الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: تراجم لبعض أئمة الحديث في هذا العصر
اشتهر في هذا القرن كثير من نحارير المحدثين، وجهابذة السنة كانت لهم أياد بيضاء في خدمة الحديث، ومعرفة رجاله والبحث عن علله، وإليك طائفة منهم:
علي بن المديني:
كان من أئمة الحديث الممتازين لم يترك بابا من أبوابه، إلا طرقه وبخاصة ما يرجع إلى الرجال والعلل، وقد صنف في ذلك الكتب الكثيرة، التي لم يسبق إلى معظمها، ولم يلحق في كثير منها. لذا أثنى عليه العلماء، وشهدوا له بالتقدم والمعرفة فسفيان بن عيينة، وهو من شيوخه يقول:"والله لقد كنت أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني". وكذلك قال يحيى بن القطان وهو من مشايخه وقال البخاري: "ما استصغرت نفسي عند أحد قط، إلا عند علي بن المديني"، وقال أبو حاتم:"كان ابن المديني علما في معرفة الحديث والعلل"، هذا وقد ذكر الحاكم في معرفة علوم الحديث جملة وافرة من مؤلفاته، تدل على رسوخ قدمه واتساع أفقه في علوم السنة، فمن ذلك كتاب الأسامي والكنى ثمانية أجزاء، وكتاب الضعفاء عشرة أجزاء، وكتاب المدلسين خمسة أجزاء، وكتاب الطبقات عشرة أجزاء، وكتاب علل المسند ثلاثون جزءا، وكتاب علل حديث ابن عيينة ثلاثة عشر جزءا، وكتاب من لا يحتج بحديثه ولا يسقط جزءان، وكتاب الكنى خمسة أجزاء، وكتاب الوهم والخطأ خمسة أجزاء، وكتاب من نزل من الصحابة سائر البلدان خمسة أجزاء، وكتاب من حدث ثم رجع عنه جزءان، وكتاب اختلاف الحديث خمسة أجزاء، وكتاب العلل المتفرقة ثلاثون جزءا، وكتاب مذاهب المحدثين جزءان.
إلى غير ذلك من مصنفاته الباهرة، التي تدل على تبحره، وتقدمه، وكمال
معرفته. توفي رحمه الله سنة 234هـ. بسرمرى1.
يحيى بن معين:
هو، أحد الأئمة الذين انتهت إليهم الزعامة في الحديث -أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين. وعلي بن المديني. وأبي بكر بن أبي شيبة- سمع الحديث من ابن المبارك وابن عيينة، وابن مهدي وهشيم ووكيع وغيرهم، وسمع منه أبو زرعة الرازي، وأبو حاتم والبخاري ومسلم، وأبو داود وكثير غيرهم. أجمع العلماء على إمامته وجلالته في هذا الشأن لا سيما ما يتعلق بالجرح والتعديل، وكشف حال الكذابين مع التثبت، والتمكن حتى رووا عنه أنه استقبل القبلة، ورفع يديه يقول:
"اللهم إن كنت كلمت في رجل ليس هو عندي كذابا، فلا تغفر لي"، ورووا عنه أنه قال:"لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها مع علقناه".
قال فيه أحمد بن حنبل: "السماع من يحيى بن معين شفاء لما في الصدور"، وقال أيضا:"يحيى بن معين رجل خلقه الله لهذا الشأن يظهر كذب الكذابين، وكل حديث لا يعرفه يحيى ليس بحديث"، وقال ابن المديني:"ما رأيت في الناس مثله"، وقد عده الحاكم في كتابه علوم الحديث من فقهاء المحدثين. توفي بالمدينة المنورة سنة "233"، ودفن بالبقيع، ونودي يوم وفاته: هذا الذي كان ينفي الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
أبو بكر بن أبي شيبة:
هو، الحافظ المتقن عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي. روى عن
1 تهذيب الأسماء للنووي جـ1 ص350. فهرست ابن النديم ص322، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص71.
2 تهذيب الأسماء للنووي جـ1 ص156، الفهرست لابن النديم ص322- معرفة علوم الحديث للحاكم ص72.
أبي الأحوص وابن المباك، وشريك وهشيم وجرير بن عبد الحميد، ووكيع وابن علية وابن مهدي، وابن القطان وابن عيينة، وزيد بن هارون وخلق كثير.
وروى عنه البخاري، ومسلم وأبو داود وابن ماجه، وروى له النسائي بواسطة أحمد بن علي القاضي، وابنه أبو شيبة إبراهيم، وأحمد بن حنبل ومحمد بن سعد وأبو زرعة، وأبو حاتم وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وإبراهيم الحربي وكثير غيرهم. كان أبو بكر ثقة، حافظا للحديث، أثنى عليه بالحفظ والاتقان كثير من أهل عصره. قال أبو عبيد القاسم:
"انتهى العلم إلى أربعة: فأبو بكر أسردهم له وأحمد أفقههم فيه، ويحيى أجمعهم له وعلي أعلمهم به". وقال صالح بن محمد: "أعلم من أدركت بالحديث وعلله علي بن المديني، وأعلمهم بتصحيف المشايخ يحيى بن معين، وأحفظهم عند المذاكرة أبو بكر بن أبي شيبة". وقال أبو زرعة الرازي: "ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة"، وقال ابن حبان: كان متقنا حافظا، دينا ممن كتب وجمع وصنف، وذاكر وكان أحفظ أهل زمانه للمقاطيع. توفي رضي الله عنه سنة "235"1.
أبو زرعة الرازي:
هو، عبد الله بن عبد الكريم أحد الحفاظ، المشهورين أثنى عليه أهل عصره بالعلم، والورع، والحفظ، وشهدوا له بالتفوق على أقرانه. قالوا:
كان يحفظ سبعمائة ألف حديث. وكان في شبيبته إذا اجتمع بأحمد بن حنبل اقتصر أحمد على الصلوات المكتوبات، ولا يفعل المندوبات اكتفاء
1 تهذيب التهذيب جـ6 ص2.
بمذاكرته وحسبك هذا من مثل أحمد بن حنبل دليلا على إتقان أبي زرعة وحفظه وضبطه. روى الحاكم في معرفة علوم الحديث: "لما انصرف قتيبة بن سعد إلى الري، سألوه أن يحدثهم فامتنع وقال: أحدثكم بعد أن حضر مجلسي أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو خيثمة. فقالوا له: إن عندنا غلاما يسرد كل ما حدثت به مجلسا مجلسا. قم يا أبا زرعة فقام أبو زرعة، فسرد كل ما حدث به قتيبة، فحدثهم قتيبة"، وعده الحاكم في فقهاء الحديث في كتابه المذكور. توفي رحمه الله سنة "264"1.
أبو حاتم الرازي:
هو، محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران، أبو حاتم الحنظلي الرازي أحد الأئمة الحفاظ الأثبات، العارفين فعلل الحديث والجرح والتعديل، وهو قرين أبي زرعة سمع الكثير، وطاف الأقطار وروى عن كثير من الأئمة الكبار. جاء عنه أنه قال لابنه عبد الرحمن: يا بني مشيت على قدمي في طلب الحديث أكثر من ألف فرسخ، وكان يتحدى من حضر عنده من الحفاظ، وغيرهم يقول: من أغرب علي بحديث واحد صحيح فله علي درهم أتصدق به، قال: ومرادي "سمع ما ليس عندي"، فلم يأت أحد بشيء من ذلك، وكان من جملة من حضر أبو زرعة الرازي.
أجمعوا على جلالته، وعلو شأه في الحديث وعلله وعده الحاكم من فقهاء الحديث. توفي رحمه الله سنة "277"2.
محمد بن جرير الطبري:
هو، أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، الطبري.
1 تاريخ ابن كثير جـ11 ص37. معر علوم الحديث 75، وما بعدها.
2 تاريخ ابن كثير جـ11 ص59. معرفة علوم الحديث للحاكم ص76.
ولد بآمل سنة "224"، واستوطن ببغداد حتى توفي بها، وكان يعد في طبقة الترمذي، والنسائي. سمع كثيرا من شيوخ البخاري، ومسلم وغيرهم وحدث عنه كثير من العلماء منهم أحمد بن كامل، ومحمد بن عبد الله الشافعي، ومخلد بن جعفر، كان ابن جرير من أكابر الأئمة يحكم بقوله، ويرجع إلى معرفته وعلمه حافظا لكتاب الله عارفا بالقراءات كلها، بصيرا بالمعاني فقيها في الأحكام، عالما بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله من المصنفات كتابه المشهور "تاريخ الأمم والملوك"، وكتاب التفسير الذي قال فيه أبو حامد الإسفرائيني:"لو سافر رجل إلى الصين ليحصل تفسير ابن جرير الطبري، لم يكن هذا كثيرا"، وكتاب "تهذيب الآثار" ألا أنه لم يتمه، ولو تم لكان آية في علوم السنة. ابتدأ فيه بما رواه أبو بكر الصديق، وتكلم على كل حديث، وعلته، وطرقه وما فيه من الفقه، واختلاف العلماء وحججه، واللغة فتم مسند العشرة، وأهل البيت والموالي، وقطعة من مسند ابن عباس، وهو من عجائب كتبه.
قال ابن كثير في التاريخ: وقد رأيت له كتابا جمع فيه أحاديث "غدير خم" في مجلدين ضخمين، وكتابا جماع فيه طرق حديث الطير. توفي رحمه الله سنة "310"1.
ابن خزيمة:
هو، محمد بن إسحاق أبو بكر بن خزيمة النيسابوري، إمام الأئمة رحل إلى الري، وبغداد والبصرة، والكوفة والشام، والجزيرة ومصر وواسط، وسمع الحديث من خلق كثير منهم إسحاق بن راهويه، ومحمد بن حميد
1 تاريخ ابن كثير جـ11 ص145، وما بعدها -ومفتاح السنة ص33 طبقات الشافعية الكبرى جـ2 ص135.
الرازي، ولم يحدث عنهما لكونه سمع منهما في صغره، وحدث عن محمود بن غيلان، ومحمد بن أبان المستملي وإسحاق بن موسى الخطمي، وأبي قدامة السرخسي وغيرهم، وروى عنه الأئمة الكبار كالبخاري، ومسلم خارج الصحيح، ومحمد بنعبد الله بن عبد الحكم شيخه، ويحيى بن محمد بن صاعد وأبو علي الغساني، وإسحاق بن سعد النسوي وخلائق كثير.
كان ابن خزيمة قبلة العلم والعلماء، وإماما يقصده الناس من كل ناحية.
كالبحر يقذف للقريب جواهرا
…
كرما، ويبعث للغريب سحائبا
وكان شديد التحري للحديث، حتى ليتوقف في التصحيح لأدنى كلام يقال في الإسناد. روى الحاكم عن أبي العباس بن سريج أنه قال فيه:"إنه يخرج النكت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنقاش"، وقال الربيع بن سليمان:"استفدنا من ابن خزيمة أكثر مما استفاد منا"، وقال محمد بن حبان التميمي:"ما رأيت على وجه الأرض من يحسن صناعة السنن، ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها، حتى كأن السنن كلها بين عينيه إلا محمد بن إسحاق"، وقال الدارقطني:"كان ابن خزيمة إماما ثبتا معدوم النظير". عده الحاكم من فقهاء الحديث، قال:"ومصنفاته تزيد على مائة وأربعين كتابا، سوى المسائل والمسائل المصنفة أكثر من مائة جزء، فإن فقه حديث بريرة ثلاثة أجزاء، ومسألة الحج خمسة أجزاء".
وله كتاب الصحيح، وهو من أجل كتب الحديث يتلو صحيح مسلم بن الحجاج، على ما ذكره السيوطي في ألفيته، إلا أنه قد انعدم أكثره. توفي رحمه الله سنة "311"1.
1 الطبقات الكبرى للشافعية جـ2 ص130. معرفة علوم الحديث للحاكم ص83، الرسالة المستطرفة للكتاني ص17.
محمد بن سعد كاتب الواقدي:
هو، الإمام الحافظ المؤرخ الثقة أبو عبد الله، محمد بن سعد بن منيع القرشي الهاشمي ولاء البصري ثم البغدادي. كان أبوه مولى الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي. ولد بالبصرة سنة 168، وتوفي ببغداد سنة 230.
روى عن محمد بن عمر الواقدي، وبه تخرج، وعن ابن علية وسفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون الواسطي، وعبيد الله بنموسى العبسي، وأبي نعيم الفضل بن دكين الكوفي، وغيرهم من شيوخ الرواية بالبصرة، والكوفة، وواسط وبغداد ومكة المكرمة، والمدينة المنورة والشام واليمن، ومصر وسائر البلاد، وهو من المكثرين جدا من الرواية عن شيوخ الأمصار وعمدته في العلم ذلك البحر المواج محمد بن عمر الواقدي، وممن روى عنه مصعب الزبيري، والحارث محمد بن أبي أسامة صاحب المسند، وأحمد بن عبيد بن ناصح الهاشمي، وأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري صاحب فتوح البلدان، وأبو بكر عبد الله بن محمد المعروف بابن أبي الدنيا، والحسين بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن فهم رواية الطبقات الكبرى، عن ابن سعد، وهو الذي قال عن شيخه:"كان كثير العلم، كثير الكتب كتب الحديث والفقه والغريب".
كان ابن سعد مرضيا عند الرواة حيث لم يلابس الفتن الهوجاء في عهد المأمون وبعده، فأمكنه ذلك نشر علمه وعلم أستاذه، وبقيت كتبه محفوظة مقبولة عندهم ومن أهمها كتاب الطبقات الكبير، جمع فيه صفوة ما ذكره علماء السير أمثال الشعبي، والأوزاعي، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق الواقدي. ذكر في هذا الكتاب أخبار الأنبياء عليهم
السلام وسائر آباء سيد المرسلين، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، تمهيدا لذكر سيره ومغازيه عليه السلام، وبعد أن انتهى من السيرة النبوية ذكر طبقات الصحابة والتابعين، ومن بعدهم إلى وقته ووزعهم على أمصار المسلمين: المدينة المنورة، ومكة المكرمة، والشام، واليمن، ومصر، والكوفة، والبصرة، وبغداد، وسائر البلدان، وهو أقدم كتاب متوارث في موضوعه لا يستغنى عنه محدث، ولا فقيه ولا مؤرخ وقد أجاد فيه وأحسن. لكن ليس كل ما فيه من الروايات قويا، بل بين أسانيده ما هو مقطوع أو مرسل. وإنما فعل ذلك ليستوفي جميع ما ورد في الموضوع الذي يبحث عنه. وتمحيص هذه الأسانيد هين عند أهل العلم.
هذا والذين جاءوا بعد ابن سعد، ممن كتب في الرجال هم عالة على علمه، ومع ذلك فقد فاتهم ترتيبه وسياق أسانيده بسبب اختصارهم1.
إسحاق بن راهويه:
هو، إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم، أبو يعقوب الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه -راهويه لقب أبيه إبراهيم- كان من أئمة المسلمين والعلماء البارزين. جمع إلى إمامته في الحديث إمامته في الفقه، وبراعته فيه مع الحفظ والصدق، والورع والزهد. رحل إلى العراق والحجاز، واليمن والشام، وسمع جرير بن عبد الحميد الرازي، وإسماعيل بن علية، وسفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح، وبقية بن الوليد، وعبد الرازق بن همام، والنضر بن شميل وآخرين، وروى عنه محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو عيسى الترمذي، وأحمد بن سلمة وكثير غيرهم،
1 تاريخ بغداد للخطيب، ومقدمة الطبقات الكبرى للشيخ محمد زاهد الكوثري. طبع مصر.
وروى عنه من قدماء شيوخه يحيى بن آدم1، وبقية بن الوليد، ومن أقرانه أحمد بن حنبل، وكان رحمه الله مضرب المثل في الحفظ، والاتقان، والإمامة والصدق قال عن نفسه:"أعرف مكان مائة ألف حديث كأني أنظر إليها، وأحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلب، وأحفظ أربعة آلاف حديث مزورة. فقيل له: ما معنى حفظ المزورة؟ قال: إذا مر بي منها حديث في الأحاديث الصحيحة فليته منها فليا"، وقيل له: إنك تحفظ مائة ألف حديث؟ قال: مائة ألف ما أدري ما هو، ولكني ما سمعت شيئا قط، إلا حفظته ولا حفظت قط شيئا فنسيته"، وقال أبو داود الخفاف:
"أملى علينا إسحاق بن راهويه أحد عشر ألف حديث من حفظه، ثم قرأها علينا فما زاد حرفا، ولا نقص حرفا"، وقال أبو حاتم الرازي:"ذكرت لأبي زرعة إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وحفظه للأسانيد والمتون، فقال أبو زرعة: ما رؤي أحفظ من إسحاق"، قال أبو حاتم:"والعجب من إتقانه وسلامته من الغلط مع ما رزق من الحفظ"، وكلام الأئمة في الثناء على إسحاق يطول ذكره، فنكتفي بذلك. قال أبو داود: "إسحاق بن راهويه تغير قبل أن يموت بخمسة أشهر، وسمعت منه في تلك الأيام ورميت به. ولد سنة 161، وتوفي سنة 238 بنيسابور عن سبع وسبعين سنة2.
الإمام أحمد بن حنبل:
هو، إمام الأئمة وحافظ الأمة، وفقيهها أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي، ثم البغدادي.
1 روى عن إسحاق بن راهويه، قال: كتب عني يحيى بن آدم ألفي حديث.
2 تاريخ بغداد للخطيب جـ6 ص345، وما بعدها.
ولد في بغداد سنة 164. وفي حداثته كان يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف، ثم ترك ذلك وأقبل على سماع الحديث سنة 187. وقد طاف في البلاد والآفاق، وسمع من مشايخ العصر، وكانوا يجلونه ويحترمونه، ومن مشايخه هشيم وإبراهيم بن سعيد، وسفيان بن عيينة، وتفقه بالشافعي حين قدم بغداد ولزمه واستفاد منه، وعني عناية عظيمة بالسنة والفقه، حتى عده أهل الحديث إمامهم وفقيههم، وقد أخذ عنه الحديث جماعة من الأماثل، منهم محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، والشافعي، وعبد الرزاق ووكيع وهؤلاء الثلاثة من شيوخه، وقد كان الإمام الشافعي على جلالة قدره في الحديث، والفقه يعتمد الإمام أحمد في تصحيح الأحاديث، وتضعيفها ولذلك لما اجتمع به في بغداد سنة 198. قال له: يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث، فأعلمني به أذهب إليه حجازيا كان، أو شاميا، أو عراقيا، أو يمنيا، وعمر أحمد إذ ذاك نيف وثلاثون سنة، وقال الشافعي: خرجت من العراق فما تركت رجلا أفضل، ولا أعلم ولا أورع، ولا أتقى من أحمد بن حنبل، وكذلك اعترف له بعلو المكانة في العلم، والحديث علماء عصره على اختلاف ميولهم، ومشاربهم قال إسحاق بن راهويه:"أحمد حجة بين الله، وبين عبيده في أرضه"، وقال يحيى بن معين:"كان في أحمد بن حنبل خصال ما رأيتها في عالم قط كان محدثا، وكان حافظا وكان عالما، وكان ورعا وكان زاهدا وكان عاقلا"، وقال أيضا:"أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل، والله ما نقوى أن نكون مثله، ولا نطيق سلوك طريقه". ا. هـ.
وقد استحوذ جماعة من المعتزلة على المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق ودعوهم إلى أن يحملوا الناس على القول بخلق القرآن، وممن أريد على ذلك الإمام أحمد بن حنبل، فأبى كل الإباء فضرب وحبس وهو
مصر على الامتناع سنة "220" في عهد المعتصم. قال بشر الحافي بعد ما ضرب أحمد: "أدخل أحمد الكير، فخرج ذهبا أحمر"، وقال علي بن المديني:"ما قام أحمد في الإسلام ما قام أحمد بن حنبل"، ولما بلغت هذه المقالة أبا عبيد القاسم بن سلام قال:"صدق علي، أن أبا بكر وجد يوم الردة أنصارا وأعوانا، وإن أحمد بن حنبل لم يكن له أنصار، ولا أعوان".
ثم أخذ أبو عبيد يطريه، ويقول:"لست أعلم في الإسلام مثله"، وقد توفي أحمد رحمه الله سنة 241 ببغداد، وله عند العلماء حسن الذكرى، وجميل الأحدوثة تاريخ ابن كثير "10-335".
الإمام البخاري:
هو، إمام المحدثين، وشيخ الحفاظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة الجعفي مولاهم. إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدم على سائر أقرانه. ولد البخاري رحمه الله ببخارى سنة "194هـ"، وألهمه الله حفظ الحديث، وهو في المكتب قال الفربري: سمعت محمد بن أبي حاتم وراق البخار يقول: سمعت البخاري يقول: ألهمت حفظ الحديث، وأنا في الكتاب قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك فقال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكتاب، فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره فقال يوما فيما كان يقرأ للناس: سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم. فقلت: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم فانتهرني فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل فنظر فيه، ثم رجع فقال: كيف هو يا غلام، فقلت: هو الزبير، وهو ابن عدي عن إبراهيم فأخذ القلم وأصلح كتابه، وقال لي: صدقت قال: فقال له إنسان ابن كم حين رددت عليه؟، فقال: ابن إحدى عشرة سنة. قال: فلما طعنت في ست عشرة سنة
حفظت كتب ابن المبارك، ووكيع وعرفت كلام هؤلاء يعني أصحاب الرأي، قال: ثم خرجت مع أمي وأخي إلى الحج. قال: ولما طعنت في ثماني عشرة صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين، ثم صنفت التاريخ في المدينة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت أكتبه في الليالي المقمرة، وقل اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة، إلا أني كرهت أن يطول الكتاب.
ارتحل البخاري لطلب الحديث وتنقل في البلاد. قال سهل بن السري: قال البخاري: "دخلت إلى الشام ومصر، والجزيرة مرتين وإلى البصرة أربع مرات وأقمت بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد مع المحدثين"، وكان لا يجارى في حفظ الحديث سندا ومتنا، مع تمييزه للصحيح منه والسقيم. دخل مرة إلى سمرقند، فاجتمع بأربعمائة من علماء الحديث بها، فجعلوا متون الأحاديث على غير أسانيدها، وخلطوا في الأسانيد، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، ثم قرءوها على البخاري يقصدون امتحانه، فرد كل حديث إلى إسناده، وقوم تلك الأحاديث والأسانيد كلها ولم يقدروا أن يأخذوا عليه سقطة في إسناد ولا متن، وكذلك صنعوا معه في بغداد، فأذعنوا له بالفضل والسبق، وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب، فيحفظه من نظرة واحدة، والأخبار عنه في ذلك كثيرة. وقد أثنى عليه علماء زمانه من شيوخه وأقرانه. فقال الإمام أحمد: ما أخرجت خراسان مثله، وقال ابن المديني: لم ير البخاري مثل نفسه، وقال محمود بن النظر بن سهل الشافعي: دخلت البصرة والشام والحجاز، والكوفة ورأيت علماءها كلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل البخاري، فضلوه على أنفسهم. وقال أحمد بن حمدون القصار: "رأيت مسلم بن الحجاج جاء إلى البخاري، فقبل بين عينيه، وقال: دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله، ثم
سأله عن حديث كفارة المجلس، فذكر له علته، فلما فرغ قال مسلم: لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك"، وقال الترمذي: "لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ، ومعرفة الأسانيد أعلم من البخاري"، وقال ابن خزيمة: "ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري"، وكان البخاري رحمه الله من الأئمة المجتهدين في الفقه، واستنباط الأحكام من السنن والآثار، ومما يؤثر عنه قوله: "لا أعلم شيئا يحتاج إليه، إلا وهو في الكتاب والسنة"، فقيل له: يمكن معرفة ذلك فقال: نعم.
وتراجمه على الأحاديث في كتابه الجامع الصحيح تدل على ذلك. قال إسحاق بن راهويه أحد شيوخه: "لو كان البخاري في زمن الحسن لاحتاج الناس إليه في الحديث، ومعرفته، وفقهه"، وقال أبو نعيم، وأحمد بن حماد وغيرهما:"البخاري فقيه هذه الأمة"، وقال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي:"محمد بن إسماعيل البخاري أفقهنا وأعلمنا، وأغوصنا، وأكثرنا طلبا"، وقال ابن كثير في التاريخ:"ومنهم من فضله في الفقه، والحديث على الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه"، وقد كان البخاري رحمه الله في غاية الحياء والشجاعة، والسخاء، والورع والزهد في الدنيا شريف النفس بعيدا عن الأمراء والسلاطين حتى إن أمير بخارى خالد بن أحمد الذهلي، طلب إليه أن يحضر ليسمع أولاده منه فأبى أن يذهب. وقال: في بيته يؤتى العلم فأرد الأمير أن يصرف الناس عن السماع منه، فلم يقبلوا من الأمير، فأمر عند ذلك بنفيه فنزح البخاري من بلده إلى بلدة يقال لها:"خرتنك" على فرسخين من سمرقند، وجعل يدعو الله أن يقبضه إليه حين رأى الفتن في الدين، فمرض على أثر ذلك، وتوفي ليلة عيد الفطر عن اثنتين وستين سنة، وقد ترك بعده علما نافعا
لجميع المسلمين بما بثه في مؤلفاته من العلم الغزير، ومن هذه المؤلفات:
قضايا الصحابة والتابعين والتاريخ الكبير، والتاريخ الأوسط والتاريخ الصغير والأدب المفرد، والقراءة خلف الإمام وبر الوالدين، وخلق أفعال العباد وكتاب الضعفاء، والجامع الكبير والمسند الكبير، والتفسير الكبير وكتاب الأشربة وكتاب الهبة، وأسامي الصحابة وكتاب الوحدان، وكتاب المبسوط، وكتاب العلل وكتاب الكنى، وكتاب الجامع الصحيح، وهو أجل كتبه نفعا، وأعلاها قدرا. ورحم الله البخاري رحمة واسعة، وأجزل له العطاء آمين1.
الإمام مسلم بن الحجاج:
هو، الإمام الكبير، وحافظ الحفاظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، النيسابوري. ولد بنيسابور "204"، وطلب الحديث صغيرا ورحل في طلبه إلى جميع محدثي الأمصار فرحل إلى العراق والحجاز، والشام ومصر، وأخذ عن شيوخها من مشايخ البخاري وغيرهم. ولما ورد البخاري ونيسابور في آخر أمره لازمة مسلم وأدام الاختلاف إليه ونظر في علمه، وحذا حذوه، وكان يناضل عنه، وقد هجر من أجله شيخه محمد بن يحيى الذهلي، لما قال يوما لأهل مجلسه، وفيهم مسلم بن الحجاج، إلا من كان يقول بقول البخاري في مسألة "اللفظ بالقرآن"، فليعتزل مجلسنا فنهض مسلم من فوره إلى منزله، وجمع ما كان سمعه من الذهلي، وأرسله إليه وترك الرواية عنه في الصحيح وغيره، روى عن مسلم جماعة كثيرون من أئمة عصره وحفاظه، وفيهم طائفة من أقرانه، ومنهم أبو حاتم.
الرازي وموسى بن هارون، وأحمد بن سلمة، والترمذي وغيرهم. أجمعوا
1 تاريخ ابن كثير جـ11 ص24، وما بعدها ومفتاح السنة ص38-39- مقدمة فتح الباري الجزء الثاني ص193، وما بعدها.
على جلالته وإمامته وعلو مرتبته في السنة، وحذقه فيها وتضلعه منها، ومن أكبر الدلائل على ذلك كتابه الصحيح، الذي لم يوجد في كتاب قبله، ولا بعده ما فيه من حسن الترتيب، وتلخيص طرق الحديث بغير زيادة، ولا نقصان والاحتراز من التحويل في الأسانيد، عند اتفاقها من غير زيادة، وتنبيهه على ما في ألفاظ الرواة من اختلاف في المتن، أو الأسانيد ولو قل، واعتنائه بالتنبيه على الروايات المصرحة بسماع المدلسين، وغير ذلك مما هو معروف في كتابه، وقد أثنى عليه كثير من العلماء من أهل الحديث وغيرهم. قال أحمد بن سلمة:"سمعت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما"، وقال إسحاق بن منصور لمسلم:"لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين".
صنف مسلم في علم الحديث كتبا كثيرة، منها كتابه الصحيح الذي من الله به على المسلمين، ومنها الكتاب المسند الكبير على أسماء الرجال، وكتاب الجامع الكبير على الأبواب. وكتاب العلل وكتاب أوهام المحدثين، وكتاب التمييز وكتاب من ليس له إلا راو واحد، وكتاب طبقات التابعين، وكتاب المخضرمين وغير ذلك. توفي رحمه الله بنيسابور "261"، عن 57 عاما "تهذيب الأسماء، وتاريخ ابن كثير 11-32".
الإمام النسائي:
هو، الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر بن سنان بن دينار النسائي، نسبة إلى نساء بلدة مشهورة بخراسان، ويقال: النسوي بقلب الهمزة واوا. ولد رحمه الله سنة "215"، وكان أحد أعلام الدين وأئمة الحديث إمام أهل عصره، وقدوتهم بين اصحاب الحديث في معرفة الجرح والتعديل. قال الحاكم أبو عبد الله: "سمعت الدارقطني غير
مرة يقول: أبو عبد الرحمن مقدم على كل من يذكر بعلم الحديث من أهل زمانه في جرح الرواة، وتعديلهم وكان شديد التحفظ والورع، فتراه يقول في سننه وهو يروي عن الحارث بن مسكين: هكذا قرئ عليه، وأنا أسمع ولا يقول في الرواية عنه: حدثنا أو أخبرنا كما يقول في روايات أخرى عن مشايخه".
سمع إسحاق بن راهويه، وأبا داود السجستاني، ومحمود بن غيلان، وقتيبة بن سعيد، وعلي بن خشرم وغيرهم من أهل خراسان، والحجاز والجزيرة، ومصر والشام وغيرها، وأخذ عنه الحديث خلق كثير منهم الدولابي، وأبو القاسم الطبراني، وأبو جعفر الطحاوي، ومحمد بن هارون بن شعيب.
رحل وهو ابن "15" سنة إلى قتيبة بن سعيد البلخي، ومكث عنده سنة وشهرين، وأخذ عنه الحديث وقدم مصر، وأقام بها طويلا وانتشرت بها تصانيفه، وأخذ عنه الناس، ثم خرج منها سنة "302" إلى دمشق، فسئل عن معاوية وما روي من فضائله، ففضل عليا عليه، فما زالوا به حتى قتلوه ضربا. قال الدارقطني:"لما امتحن النسائي بدمشق قال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها فتوفي بها، ودفن بين الصفا والمروة"، وصوب الذهبي أنه مات بالرملة بفلسطين.
نقل التاج السبكي عن شيخ الحافظ الذهبي ووالده التقي السبكي، أن النسائي أحفظ من مسلم صاحب الصحيح، وأن سننه أقل السنن بعد الصحيحين حديثا ضعيفا، بل قال بعض الشيوخ: أنه أشرف المصنفات كلها، وما وضع في الإسلام مثله، وقد قال ابن منده وابن السكن، وأبو علي النيسابوري، وأبو أحمد بن عدي، والخطيب والدارقطني:"كل ما في سنن النسائي صحيح"، لكن في هذا تساهل صريح، وشذ بعض المغاربة ففضله
على كتاب البخاري، ولعله لبعض الحيثيات الخارجة عن كمال الصحة، وقال أبو علي النيسابوري:"للنسائي شرط في الرجال أشد من شرط مسلم"، وهذا القول غير مسلم قال البقاعي في شرح الألفية عن ابن كثير:
"أن في النسائي رجالا مجهولين إما عينا، أو حالا ومنهم المجروح وفيه أحاديث ضعيفة، ومعلة ومنكرة"، وللنسائي مصنفات كثيرة في الحديث والعلل توفي رحمه الله سنة "303"، بعد أن عمر 89 عاما1.
أبو داود:
هو، سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأسدي السجستاني، ولد سنة "202" ورحل في طلب العلم، وكتب عن أهل العراق والشام، ومصر وخراسان وأخذ الحديث عن مشايخ البخاري، ومسلم كأحمد بن حنبل، وعثمان بن أبي شيبة وقتيبة بن سعيد، وغيرهم من أئمة الحديث، وأخذ عنه ابنه عبد الله، وأبو عبد الرحمن النسائي، وأبو علي اللؤلؤي وخلق سواهم. أثنى العلماء عليه ووصفوه بالحفظ التام، والعلم الوافر والفهم الثاقب في الحديث، وغيره مع الدين والورع فكان علما من أعلام الحفاظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسننه وأيامه. قال الحاكم أبو عبد الله: كان أبو داود إمام أهل الحديث في عصره، بلا مدافعة سمعه بمصر والحجاز والشام، والعراقين، وخراسان".
وكان علماء الحديث قبل أبي داود قد صنفوا الجوامع، والمسانيد ونحوها فتجمع كتبهم إلى السنن والأحكام أخبارا وقصصا، وآدابا ومواعظ، فأما السنن المحضة، فلم يقصد أحد منهم إفرادها واستخلاصا، حتى جاء أبو داود فعمل على جمع أحاديث الأحكام، والاقتصار عليها
1 تاريخ ابن كثير "جـ11 ص123-124"، ومقدمة شرح المجتبى للسندي والسيوطي.
فاتفق له ما لم يتفق لغيره وقد عرضا على أحمد بن حنبل، فاستجادها واستحسنها. وقال إبراهيم الحربي:"لما صنف أبو داود هذا الكتاب ألين له الحديث، كما ألين لداود الحديد"، صنف أبو داود كتبا كثيرة، وتوفي بالبصرة سنة "275".
الترمذي:
هو، الإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي، الترمذي ولد سنة 209 بترمذ، وكان إماما ثقة حجة. أخذ الحديث عن جماعة كثيرة منهم قتيبة بن سعيد، وإسحاق بن موسى ومحمود بن غيلان وسعيد بن عبد الرحمن، ومحمد بن بشار وعلي بن حجر، وأحمد بن منيع ومحمد بن المثنى، وسفيان بن وكيع ومحمد بن إسماعيل البخاري. وأخذ عنه الحديث خلق كثير منهم محمد بن أحمد بن محبوب المحبوبي، راوي الجامع عنه وأبو حامد أحمد بن عبد الله المروزي، والهيثم بن كليب الشاشي، ومحمد بن المنذر بن شكر. طاف أبو عيسى البلاد، وسمع خلقا كثيرا من الخراسانيين والعراقيين، والحجازيين، وكتب الحديث وصنف التصانيف العجيبة. منها: الجامع، وكتاب الأسماء والكنى، والشمائل، والتواريخ، والعلل، وكتاب الزهد، واتفقوا على إمامته وجلالته. ذكره ابن حبان في الثقات فقال:"كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر"، وقال أبو يعلى الخليلي:"ثقة متفق عليه"، ويكفي في توثيقه أن إمام الحديث، والمحدثين محمد بن إسماعيل البخاري، كان يعتمده ويأخذ عنه، وقال الحافظ ابن كثير:"روى عنه غير واحد من العلماء منهم محمد بن إسماعيل البخاري في الصحيح". وعلى هذا التفات إلى قول ابن حزم فيه، أنه مجهول. قال الحافظ ابن كثير: وجهالة ابن حزم لأبي عيسى الترمذي لا تضره حيث قال في محلاه:
"ومن محمد بن عيسى بن سورة"، فإن جهالته لا تضع من قدره عند أهل العلم، بل وضعت من منزلة ابن حزم عند الحفاظ.
وكيف يصح في الأذهان شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
وقال الذهبي في ميزانه: "محمد بن عيسى بن سورة الحافظ العلم، أبو عيسى الترمذي صاحب الجامع، ثقة مجمع عليه ولا التفات إلى قول أبي محمد بن حزم فبه في الفرائض من كتاب الاتصال أنه مجهول فإنه ما عرف ولا درى بوجود الجامع، ولا العلل التي له". ا. هـ.
كف بصره في آخر عمره، وتوفي رحمه الله تعالى بترمذ سنة "279هـ" عن سبعين عاما1.
ابن ماجه:
هو، أبو عبد الله محمد بن يزيد بن عبد الله بن ماجه "ماجه اسم ليزيد"، القزويني صاحب كتاب السنن المشهورة، والتفسير، والتاريخ.
ولد سنة "209"، وارتحل لكتابة الحديث وتحصيله إلى الري، والبصرة، والكوفة وبغداد، والى الشام ومصر والحجاز، وأخذ الحديث عن كثير من شيوخ الأمصار كأبي بكر بن أبي شيبة، وأصحاب مالك والليث، وروى عنه خلق كثير منهم ابن سيبويه، ومحمد بن عيسى الصفار، وإسحاق بن محمد وعلي بن إبراهيم بن سلمة القطان، وأحمد بن إبراهيم جد الحافظ بن كثير، وسليمان بن يزيد. قال أبو يعلى الخليلي القزويني:
"كان عالما بهذا الشأن، صاحب تصانيف منها التاريخ والسنن، وارتحل إلى العراقين، ومصر، والشام"، قال ابن كثير: "محمد بن يزيد بن ماجه صاحب كتاب السنن المشهورة، وهي دالة على عمله، وعلمه وتبحره واطلاعه
1 ميزان الاعتدال للذهبي جـ3 ص117. البداية والنهاية للحافظ ابن كثير جـ11 ص66-67.
واتباعه للسنة في الأصول، والفروع ويشتمل على اثنين وثلاثين كتابا وألف وخمسمائة باب، وعلى أربعة آلاف حديث كلها جياد سوى اليسيرة"، وتوفي رحمه الله سنة "273". ا. هـ.
الإمام ابن قتيبة الدينوري:
هو، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل: المروزي اللغوي صاح كتاب المعارف، وأدب الكاتب كان فاضلا ثقة. سكن بغداد، وحدث بها عن إسحاق بن راهويه، وأبي إسحاق إبراهيم الزيادي "نسبة إلى جده زياد بن أبيه"، وأبي حاتم السجستاني وتلك الطبقة. روى عنه ابنه أبو جعفر أحمد الفقيه، الذي تولى القضاء بمصر وقدمها سنة "321"، ويقال: أنه روى عن أبيه كتبه المصنفة كلها، وممن روى عن ابن قتيبة أيضا ابن دستويه الفارسي، وتصانيفه كلها مفيدة.
منها ما تقدم ذكره، ومنها: غريب القرآن، وغريب الحديث، وعيون الأخبار، ومشكل القرآن، ومشكل الحديث، وطبقات الشعراء، والأشربة، وإصلاح الغلط، وكتاب التفقيه، وكتاب الخيل، وكتاب إعراب القرآن، وكتاب الأنواء، وكتاب المسائل والجوابات، والميسر والقداح، وغير ذلك، أقرأ كتبه ببغداد إلى حين وفاته. قيل: إن أباه مروزي، وأما هو فمولده ببغداد وقيل: بالكوفة، وأقام بالدينور مدة قاضيا فنسب إليها، ا. هـ "من ابن خلكان".
علمه وفضله: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه تفسيره سورة الإخلاص، بعد أن حكى القول بأن الراسخين يعلمون التأويل الصحيح للمتشابه ما نصه: وهذا القول اختيار كثير من أهل السنة، منهم ابن قتيبة وأبو سليمان الدمشقي وغيرهما، وابن قتيبة من المنتسبين إلى أحمد، وإسحاق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، وله في ذلك مصنفات
متعددة. قال فيه صاحب كتاب التحديث: وهو أحد أعلام الأئمة والعلماء والفضلاء. أجودهم تصنيفا، وأحسنهم ترصيفا له زهاء ثلاثمائة مصنف، وكان يميل إلى مذهب أحمد وإسحاق، وكان معاصرا لإبراهيم الحربي، ومحمد بن نصر المروزي، وكان أهل المغرب يعظمونه، ويقولون: من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة، ويقولون:"كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه لا خير فيه". ا. هـ. قلت: ويقال: هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنه خطيب أهل السنة كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة. انتهى كلام شيخ الإسلام.
ثم ناقش رحمه الله ابن الأنباري في رده على ابن قتيبة، فقال: وليس هو "يعني ابن الأنباري"، أعلم بمعاني القرآن والحديث، وأتبع للسنة من ابن قتيبة ولا أفقه في ذلك، وإن كان ابن الأنباري من أحفظ الناس للغة، لكن باب فقه النصوص غير باب حفظ ألفاظ اللغة. ا. هـ.
وقال الذهبي في الميزان: عبد الله بن مسلم بن قتيبة، أبو محمد صاحب التصانيف صدوق قليل الرواية. روى عن إسحاق بن راهويه، وجماعة.
قال الخطيب: كان ثقة دينا، فاضلا. توفي في رجب سنة 276.