه كان يحتج بمراسيل الثقات، التي اشتهرت بين العلماء.

أما تشدده رحمه الله في شروط قبول الأحاديث، التي تروى آحادا، فكان مبعثه الاحتياط البالغ لدين الله، وذلك أن الوضع في عصره قد كثر كثرة مزعجة من الزنادقة، والمبتدعة فاضطره ذلك إلى تشدده في شرط الصحيح، ولهذا قال العلماء:"أن أبا حنيفة لم يخالف الأحاديث عنادا، بل خالفها اجتهادا لحجج واضحة، ودلائل صالحة وله بتقدير الخطأ أجر، وبتقدير الإصابة أجران والطاعنون عليه أما حساد، أو جهال بمواقع الاجتهاد".

وما من إمام من الأئمة إلا رد كثير من الأحاديث، لعدم استيفائها شروط الصحة عنده، أو لظهور نسخها أو لقيام معارض لها، أو لغير ذلك من الأعذار المقبولة. وهذا مالك أمام دار الهجرة، وأمير المؤمنين في الحديث يخالف السنة في سبعين مسألة إلى رأيه لعدم استيفائها شروط العمل عنده1.

3-

وأما عدم تخريج الشيخين له في صحيحيهما، فلا يدل على ضعفه في الحديث، فإنها لم يستوعبا الأحاديث الصحيحة، ولا الأئمة الموثوق بهم، وإلا لزم تجريح كثير من الصحابة، وكثير من أئمة الهدى كالشافعي، ولا يقول بذلك أحد من المسلمين. ولعل السر في عدم تخريجهما لأمثال أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما، أنهما عنيا بجمع الحديث الصحيح، عمن لو ترك عندهم لمات بموته، لعدم وجود أتباع لهم أو لقلتهم أما أمثال

1 انظر جامع بيان العلم لابن عبد البر جـ2 ص148، شروط الأئمة الخمسة ص49-50، مقدمة ابن خلدون عند الكلام على علوم الحديث، ومقدمة القسطلاني على البخاري ص33.

ص: 286

أبي حنيفة، والشافعي فإن لهم أصحابا يحملون عنهم أحاديثهم، يؤمن عليها من الضياع. هذا وربما كان عزوف الشيخين عن التخريج لأمثالهما هو اشتغالهم بفقه الأحاديث، واستنباط الأحكام منها لا بجمع طرقها، والانقطاع لحفظها وأدائها إنما كانوا يروون تلك الأحاديث على تلاميذهم خاصة في أثناء مجالسهم الفقهية، وأيضا قد يكون عدم تخريجهما لإمام من الأئمة؛ لأنه يقع الحديث بروايته نازلا، وبرواية غيره عاليا، فيقدمان العالي على النازل لما فيه من القرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك كله يتبين أن أبا حنيفة رحمه الله لم يكن قليل البضاعة في الحديث، ولم يكن يقدم رأيه عليه وأنه من كبار الحفاظ، الذين لهم خبرة واسعة بالحديث رواية، ودراية، وأن الطعن عليه بمثل ما تقدم لا يصدر إلا عن حاسد، أو جاهل، فلا ينبغي أن يغتر بما ذكره ابن خلدون في مقدمته من أن أبا حنيفة لتشدده في شروط الصحة، لم يصح عنده سوى سبعة عشر حديثا، ولا بالروايات الزائفة، التي ذكرها الخطيب البغدادي في كتابه -تاريخ بغداد- وفيها نسبة أبي حنيفة إلى ما هو بريء منه. وقد تصدى لتفنيد هذه الروايات الإمام الفقيه، المحدث الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري في كتاب خاص أسماه "تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب"، أجاد فيه، وأفاد فجزاه الله عن أمة الإسلام خيرًا.

ص: 287