الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: تدوين الحديث في هذا العصر وطريقة العلماء في ذلك
…
البحث الرابع: تدوين الحديث في هذا العصر، وطريقة العلماء في ذلك
تبلور التدوين للحدي تبعا لسنة التطور من جهة، ولعوامل خاصة، أملتها ظروف الحوادث من جهة أخرى، فبعد أن كان العلماء يدونون الأحاديث ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وجدناهم في هذا الدور يفردون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ثم لما قامت محنة القول بخلق القرآن التي أثارها المأمون، وتسلط فيها المعتزلة على أهل الحديث بالانتقاص من قدرهم، ورميهم بحمل المتناقض والمشكل ورواية الخافات، وجدنا من علماء الحديث من انتدب نفسه للرد عليهم، فجمع طعونهم، والأحاديث التي زعموها مشكلة، أو متناقضة ورد عليهم ببيان الحق الذي أزهق باطلهم، ومحق دجلهم وبهتانهم، وعلى ضوء هذا يمكننا أن نرجع الطرق التي تطور إليها التدوين للحديث في هذا الدور إلى ثلاث طرق وهي:
الطريقة الأولى: في هذه الطريقة كان العلماء يجمعون الطعون، التي وجهها أهل الكلام إلى أهل الحديث، سواء منها ما كان يرجع إلى أشخاصهم من العدالة، والضبط أم ما كان يرجع إلى ما حملوه من الحديث، من كونه كلام خرافة أو متناقضا، أو مشكلا ثم يكرون عليها بالإبطال، وينزهون ساحة الأئمة والأحاديث عن هذه الطعون الزائفة، وكان من هؤلاء الأعلام الإمام ابن قتيبة رحمه الله صاحب كتاب "تأويل مختلف الحديث في الرد على أعداء الحديث"، وسيأتي الكلام عليه1.
الطريقة الثانية: جمع الحديث على المسانيد، وذك أن يجمع المحدث في ترجمة كل صحابي ما يرويه عنه من حديثه سواء كان صحيحا أم غير صحيح، ويجعله على حدة، وإن اختلفت أنواعه فمثلا يذكر أبا بكر، ثم يسرد ما رواه عنه من الأحاديث، وإن اختلفت موضوعاتها، ثم عمر كذلك وهلم جرا، ولهم في ترتيب أسماء الصحابة طرق مختلفة، فمنهم من رتبها على القبائل، فقدم بني هاشم ثم الأقرب فالأقرب نسبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من رتبها على السوابق في الإسلام، فقدم العشرة المشهود لهم بالجنة، ثم أهل بدر ثم أهل الحديبية، ثم من أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح، ثم من أسلم يوم الفتح، ثم أصاغر الصحابة سنا ثم النساء، ومنهم
1 ومنهم علي بن المديني، فقد صنف كتاب "اختلاف الحديث" في خمسة أجزاء.
من لم يراع شيئا من ذلك، والمسانيد التي ألفت في هذا العصر كثيرة جدًّا منها:
مسند عبيد الله بن موسى المتوفى سنة "213"، ومسند الحميدي "219" ومسند مسدد بن مسرهد "228"، ومسند إسحاق بن راهويه "237"، ومسند عثمان بن أبي شيبة "239"، ومسند الإمام أحمد بن حنبل "241"، ومسند عبد بن حميد "249"، والمسند الكبير ليعقوب بن شيبة "262"، ولم يؤلف1 أحسن منه لكنه لم يتمه، ومسند محمد بن مهدي "272"، والمسند الكبير لبقي بن مخلد القرطبي "276"، رتبه على أسماء الصحابة، ثم رتب حديث كل صحابي على أبواب الفقه، ومجموع من روى عنه من الصحابة فيه "1600"، فجاء فكتابا حافلا مع ثقة مؤلفه، وضطه واتقانه، وقد فضله ابن حزم على مسند الإمام أحمد بن حنبل. قال ابن كثير في التاريخ، وعندي في ذلك نظر، والظاهر أن مسند أحمد أجود منه أجمع. ا. هـ.
وهذه الطريقة من التصنيف لا تخلو عن عيوب، فإن المطلع على المسانيد إذا لم يكن من أهل الفن المتضلعين فيه الواقفيه على أحوال المتون، والأسانيد تعذر عليه الوقوف على درجة الحديث من الصحة، والضعف، والاحتجاج به أو عدمه إذ كل حديث في نظره يحتمل الصحة والضعف. هذا إلى أن الوقوف على الأحكام الشرعية منها شاق على غير الحفاظ، المتقنين لعدم التناسب في جمع الأحاديث بين موضوعاتها، ومهما يكن من شيء، فلأصحاب المسانيد الفضل الأكبر في تجريد الأحاديث النبوية عن غيرها، وجمعهم كثيرا من متونها وأسانيدها، ولهم في تدوين الأحاديث التي لم تبلغ مرتبة الصحة مقاصد جليلة، منها أن طرقه قد تتعدد فيبلغ مبلغ الصحيح، ومنها أنها تصلح للاعتبار بها ومنها ما تتبين صحته
1 لأنه جمع الأحاديث، وأبان عن عللها.
فيما بعد لأهل الحديث ونقاده، فلا يخطرن ببالك أنهم كانوا فيما جمعوا كحاطب ليل. بل كانوا على علم تام بصحيحها وضعيفها وأسانيدها وعللها كيف لا وقد رحلوا في سبيلها إلى الأقطار المختلفة، وأفنوا أعمارهم في جمعها وتمحيصها حتى كانوا صيارفة الحديث بحق. وقد رأيت أن بعض أصحاب المسانيد لم يقتصر على جمع الأحاديث، من غير أن يبين حال متونها، وأسانيدها وأن بعضهم قد جمع إلى ترتيبها على أسماء الصحابة، ترتيبها على أبواب الفقه، كما في المسند الكبير لبقي بن مخلد. والمسند الكبير ليعقوب بن شيبة، فإن الأول رتب حديث كل صحابي على أبواب الفقه، والثاني ألف مسنده معللا، فجمع في كل حديث طرقه واختلاف الرواة فيه.
الطريقة الثالثة: التصنيف على الأبواب، وهو تخريج الأحاديث على أحكام الفقه، وغيرها وتنويعه أنواعا، وجمع ما ورد في كل حكم، وكل نوع في باب حيث يتميز ما يتعلق بالصلاة مثلا، عما يتعلق بالصيام، وأهل هذه الطريقة منهم من اقتصر على إيراد ما صح فقط، كالبخاري، ومسلم في صحيحيهما ومنهم من لم يقتصر على ذلك، كأبي داود، والترمذي، والنسائي.
وكان أول الراسمين لهذه الطريقة المثلى، شيخ المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري "256"، فجمع في صحيحه "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسننه، وأيامه": ما تبين صحته من الأحاديث مرتبة على الأبواب، واقتفى أثره في ذلك الإمام مسلم بن الحجاج القشيري "261" في صحيحه، وكان من الآخذين عن البخاري، وقد اتفق العلماء على أن كتابيهما أصح الكتب المصنفة.
ثم حذا حذوهما كثير من المحدثين في مصنفاتهم كالنسائي، وأبي داود، والترمذي.
وفي هذه الطريقة من الفوائد الوقوف على درجة الأحاديث بسهولة، وتيسير الاطلاع على الأحكام الشرعية، وغيرها في الأبواب المختلفة، ولذلك جعل العلماء الأحاديث هذه الكتب المرتبة الأولى في الاعتبار، ولأحاديث المسانيد المرتبة الثانية.
هذا والقرن الثالث، يعتبر أجل عصور الحديث، وأسعدها بتدوين الحديث، وتقريبه على طالبيه ففيه ظهر كبار المحدثين، وحذاق الناقدين ومهرة المؤلفين وفيه ظهرت الكتب الخمسة: الصحيحان للبخاري ومسلم، والسنن لأبي داود والنسائي، والترمذي، وقد اعتمدها المحدثون وعول عليها المستنبطون، وحظيت بخدمة العلماء في جميع العصور ما بين شارح ومختصر، وناقد ومنتصر، ومستخرج عليها ومؤرخ لرجالها، وجامع لأطرافها ومستدرك عليها. وقال النووي وغيره: لم يفت الكتب الخمسة من الأحاديث الصحيحة، إلا النزر اليسير، وإليك الكلام على أشهر الكتب المؤلفة في هذا الدور:
كتاب تأويل مختلف الحديث:
هذا كتاب جليل القدر، عظيم النفع. ألفه الإمام ابن قتيبة مدافعا به عن السنة، وأهلها مناضلا عن الحق وداحضا لأباطيل المموهين. رد فيه على أعداء أهل الحديث، وجمع بين الأخبار، التي زعموا فيها التناقض والاختلاف، وأجاب عما أورده من شبه حول بعض الآثار المتشابهة، أو المشكلة بادئ الرأي:
طريقته فيه: بدأ رحمه الله الكلام في الباعث له على تأليفه، ثم تكلم
على أهل الكلام وأصحاب الرأي فبين حال الفريقين، ثم تحدث عن كبار المعتزلة الطاعنين في أهل الحديث واحدا واحدا، بادئا بالنظام ذاكرا طعنه في "أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما"، واعتراضه على "علي وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبي هريرة رضي الله عنهم"، ثم انبرى للإجابة عن جميع هذه الطعون وتفنيدها، ثم ذكر أبا الهذيل العلاف وسخافاته، وعبيد الله بن الحسن وتناقضاته، وبكرا صاحب البكرية وتهجماته، وهشام بن الحكم وقبح مقالاته، ثم عرج على الجاحظ، خطيب المعتزلة فبين تذبذبه في العقائد والدين، واستهزاءه بحديث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وأبان عن كذبه، ووضعه للحديث ونصره للباطل، إلى غير ذلك من مزاعمهم وغرائب أقوالهم، ثم ذكر الإمام ابن قتيبة: أنه كان في أول الأمر مغترا بالمتكلمين من أهل الاعتزال، وأنه كان يرتاد مجالسهم، ويغشى نواديهم ويسمع لكلامهم. ثم لما أن وقف على جرأتهم على الله تبارك وتعالى، وردهم للأحاديث الصحيحة.
الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع منهم تفسير كتاب الله بالعجيب من الآراء ميلا مع أهوائهم ونحلهم: ترك مجالسهم بل وأخذ ينشر على الناس ما خفي من هناتهم غير الهينات، ثم ذكر تفسير الروافض لبعض آيات القرآن على هواهم، زاعمين أنهم على علم بباطن القرآن، لما ورثوه من -علم الجفر- عن الإمام علي كرم الله وجهه، وفند تلك المزاعم كلها.
ثم شرع في الكلام على أهل الحديث، وبين التماسهم للحق من طريقة الصحيح، وأجاب عن معايب نسبته إليهم، وهم بريئون منها، ونبه على بعض أحاديث من وضع القصاص، والزنادقة وأهل الأهواء، وبين أن حمل المحدثين لبعض الأحاديث الضعيفة إنا ذلك؛ لأنهم ينخلون المتون والأسانيد جميعا، ويميزون بين الصحيح منها، والسقيم، وينصون على ذلك
ويبينونه للناس، وضرب لذلك كثيرا من الأمثال. كما أوضح أن زلل المحدث في الإعراب لا يعد عيبا فيه كما أن زلل الفقيه في الشعر لا يعتبر نقصا له. ثم أخذ هذا الإمام الجليل في ذكر الجمع بين الأحاديث، التي زعم المتكلمون أنها متناقضة أو مشكلة فرفع التناقض عنها وأزل الإشكال، وسجل على أهل الكلام التعصب، الذي أعماهم فاتخذوا إلههم هواهم:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} .
هذا ونلفت نظر القارئ الكريم -وقد شرحنا له الغرض من تأليف هذا الكتاب العظيم، ووقفناه على جل محتوياته -أن جمهرة المستشرقين، ومن على نهجهم من الملحدين والمتحللين في عصرنا هذا يسطون على هذا الكتاب، ويلتقطون منه هذه المطاعن التي فندها هذا الإمام الجليل، دون أن ينبهوا للناس على أن إماما كبيرا من أئمة المسلمين تولى الإجابة عنها -وهذا أمر طبيعي فيهم- بل وينسبون هذه المطاعن إلى ابن قتيبة نفسه، على أنها من آرائه في الصحابة، وأهل الحديث وفوق هذه الخيانة العلمية العظمى، يقوم هؤلاء الأعداء الألداء بصوغ هذه الشبهات على أنها قواعد مسلمة عند المسلمين، ثم يبنون عليها آراءهم الزائفة، التي تطعن في هذا الدين الحنيف، وتأتي على بنائه من القواعد، وأن من ألقى نظرة على ما جاء في هذا الدين الحنيف، وتأتي على بنائه من القواعد، وأن من ألقى نظرة على ما جاء في هذا الكتاب، ثم طالع بعض مقالات هؤلاء القوم افتضح أمامه أمرهم، وظهر له ضلالهم وتضليلهم، والله لا يهدي كيد الخائنين.
مسند الإمام أحمد:
هو، كتاب عظيم في السنة شهد له المحدثون قديما، وحديثا بأنه أجمع كتب السنة للحديث، وأوعاها لكل ما يحتاج إليه المسلم في أمر دينه ودنياه، وقد سلك الإمام أحمد في ترتيبه مسلكا، يتفق وطريقة أهل طبقته، فهو يذكر الصحابي، ثم يورد ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث
غير ناظر إلى ترتيبها حسب موضوعاتها ثم يتلوه بالصحابي الآخر، وهكذا، فالمتصفح لهذا الكتاب يرى حديثا في الحدود، يلي حديثا آخر في العبادات إلى جانب ثالث في الترغيب والترهيب. وهذه الطريقة، وإن كانت لا تلائم أهل عصر، الحاضر الذين قعدت بهم الهمم، وضعفت فيهم ملكة الحفظ والضبط كانت سائغة ميسورة لأهل القرن الثالث، الذين عظمت عنايتهم بحفظ الحديث وضبطه، ومذاكرته ودرسه حتى كان الواحد منهم يحفظ المسند الكبير كما يحفظ السورة من القرآن الكريم، ويعرف صحيحه من سقيمه وغثه من سمينه.
هذا وقد اشتمل مسند أحمد على أربعين ألف حديث بالمكرر، ومن غير المكرر على ثلاثين ألفا، ومع ذلك فلم يستوعب الأحاديث كلها، ومن زعم ذلك فقد أخطأ. قال الحافظ ابن كثير:"لا يوزاي مسند أحمد كتاب مسند في كثرته وحسن سياقاته، وقد فاته أحاديث كثيرة جدا، بل قيل: إنه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين قريبا من مائتين"1. ا. هـ. وفي المسند نحو ثلاثمائة حديث، ليس بين أحمد وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها غير ثلاثة رواة.
المسند الذي بأيدينا اليوم:
والمسند الذي بأيدينا اليوم ليس كله من رواية الإمام أحمد، ولكن أضاف إليه ابنه عبد الله زيادات ليست من رواية أبيه، وكذلك فعل الإمام أبو بكر القطيعي رواية المسند عن عبد الله بن الإمام أحمد. قال الأستاذ المحدث الشيخ أحمد البنا الشهير بالساعاتي، في مقدمة الفتح الرباني:
"بتتبعي لأحاديث المسند، وجدتها تنقسم إلى ستة أقسام:
1-
قسم رواه أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد، عن أبيه سماعا منه، وهو المسمى
1 تدريب الراوي ص57.
بمسند الإمام أحمد، وهو كبير جدا يزيد عن ثلاثة أرباع الكتاب.
2-
قسم سمعه عبد الله من أبيه، ومن غيره وهو قليل جدا.
3-
وقسم رواه عن غير أبيه، وهو المسمى عند المحدثين بزوائد عبد الله، وهو كثر بالنسبة للأقسام كلها عدا القسم الأول.
4-
وقسم قرأه عبد الله على أبيه، ولم يسمعه منه وهو قليل.
5-
وقسم لم يقرأه ولم يسمعه، ولكنه وجده في كتاب أبيه بخط يده.
6-
وقسم رواه الحافظ أبو بكر القطيعي، عن غير عبد الله وأبيه رحمهما الله تعالى، وهو أقل الجميع فهذه ستة أقسام، وكل هذه الأقسام من المسند إلا الثالث فإنه من زوائد عبد الله والسادس فإنه من زوائد القطيعي"1. ا. هـ.
سمع المسند من الإمام أحمد أولاده الثلاثة: صالح وعبد الله وحنبل. قال عثمان بن السباك: حدثنا حنبل قال: جمعنا أحمد بن حنبل أنا وصالح، وعبد الله وقرأ علينا المسند وما سمعه غيرنا وقال لنا:"هذا الكتاب جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألفا، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارجعوا إليه فإن وجدتموه، وإلا فليس بحجة"، وسئل الشيخ الإمام الحافظ علي بن الحافظ، الفقيه محمد اليونيني رحمهما الله تعالى. أنت تحفظ الكتب الستة. فقال: أحفظها وما أحفظها فقيل له كيف هذا.
فقال: أنا أحفظ مسند أحمد، وما يفوت المسند من الكتب الستة، إلا قليل فأنا أحفظها بهذا الوجه2. ومما تقدم يتبين لك أن المسند جمع مقدارا عظيما من الأحاديث النبوية، وأن صاحبه انتقاه من أكثر من "750" ألف حديث، وأن عبد الله بن الإمام زاد فيه كثيرا من الأحاديث، التي لم يأخذها
1 مقدمة الفتح الرباني ص19 وما بعدها.
2 مقدمة الفتح الرباني ص8.
عن أبيه وكذلك فعل الإمام أبو بكر القطيعي راوية المسند، عن عبد الله بن الإمام أحمد.
درجة أحاديثه: للعلماء في درجة أحاديثه أقوال: الأول: إن ما فيه من الأحاديث حجة، وهو ظاهر عباة الإمام السابقة التي رواها ابن السباك، عن حنبل عن الإمام، وفي معناه ما روى أبو موسى المديني عن الإمام أحمد أنه سئل عن حديث، فقال: انظروه فإن كان في المسند وإلا فليس بحجة. وما قاله أبو موسى المديني أيضا في كتابه خصائص المسند، قال:
وهذا الكتاب أصل كبير ومرجع وثيق لأصحاب الحديث، انتقي من حديث كثير ومسموعات وافرة، فجعله صاحبه إماما ومعتمدا وعند التنازع ملجأ ومستندا، قال: ولم يخرج إلا عمن ثبت عنده صدقه وديانته دون من طعن في أمانته. قال: ومن الدليل على أن ما أودعه الإمام أحمد رحمه الله مسنده قد احتاط فيه إسنادا ومتننا، ولم يورد فيه إلا ما صح عنده ما رواه القطيعي قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني أبي قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن أبي التياح قال: سمعت أبا زرعة يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يهلك أمتي هذا الحي من قريش، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم"، قال عبد الله: قال لي أبي في مرضه الذي مات فيه: اضرب على هذا الحديث، فإنه خلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني قوله:"اسمعوا وأطيعوا"، فهذا الحديث مع ثقة رجال إسناده حين شذ لفظه عن المشاهير أمر بالضرب عليه، فقال عليه ما قلنا وفيه نظائر له. ا. هـ بحذف يسير.
قال الأستاذ المحدث الشيخ، أحمد بن عبد الرحمن البنا: هذا مثال لشدة احتياط الإمام أحمد في المتن، وأما احتياطه في السند فقد روى
القطيعي، قال: حدثنا عبد الله، حدثني أبي حدثنا علي بن ثابت الجزري، عن ناصح أبي عبد الله، عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لأن يؤدب الرجل ولده، أو أحدكم ولده خي له من أن يتصدق كل يوم بنصف صاع"، قال عبد الله: وهذا الحديث لم يخرجه أبي في مسنده من أجل ناصح؛ لأنه ضعيف في الحديث وأملاه على في النوادر1. ا. هـ.
القول الثاني: أن فيه الصحيح والضعيف، والموضوع فقد ذكر ابن الجوزي في الموضوعات تسعة وعشرين حديثا منها، وحكم عليها بالوضع، وزاد الحافظ العراقي عليه تسعة أحاديث، حكم عليها بالوضع وجمعها في جزء. قال العراقي ردا على من قال أن أحمد شرط في مسنده الصحيح:
لا نسلم ذلك والذي رواه عنه أبو موسى المديني، أنه سئل عن حديث فقال: انظروه فإن كان في المسند، وإلا فليس بحجة فهذا ليس بصريح في أن كل ما في حجة، وإنما هو صريح في أن ما ليس فيه ليس بحجة. قال:
على أن ثم أحاديث صحيحة مخرجة في الصحيحين، وليست فيه منها حديث عائشة في قصة أم زع قال: وأما وجود الضعيف فيه، فهو محقق بل فيه أحاديث موضوعة جمعتها في جزء، ولعبد الله ابنه فيه زيادات، فيها الضعيف والموضوع2. ا. هـ.
القول الثالث: أن فيه الصحيح والضعيف الذي يقرب من الحسن، وممن ذهب إلى ذلك من الحفاظ أبو عبد الله الذهبي، وابن حجر العسقلاني، وابن تيمية والسيوطي. وإليك أقوالهم في ذلك: قال الحافظ السيوطي في خطبة الجامع الكبير ما لفظه: "وكل ما كان في مسند
1 مقدمة الفتح الرباني ص9.
2 تدريب الراوي ص56.
أحمد فو مقبول، فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن"، وقال الحافظ ابن حجر في كتابه تعجيل المنفعة في رجال الأربعة: "ليس في المسند حديث لا أصل له، إلا ثلاثة أحاديث أو أربعة منها حديث عبد الرحمن بن عوف "أنه يدخل الجنة زحفا"، والاعتذار عنه أنه مما أمر أحمد بالضرب عليه، فترك سهوا أو ضرب، وكتب من تحت الضرب". ا. هـ. وقال ابن تيمية في كتابه منهاج السنة:"شرط أحمد في المسند ألا يروى عن المعروفين بالكذب عنده، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف، قال: ثم زاد عبد الله بن أحمد زيادات على المسند ضمت إليه، وكذلك زاد أبو بكر القطيعي، وفي تلك الزيادات كثير من الأحاديث الموضوعة، فظن من لا علم عنده أن ذلك من رواية أحمد في مسنده" ا. هـ.
وقال الحافظ الذهبي: "ولو أنه -يعني عبد الله بن الإمام أحمد- حرر ترتيب المسند وقربه وهذبه لأتى بأسنى المقاصد، ولعل الله تباك وتعالى أن يقيض لهذا الديوان السامي من يخدمه، ويبوب عليه ويتكلم على رجاله، ويرتب هيئته ووضعه، فإنه محتو على أكثر الحديث النبوي، وقل أن يثبت حديث إلا وهو فيه. قال: وأما الحسان فما استوعبت فيه بل عامتها إن شاء الله تعالى فيه، وأما الغرائب وما فيه لين فروي من ذلك الأشهر، وترك الأكثر مما هو مأثور في السنن الأربعة، ومعجم الطبراني الأكبر والوسط، ومسندي أبي يعلى والبزار، وأمثال ذلك قال: ومن سعد مسند الإمام أحمد قل أن تجد فيه خبرا ساقطا"1 ا. هـ.
هذا وقد ألف شيخ الإسلام ابن حجر كتابا سماه "القول المسدد في الذب عن المسند"، قال في خطبته: "ذكرت في هذه الأوراق ما حضرني
1 تدريب الراوي ص56، منهاج السنة ص37.
من الكلام على الأحاديث التي زعم بعض أهل الحديث أنها موضوعة، وهي في مسند أحمد ذبا عن هذا التصنيف العظيم، الذي تلقته الأمة بالقبول والتكريم، وجعله إمامهم حجة يرجع إليه، ويعول عند الاختلاف عليه، ثم سرد الأحاديث التي جمعها العراقي في جزء، وحكم عليها بالوضع، وهي تسعة وأضاف إليها خمسة عشر حديثا، أوردها ابن الجوزي في الموضوعات، وهي فيه وأجاب عنها حديث حديثا". ا. هـ، قال السيوطي في التدريب: وقد فاته أحاديث أخر أوردها ابن الجوزي، وهي فيه وجمعتها في جزء سميته "الذيل الممهد"، وعدتها أربعة عشر حديثا1. ا. هـ.
قال الشوكاني: وقد حقق الحافظ نفي الوضع عن جميع أحاديثه، وأنه أحسن انتقاء وتحريرا من الكتب، التي لم يلتزم مصنفوها الصحة في جميعها، وليست الأحاديث الزائدة فيه على الصحيحين، بأكثر ضعفا من الأحاديث الزائدة في سنن أبي داود والترمذي. ا. هـ.
الجمع بين أقوال العلماء في مسند أحمد:
يمكن إرجاع القولين الأولين إلى القول الثالث، وبذلك لا يكون هناك خلاف في درجة أحاديث المسند، فمن حكم على بعض أحاديثه بالوضع، نظر إلى ما زاده فيه أبو بكر القطيعي، وعبد الله بن الإمام أحمد، والقول بحجية ما فيه من الأحاديث لا ينافي القول بأن فيه الضعيف، فإن الضعيف فيه دائر بين الحسن لذاته، والحسن لغيره، وكلاهما مما يحتج به عند العلماء.
عناية الأمة بمسند الإمام أحمد:
قال في كشف الظنون: جمع غريبه أبو عمر محمد بن عبد الواحد
1 التدريب ص56.
المعروف بغلام ثعلب في كتاب، وتوفي سنة "345"، واختصره الشيخ الإمام سراج الدين عمر بن علي المعروف بابن الملقن الشافعي، المتوفى سنة 805 خمس وثمانمائة، وعليه تعليقة للسيوطي في إعرابه سماها عقود الزبرجد، وقد شرح المسند أبو الحسن بن عبد الهادي السندي، نزيل المدينة المنورة المتوفى سنة "1139" شرحا كبيرا نحوا من خمسين كراسة كبار، واختصره الشيخ زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي1. ا. هـ.
وقال الحافظ ابن الجزري: أقام الله تعالى لترتيبه شيخنا خاتمة الحفاظ، أبا بكر محمد بن عبد الله بن المحب الصامت، فرتبه على معجم الصحابة، ورتب الرواة كذلك كترتيب الأطراف تعب فيها تعبا كثيرا، ثم إن شيخنا الإمام مؤرخ الإسلام، وحافظ الشام عماد الدين أبا الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير رحمه الله تعالى، أخذ هذا الكتاب المرتب من مؤلفه، وأضاف إليه أحاديث الكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى الموصلي، وجهد نفسه كثيرا، وتعب فيه تعبا عظيما، فجاء لا نظير له في العالم، وأكمله إلا بعض مسند أبي هريرة، فإنه قبل أن يكمله كف بصره ومات، وقال رحمه الله تعالى: لا زلت أكتب فيه في الليل والسراج ينونص، حتى ذهب بصري معه، ولعل الله أن يقيض له من يكمله مع أنه سهل. فإن معجم الطبراني الكبير لم يكن فيه شيء من مسند أبي هريرة رضي الله عنه. ا. هـ.
واسم هذا الكتاب الذي ألفه ابن كثير "جامع المسانيد والسنن"، ويوجد منه في دار الكتب المصرية ثمانية أجزاء2، وقد رتب المسند
1 جـ2 ص265.
2 مقدمة الفتح الرباني.
على الأبواب بعض الحفاظ الأصبهانيين، وكذا الحافظ ناصر الدين بن رزيق وغيره ورتبه على حروف المعجم الحافظ، أبو بكر محمد بن أبي محمد عبد الله المقدسي، الحنبلي1، وقد رتب المسند على الأبواب ترتيبا متقنا مهذبا، معاصرنا الفاضل الشيخ المحدث العلامة أحمد بن عبد الرحمن بن محمد البنا، الشهير بالساعاتي انتهى من تبييضه عام "1351" للهجرة، وجعله سبعة أقسام: قسم التوحيد وأصول الدين، وقسم الفقه، وقسم التفسير، وقسم الترغيب، وقسم الترهيب، وقسم التاريخ، وقسم القيامة، وأحوال الآخرة. على هذا الترتيب وكل قسم من هذه الأقسام السبعة، يشتمل على جملة كتب وكل كتاب يندرج تحته جملة أبواب، وبعض الأبواب يدخل فيه جملة فصول، وفي أكثر تراجم الأبواب ما يدل على مغزى أحاديث الباب، وسمى هذا الكتاب "الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني"، ثم شرح كتابه هذا وخرج أحاديثه في كتاب آخر سماه "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني" جعله معه، ثم شرع في طبعهما، وقد صدر حتى الآن أحد وعشرون جزءًا ونسأل الله أن يعينه على إتمامه، ويتقبل منه عمله.
صحيح البخاري:
الباعث له على تأليفه:
رأى البخاري رحمه الله تعالى دواوين السنة، التي ألقت في عصره وقبله جامعة بين الصحيح، والحسن، والضعيف من الأحاديث لا يستطيع الناظر فيها أن يميز بين الصحيح، وغيره إلا إذا كان من أهل الفن والخبرة التامة، وكذلك لا يستطيع أن يجمع الأحاديث التي تتعلق بموضوع
1 الرسالة المستطرفة 15، 16.
واحد من الأحكام الشرعية؛ لأن هذه الدواوين -كما قلنا- كان يقصد منها جمع الأحاديث وحفظها على الأمة فقط، فلم تراع فيها المناسبات في ترتيب الأحاديث، وضم بعضها إلى بعض.
هذا إلى أن بعض أهل ورواته، أهملوا فقه الأحاديث، وما تدل عليه ألفاظها من المعاني والفوائد إلى مجرد الحفظ والرواية، فكان من أثر ذلك أن عجز هؤلاء عن مناهضة أهل البدع والأهواء بالحجة، وقمعهم بالبرهان. كما شاعت الأحاديث الضعيفة، بل والموضوعة فيما بين الناس، عن طريق القصاص الذين لا يميزون بين المقبول، والمردود من الأحاديث. وأوغل بعض المنتسبين إلى أهل الرأي في مخالفة السنن الثابتة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحركت هذه العوامل مجتمعة من إمام المحدثين، أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري همته العالية لجمع طائفة كبيرة من الأحاديث، التي صحت أسانيدها، وسلمت متونها من العلل مرتبة على أبواب الفقه، والسير والتفسير إلى غير ذلك.
وقوى عزمه على ذلك ما سعه من أستاذه أمير المؤمنين في الحديث، والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه، حيث قال لتلاميذه:
"لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال البخاري: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع "الجامع الصحيح".
خرجه من ستمائة ألف حديث، ولم يخرج فيه إلا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسند المتصل الذي توفر في رجاله العدالة، والضبط، ومكث في تصنيف ستة عشر عامًا، وما وضع فيه حديثا إلا غتسل قبله، وصلى ركعتين، ولما أن تم عرضه على الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني وغيرهم فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة إلا في أربعة أحاديث، قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة
وقد تلقاه العلماء بالقبول في كل عصر، وشهدوا له بالتفوق على كل ما سبقه من المصنفات.
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: وأما جامع البخاري الصحيح، فأجل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى، قال: فلو رجل الشخص لسماعه من ألف فرسخ لما ضاعت رحلته. ا. هـ.
وقد روى الحفاظ، والأئمة عن البخاري أنه قال: جعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى، وما أدخلت فيه إلا صحيحا، وما تركت من الصحيح أكثر حتى لا يطول. ا. هـ. وقوله:"وما أدخلت فيه إلا صحيحا"، محمول على الأحاديث المسندة المتصلة، فإنها موضوع الكتاب ومقوصده، وقد ذكر البخاري فيه عرضا الموقوف، والمعلق وفتاوى الصحابة والتابعين، وآراء العلماء.
وليست هذه الأحاديث المعلقة، والآثار الموقوفة من موضوع كتابه كما يدل لذلك تسميته له:"الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه"، وإنما ذكرها لقصد الاستئناس بها فقد، ولذلك غاير في سياقها لتمتاز.
عدد أحاديثه: وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن عدة ما فيه من الأحاديث بالمكرر "7397"، سوى المعلقات والمتابعات، والموقوفات، وبغير المكرر من المتون الموصولة "2602".
رواته: وقد سمعه منه نحو من تسعين ألفا من أشهرهم: أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربري، المتوفى سنة "320"، وكان سماعه للصحيح مرتين بفرير سنة 248، وببخارى سنة 252، ومنهم إبراهيم بن معقل بن الحجاج النسفي، وكان من الحافظ، وله تصانيف وتوفي سنة "294" وفاته من الجامع أوراق رواها بالإجازة عن البخاري،
ومنهم حماد بن شاكر النسوي مات حوالي سنة "290"، وفاته منه شيء أيضان وأبو طلحة منصور بن محمد بن علي بن قرينة البزدوي، المتوفى سنة "329"، وهو آخر من حدث عن البخاري بصحيحه، كما جزم به ابن ماكولا غيره1.
ما اشتملت عليه تراجم البخاري من الفوائد:
قدمنا أن البخاري رحمه الله تعالى، كان من أئمة الفقه المجتهدين لذلك جاء كتابه جامعا لكثير من المسائل الفقيه، فقد أودع تراجم الأبواب كثيرا مما اهتدى إليه باجتهاده، واستنبطه بعقله مما يدل على براعته في الفقه واستنباط الأحكام الشرعية من الأحاديث، وله في تلك التراجم طريقتان ظاهرة وخفية:
الطريقة الأولى: أن تكون الترجمة دالة بطريق المطابقة على ما ساقه من الأحاديث كأن يقول: هذا الباب الذي فيه كيت وكيت، أو باب ذكر الدليل على الحكم الفلاني مثلًا، وقد تكون الترجمة بلفظ المترجم له، وقد تكون ببعض ألفاظه، وقد تكون بمعناه، وهذا هو الغالب على تراجمه.
الطريقة الثانية: أن يأتي في الترجمة بلفظ عام، ويكون المترجم له من الأحاديث خاصا تنبيها منه على أن الحكم عام، وأن الحديث وإن كان خاصا، فهو مراد به العموم، وقد يكون الأمر على عكس ذلك، فينبه بالترجمة على أن الحديث وإن كان عاما إلا أنه يراد منه الخصوص، وعلى هذا الأمر في المطلق والمقيد وشرح المشكل، وتفسير الغامض، وتأويل
1 مقدمة فتح الباري جـ1 ص4، خطبة فتح الباري، مفتاح السنة ص39، وما بعدها.
الظاهر وتفصيل المجمل "وهذا الموضع هو معظم ما يشكل من تراجم هذا الكتاب، ولهذا اشتهر عن جمع من الفضلاء: فقه البخاري في تراجمه"، وأكثر ما يفعل البخاري ذلك إذا لم يجد حديثا على شرطه في الباب ظاهر المعنى في المقصد، الذي تجم به، وقد يفعل ذلك لغرض شحذ الأذهان في إظهار مضمره، وكثيرا ما يترجم بلفظ الاستفهام كقوله باب هل يكون كذا، أو من قال كذا، وذلك حيث لا يتجه له القطع بأحد الاحتمالين، وكثيرا ما يترجم بأمر ظاهره قليل الجدوة، ولكنه إذا حققه المتأمل، كان كثير النفع كقوله:"باب قول الرجل: ما صلينا"، فإنه أشار به إلى الرد على من كره ذلك وكقوله:"باب قول الرجل: فاتتنا الصلاة"، فإنه أشار به إلى الرد على من كره ذلك، وكثيرا ما يترجم بلفظ يومئ إلى معنى حديث لم يصح على شرطه، أو يأتي بلفظ الحديث الذي لم يصح على شرطه صريحا في الترجمة، ويورد في الباب مما يؤدي معناه تارة بأمر ظاهر وتارة بأمر خفي، ومن ذالك قوله: باب الأمراء من قريش. فهذا حديث ليس على شرط البخاري وأورد فيه: "لا يزال وال من قريش"، ومنها قوله:"باب اثنان فما فوقهما جماعة"، وربما اكتفى أحيانا بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه، وأورد معها أثرا أو آية فكأنه يقول لم يصح في الباب شيء على شرطي.
صحيح مسلم:
هو كتاب صنفه إمام مسلم بن الحجاج، النيسابوري في الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، ويقع في الدجة الثانية من الصحة بعد صحيح البخاري. احتوى على أربعة آلاف من الأحاديث الصحاح من غير المكرر. وبالمكرر "7275"، وقد سلك مسلم في صحيحه
طريقة حكيمة جعلته سهل التناول، قريب المأخذ فهو يجمع الأحاديث المتناسبة في مكان واحد ويذكر طرق الأحاديث، التي ارتضاها ويورد أسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة مع إيجاز في العبارة، وترتيب حسن واحتياط بالغ. ذكر مسلم رحمه الله في مقدمة جامعه الصحيح أنه يقسم الأحاديث ثلاثة أقسام: الأول ما رواه الحفاظ المتقنون. والثاني ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والاتقان. والثالث ما رواه الضعفاء المتروكون، وأنه إذا فرغ من القسم الأول، أتبعه الثاني. وأما الثالث فلا يعرج عليه1. وصحيح مسلم مرت على أبواب الفقه، غير أنه لم يذكر تراجم الأبواب فيه، لئلا يزداد بها حجم الكتاب.
وقد ترجم جماعة من الشراح أبوابه تباجم بعضها جيد، وبعضها ليس بجيد وتولى الإمام النووي الترجمة عنها بعبارات تليق بها، فأجاد كثيرا2.
الباعث لمسلم على تأليف الجامع الصحيح أمران:
أحدهما: جمع طائفة من الأحاديث الصحيحة، المتصلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المشتملة على أحكام الدين وسننه، وغير ذلك على وجه يقربها للباحثين في الفقه الإسلامي وغيره وذلك؛ لأن المصنفات في ذلك العصر كانت صعبة المأخذ ممزوجا فيها الصحيح بغيره، وصحيح البخاري، وإن كان قد رتبه على الأبواب إلا أنه ما زال الكشف فيه من الصعوبة بمكان لخفاء تراجمه، ودقة وضعه على من ليسوا من أهل الفن.
الأمر الثاني: رأى مسلم رحمه الله ما كان من القصاص، والزنادقة
1 قيل: إن المنية عاجلته قبل إخراج القسم الثاني، وقيل: إنه استوفى القسمين الأول والثاني، ورجحه النووي.
2 مقدمة النووي لشرح مسلم ص30-33 بهامش القسطلاني.
وجهلة المتصوفة في خداع العامة، وإغرائهم بالمناكير، وحشوهم لأذهان الناس بالأساطير. فأراد أن يجذب العامة من الظلمة إلى النور، ويقدم لهم كتاب في الصحاح من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطمئن قلوبهم إليها، وبذلك يشغلون عن هذه الطوائف المفسدة، ونحن ننقل لك جملة من كلام الإمام نفسه، تدل على غرضه ذلك قال رحمه الله في مقدمة صحيحه: "الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، أما بعد فإنك يرحمك الله بتوفيق خالقك، ذكرت أنك هممت بالفحص عن تعرف جملة الأخبار المأثورة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنن الدين، وأحكامه، وماكان منها في الثواب، والعقاب، والترغيب والترهيب، وغير ذلك من صنوف الأشياء بالأسانيد، التي بها نقلت وتداولها أهل العلم فيما بينهم، فأردت -أرشدك الله- أن توقف على جملتها مؤلفة محصاة، وسألتني أن ألخصها لك في التأليف بلا تكرار يكثر -إلى أن قال: إلا أن ضبط القليل من هذا الشأن، وإتقانه أيسر على المرء من معالجة الكثير منه، ولا سيما عند من لا تمييز عنده من العوام، إلا بأن يوقفه على التمييز غيره، وإذا كان الأمر في هذا كما وصفنا، فالقصد منه إلى الصحيح القليل أولى بهم من ازدياد السقيم، وإنما يرجى بعض المنفعة في الاستكثار من هذا الشأن، وجمع المكررات منه لخاصة من الناس ممن رزق فيه بعض التيقظ، والمعرفة بأسبابه وعلله، فأما عوام الناس الذين هم بخلاف معاني الخاصة، فلا معنى لهم في طلب الكثير وقد عجزوا عن معرفة القليل، ثم قال: وبعد يرحمك الله فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثا، فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة، والروايات المنكرة، وتركهم الاقتصار على الأخبار الصحيحة المشهورة مما نقله الثقات
المعروفون بالصدق والأمانة، بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيرا مما يقذفون به إلى الأغبياء من الناس هو مستنكر، ومنقول عن قوم غير مرضيين ممن ذم الرواية عنهم أئمة الحديث، مثل مالك بن أنس رحمه الله، وشعبه بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من الأئمة لما سهل علينا الاتنصاب لما سألت من التمييز، والتحصيل ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة، وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها خف على قلوبنا أجابتك إلى ما سألت". ا. هـ.
من هذا ترى أن همة مسلم في صحيحه، كانت متوجهة إلى تجريد الأحاديث الصحاح من غير تعرض للاستنباط، ليكون سائغا عند الخاصة، والعامة على السواء ليصرف العامة عن الاستمعال إلى المناكير التي يبثها من نصبوا أنفسهم محدثين كالقصاص، والمتصوفة. وقد تلقته الأمة هو وصحيح البخاري بالقبول، وأقبل عليها العامة والخاصة، وحصل بذلك خير كثير، والحمد لله.
شرط البخاري ومسلم في صحيحهما:
اعلم أن البخاري، ومسلما لم ينقل عن واحد منهما أنه قال: شرطت أن أخرج في كتابي ما يكون على الشرط الفلاني، وإنما يعرف ذلك من سير كتابيهما. وللعلماء في تحقيق شرطهما في الصحيحين أقوال:
الأول: قال الحاكم أبو عد الله النيسابوري، المتوفى سنة "405" في كتابه المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل: "الدرجة الأولى من الصحيح اختيار البخاري، ومسلم، وهو أن يروي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي، المشهور وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه التابعي المشهور
بالرواية عن الصحابي وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين، حافظ متقن وله رواة ثقات من الطبقة الرابعة، ثم يكون شيخ البخاري، أو مسلم حافظا، مشهورا بالعدالة في روايته". ا. هـ. قال أبو علي الغساني: ليس المراد أن يكون كل خبر روياه يجتمع فيه راويان عن صحابيه، ثم عن تابعيه فمن بعده، فإن ذلك يعز وجوده، وإنما المراد أن هذا الصحابي، وهذا التابعي قد روى عنه رجلان، خرج بهما عن حد الجهالة. ا. هـ. وقال ابن حجر في مقدمته لشرح البخاري: ما ذكره الحاكم وإن كان منتقضا في حق بعض الصحابة، الذين أخرج لهم -يعني البخاري- إلا أنه معتبر في حق من بعدهم، فليس في الكتاب حديث أصل من رواية من ليس له، إلا راو واحد فقط. ا. هـ.
القول الثاني: قال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي، المتوفى سنة "507" في شروط الأئة الستة: شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور، من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلا غير مقطوع، وإن كان للصحابي راويان فصاعدا، فحسن، وإن لم يكن إلا راو واحد، وصح الطريق إلى كفى، إلا أن البخاري ترك أحاديث أقوال لشبهة، وقعت في نفسه أخرج مسلم أحاديثهم لزوال الشبهة عنهم عنده. ومثال ذلك أن سهيل بن أبي صالح، تكلم بعضهم في سماعه من أبيه، فقيل: صحيفة فترك البخاري حديث في الأصول لا في الشواهد، واستغنى عنه بغيره من أصحاب أبيه احتياطا، ومسلم اعتمد عليه لما سبر أحاديثه، فوجده يحدث عن عبد الله بن دينار، عن أبيه ومرة عن الأعمش عن أبيه، ومرة يحدث عن أخيه، عن أبيه بأحاديث فاتنة من أبيه فصح عنده أنه سمع من أبيه، إذ لو كان سماعه صحيفة، لكان يروى هذه الأحاديث، مثل تلك الأخر. وكذلك حماد
ابن سلمة إمام كبير مدحه الأئمة، وأطنبوا لكن تكلم فيه بعض منتحلي المعرفة أن بعض الكذبة، أدخل في حديثه ما ليس منه لم يخرج عنه البخاري في صحيحه، معتمدا عليه، بل استشهد به في مواضع ليبين أنه ثقة، وأخرج أحاديثه التي يرويها من حديث غيره من أقرانه، كشعبة وحماد بن زيد، وأبي عوانة وأبي الأحوص وغيرهم، ومسلم اعتمد عليه؛ لأنه رأى جماعة من أصحابه القدماء، والمتأخرين رووا عنه لم يختلفوا عليه، وشاهد مسلم منهم جماعة، وأخذ عنهم ثم عدالة الرجل في نفسه، وإجماع أئمة النقل على ثقته وإمامته، ومثل حماد بن سلمة، وسهيل بن أبي صالح في ذلك داود بن أبي هند، وأبو الزبير بن عبد الرحمن وغيرهما. فلما تكلم في هؤلاء بما لا يزيل العدالة، والثقة ترك البخاري إخراج حديثهم في الأصول تحريا، وأخرج مسلم أحاديثهم لزوال الشبهة. قال العراقي: وليس ما قال ابن طاهر بجيد؛ لأن النسائي ضعف جماعة، أخرج لهم الشيخان، أو أحدهما وأجيب بأنهما أخرجا من أجمع العلماء على ثقته إلى حين تصنيفهما، ولا يقدح في ذلك تضعيف النسائي بعد وجود الكتابين. قال شيخ الإسلام ابن حجر الحافظ: تضعيف النسائي إن كان باجتهاده، أو نقله عن معاصر فالجواب ذلك، وإن نقله عن متقدم فلا.
قال: ويمكن أن يجاب بأن ما قاله ابن طاهر هو الأصل، الذي بنيا عليه أمرهما، وقد يخرجان عنه لمرجح يقوم مقامه "تدريب الراوي ص38".
القول الثالث: ما قاله الحافظ أبو بكر محمد بن موسى الحازمي، المتوفى سنة "584"، قال في كتابه شروط الأئمة الخمسة ما ملخصه: مذهب من يخرج الصحيح أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه العدول، وفيمن روى عنهم من الثقات، فبعضهم حديثه صحيح، ثابت يلزم إخراجه، وبعضهم حديثه مدخول لا يصلح إخراجه إلى في الشواهد والمتابعات
وهذا باب فيه غموض، وطريقه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل، ومراتب مداركهم ولنوضح ذلك بمثال: وهو أن تعلم أن أصحاب الزهري مثلا على خمس طبقات، ولكل طبقة منها مزية على التي تليها:
فالطبقة الأولى: جماعة من الرواة العدول، جمعوا بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري، حتى كان فيهم من يزامله في السفر ويلازمه في الحضر وهذه هي الغاية في الصحة، وهؤلاء مثل مالك، وابن عيينة، ويونس وعقيل الأيليين وشعيب بن أبي حمزة، وغيرهم.
والطبقة الثانية: جماعة من الرواة العدول، لم يلازموا الزهري إلا مدة يسيرة، فلم يمارسوا حديثه، وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى مثل الأوزاعي، والليث بن سعد، والنعمان بن راشد، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر وغيرهم.
والطبقة الثالثة: جماعة من الرواة لازموا الزهري، ملازمة طويلة كرجال الطبقة الأولى، غير أنهم لم يسلموا من غوائل الجرح، فهم بين القبول والرد مثل سفيان بن حسين الأسلمي، وجفر بن برقان وعبد الله بن عمر بن حفص العمري، وزمعة بن صالح المكي، وغيرهم.
والطبقة الرابعة: قوم شاركوا أهل الطبقة الثالثة في عدم السلامة من غوائل الجرح، غير أنهم لم يلازموا الزهري طويلا، فلم يمارسوا حديثه مثل إسحاق بن يحيى الكلبي، ومعاوية بن يحيى الصدفي، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة المدني. وإبراهيم بن يزيد المكي، والمثنى بن الصباح وجماعة سواهم.
والطبقة الخامسة: نفر من الضعفاء والمجهولين، لا يجوز لمن يخرج الحديث على الأبواب، أن يخرجوا حديثهم إلا على سبيل الاعتبار
والاستشهاد عند أبي داود والنسائي، والترمذي فأما عند الشيخين "البخاري ومسلم"، فلا وهؤلاء مثل بحر بن كنيز السقا، والحكم بن عبد الله الأيلي، وعبد القدوس بن حبيب الدمشقي، ومحمد بن سعيد المصلوب وغيرهم.
قال: فأما الطبقة الأولى فهم شرط البخاري، وقد يخرج من أحاديث أهل الطبقة الثانية1 ما يعتمد من غير استيعاب، وأما مسلم فيخرج أحاديث الطبقتين الأولى، والثانية باستيعاب، وينتقى من أحاديث أهل الطبقة الثالثة، وأما الرابعة والخامسة، فلا يعرجان عليهما2. ا. هـ. كلام الحازمي.
قال الحافظ بن حجر معقبا على كلامه: وهذا المثال الذي ذكره الحازمي، عن الزهري إنما يتأتى في حق المكثرين، فيقاس على أصحاب الزهري، أصحاب نافع وأصحاب الأعمش، وأصحاب قتادة وأمثالهم.
قال: فأما غير المكثرين، فقد اعتمد الشيخان في تخريج أحاديثهم على الثقة والعدالة وقلة الخطأ، نلكن منهم من قوي الاعتماد عليه، فأخرجا ما تفرد به كيحيى بن سعيد الأنصاري، ومنهم من لم يقو الاعتماد عليه، فأخرجا له ما شاركه فيه غيره، وهو الأكثر. ا. هـ "مقدمة الفتح 1-6".
1 وقال ابن حجر في مقدمة الفتح "أكثر ما يخرج البخاري حديث الطبقة الثانية تعليقا، وربما أخج اليسير من حديث الطبقة الثالثة تعليقا أيضا". ا. هـ ص6 جـ1.
2 قال الحازمي: فأما أبو داود والنسائي، فهما يخرجان من أحاديث الطبقة الأولى والثانية، والثالثة، ولا يتجاوزانها إلى الرابعة وما بعدها في الأصول بخلاف المتابعات والشواهد، وأما الترمذي فيخرج لغير الطبقة الخامسة في الأصول، وللخامسة في غيرها مع بيانه لحال كل حديث يخرجه من الصحة أو الضعف.
المقارنة بين الصحيحين:
التزم كل من البخاري ومسلم، ألا يخرج في كتابه غير الأحاديث الصحيحة، وكتابهما وإن اشتركا في أصل الصحة، لكن صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم، ومقدم عليه ويدل على ذلك أمران.
الأول: شهادة أهل الفن وجهابذة الحديث، فمن ذلك ما رواه الحافظ ابن حجر، عن أبي عبد الرحمن النسائي أنه قال:"ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل"، قال الحافظ: والنسائي لا يعني بالجودة إلا جودة الأسانيد، كما هو المتبادر إلى الفهم من اصطلاح أهل الحديث، ومثل هذا من النسائي غاية في الوصف مع شدة تحريه، وتوقيه وتثبته في نقد الرجال وتقدمه في ذلك على أهل عصره، حتى قدمه قوم من الحذاق في معرفة ذلك على مسلم بن الحجاج، وقدمه الدارقطني وغيره على إمام الأئمة، أبي بكر بن خزيمة صاحب الصحيح، وقال الإسماعيلي في المدخل له: "أما بعد فإني نظرت في كتاب الجامع الذي ألفه أبو عبد الله البخاري، فرأيته جامعا كما سمى لكثير من السنن الصحيحة، ودالا على جمل من المعاني الحسنة المستنبطة، التي لا يكمل لمثلها إلا من جمع إلى معرفة الحديث ونقلته، والعلم بالروايات وعللها علما بالفقه واللغة، وتمكنا منها وتبحرا فيها، وكان يرحمه الله الرجل الذي قصر زمانه على ذلك، فبرع وبلغ الغاية، فحاز السبق وقد نحا نحوه في التصنيف جماعة منهم مسلم بن الحجاج، وكان يقاربه في العصر فرام مرامه، وكان يأخذ عنه، أو عن كتبه إلا أنه لم يضايق نفسه مضايقة أبي عبد الله، وروى عن جماعة كثيرة لم يتعرض أبو عبد الله للرواية عنهم، وكل قصد الخير غير أن أحدا لم يبلغ في التشدد مبلغ أبي عبد الله، ولا تسبب إلى استنباط المعاني، واستخراج لطائف فقه الحديث، وتراجم الأبواب الدالة على ما له
وصلة بالحديث المروي فيه تسببه ولله الفضل يختص به من يشاء"، وقال الدارقطني لما ذكر عند الصحيحان: لولا البخاري لما ذهب مسلم، ولا جاء وقال مرة أخرى: "وأي شيء صنع مسلم إنما أخذ كتاب البخاري، فعمل عليه مستخرجا وزاد في زيادات"، ونقل كلام العلماء في ذلك يطول، فنكتفي بهذا القدر على أنه يكفي لتقديم كتاب البخاري على كتاب مسلم، إجماع أهل الحديث على أن البخاري أعلم بهذا الفن من مسلم، وهو أستاذ مسلم فيه حتى شهد له مسلم بالتفرد بمعرفة ذلك في عصره.
الأمر الثاني: إن مدار الحديث الصحيح على اتصال السند، واتقان الرجال والسلامة من الشذوذ والعلة. وهذه الأوصاف في كتاب البخاري أقوى منها في كتاب مسلم، فهو أشد اتصالا، وأوثق رجالا وأبعد عن الشذوذ والعلة، وبيان ذلك:
أولا: فيم يرجع إلى اتصال السند:
إن الإسناد المعنعن الذي يقال فيه: "فلان عن فلان"، اكتفى مسلم فيه بالمعاصرة أما البخاري، فلا يحمل ذلك على الاتصال، حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة. وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه، وجرى عليه في صحيحه، كما جرى مسلم على مذهبه المذكورة في صحيحه، وصرح به في مقدمته، وبالغ في الرد على من خالفه، ولا شك أن مذهب البخاري في المعنعن أدخل في باب الاتصال، وأبعد عن شائبة الانقطاع بخلا ما ذهب إليه مسلم.
ثانيا: فيما يرجع إلى السلام من الشذوذ والعلة:
إن الأحاديث التي انتقدت عليها بلغت "210"، اختص البخاري منها بثمانية وسبعين، واختص مسلم بمائة واشتركا في الباقي، وهو اثنان وثلاثون ولا شك أن ما قل الانتقاد فيه أرجح مما كثر فيه.
ثالثا: فيما يرجع إلى إتقان الرواة
يتبين رجحان صحيح البخاري على صحيح مسلم في هذا الباب بعدة أمور:
أ- إن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضع وثلاثون رجلا المتكلم فيه بالضعف منهم "80" رجلًا. والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري "620" رجلا. المتكلم فيه بالضعف منهم "160" رجلا، ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلًا أولى من التخريج عمن تكلم فيه، وإن لم يكن ذلك الكلام قادحًا.
ب- إن الذين انفرد بهم البخاري، ممن تكم فيه لم يكثر من التخريج عنهم، وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها كلها، أو أكثرها إلا ترجمة عكرمة عن ابن عباس. بخلاف مسلم فإنه أخرج أكثر تلك النسخ كأبي الزبير عن جابر، وسهيل عن أبيه والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، وحماد بن سلمة عن ثابت وغير ذلك.
ج- إن الذين انفرد بهم البخاري، ممن تكلم فيه أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم، وجالسهم وعرف أحوالهم، واطلع على أحاديثهم وميز جيدها من غيره. بخلاف مسلم فإن من انفرد بتخريج حديثه، ممن تكلم فيه أكثرهم ممن تقدم عصره من التابعين ومن بعدهم. ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه دون غيرهم.
د- أن البخاري يخرج أحاديث الطبقة الأولى، وهي أعلى الطبقات في الحفظ والإتقان، وطول الصحبة لمن أخذوا عنه استيعابا، وينتقي من أحاديث الطبقة الثانية، التي هي دون الأولى في الصفات المذكورة، ومسلم يخرج حديث الطبقة الثانية استيعابا، وفي أصل موضوع كتابه فكان البخاري أقوى إسنادا وأوثق رجالًا.
هذا وأما ما نقل عن أبي علي النيسابوري أنه قال: "ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج"، لا ينافي ما تقدم، فقد قال الحافظ بن حجر، الذي يظهر لي من كلام أبي على أنه، إنما قدم صحيح مسلم لمعنى غير ما يرجع إلى ما نحن بصدده من الشرائط المطلوبة في الصحة، بل ذلك؛ لأن مسلما صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرز في الألفاظ، ويتحرى في السياق، ولا يتصدى لما تصدى له البخاري من استنباط الأحكام ليبوب عليها، ولزم من ذلك تقطيعه للحديث في أبوابه، بل جمع مسلم الطرق كلها في مكان واحد، واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات، فلم يعرج عليها إلا في بع المواضع على سبيل الندرة، تبعا لا مقصودا، فلهذا قال أبو علي ما قال. قال: وكذلك ما نقل عن بعض المغاربة أنه فضل صحيح مسلم على صحيح البخاري، فذلك فيما يرجع إلى حسن السياق، وجودة الوضع والترتيب، ولم يفصح أحد منهم بأن ذلك راجع إلى الأصحية، ولو أفصحوا لرده عليهم شاهد الوجود. ا. هـ "مقدمة الفتح جـ1 ص8، وشرح النخبة ص10".
الشيخان لم يستوعبا الصحيح في الصحيحين:
قرر الحفاظ، وأئمة الحديث أن البخاري، ومسلما لم يستوعبا في صحيحهما الأحاديث الصحيحة، ولا التزاما ذلك فقد رووا عن البخاري أنه قال:"ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح وتركت من الصحاح لملال الطول"، وأنه قال:"احفظ مائة ألف حديث صحيح، واحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح"، وأنه قال: أكنت عند إسحاق بن راهويه فقال: "لو جمعتهم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال:"فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح"، ورووا عن مسلم أنه قال: "ليس كل شيء عندي صحيح، وضعته ههنا. إنما وضعت
ههنا ما أجمعوا عليه"1، ورووا عنه أيضا أنه لما عوتب على ما فعل من جمع الأحاديث الصحاح في كتاب، وقيل له: أن هذا يطرق لأهل البدع علينا فيجدون السبيل، لأن يقولوا: إذا احتج عليهم بحديث: ليس هذا في الصحيح. قال: إنما أخرجت هذا الكتاب، وقلت: هو صحاح ولم أقل: أن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب، فهو ضعيف2، ومن ذلك يتبين لنا:
أولا: أنه لا وجه لإلزام من ألزمهما إخراج أحاديث لم يخرجاها مع كونها صحيحة على شرطيهما، كالدارقطني، والبيهقي، وابن حبان، فقد روى عن ابن حبان أنه قال:"ينبغي أن يناق البخاري ومسلم في تركهما إخراج أحاديث هي من شرطهما"، وذكر الدارقطني وغيره "إن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورويت أحاديثهم من وجوه صحاح لا مطعن في ناقليها، ولم يخرجا من أحاديثهم شيئًا، فيلزمهما على مذهبهما"، وذكر البيهقي:"أنهما اتفقا على أحاديث من صحيفة همام بن منبه، وإن كل واحد منهما انفرد عن الآخر بأحاديث، منهما على أن الإسناد واحد". ا. هـ. وصنف الدارقطني، وأبو ذر الهروي في هذا النوع الذي ألزموهما به، ولكن هذا كله ليس بلازم في الحقيقة -كما قلنا- فإنهما لم يلتزما استيعاب الصحيح، بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوبعاه، وإنما قصدا جمع جمل من الصحيح كما يقصد المصنف في الفقه إلى جمع جملة من مسائله3.
1 أراد أنه لم يضع في كتابه، إلا الأحاديث التي وجد عنده فيها شرائط الصحيح المجمع عليه، وإن لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم. قاله ابن الصلاح في مقدمته.
2 توجيه النظر ص91.
3 انظر مقدمة النووي لشرحه على صحيح مسلم.
ثانيا: لا يلزم من عدم تخريج الشيخين لراو من الرواة في الصحيحين سقوطه، أو ضعفه فإنهما كما لم يستوعبا الأحاديث الصحيحة، لم يستوعبا الرواة الذين توافرت فيهم صفات القبول والصحة، وهم خلائق كثير يبلغ عددهم نيفا وثلاثين ألفا؛ لأن تاريخ البخاري يشتمل على نحو من أربعين الفا، وزيادة وكتابه في الضعفاء دون سبعمائة نفس، ومن خرجهم في جامعه دون ألفين، كما قال الحافظ الحازمي في شروط الأئمة الخمسة.
وقد ذكر الحاكم، أبو عبد الله النيسابوري، جماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الرواة، ولم يخرج لهم في الصحيح، ولم يسقطوا -في كتابه معرفة علوم الحديث في النوع الحادي والخمسين- منهم:
1-
في الصحابة، أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة، وعتبة بن غزوان، وأبو كبشة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، والأرقم بن الأرقم، وقدامة بن مظعون، والسائب بن مظعون، وشجاع بن وهب الأسدي، وعباد بن بشر الأشهلي، وسلامة بن وتش. في جماعة من الصحابة، قال الحاكم: إلا أني ذكرت هؤلاء رضي الله عنه فإنهم من المهاجرين، الذين شهدوا بدرا، وليس لهم في الصحيح رواية إذ لم يصح إليهم الطريق، ولهم ذكر في الصحيح في روايات غيرهم من الصحابة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وما يشبه هذا.
2-
وفي التابعين: محمد بن أبي بن كعب، والسائب بن خلاد بن السائب، ومحمد بن أسامة بن زيد، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن سعد بن عبادة، وعبيد الله بن رافع بن خديج، في طائفة من
التابعين، قال الحاكم: هؤلاء التابعون على علو محالهم في التابعين، ومحل آبائهم في الصحابة ليس لهم في الصحيح ذكر لفساد الطريق إليهم، لا لجرح فيهم فقد نزههم الله عن ذلك.
3-
ومن أتباع التابعين: عبد الرحمن بن أبي الزناد، وعطاء بن السائب الثقفي، وأبو يعقوب العبدي، وعبد الله بن شبرمة الضبي، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، وبشر بن سليمان النهدي، والحسن بن الحر وغيرهم.
وقال الأستاذ المحدث، الشيخ محمد زاهد الكوثري، في تعليقه على شروط الأئمة الخمسة للحازمي: "ومما يتجه إليه النظر أن الشيخين لم يخرجا في الصحيحين شيئا من حديث الإمام أبي حنيفة، مع أنهما أدركا صغار أصحاب أصحابه، وأخذا عنهم ولم يخرجا أيا من حديث الإمام الشافعي، مع أنهما لقيا بعض أصحابه، ولا أخرج البخاري من حديث أحمد إلا حديثين، أحدهما تعليقا، والآخر نازلا بواسطة مع أنه أدركه ولازمه، ولا أخرج مسلم في صحيحه، عن البخاري شيئا مع أنه لازمه، ونسج على منواله، ولا عن أحمد إلا قدر ثلاثين حديثا، ولا أخرج أحمد في مسنده عن مالك، عن نافع بطريق الشافعي -وهو أصح الطرق أو من أصحها- إلا أربعة أحاديث، وما رواه عن الشافعي بغير هذا الطريق لا يبلغ عشرين حديثا، مع أنه جالس الشافعي، وسمع موطأ مالك منه وعد من رواة مذهبه القديم.
قال الأستاذ: والظاهر من دينهم، وأمانتهم إن ذلك من جهة أنهم كانوا يرون أن أحاديث هؤلاء في مأمن من الضياع، لكثرة أصحابهم القائمين بروايتها شرقا وغربا، وجل عناية أصحابة الدواوين بأناس من
الرواة ربما كانت تضيع أحاديثهم لولا عنايتهم بها؛ لأنه لا يستغنى من بعدهم عن دواوينهم في أحاديث هؤلاء دون هؤلاء.
قال الأستاذ: ومن ظن أن ذلك لتحاميهم عن أحاديثهم، أو لبضع ما في كتب الجرح من الكلام في هؤلاء الأئمة، كقول الثور في أبي حنيفة، وقول ابن معين في الشافعي، وقول الكرابيسي في أحمد، وقول الذهلي في البخاري، ونحوها فقد حملهم شططا". ا. هـ.
والذي يظهر لنا من كلام الحاكم، وغيره أن الشيخين أو أحدهما، قد يترك الإمام الثقة لأسباب منها:
1-
أن يقع الضعف في الإسناد الذي بينه، وبين صاحب الصحيح فلا يروي الحديث من طريقه.
2-
قد يكون الإمام الذي ترك حديثه له أصحاب أجلاء، يحملون عنه علمه وحديثه، فلا يخاف على مروياته من الضياع، فيستغني صاحب الصحيح بذلك عن الرواية عنه.
3-
طلب علو الإسناد، فقد يكون الحديث من طريق ذلك الإمام نازلا، ومن طريق غيره من الثقات عاليا، فيختار صاحب الصحيح الإسناد العالي لما فيه من القرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اختلاف العلماء في أن أحاديث الصحيحين ثابتة بالعلم، أو الظن:
قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: جميع ما حكم مسلم بصحته في كتابه فهو مقطوع بصحته، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأم، وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه وذلك؛ لأن الأمة تلقت الكتابين بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه، ووفاقه في الإجماع ويستثنى من ذلك أحاديث يسيرة، تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني، وغيره وهي معروفة عند المحدثين، قال: والذي نختاره أن تلقى الأمة للخبر القاصر عن درجة التواتر بالقبول يوجب العلم النظري
بصدقه خلافا لبعض محققي الأصوليين، حيث نفى ذلك بناء على أنه لا يفيد في حق كل منهم إلا الظن، وإنما قبله؛ لأنه يجب عليه العمل بالظن، والظن قد يخطئ. قال: وهذا مندفع؛ لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ.
وقد مال النووي إلى أن أحاديث الصحيحين، التي لم تتواتر ثابتة بالظن لا بالعلم، وتعقب ابن الصلاح في شرحه لمسلم، فقال: وهذا الذي ذكره الشيخ خلاف ما قاله المحققون، والأكثرون، فإنهم قالوا: أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة إنما تفيد الظن، فإنها آحاد والآحاد إنما تفيد الظن على ما تقرر، ولا فرق بين البخاري ومسلم، وغيرهما في ذلك وتلقي الأمة بالقبول، إنما أفادنا وجوب العمل بما فيهما وهذا متفق عليه، فإن أخبار الآحاد التي في غيرها يجب العمل بها، إذا صحت أسانيدها ولا تفيد إلا الظن. فكذا الصحيحان، وإنما يفترق الصحيحان، وغيرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحا لا يحتاج إلى النظر فيه، بل يجب العمل به مطلقا، وما كان في غيرهما لا يعمل به حتى ينظر، وتوجد فيه شروط الصحيح، ولا يزلم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع، بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ا. هـ.
وقد انحاز إلى كل طائفة من العلماء، ففريق يرجع كلام ابن الصلاح في أنها ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم بطريق العلم النظري، وفريق آخر يرجح كلام النووي في أنها ثابتة بطريق الظن.
قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: ما ذكره النووي مسلم من جهة الأكثرين، أما المحققون فلا فقد وافق ابن الصلاح أيضا محققون، وقال في شرح النخبة: الخبر المحتف بالقرائن، يفيد العلم خلافا لمن أبى ذلك، قال: وهو أنواع منها ما أخرجه الشيخان في صحيحهما مما لم يبلغ
حد التواتر فإنه احتفت به قرائن منها جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمها في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، إلا أن هذا مختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين، وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه مما وقع في الكتابين، حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما، من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته. قال: وما قيل من أنهم إنما اتفقوا على وجوب العمل به، لا على صحته ممنوع؛ لأنهم اتفقوا على وجوب العمل بكل ما صح، ولو لم يخرجاه فلم يبق للصحيحين في هذا مزية، والإجماع حاصل على أن لهما مزية فيما يرجع إلى نفس الصحة قال: وممن صرح بإفادة ما خرجه الشيخان العلم النظري الأستاذ، أبو إسحاق الاسفرائيني، ومن أئمة الحديث، أبو عبد الله الحميدي، وأبو الفضل بن طاهر وغيرهما. ويحتمل أن يقال: المزية المذكورة كون أحاديثهما أصح الصحيح، ثم قال: والعلم بصدق الخبر المحتف بالقرائن، إنما يحصل للعالم بالحديث المتبحر فيه العارف بأحوال الرواة، المطلع على العلل وكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك لقصوره عن الأوصاف المذكورة، لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور. ا. هـ، وقال ابن كثير في الباعث الحثيث1: وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه، وأرشد إليه، ثم وقفت بعد هذا على كلام لشيخنا العلامة ابن تيمية مضمونه:
إنه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول، عن جماعات من الأئمة منهم: القاضي عبد الوهاب المالكي، والشيخ أبو حامد الإسفرائيني، والقاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية، وأبو حامد وأبو يعلى بن الفراء، وأبو الخطاب، وابن الزاغوني وأمثالهم
1 ص23.
من الحنابلة، وشمس الأئمة السرخسي من الحنفية، قال: وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم. كأبي إسحاق الإسفرائيني، وابن فورك. قال: وهو مذهب أهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامة. ا. هـ.
قال السيوطي في تدريبه، وهو الذي اختاره ولا أعتقد سواه. ا. هـ.
انتقاد بعض الحفاظ على الشيخين، والجواب عنه:
انتقد جماعة من الحفاظ على البخاري، ومسلم أحاديث أخلا فيها بشرطيهما، ونزلت عن درجة ما التزماه، منهم الدارقطني، وأبو مسعود الدمشقي، وأبو علي الغساني، وألفوا في ذلك. قال الحافظ ابن حجر:
وليست عللها كلها قادحة، بل أكثرها الجواب عنه ظاهر، والقدح فيه مندفع وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تعسف.
قال: والأحاديث التي انتقدت عليهما، إن كانت مذكورة على سبيل الاستئناس والتقوية كالمعلقات، والمتاعات، والشواهد أجيب عن الاعتراض عليها أن توجه بأنها ليست من موضوع الكتابين، فإن موضوعهما المسند المتصل، ولهذا لم يتعرض الدارقطني في نقده على الصحيحين إلى الأحاديث المعلقة، التي لم توصل في موضع آخر لعلمه بأنها ليست من موضوع الكتابين، وإنما ذكرت استئناسا واستشهادا، وإن كانت من الأحاديث المسندة، فأما أن يكون الطعن مبنيا على قواعد ضعيفة لبعض المحدثين، فلا يقبل لضعف مبناه وأما أن يكون مبنيا على قواعد قوية، فحينئذ يكون قد تعارض تصحيحهما، أو تصحيح أحدهما مع كلام المعترض، ولا ريب في تقدمهما في باب التصحيح والتضعيف على غيرهما، قال الحافظ ابن حجر: وعدة ما انتقد عليهما من الأحاديث المسندة "210" مائتا حديث وعشرة. اشتركا في "32" اثنين وثلاثين حديثا. واختص البخاري بثمانية
وسبعين ومسلم بمائة. قال: والجواب عن ذلك على سبيل الإجمال أن نقول: لا ريب في تقديم البخاري، ثم مسلم على أهل عصرهما، ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل، فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني، كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك، حتى كان يقول: ما استصغرت نفسي عند أحد إلى عند علي بن المديني، ومع ذلك فكان علي بن المديني، إذا بلغه ذلك عن البخاري يقول: دعوا قوله فإنه ما رأى مثل نفسه، وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعًا.
وروى الفربري عن البخاري، قال: ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى، وتيقنت صحته. وقال مكي بن عبد الله: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: عرضت كتابي هذا علي أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته. قال: فإذا عرف وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث، إلا ما لا علة له أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام المنتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما، ولا ريب في تقدمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة، ثم أجاب الحافظ ابن حجر رحمه الله، عن النقد جوابا تفصيليا: قسم فيه الأحاديث التي انتقدت عليهما إلى ستة أقسام تكلم عليها، ثم أجاب عن الأحايدث، التي أوردها الدارقطني على البخاري حديثا حديثا، ثم قال: فإذا تأمل المنصف ما حررته من ذلك عظم مقدار هذا المصنف في نفسه وجل تصنيفه في عينه، وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول، والتسليم وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم.
قال: وإنما اقتصرت على ما ذكرته عن الدارقطني؛ لأني أردت أن
يكون عنوانا لغيره، فإنه الإمام المقدم في هذا الفن. ا. هـ1.
هذا وأما الأحاديث التي انتقدت على الإمام مسلم في صحيحه، فقد أجاب عنها واحدا واحدا جهابذة من أئمة الحديث، قال السيوطي: ورأيت فيما يتعلق بمسلم تأليفا مخصوصا، فيما ضعف من أحاديثه بسبب ضعف رواته. وقد ألف الشيخ ولي الدين العراقي كتابا في الرد عليه. قال السيوطي: وذكر بعض الحفاظ أن في كتاب مسلم، أحاديث مخالفة لشرط الصحيح، بعضها أبهم راوية وبعضها فيه إرسال، وانقطاع وبعضها فيه، وجادة وهي في حكم الانقطاع، وبعضها بالمكاتبة، وقد ألف الرشيد العطار كتابا في الرد عليه، والجواب عنها حديثا حديثا وقد وقفت عليه. ا. هـ.
كلامه. "تدريب ص42".
وللإمام الحافظ، أبي عمرو بن الصلاح جواب موجز محرر في الدفاع، عن مسلم رحمه الله يحسن بنا أن نذكره لك، نقلا عن الإمام النووي في مقدمته لشرح مسلم.
قال النووي رحمه الله: عاب عائبون مسلما بروايته في صحيحه، عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية، الذين ليسوا من شرط الصحيح ولا عيب عليه في ذلك، بل جوابه من أوجه ذكرها الشيخ الإمام، أبو عمرو بن الصلاح:
أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده، ولا يقال: الجرح مقدم على التعديل؛ لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتا مفسر السبب، وإلا فلا يقبل الجرح، وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب، البغدادي وغيره: ما احتج البخاري، ومسلم وأبو داود به من
1 مقدمة فتح الباري لابن حجر جـ2 من ص81 إلى ص110.
جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم، محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب.
الثاني: أن يكون ذلك واقعا في المتابعات، والشواهد لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف، ورجال ثقات، ويجعله أصلا، ثم يتبع بإسناد آخر، أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة، أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه، وقد اعتذر الحاكم أبو عد الله بالمتابعة، والاستشهاد في إخراجه عن جماعة ليسوا من شرط الصحيح، منهم مطر الوراق وبقية بن الوليد، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وعبد الله بن عمر العمري، والنعمان بن راشد، وأخرج مسلم عنهم في الشواهد في أشباه لهم كثيرين.
الثالث: أن يكون ضعف الضعيف، الذي احتج به مسلم طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حديث عليه، فهو غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته، كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، فقد ذكر الحاكم، أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر، فهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرزاق، وغيرهما ممن اختلط آخرا، ولم يمنع ذلك من صحة الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك.
الرابع: أن يعلوا بالشخص الضعيف إسناده، وهو عنده من رواية الثقات نازل، فيقتصر على العالي، ولا يطول إضافة النازل إليه، مكتفيا بمعرفة أهل الشأن في ذلك، وهو خلاف حاله فيما رواه عن الثقات أولا، ثم أتبعه بمن دونهم متابعة، وكأن ذلك وقع منه على حسب حضور باعث النشاط وغيبته، وهذا العذر قد رويناه عنه تنصيصا روينا عن سعيد
ابن عمرو البرذعي أنه حضر أبا زرعة الرازي، وذكر عنده صحيح مسلم، فأنكر عليه روايته فيه عن أسباط بن نصر وقطين بن نسير، وأحمد بن عيسى المصري. قال سعيد بن عمرو: فلما رجعت إلى نيسابور ذكرت لمسلم إنكار أبي زرعة، فقال لي مسلم: إنما أدخلت من حديث أسباط، وقطين وأحمد ما قد رواه الثقات، عن شيوخهم إلا أنه ربما وقع لي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فاقتصر على ذلك: وأصل الحديث معروف من رواية الثقات.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: فهذا مقام وعر، وقد مهدته بواضح من القول لم أره مجتمعا في مؤلف ولله الحمد. قال: وفيما ذكرته دليل على أن من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه، بأنه من شرط الصحيح عند مسلم فقد غفل، وأخطأ بل يتوقف ذلك على النظر في أنه، كيف روى عنه على ما بيناه. ا. هـ.
المستخرجات على الصحيحين:
معنى الاستخراج: هو أن يعمد حافظ من الحفاظ إلى كتاب من كتب الحديث، كصحيح البخاري، أو صحيح مسلم، أو غيرهما من الكتب، فيخرج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب، فيجتمع معه في شيخه أو من فوقه، ولو في الصحابي مع رعاية ترتيبه، ومتونه وطرق أسانيده، وشرطه ألا يصل إلى شيخ أبعد، حتى يفقد سندا يوصله إلى الأقرب ما لم يكن هناك عذر من علو في السند، أو زيادة مهمة في المتن، وربما أسقط المستخرج أحاديث لم يجد له بها سندا يرتضيه، وربما ذكرها من طريق صاحب الكتاب، الذي يستخرج عليه، وقد صنف كثير من العلماء في هذا النوع على الصحيحين، وغيرهما من كتب الحديث.
المستخرجات على صحيح البخاري: هي كثيرة منها:
1-
مستخرج الحافظ أبي بكر الإسماعيلي، الجرجاني المتوفى سنة "371". قال الذهبي:"ابتهرت بحفظه، وجزمت بأن المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين في الحفظ، والمعرفة".
2-
ومستخرج الحافظ أبي بكر البرقاني، المتوفى سنة "425".
3-
ومستخرج الحافظ أبي بكر بن مردويه، الأصبهاني الكبير صاحب التاريخ، والتفسير المسند المتوفى سنة 416، وهو غير الحافظ ابن مردويه، محدث أصبهان فإنه حفيد الكبير ولم يلقح جده. توفي سنة "498".
4-
ومستخرج الغطريفي المتوفى سنة "377".
5-
ومستخرج الحافظ أبي عبد الله، محمد بن العباس المعروف بابن أبي ذهل الهروي المتوفى سنة "378".
المستخرجات على صحيح مسلم: هي كثيرة منها:
1-
مستخرج الحافظ أبي عوانة، يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني المتوفى سنة "316"، روى فيه عن يونس بن عبد الأعلى، وغيره من شيوخ مسلم.
2-
مستخرج الحافظ، أبي بكر محمد بن محمد بن رجاء النيسابوري، الحافظ وهو متقدم توفي سنة "286"، ويشارك مسلما في أكثر شيوخه.
3-
مستخرج الحافظ، أبي بكر محمد بن عبد الله، الجوزقي، النيسابوري، المتوفى سنة "388"، وجوزق قرية من قرى نيسابور.
4-
مستخرج الحافظ، أحمد بن سلمة النيسابوري البزار، المتوفى سنة "286"، وهو رفيق مسلم في الرحلة إلى بلخ والبصرة.
المستخرجات على الصحيحين منها:
1-
مستخرج الحافظ محمد بن يعقوب، الشيباني النيسابوري، المعروف بن الأخرم المتوفى سنة "344".
2-
مستخرج الحافظ، أبي ذر الهروي
المتوفى سنة "434".
3-
مستخرج الحافظ أبي محمد البغدادي، المعروف بالخلال "439".
4-
مستخرج الحافظ أبي علي الماسرجسي النيسابوري، المتوفى "365"، أسلم جده ماسرجس -وكان نصرانيا- على يد عبد الله بن المبارك.
5-
مستخرج الحافظ المصنف، أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، المتوفى "430"، هؤلاء الأئمة خرج كل واحد منهم على كل من الصحيحين، منفردا ومن العلماء من استخرج عليهما معا في كتاب واحد، كأبي بكر بن عبدان الشيرازي، المتوفى "388"1.
حكم الرواية عن الكتب المستخرجة:
لم يلتزم واحد من هؤلاء الأئمة موافقة الكتاب الأصلي في ألفاظ الحديث؛ لأنهم إنما يروون بالألفاظ، التي وقعت لهم عن شيوخهم، فحصل فيها تفاوت قليل في الألفاظ، وتفاوت أقل منه في المعاني، فلا يجوز لمن ينقل عن أحد هذه الكتب المستخرجة حديثا، ثم ينسبه إلى الصحيحين مثلا، ويقول هو هكذا فيهما، إلا أن يقابله بهما، أو يكون صاحب الكتاب المستخرج، قد صرح بأنه استخرجه بلفظه كأن يقول أخرجه البخاري بلفظه.
فوائد المستخرجات: فوائدها كثيرة منها:
1-
ما يقع فيها من زيادات في الأحاديث، لم تكن بالأصل وإنما وقعت لهم تلك الزيادات؛ لأنهم لم يلتزموا إيراد ألفاظ الأصل، بل الألفاظ التي وقعت لهم بالرواية عن شيوخهم.
1 وقد استخرج محمد بن عبد الملك بن أيمن على سنن أبي داود.
وأبو علي الطوسي على الترمذي، وأبو نعيم على التوحيد لابن خزيمة. وأملى الحافظ، أبو الفضل العراقي على المستدرك مستخرجا لم يكمل -انظر التدريب ص35.
2-
علو الإسناد؛ لأن صاحب المستخرج لو روى الحديث من طريق صاحب الأصل، لوقع أنزل من الطريق الذي يرويه به في المستخرج.
3-
تقوية الحديث بكثرة الطرق، وربما ساق له طرقا أخرى إلى الصحابي، بعد فراغه من استخراجه كما يصنع أبو عوانة.
4-
أن يكون صاحب الأصل قد روى عمن اختلط، ولم يبين أن السماع منه كان قبل الاختلاط، أو بعده فيبينه المستخرج صريحا، أو بالرواية عمن لم يسمع منه، إلا قبل الاختلاط.
5-
أن يروي صاحب الأصل عن مدلس بالعنعنة، فيرويه صاحب المستخرج مع التصريح بالسماع، أو نحوه.
6-
أن يروي صاحب الأصل الحديث عن مبهم، كحدثنا رجل أو غير واحد فيعينه المستخرج.
7-
أن يروي صاحب الأصل، عن مهمل كحدثنا محمد من غير ذكر ما يميزه عن غيره من المحمدين، فيميزه المستخرج.
8-
أن يكون في الأصل حديث مخالف لقاعدة اللغة العربية، يتكلف لتوجيهه، ويتحمل لتخريجه، فيجيء من رواية المستخرج على القاعدة، فيعرف بأنه هو الصحيح، وأن الذي في الأصل قد وقع فيه الوهم من الرواة.
9-
قال العلامة ابن حجر: "وكل علة أعل بها الحديث في أحد الصحيحين، وجاءت رواية المستخرج سالمة منها، فهي من فوائده وذلك كثير جدا". ا. هـ.
حكم الزيادة الواقعة في الكتب المستخرجة على الصحيحين:
ذهب الحافظ ابن الصلاح في مقدمته عند الكلام على فوائد الكتب المستخرجة: إلى أن الزيادة الواقعة في المستخرجات لها حكم الصحيح
لأنها واردة بالأسانيد الثابتة في الصحيحين، أو أحدهما وخارجة من ذلك المخرج الثابت، وقد تعقبه الحافظ ابن حجر فقال:"هذا مسلم في الرجل، الذي التقى فيه إسناد المستخرج، وإسناد مصنف الأصل، وفيمن بعده وأما من بين المستخرج، وبين ذلك الرجل فيحتاج إلى نقد؛ لأن المستخرج لم يلتزم الصحة في ذلك، وإنما جل قصده العلو، فإن حصل وقع على غرضه، فإن كان مع ذلك صحيحا، أو فيه زيادة فزيادة حسن حصلت اتفاقا، وإلا فليس ذلك همته". ا. هـ. وهذا بيان حسن.
ثم إن الكلام إنما هو في الزيادة، التي تقع تتمة لمحذوف في أحاديث الصحيحين، ونحو ذلك إما زيادة أحاديث بتمامها، فلا ريب أنها تتبع قوة السند، وضعفه فقد تكون صحيحة، وقد تكون حسنة أو ضعيفة، وقد وقع في مستخرج أبي عوانة أحاديث كثيرة زائدة على أصله من هذا النوع الأخير، وفيها الصحيح والحسن، والضعيف1.
المستدركات على الصحيحين:
الاستدراك في اصطلاح أهل الحديث، هو جمع الأحاديث التي تكون على شرط أحد المصنفين، ولم يخرجها في كتابه. ومعلوم مما تقدم أن الشيخين لم يستوعبا الصحيح في كتابيهما، ولا التزما ذلك، وأذن هناك أحاديث هي على شرطهما، أو على شرط أحدهما لم يخرجاها في كتابيهما، وقد عني العلماء بالاستدارك عليهما، وألفوا في ذلك المصنفات، وأطلقوا عليها اسم المستدركات، ومن أهم هذه المستدركات.
1 انظر. تدريب الراوي ص33-34. كشف الظنون جـ1 ص286، توجيه النظر ص142، وما بعدها. الرسالة المستطرفة للكتاني ص21، وما بعدها.
1-
المستدرك لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه، الحاكم النيسابوري المتوفى سنة "405"، أودعه من الأحاديث ما هو على شرط الشيخين، أو شرط أحدهما، ولكن لم يخرجاه في كتابيهما، وما أدى اجتهاده إلى تصحيحه، وإن لم يكن على شرط واحد منهما. وهو ينبه على القسم الأول بقوله: هذا حديث على شرط الشيخين، أو على شرط البخاري، أو على شرط مسلم، وعلى القسم الثاني بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد، وقد يورد فيه ما لم يصح عنده منبها على ذلك، وهو متساهل في التصحيح. وقد لخص1 المستدرك الحافظ الذهبي، المتوفى "748"، وتعقب كثيرا منه ببيان ضعفه، أو نكارته ووضعه وجمع جزءا في الأحاديث الموضوعة، التي وجدت فيه فبلغت نحو مائة حديث، وذكر له ابن الجوزي في موضوعاته، نحو ستين حديثا أيضا. وقد تطرف أبو سعد الماليني، فحكم بأنه ليس في المستدرك حديث على شرط الشيخين، ورد عليه الذهبي ذلك بأن فيه جملة وافرة على شرطهما، وأخرى كبيرة على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب، وفيه نحو الربع مما صح سنده وإن كان فيه علة، وما بقي وهو نحو الربع فهو مناكير وواهيات لا تصح، وفي بعض ذلك موضوعات. ا. هـ.
هذا وقد اعتذر الحافظ ابن حجر، عن التساهل الواقع في مستدرك الحاكم، فقال: إنما وقع للحاكم التساهل؛ لأنه سود الكتاب لينقحه فعاجلته منيته، ولم يتيسر له تحريره وتنقيحه، قال: وقد وجدت قريبا من نصف الجزء الثاني من تجزئة ستة من المستدرك: "إلى هنا انتهى إملاء الحاكم"، وما عدا ذلك من الكتاب لا يؤخذ عنه إلا بطريق الإجازة،
1 وقد طبع الكتابان في حيدر آباد بالهند.
والتساهل في القدر المملى قليل جدا بالنسبة إلى ما بعده. ا. هـ وكثير من المحدثين على أن ما انفرد بتصحيحه الحاكم في المستدك، عن أئمة الحديث يبحث عنه، ويحكم عليه بما يليق بحاله من الصحة، أو الحسن أو الضعف.
2-
كتاب الإلزامات لأبي الحسن علي بن عمر بن أحمد الدارقطني، البغدادي أمير المؤمنين في الحديث المتوفى سنة "385". جمع فيه ما وجده على شرط الشيخين من الأحاديث، وليس بمذكور في كتابيهما، وألزمهما ذكره -وهو غير لازم كما تقدم لك- ورتبه على المسانيد في مجلد لطيف.
3-
المستدرك على الصحيحين، للحافظ أبي ذر عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، الأنصاري الهروي، نزيل مكة صاحب التصانيف الكثيرة، المتوفى سنة "434"، وهو كالمستخرج على كتاب الدارقطني1.
سنن النسائي:
صنف النسائي كتاب السنن الكبرى، مشتملا على الصحيح، والمعلول ثم اختصره في كتاب السنن الصغرى، وسماه "المجتبى"، وهو صحيح عند النسائي جاء عنه أنه قال:"كتاب السنن كله صحيح، وبعضه معلول والمنتخب المسمى بالمجتبى صحيح كله"2، قالوا: أنه لما صنف السنن الكبرى أهداها إلى أمير الرملة، فقال له: أكل ما في هذا صحيح قال: لا.
1 انظر تدريب الراوي ص31. مفتاح السنة ص72، الباعث الحثيث ص15 وما بعدها، الرسالة المستطرفة ص17-19.
2 هكذا نقل عنه، ولعله يريد كله صحيح متنا، وبعض أسانيده معلول؛ لأنه لا يلزم من صحة المتن صحة السند.
قال: فجرد الصحيح منه فصنف له المجتبى، وإذا نسب إلى النسائي حديث، فإنما يعنون روايته في السنن الصغرى المسماة بالمجتبى.
وكتاب المجتبى أقل السنن حديث ضعيفا، ورجلا مجروحا ودرجته في الحديث بعد الصحيحين، فهو مقدم على سنن أبي داود، وسنن الترمذي؛ لأن النسائي يمتاز عنهما بشدة تحريه في الرجال، حتى قيل: إنه كان أحفظ من مسلم بن الحجاج.
شرط النسائي في سننه الصغرى:
قدمنا لك عن الحازمي أن أبا داود، والنسائي يخرجان من أحاديث الطبقة الأولى والثانية، والثالثة ولا يتجاوزانها إلى الرابعة في الأصول بخلاف المتابعات، والشواهد، غير أن سنن النسائي تقدم على سنن أبي داود، لتحري مؤلفه واحتياطه في أمر الرجال، وفصحه الشديد عن حال الرواة، وتركه لكثير ممن روى عنه أبو داود والترمذي. قال الحافظ ابن حجر:"كم من رجل أخرج له أبو داود، والترمذي تجنب النسائي إخراج حديثه، بل تجنب النسائي إخراج حديث جماعة من رجال الصحيحين". ا. هـ.
وقال الحافظ أحمد بن نصر شيخ الدارقطني: "من يصبر على ما يصبر عليه النسائي، كان عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة، فما حدث عنه بشيء"، قال ابن حجر:"وكان عنده عاليا عن قتيبة عنه، ولم يحدث به لا في السنن، ولا في غيرها"، وبالجملة فشرط النسائي في المجتبى، هو أقوى الشرط بعد الصحيحين مما جعله عظيما في نظر أهل العلم.
شروح المجتبى:
شرح جلال الدين السيوطي المتوفى سنة "911" في كتاب مختصر، سماه زهر الربى على المجتبى، وشرحه أيضا محمد
ابن عبد الهادي السندي المتوفى سنة "1138"، قال في مقدمته:"وبعد فهذا تعليق لطيف على سنن الإمام الحافظ، أبي عبد الرحمن النسائي، رحمه الله تعالى يقصتر على حل ما يحتاج إليه القارئ، والمدرس من ضبط اللفظ، وإيضاح الغريب والإعراب"، والمجتبى مع شرحيه المذكورين مطبوع الآن1.
سنن أبي داود:
انتقى أبو داود رحمه الله سننه من خمسمائة ألف حديث، فبلغت أربعة آلاف وثمانمائة حديث كلها في الأحكام وأكثرها مشاهير، وكان رحمه الله أفقه الأئمة الستة بعد البخاري. لذلك جاء كتابه هذا كتابا حافلا جامعا لأبواب الفقه، وللأحاديث التي استدل بها فقهاء الأمصار، وبنوا عليها الأحكام حتى قالوا:"إنها تكفي المجتهد بعد كتاب الله تعالى"، وقد أجاد رحمه الله إجادة تامة في التراجم على الأحاديث، مما يدل على كمال إحاطته بمذاهب العلماء، ومعرفته بمسالكهم في الاستدلال، فإنه ترجم على كل حديث، بما استنبط منه عالم أو ذهب إليه ذاهب. لذلك اشتهر هذا الكتاب بين الفقهاء اشتهارا عظيما، لجمعه أحاديث الأحكام.
قال الإمام أبو سليمان الخطابي، المتوفى سنة "328" في كتاب معالم السنن: "اعلموا رحمكم الله تعالى أن كتاب السنن لأبي داود، كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله، وقد رزق القبول من كافة الناس، فصار حكما بين فرق العلماء، وطبقات الفقهاء على اختلاف
1 مقدمة السيوطي لشرحه على سنن النسائي، ومقدمة السندي لشرحه أيضا، ومفتاح السنة ص79-80، وكشف الظنون جـ1 ص479، وشروط الأئمة الستة لابن طاهر. وتدريب الراوي ص30.
مذاهبهم فلكل منه ورد، ومنه شرب وعليه معول أهل العراق، وأهل مصر وبلاد المغرب، وكثير من أقطار الأرض. فأما أهل خراسان، فقد أولع أكثرهم بكتاب محمد بن إسماعيل، ومسلم بن الحجاج ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاء. إلا أن كتاب أبي داود أحسن وضعا، وأكثر فقها، وكتاب أبي عيسى كتاب حسن، والله يغفر لجماعاتهم، ويحسن على جميل النية، فيما سعوا له مثوبتهم برحمته". ا. هـ.
شرطه ودرجة أحاديثه: قال الإمام الحافظ، أبو عمرو بن الصلاح، المتوفى سنة "642"1 في مقدمته ما نصه:"ومن مظانه -يعني الحديث الحسن- سنن أبي داود السجساني، رحمه الله روينا عنه أنه قال: ذكرت فيه الصحيح، وما يشبهه ويقاربه، وروينا عنهأيضا ما معناه أنه يذكر في كل باب أصح ما عرفه في ذلك الباب، وقال: ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد، فقه بينته، وما لم أذكر فيه شيئا، فهو صالح وبعضها أصح من بعض. قال ابن الصلاح: فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكورا مطلقا، وليس في واحد من الصحيحين، ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح، والحسن عرفنا بأنه من الحسن عند أبي داود، وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عنده، ولا مندرج فيما حققنا ضبط الحسن به. إذ حكى أبو عبد الله بن منده، الحافظ أنه سمع محمد بن سعد الباوردي بمصر يقول: كان من مذهب أبي عبد الرحمن النسائي، أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه2. قال ابن منده: وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه، ويخرج الإسناد الضعيف، إذا لم يجد في الباب غيره؛ لأنه أقوى عنده من رأي الرجال". ا. هـ.
1 ص18.
2 المراد في سننه الكبرى، أما الصغرى فقد تقدم لك الكلام على شرطه فيها.
وقال السيوطي في التدريب: "فعلى ما نقل عن أبي داود، يحتمل أن يريد بقوله "صالح" الصالح لاعتبار دون الاحتجاج، فيشمل الضعيف أيضًا. لكن ذكر ابن كثير أنه روى عنه: "وما سكت عنه فهو حسن"، فإن صح ذلك فلا إشكال"1 ا. هـ.
هذا، وكلام أبي داود فيما يتعلق بكتابه -وقد نقل ابن الصلاح بعضه- مأخوذ من رسالته إلى أهل مكة، ونحن ننقل لك شيئا منها.
قال: "إنكم سألتموني أن أذكر لكم الأحاديث، التي في كتاب السنن أهي أصح ما عرفت في الباب. فاعلموا أنه كله كذلك، إلا أن يكون قد روي من وجهين أحدهما أقوم إسنادا والآخر أقوم في الحفظ فربما كتبت ذلك، ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث ولم أكتب في الباب إلا حديثا، أو حديثين وإن كان في الباب أحاديث صحاح، فإنها تكثر وإنما أردت قرب منفعته فإذا أعدت الحديث في الباب من وجهين، أو ثلاثة فإنما هو من زيادة كلام فيه، وإنما تكون فيه كلمة زائدة على الأحاديث، وربما اختصرت الحديث الطويل؛ لأني لو كتبته بطوله لم يعلم بعض من يسمعه المراد منه، ولا يفهم موضع الفقه منه فاختصرته لذلك، وأما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى، مثل سفيان الثوري، ومالك، والأوزاعي حتى جاء الشافعي، فتكلم فيها وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل، وغيره.
فإذا لم يكن مسند غير المراسيل، فالمرسل يحتج به، وليس هو مثل المتصل في القوة، وليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء، فإذا كان فيه حديث منكر بينته أنه منكر، وليس على نحوه في الباب غيره. وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد، فقد بينته ومنه ما لا يصح سنده، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من
1 ص55.
بعض وهو كتاب لا ترد عليك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ألا وهي فيه ولا أعلم شيئا بعد القرآن، ألزم للناس أن يتعلموه من هذا الكتاب، ولا يضر رجلا، إلا يكتب من العلم شيئا بعد ما يكتب هذا الكتاب، وإذا نظر فيه وتدبره، وتفهمه حينئذ يعلم مقداره، وأما هذه المسائل مسائل الثوري، ومالك والشافعي فهذه الأحاديث أصولا. والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئا من الأحاديث، إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس، فالحديث المشهور المتصل الصحيح، ليس يقدر أن يرده عليك أحد، وأما الحديث الغريب، فإنه لا يحتج به ولو كان من رواية الثقات من أئمة العلم. قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الغريب من الحديث، وقال يزيد بن أبي حبيب: إذا سمعت الحديث فأنشده كما تنشد الضالة، فإن عرف وإلا فدعه، ولم أصنف في كتاب السنن إلا الحكام، فهذه أربعة آلاف، وثمانمائة كلها في الأحكام، فأما أحاديث كثيرة في الزهد والفضائل، وغيرها فلم أخرجها والسلام عليكم". ا. هـ.
شروحه ومختصراته: شرح السنن كثير من العلماء، منهم الإمام أبو سليمان الخطابي، المتوفى سنة "328" في كتابه معالم السنن في مجلدين، وقطب الدين أبو بكر، اليمني الشافعي، المتوفى سنة "652" في أربع مجلدات كبار، وشهاب الدين الرملي، المتوفى سنة "848" وغيرهم.
واختصرها الحافظ عبد العظيم، المنذري صاحب الترغيب، والترهيب المتوفى سنة "656"، وهذب المختصر ابن قيم الجوزية المتوفى سنة "751"، ذكر فيه أن الحافظ المنذري، قد أحسن في اختصاره، فهذبته نحو ما هذب هو به الأصل، وزدت عليه من الكلام على علل سكت عنها، إذ لم يكملها
وتصحيح أحاديثه والكلام على متون مشكلة لم يفتح معضلها، وقد بسطت الكلام على مواضع لعل الناظر لا يجدها في كتاب سواه1.
الجامع لأبي عيسى الترمذي:
اشتهر هذا الكتاب بجامع الترمذي، ويقال له: السنن أيضا والأول هو الأكثر على ما ذكره صاحب كشف الظنون "1-288"، ألف الترمذي جامعه على أبواب الفقه، وغيره وأودعه الصحيح، والحسن والضعيف مبينا درجة كل حديث في موضعه من الكتاب، مع بيان وجه الضعف، كما بين مذاهب الصحابة، والتابعين وفقهاء الأمصار، واختصر طرق الحديث، فذكر واحدا وأشار إلى ما عداه، وجعل في آخره كتابا للعلل جمع فيه فوائد هامة، لذلك جاء كتابه فذا في بابه، ففيه من الفوائد الفقهية، والحديثية ما ليس في غيره.
قال أبو عيسى الترمذي، رحمه الله:"عرضت هذا الكتاب على علماء الحجاز والعراق، وخراسان فرضوا به واستحسنوه، ومن كان في بيته، فكأنما النبي في بيته يتكلم"، وقال: ما أخرجت في كتابي هذا، إلا حديثا عمل به بعض الفقهاء سوى حديث:"فإن شرب في الرابعة فاقتلوه"، وحديث:"جمع بين الظهر والعصر بالمدينة من غير خوف ولا سفر". ا. هـ.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي، المتوفى سنة "795" في شرح علل الترمذي: "وقد اعترض على الترمذي بأنه في غالب الأبواب، يبدأ بالأحاديث الغريبة الإسناد غالبا. وليس ذلك بعيب؛ لأنه رحمه الله يبين ما فيها من العلل، ثم يبين الصحيح في الإسناد، وكأن قصده رحمه الله ذكر العلل، ولهذا نجد النسائي إذا استوعب طرق الحديث بدأ بما هو غلط
1 كشف الظنون جـ1 ص478، مفتاح السنة 86.
ثم يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له، وأما أبو داود فكانت عنايته بالمتون أكثر، ولهذا يذكر الطرق واختلاف ألفاظها، والزيادات المذكورة في بعضها دون بعض فكانت عنايته بفقه الحديث أكثر من عنايته بالأسانيد، فلهذا يبدأ بالصحيح من الأسانيد، وربما لم يذكر الإسناد المعلل بالكلية"1. ا. هـ.
وقال ابن الصلاح في مقدمته: "كتاب أبي عيسى الترمذي، أصل في معرفة الحديث الحسن، وهو الذي نوه باسمه، وأكثر من ذكره في جامعه، ويوجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه، والطبقة التي قبله كأحمد بن حنبل، والبخاري، وغيرهما وتختلف النسخ من كتاب الترمذي في قوله "هذا حديث حسن"، أو "هذا حديث حسن صحيح"، فينبغي أن تصحح أصلك به بجماعة أصول، وتعتمد على ما اتفقت عليه". ا. هـ2.
وبالجملة فجامع الترمذي كتاب جليل القدر عظيم الفوائد.
درجة أحاديثه:
قال الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي: "اعلم أن الترمذي خرج في كتابه الحديث الصحيح، والحديث الحسن، وهو ما نزل عن درجة الصحيح، وكان فيه بعض ضعف، والحديث الغريب، والغرائب التي خرجها فيها بعض المناكير، ولا سيما في كتاب الفضائل، ولكنه يبين ذلك غالبا، ولا يسكت عنه، ولا أعلم أنه خرج عن متهم بالكذب، متفق على إتهامه: حديثا بإسناد منفرد إلا أنه قد يخرج حديثا مرويا من طرق، أو مختلفا في إسناده وفي بعض طرقه متهم، وعلى هذا الوجه: خرج حديث محمد بن سعيد المصلوب، ومحمد بن السائب
1 شروط الأئمة الخمسة ص44 من تعليقات الشيخ، زاهد الكوثري.
2 ص17، 18.
الكلبي نعم قد يخرج عن سيئ الحفظ، وعمن غلب على حديث الوهن، ويبين ذلك غالبا ولا يسكت عنه". ا. هـ1.
مقارنة بين جامع الترمذي، وسنن أبي داود والنسائي:
قال أبو جعفر بن الزبير: "لأبي داود في حصر أحاديث الأحكام واستيفائها ما ليس لغيره، وللترمذي في فنون الصناعة الحديثية ما لم يشاركه غيره، وقد سلك النسائي أغمض تلك المسالك، وأجلها". ا. هـ.
وقال الحافظ الذهبي: "انحطت رتبة جامع الترمذي، عن سنن أبي داود والنسائي لإخراجه حديث المصلوب، والكلبي وأمثالهما". ا. هـ2. وأفاد الحازمي في شروط الأئمة الخمسة، أن أبا داود والنسائي لا يجاوزان الطبقة الثالثة في الأصول، وأن أبا عيسى الترمذي لا يجاوز الطبقة الرابعة. ثم قال: "وفي الحقيقة شرط الترمذي أبلغ من شرط أبي داود؛ لأن الحديث إذا كان ضعيفا، أو مطلعه من حديث أهل الطبقة الرابعة، فإنه يبين ضعفه وينبه عليه فيصير الحديث عنده من باب الشواهد، والمتابعات ويكون اعتماده على ما صح عند الجماعة، وعلى الجملة فكتابه مشتمل على هذا الفن، فلهذا جلعنا شرطه دون شرط أبي دود". ا. هـ3.
شروحه: شرح جامع الترمذي كثير من العلماء منهم
1-
أبو بكر بن العربي، المتوفى سنة "546"، وسمي شرحه:"عارضة الأحوذي في شرح الترمذي"، وهو مطبوع بمصر الآن في ثلاثة عشر جزءا، إلا أنه غير مصحح فكان فيه خطأ كثير.
2-
الحافظ أبو الفتح محمد
1 ص54 من تعليقات الشيخ زاهد الكوثري على شروط الأئمة الخمسة للحازمي.
2 انظر التدريب ص56.
3 ص44.
ابن محمد بن سيد الناس اليعمري، المتوفى سنة "734" بلغ فيه إلى أقل من ثلثي الجامع في نحو عشرة مجلدات، ولم يتمه ثم أكمله الحافظ زين الدين بن عبد الرحيم بن حسين العراقي المتوفى سنة "806".
3-
سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني، المتوفى سنة "805"، وسماه "العرف الشذي على جامع الترمذي"، كتب منه قطعة ولم يكمله.
4-
جلال الدين السيوطي، وسماه "قوت المغتذي على جامع الترمذي".
5-
الحافظ زين الدين بن عبد الرحمن بن أحمد بن رجب، الحنبلي المتوفى سنة "795".
6-
الشيخ أبو الحسن بن عبد الهادي السندي، المتوفى سنة "1139"1.
سنن ابن ماجه القزويني:
المتقدمون من أهل الحديث، وكثير من محققي المتأخرين عدوا أصول كتب الحديث خمسة: الصحيحين وسنن النسائي، وأبي داود والترمذي، وخالفهم بعض المتأخرين، فعد الأصول ستة بإضافة سنن ابن ماجه إلى الخمسة المذكورة، وذلك؛ لأنهم رأوا كتابه مفيدا عظيم النفع في الفقه، وأول من أضافه إلى الخمسة الحافظ أبو الفضل بن طاهر المقدسي، المتوفى سنة "507" في أطراف الكتب الستة له، وكذلك في كتابه شروط الأئمة الستة، ثم الحافظ عبد الغني المقدسي في كتابه الإكمال في أسماء الرجال -أي رجال الكتب الستة، وهو الذي هذبه الحافظ المزي، وتبعهما على ذلك أصحاب الأطراف والرجال، ولما كان ابن ماجه قد أخرج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب، وسرقة الأحاديث قال بعضهم: ينبغي أن يجعل السادس كتاب الدارمي، فإنه قليل الرجال
1 انظر كشف الظنون جـ1 ص288.
الضعفاء نادر الأحاديث المنكرة والشاذة، وإن كانت فيه أحاديث مرسلة وموقوفة، فهو مع ذلك أولى منه، وجعل آخرون الموطأ هو السادس لصحته وجلالته كرزين السرقسطي، المتوفى سنة "535" في كتابه تجريد الصحاح، وتبعه ابن الأثير في جامع الأصول وكذا غيره.
هذا وسن ابن ماجه مصنف على الأبواب كالسنن الثلاثة السابقة، وهو دونها في الدرجة إذ المشهور أن ما انفرد به، يكون ضعيفا إلا أن هذا ليس على عمومه، فقد قال الحافظ ابن حجر:"إنه انفرد بأحاديث كثيرة، وهي صحيحة فالأولى حمل الضعيف على الرجال، وقد ألف الحافظ أحمد بن أبي بكر البوصيري كتابا في زوائده على الخمسة، نبه فيه على غالبها".
قال السيوطي في شرحه على مجتبى النسائي، المسمى بزهر الربى:
"إن كتاب ابن ماجه قد تفرد فيه بإخراج أحاديث، عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث. وبعض تلك الأحاديث، لا تعرف إلا من جهتهم مثل حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك، والعلاء بن زيد وداود بن المحبر، وعبد الوهاب بن الضحاك، وإسماعيل بن زياد الكوفي، وعبد السلام بن يحيى بن أبي الجنوب، وغيرهم.
قال: وأما ما حكاه ابن طاهر، عن أبي زرعة الرازي أنه نظر فيه فقال: لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا، مما فيه ضعف فهي حكاية لا تصح لانقطاع سندها. وإن كانت محفوظة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة للغاية، أو كان ما رأى من الكتاب إلا جزءا منه فيه هذا القدر، وقد حكم أبو زرعة على أحاديث كثيرة منه بكونها باطة، أو ساقطة أو منكرة، وذلك محكي في كتاب العلل لأبي حاتم. ا. هـ وقال الذهبي:
"قد كان ابن ماجه حافظا صدوقا، واسع العلم وإنما غض من رتبة سننه ما في الكتاب من المناكير، وقليل من الموضوعات"
شروحه: هي كثيرة منها:
1-
شرح محمد بن موسى الدميري المتوفى سنة "808"، وشرحه يسمى "الديباجة" في خمسة مجلدات، ومات قبل تحريره.
2-
شرح جلال الدين السيوطي، وشرحه يسمى "مصباح الزجاجه على سنن ابن ماجه".
3-
شرح إبراهيم بن محمد الحلبي المتوفى سنة "841".
4-
شرح السندي، وهو مطبوع1.
1 انظر مقدمة السندي لشرح سنن ابن ماجه -مقدمة السيوطي لشرح سنن النسائي، وشروط الأئمة الستة ص16-17، الرسالة المستطرفة ص10-11، توجيه النظر ص153، مفتاح السنة ص101 كشف الظنون جـ1 ص477- قواعد التحديث ص233.