الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدور الخامس: السنة في القرن الثالث
المبحث الأول: النزاع بين المتكلمين وأهل الحديث وأثر ذلك في الحديث
…
الدور الخامس: السنة في القرن الثالث
ويشتمل هذا الدور على أربعة مباحث:
المبحث الأول: النزاع بين المتكلمين، والمحدثين، وأثر ذلك في الحديث.
المبحث الثاني: نشاط أهل الأهواء وغيرهم في وضع الأحاديث.
المبحث الثالث: تراج لبعض أعلام المحدثين في هذا العصر.
المبحث الرابع: نهضة علماء الحديث بتدوين السنة.
المبحث الأول: النزاع بين المتكلمين، وأهل الحديث وأثر ذلك في الحديث
كان أول ما نشأ الخلاف بين أهل الحديث، وأصحاب الكلام الذين حكموا عقولهم في أصول الدين، وعقائده بمدينة البصرة عندما اعتزل واصل بن عطاء المتوفى سنة 131، أستاذه الحسن البصري، وأخذ يقرر أصولا ليست على مذهب الحسن وغيره من السلف، ومن هذا الوقت سمي أتباع واصل بالمعتزلة، وقد ظهر من رءوس الاعتزال -بعد واصل هذا- عمرو بن عبيد "143"، ثم أبو الهذيل العلاف "235" والنظام "221"، وبشر المريسي "218"، وعمرو بن بحر الجاحظ "225"، وثمامة بن الأشرس، وغيرهم من أصحاب الآراء والأقوال.
كان أهل الكلام يخوضون في مسائل كثيرة من أصول الدين، التي خالفوا فيها الجمهور، وأهم تلك المسائل مسألتان:
إحداهما: أفعال العباد يقول المعتزلة: أن أفعال العباد مخلوقة لهم لا لله تعالى، ولهذا استحقوا عليها الثواب والعقاب، ويقول الجمهور: أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وليس للعباد فيها سوى جريانها على أيديهم بكسبهم واختيارهم.
والثانية: صفات الله تعالى يقوله المعتزلة: إن الله تعالى منزه عن ثبوت صفات قائمة بذاته، كالسمع والبصر والحياة والقدرة والكلام. أداهم إلى ذلك خوف تعدد القدماء. ويقول الجمهور: إن هذه الصفات من السمع، والبصر
…
إلخ قديمة قائمة بذاته تعالى ليست عين الذات ولا غيرها. وقد تفرع على هذا الخلاف في مسألة الصفات خلاف آخر في القرآن، الذي هو كلام الله تعالى أقديم هو؛ لأنه صفة لله جل علاه -وعليه الجمهور- أم حادث مخلوق ككل المخلوقات، فيخلق الله هذه الحروف والأصوات في جسم محدث، يسمعه النبي منه -وإلى ذلك ذهب المعتزلة- وكانوا يحكمون سلطان العقل، ويغلبونه في كثير من أبحاثهم في العقائد، والأحكام حتى أكسبهم ذلك جرأة على الأحاديث، إذا ما صادمت عقائدهم، فكان من السهل عليهم ردها إن لم يجدوا لها تأويلا، ولو كان بعيدا كل البعد، إلا أنه لم يتح للمتكلمين إظهار آرائهم في العامة قبل القرن الثالث، بل كانوا يخشون سلطا العامة أن تبطش بهم كما لم يكن أحد من الخلفاء يناصرهم لمخالفتهم الجمهور الأعظم من المسلمين، فلما جاء القرن الثالث، وقبض على زمام الخلافة المأمون "198-218"، وكان ميالا إلى حرية البحث، والمناظرة أفسح المجال أمام المتكلمين، فظهروا بآرائهم ومن ذلك الموت حديث أحداث عظيمة، وقامت معركة هائلة بينهم وبين المحدثين.
كان المأمون بطبعه ميالا إلى العلم شغوفا به، عالما بالكتاب والسنة
مع نباهة وذكاء عظيمين. سمع المأمون موطأ مالك واطلع على كثير من أقوال حكماء الفرس، وفلاسفة اليونان مما عني بترجمته المنصور والرشيد، ولما تولى الخلافة أمر بترجمة كثير من كتب الروم، وبذلك في ذلك الأموال الطائل، حتى أصبح عصره أزهى عصور العلم في خلافة بني العباس، إذ أقبلت الأمة على العلم بنهم كثير وشوق عظيم لا سيما، وقد وجدوا خليفتم يقدر العلم، ويرفع من شأن العلماء.
جاء المأمون فوجد العلماء فريقين متنافرين، ووجد الخلاف على أشده بين أهل الحديث، وأصحاب الكلام، فرأى أن يجمع العلماء من المتكلمين والفقهاء، وأصحاب الحديث، ويعقد لهم مجالس للمناظرة أملا في أن يتفقوا على رأي فيما يلقيه عليهم منالمسائل المختلف فيها، ثم يحمل الجميع على ما اتفقوا عليه، وبذلك تجتمع الأمة كلها على كلمة واحدة في الدين لا سيما فيما يرجع إلى العقائد، ومباحث الإمامة.
عقد المأمون المجالس للمناظرة، والمحاورة فكانت النتيجة أن كشفت المناظرات الكثيرة، والمناقشات الحادة التي كانت تدور بين يدي المأمون عن رأيه في بعض المسائل الخلافية، وأنه كان ينحاز إلى المعتزلة في بعض آرائهم لا كلها. وكان مما وافقهم عليه القول بخلق1 القرآن. وقد أعلن رأيه بذلك سنة 212هـ على زعم أنه إذا أعلن رأيه للعلماء وفقهاء الأمة، فإنهم يستجيبون لرأيه، ويرتضونه تبعا له. ولكن الأمر جاء على عكس ما كان ينتظره المأمون. قد تكلم الناس فيه ورموه بالابتداع، وتغالى بعضهم فحكم بكفر من يرى خلق القرآن، ومن هذا الحين أخذ الكلام بين المتكلمين، وأهل الحديث يقوى، والنزاع يشتد حتى جاء
1 أول من قال بخلق القرآن الجعد بن درهم في سنة نيف وعشرين ومائة، ثم جهم بن صفوان، ثم بشر بن غياث "تأنيث الخطيب ص53".
عام "218"، فرأى المأمون أنه إن لم يضرب على أيدي خصومه، فسينكشف أمره ويظهر أمام رعيته بمظهر التخاذل، فاستعمل سلطانه في رد أهل الحديث إلى رأيه.
محنة القول بخلق القرآن:
لما أخفق سعى المأمون في القضاء على الخلاف من طريق سلمي، قوامه المناظرة لإحقاق الحق أراد أن يرغم المحدثين، والفقهاء على قبول رأيه بخلق القرآن لا سيما بعد أن طعنوا فيه بالابتداع، فاستنفدت هذه المسألة جانبا كبيرًا من تفكيره ووقته حتى في أيام غزواته وحروبه مع الروم. ففي عام "218" بينما كان المأمون يغزو بلاد الروم، كتب إلى عامله على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي كتابا يقول فيه فيه "وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية، وسفلة العامة ممن لا نظر لهم، ولا روية، ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه.
أهل جهالة بالله وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه. وذلك أنهم ساووا بين الله وبين خلقه، وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه الله ويخترعه.
وقد قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ، وكل ما جعله الله فقد خلقه كما قال تعالى:{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} ، وقال:{نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} ، فأخبر أنه قص لأمور أحدثه بعدها وقال:{أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَت} ، والله محكم كتابه ومفصله، فهو خالقه ومبتدعة، ثم انتسبوا إلى السنة وأنهم أهل الحق والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر، فاستطالوا بذلك وغروا به الجهال حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب في التخشع لغير الله إلى موافقتهم فنزعوا الحق
إلى باطلهم واتخذوا دين الله وليجة إلى ضلالهم -ثم أخذ يصفهم بأنهم شر الأمة وإخوان إبليس- ثم قال لعامله فاجمع من بحضرتك من القضاة، فاقرأ عليهم كتابنا وامتحنهم فيما يقولون، واكشفهم عا يعتقدون في خلقه وأحداثه، وأعلمهم أني غير مستعين في عملي ولا أوثق من لا يوثق بدينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود، ومسألتهم عن علمهم في القرآن وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق، واكتب إلينا بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك، ثم وردت من المأمون عدة كتب إلى عامله يأمره فيها بامتحان أهل الحديث في مسألة خلق القرآن، وفي بعضها يقول له:"فمن لم يجب أنه مخلوق فامنعه من الفتوى والرواية"، كما أمر عامله بقتل من لم يقل بخلق القرآن، ولم يكتف المأمون بذلك، بل أنفذ وصيته إلى أخيه المعتصم بالسير على طريقته في مسألة خلق القرآن، ومع أن المعتصم لم يكن على جانب عظيم في العلم، كما كان المأمون إلا أن رغبته في تنفيذ وصية أخيه، واستعداء المعتزلة له على أهل السنة جعله يشتد في المحنة، فكتب إلى البلاد بامتحان الناس في مسألة القرآن، وأمر المعلمين أن يعلموا الصبيان أن القرآن مخلوق، وقتل في ذلك خلقا من العلماء، وأهان كثيرا من أهل الحديث لا سيما الإمام أحمد بن حنبل، الذي أصر على امتناعه من القول بخلق القرآن، واستمرت المحنة إلى أن مات المعتصم سنة 227، ولما تولى ابنه الواثق الخلافة أحيا الفتنة، وأقام سوق المحنة.
وفي سنة 231 أصدر أمره إلى أمير البصرة بامتحان الأئمة، والمؤذنين بخلق القرآن. وأظهر الغلظة لمن يقول بخلاف رأيه بل قتل في ذلك بعض أهل الحديث.
رجوع الواثق عن المحنة:
اشتد الواثق في مسألة خلق القرآن كثيرا، وساعده على ذلك وزيره أحمد بن أبي دؤاد، وكان من رءوس الاعتزال حتى إن أحمد هذا كان يقول:"من قال من الأسارى القرآن مخلوق خلصوه، وأعطوه دينارين ومن امتنع دعوه في الأسر"، قال الخطيب: كان أحمد بن أبي دؤاد قد استولى على الواثق، وحمله على التشدد في المحنة، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن، واستمر على ذلك حتى مل الواثق المحنة وسئمتها نفسه، فرجع عنها في آخر عمره. هذا أبو عبد الرحمن بن محمد الأذرمي، شيخ أبي داود والنسائي يحمل مكبلا بالحديد من بلاده إلى الواثق، فسأله ابن أبي دؤاد في مجلس الواثق عن قوله في القرآن، فقال له الشيخ: هذا الذي تقوله يا ابن أبي دؤاد من خلق القرآن شيء علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، أو جهلوه فقال: بل علموه. قال: فهل دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت أو سكتوا فقال: بل سكتوا. قال: فهلا وسعك ما وسعهم من السكوت، فبهتوا وضحك الواثق، وقام قابضا على فمه وهو يقول: هلا وسعك ما وسعهم ويكررها. ثم أمر أن يعطى الرجل ثلثمائة دينار، ويرد إلى بلده ولم يمتحن أحدا بعدها، وسخط على ابن أبي دؤاد من يومئذ.
المتوكل يأمر برفع المحنة، وينتصر لأهل الحديث:
ولما ولي المتوكل على الله بن المعتصم الخلافة بعد الخلافة بعد أخيه الواثق سنة "232"، أظهر ميلا عظيما إلى السنة، فرفع المحنة وكتب بذلك إلى الآفاق واستقدم المحدثين إلى "سامرا"، وأجزل عطاياهم وأكرمهم، وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤيا. وجلس أبو بكر بن شيبة في جامع
الرصافة، فاجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس، وجلس أخوه عثمان في جامع المنصور، فاجتمع إليه أيضا نحو من ثلاثين ألف نفس، وتوفر دعاء الخلق للمتوكل وبالغوا في الثناء عليه، وتعظيمه حتى قيل: الخلفاء ثلاثة، أبو بكر الصديق في قت أهل الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم، والمتوكل في إحياء السنة، وإماتة التجهم1.
انتقاص أهل الكلام لأهل الحديث:
هذا، ولم يقف المعتزلة عند هذا الحد من إغراء الخلفاء بأهل الحديث، بل أطلقوا ألسنتهم بالسوء، وأخذوا يقبحون أهل الحديث، ويعيبون عليهم طريقتهم، ويحطون من قدرهم، ويرمونهم بالعي والفهاهة، وكل نقيصة.
انظر إلى ابن قتيبة أحد علماء القرن الثالث، كيف يصور لنا ما كانوا يرمون به أهل الحديث من شناعات. قال رحمه الله في مقدمة كتابه:
"تاويل مختلف الحديث"، الذي ألفه في الرد على أعداء الحديث:"أما بعد أسعدك الله تعالى بطاعته وحاطك بكلاءته ووفقك للحق برحمته، وجعلك من أهله فإنك كتبت إلي تعلمني ما وقفت عليه من ثلب أهل الكلام أهل الحديث، وامتهانهم وإسهابهم في الكتب بذمهم، ورميهم بحمل الكذب، ورواية المتناقض حتى وقع الخلاف، وكثرت النحل وتقطعت العصم، وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضا، وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث. فالخوارج تحتج بروايتهم: "ضعوا سيوفكم على عواتقكم، ثم أبيدوا خضراءهم"، "ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم"، "ومن قتل دون ماله فهو شهيد"، والقاعد
1 انظر البداية والنهاية لابن كثير جـ10 ص272، وما بعدها -تاريخ الخلفاء للسيوطي ص204، وتاريخ الأمم الإسلامية للخضري ص279.
يحتج بروايتهم، "عليكم بالجماعة فإن يد الله عز وجل عليها"، "ومن خالف الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" و "اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف"، "وصلوا خلف كل بر وفاجر"، "لا بد من إمام بر أو فاجر"، "وكن حلس بيتك فإن دخل عليك، فادخل مخدعك فإن دخل عليك فقل بئر بإثمي وإثمك"، و "كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل"، وقد أفاض الإمام ابن قتيبة في نقل كثير من ذلك عنهم ثم قال:
هذا مع روايات كثيرة في الأحكام اختلف لها الفقهاء في الفتيا، حتى اختلف الحجازيون، والعراقيون في أكثر أبواب الفقه، وكل يبنى على أصل من روايتهم ومع روايتهم كل سخافة تبعث على الإسلام الطاعنين، وتضحك منه الملحدين وتزهد في الدخول فيه المرتادين، وتزيد في شكوك المرتابين.
كروايتهم في عجيزة الحوراء أنها ميل في ميل. ويمن قرأ سورة كذا ومن فعل كذا أسكن من الجنة سبعين ألف قصر في كل قصر سبعون ألف مقصورة في كل مقصورة سبعون ألف مهاد، على كل مهاد سبعون ألف كذا. وكروايتهم في الفأرة أنها يهودية، وأنها لا تشرب ألبان الإبل كما أن اليهود لا تشربها، قالوا: ومن عجيب شأنهم أنهم ينسبون الشيخ إلى الكذب، ولا يكتبون عنه ما يوافقه عليه المحدثون بقدح يحيى بن معين، وعلي بن المديني وأشباههما ويحتجون بحديث أبي هريرة فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة، وقد أكذبه عمر وعثمان، وعائشة وقالوا: لا ندع كتاب ربنا، وسنة نبينا لقول امرأة، ويبهرجون الرجل بالقدر، ولا يحملون عنه كغيلان، وعمرو بن عبيد ومعبد الجهني وعمرو بن فائد، ويحملون عن أمثالهم من أهل مقالتهم كقتادة، وابن أبي عروبة وابن أبي نجيح، ومحمد بن المنكدر وابن
أبي ذئب، ويقدحون في الشيخ يسوى بين علي وعثمان، أو يقدم عليا عليه ويروون عن أبي الطفيل عامل بن واثلة صاحب راية المختار، وعن جابر الجعفي وكلاهما يقول بالرجعة. قالوا: وهم مع هذا أجهل الناس بما يحملون، وأبخس الناس حظا فيما يطلبون، وقالوا في ذلك:
زوامل للأشعار لا علم عندهم
…
بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
…
بأحماله أو راح ما في الغرائز
قد قنعوا من العلم برسمه، ومن الحديث باسمه ورضوا بأن يقولوا:
فلان عارف بالطرق وراوية للحديث وزهدوا في أن يقال: عالم بما كتب أو عامل بما علم. قالوا: وما ظنكم برجل منهم يحمل عنه العلم، وتضرب إليه أعناق المطي خمسين سنة أو نحوها. سئل في ملأ من الناس عن فأرة، وقعت في بئرة فقال:"البئر جبار"، وآخر سئل عن قوله تعالى:{رِيحٍ فِيهَا صِر} ، قال:"هو هذا الصرصر"، يعني صراصر الليل. وآخر حدثهم "عن سبعة وسبعين"، ويريد "شعبة وسفين". ا. هـ.
ثم أخذ ابن قتيبة يذكر رءوس المعتزلة واحدا واحدا، ويفند ما ألصقوه بأهل الحديث من الكذب والمحال، ومن عجب أن المستشرقين وأعداء الإسلام من الملحدين ينقلون هذه الطعون، ولا ينقلون جواب الإمام ابن قتيبة عنها وصدق القائل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
…
كما أن عين السخط تبدي المساويا
كان أهل الحديث على طريقة السلف من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم يحتاطون لأمر الدين، ويتثبتون في رواية السنة، ويقفون مع ظواهر النصوص، ولا يفتحون على العامة باب التأويل، حتى لا يفتتنوا بما لا تهضمه عقولهم، ولا تستسيغه أفهامهم، ووجد منهم في هذا العصر أئمة كبار
وحفاظ عظام عرفوا الأحاديث، وميزوا بين المزيف منها والصحيح، ونقدوا الرواة ووقفوا على أحوالهم أمثال الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه وغيرهم.
ألا إنه وجد قوم انتسبوا إلى أهل الحديث، كانوا وصمة عار في جبين الحديث والمحدثين منهم القصاص المخرفون، والمرتزقة الذين يتكسبون بالحديث، والجهلة بأحكام الشرع وأوليات الفقه. فالقصاص كانوا يبثون الغرائب والمناكير، التي تبعث على الإسلام المطاعن، والجهلة المتفيهقون كانوا كالحمار يحمل أسفارا "إذا سئل أحدهم عن حكم شرعي تخبط في جهله، وتعثر في غيه وقد يكون إماما في أتباعه، فيفتي بكل منكر في الشرع. وكان لهم أفهام في الحديث تضحك الثكلى، وتبعث في نفس المؤمن الحزن والأسى، فمن ذلك أن أحدهم كان يصلي الوتر بعد الاستنجاء من غير أحداث وضوء، ويستدل على هذا العمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "من استجمر فليوتر"، والمقصود من الحديث إيتار الجمار عند الاستنقاء، لا صلاة الوتر بعد نقض الوضوء مباشرة من غير توضؤ، وسئل كبير منهم في مجلس تحديثه عن دجاجة، وقعت في بئر فقال للسائل: ألا غطيتها حتى لايقع فيها شيء، فأسرع بعض المتفقهة بالإجابة سترا لجهل الشيخ، وسئل أحدهم عن مسألة في الفرائض، فكتب في الفتوى.
تقسم على فرائض الله سبحانه وتعالى. وسئل أحدهم عن الحالف بصدقة إزاره فقال: بكم اشتريته فقال: باثنين وعشرين درهما، فقال: اذهب وصم اثنين وعشرين يوما. وفهم بعضهم من حديث، "نهي أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره"، المنع من سقي بساتين الجيران مع أن المراد وطء الحبالى من السبايا1. إلى غير ذلك من سخافاتهم.
1 انظر تأنيب الخطيب ص5.
وقد ضاق ذرعا بأمثال هؤلاء الجهال كثير من أعلام المحدثين، فشعبة يقول فيهم:"كنت إذا رأيت رجلا من أهل الحديث، يجيء أفرح به فصرت اليوم ليس شيء أبغض إلي من أن أرى واحدا منهم"، ويقول ابن عيينة:"أنتم سخنة عين لو أدركنا وإياكم عمر بن الخطاب لأوجعنا ضربا".
ويقول عمرو بن الحارث -شيخ الليث- في أمثال هؤلاء: "ما رأيت علما أشرف وأهلا أسخف من أهل الحديث". وقال محمد بن سهل بن عسكر: وقف المأمون يوما للأذن، ونحن وقوف بين يديه إذ تقدم إليه غريب يده محبرة. فقال: يا أمير المؤمنين صاحب حديث منقطع به، فقال له المأمون: أيش تحفظ في باب كذا فلم يذكر فيه شيئا، فما زال المأمون يقول: حدثنا هشيم وحدثنا الحجاج بن محمد، وحدثنا فلان حتى ذكر الباب، ثم سأله عن باب ثان فلم يذكر فيه شيئا، فذكره المأمون ثم نظر إلى أصحابه فقال:"يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام ثم يقول: "أنا من أصحاب الحديث"، أعطوه ثلاثة دراهم"، وإذا علمت أن هذه المثالب والطعون موجهة إلى قوم من المتكسبين بالحديث الأدعياء في الرواية، علمت أن أعداء الإسلام في كل عصر ليسوا على حق في توجيه هذه الطعون إلى الأئمة الأعلام، والحفاظ العظام الذين كشفوا عن الدخيل، وميزوا الحق من الباطل، وجاهدوا في سبيل السنة وصونها حتى أبلوا في ذلك أحسن البلاء مما قرأته عنهم، وما ستقرؤه إن شاء الله.
هذا ما يقال في أهل الحديث، أما أهل الكلام فإننا نجدهم يرتفعون بالعقل، ويذهبون بسلطانه إلى أقصى حدوده حى ساقهم ذلك إلى التطرف في تأويل النصوص بما يمجه الذوق السليم، ويدفعه الطبع المستقيم كل ذلك محافظة على ما اعتقدوه من الآراء.
أخذ المعتزلة في هذا العصر في بحث كتب الفلسفة اليونانية وغيرها، وتشبعوا من علوم الحكمة، فحكموا آراءهم في الدين، وطبقوا ما فهموه من هذه الدراسات على الكتاب والسنة، وانفتح عليهم باب التأويل والطعن في الأخبار، حتى لم يسلم منهم بعض الصحابة رضي الله عنهم، وليتهم وقفوا عند هذا الحد، ولكنهم أرادوا العامة على سلوك طريقتهم، واعتقاد آرائهم واستعدوا عليهم الخلفاء، كما رأيت والعامة كما ترى لا تهضم هذه الفلسفات، ولا تفهم الكم والأين وغيرهما من المقولات، قد كان يكفيهم مناظرة علماء الجمهور من أئمة الحديث والفقه في مجالس المأمون، وغيرها ليظهروا سلطان العقل، ويقيموا البراهين الساطعة على خصومهم، ثم بعد ذلك يقولون لهم معا على الرسول إلا البلاغ، ولا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.
ولكن المعتزلة انتهزوا قربهم من الخلفاء، وأخذهم بزمام الوزارة والقضاء، فانتقموا من أهل الحديث ومن جمهور الأمة ما أمكنهم الانتقام، ولم يبالوا بسفك الدماء الطاهرة البريئة، ومن عجيب أمرهم أنهم يختلفون على أنفسهم في مسائل الدين اختلافا عظيما، لكن لم يصلوا في خصومتهم إلى عشر معشار ما فعلوه مع أهل الحديث.
هذا أحمد بن أبي دؤاد يحكم بكفر من لم يقل بخلق القرآن، ثم يستعمل سلطة الوزارة، فيأمر بفداء الأسرى من قال منهم بخلق القرآن، أما من لم يقل بذلك فإنه يترك أسيرا في أيدي الكفار؛ لأنه في نظره غير مسلم فلا يستحق الفداء.
أفما كان الأجدر بهم -لو كانوا يريدون الخير للإسلام وأهله- أن يتحدوا مع أهل الحديث، ويكون الجميع جبهة في الدفاع عن الدين
ومحاربة الوضاعين من زنادقة وقاصين. أما المسائل التي كانوا على خلاف فيها، فإما أن يكون الجدال فيها بالتي هي أحسن من غير أن تراق الدماء، أو تستعمل وسائل الإرهاب، وأما أن يسلكوا فيها مسلك السلف الصالح، وهو الإمساك عنها وعدم الخوض فيها. هذا مالك إمام دار الهجرة يسأل عن قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، فيقول: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وهذا أبو حنيفة ينهى أصحابه، ويحذرهم من التكلم في القرآن أمخلوق هو أم غير مخلوق. وهذا بطل المحنة الإمام أحمد بن حنبل، يمسك عن الخوض في مسألة خلق القرآن، وكل ذلك منهم كان محافظة على عقيدة العامة، واتباعا لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح من بعده. أما أنهم لو سلكوا أحد الطريقين لكان خيرا وأولى، ولكن قدر فكان.
من هذا البيان ترى أن المتكلمين والمحدثين، كانوا في هذا العصر بل وقبل هذا العصر على طرفي نقيض. لقد حط من شأن المحدثين في نظر المتكلمين، وجود أدعياء الرواية وجهلة الشيوخ، وكذبة القصاص بينهم فرموهم بالجهل، وبكل نقيصة، ووضع من شأن المعتزلة في نظر أهل الحديث اعتناقهم لآراء الفلاسفة وخروجهم عن النصوص، وردهم للأحاديث الصحيحة، وطعنهم في الصحابة حيث فسقوهم وبدعوهم، ولم يقبلوا الحديث من طريقهم. فلما جاء المأمون وكان متضلعا من العلوم العقلية، والنقلية رأى أن يقضي على الخلاف بين الفريقين ويوحد كلمة الأمة في العقائد، ويوجه جهودها إلى محاربة الخارجين عن الشرع الشريف من أهل الزيغ والضلال، فعقد مجالس المناظرة لذلك، فكان من ورائها
اتساع هوة الخلاف ورميه بالكفر والضلال، فرأى أن يأخذ أهل الحديث بالشدة لما وقر في صدره أن القرآن المكتوب في المصاحب، لا ينبغي أن يرتاب في حدوثه، ولكنا نأخذ عليه أنه اشتط كثيرا في مسلكه بإراقة الدماء البريئة واستعمال وسائل الإرهاب والعنف. ولقد كان يكفيه -إذا فاته ما كان يقصد من القضاء على الخلاف- أن يحظر الرواية، والفتوى على القصاص، والزنادقة والجهلة من أدعياء الحديث، ويأذن بذلك لأئمة الحديث والفقه، ثم يترك العلماء بعد ذلك أحرارا فيما يذهبون، وأن يسعه ما وسع سلف الأمة الصالح من الإمساك عن الغوص في مثل هذه الأمور، التي لا يترتب عليها فائدة عملية للمسلمين.
وكذلك نأخذ على المعتزلة أنهم لم يكونوا على شيء من النبل في الخصومة، فإنهم أخذوا المحق بذنب المبطل، وسووا بين الأشراف والسفلة، والعلماء والجهلة، وسلوا سيف البغي على أئمة الدين، ورواة الحديث من غير أن تأخذهم في أحد رحمة.
لذلك قابلهم جمهور المسلمين بما يجب أن يقابلوا به بعد أن رفعت المحنة، وزالت الشدة، فلم تقم لهم قائمة من ذلك الوقت إلى اليوم.
أما موقف المحدثين في هذه المحنة، فقد كان سليما ومحمودا ذلك أنهم أمسكوا عن الخوض في أمور ضررها أكبر من نفعها، فكانوا بذلك على طريقة السلف الصالح، أغلقوا بموقفهم من الخلفاء والمعتزلة أبوابا من الشر لا نهاية لها ولو أنهم استكانوا، وقالوا بخلق القرآن لكان ذلك ذريعة لاستدراجهم إلى عقائد المعتزلة شيئا فشيئا، وفي ذلك من الخطر ما فيه، فجزاهم الله عن الدين وأهله أحسن الجزاء.
هذا وقد يقول قائل: إن مسألة خلق القرآن من أوضح المسائل
فهذه الألفاظ التي نقرؤها بألسنتنا كل يوم في الصلاة وغيرها، ونكتبها بأقلامنا في المصاحب وغيرها، لا يشك أحد في أنها مخلوقة. فكيف يقف المحدثون هذا الموقف الذي جر عليهم كل هذه النكبات، وهل يدخل في عقل إنسان أن هذه الألفاظ القرآنية قديمة وليست بمخلوقة. ونقول: إنه لم يخف على كبار أئمة الحديث أمثال الإمام أحمد بن حنبل حقيقة الحال، ولكنهم آثروا الإمساك عن النطق بذلك محافظة على عقيدة العامة، فالقرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته قديمة، والعامي لا يميز بين كلام الله الذي هو الصفة القديمة، وبين كلام الله المنزل الذي هو ألفاظ مكتوبة مقروءة، وحادثة مخلوقة فإذا قيل: إن القرآن مخلوق، وهو كلام الله التبس الأمر على العامة بين الحادث، والقديم لذلك لما طلب إلى الإمام أحمد أن يقول بخلق القرآن تقية. قال:"إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق"، وهذا أبو يعقوب البويطي يعرض عليه والي مصر أن يقول فيما بينه وبينه أن القرآن مخلوق، ويطلقه فيقول:"إنه يقتدي بي مائة ألف ولا يدرون المعنى"، ويفضل أن يؤتى به إلى بغداد ويموت في السجن.
من هنا نأخذ أن موقف المحدثين كان موقفا سليما، فقد أحاطوا عقيدة العامة حتى لا تزل بهم الأهواء، وحافظوا على قدسية القرآن في نفوسهم، وهم في ذلك سالكون منهج السلف الصالح، الذين وسعهم السكوت عن الخوض في مثل هذه المسائل، بل نهوا الناس عن الدخول فيما لا يعنيهم، والتكلم بما يعلو على أفهامهم.
النتائج التي عادت على الحديث، وأهله من وراء هذا النزاع:
كان لهذا النزاع الشديد، وذلك الصراع العنيف أثره البالغ في الحديث والمحدثين، وإليك بعض هذه الآثار:
1-
كانت محنة القول بخلق القرآن خافضة رافعة، رفعت رجال الحديث إلى السماكين، وخفضت المعتزلة إلى الحضيض، ومن هذا الحين عظم احترام العامة لأهل السنة، وأحبوهم أكثر من ذي قبل وحمدوا لهم سيرتهم.
2-
كان لموقف المحدثين أثر بالغ في المحافظة على عقيدة العامة من أن تعصف بها بدع أهل الأهواء، وتتجاذبها أعاصير الأباطيل، وشكوك المموهين.
3-
كان للقول بخلق القرآن أثر كبير في جرح الرواة، أو عدالتهم فالمأمون كان يرد رواية من لم يقل بخلق القرآن، ويحكم بفسق الشهود والقضاة إن لم يقروا بذلك، وكذلك فعل المحدثون ففسقوا من يقول بخلق القرآن وبالغ آخرون فردوا رواية من يثير الكلام في هذه المسألة، وأظن أن هذا كان سدا للذريعة فقط، حتى يتناسى القوم المسألة وتمحى من الأذهان، فلا يقع المسلمون فيها مرة أخرى.
وكادت شظايا هذه الفتنة تصيب الإمام البخاري، فإنه لما قدم نيسابور وسألوه عن اللفظ، فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأعمالنا مخلوقة. فلما سمع بذلك الإمام الذهلي قال:"القرآن كلام الله غير مخلوق ومن زعم، "لفظي بالقرآن مخلوق"، فهو مبتدع لا يجلس إلينا، ولا نكلم من يذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل"، فانقطع الناس عن البخاري إلا مسلم بن الحجاج، وأحمد بن سلمة1.
4-
كان لهذه المعركة أثر سيئ في وضع الحديث، فقد انتهز الزنادقة ومن لا دين له هذا النزاع فوضعوا الأحاديث فيه، واختلقوها زورا
1 شروط الأئمة الخمسة للحازمي ص21.
وبهتانا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرووا عن أبي الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"من قال القرآن مخلوق فقد كفر"، ورووا عن أنس مرفوعا، "كل ما في السموات والأرض، وما بينهما مخلوق غير الله والقرآن وذلك أنه كلامه منه بدأ، وإليه يعود وسيجيء أقوام من أمتي يقولون: القرآن مخلوق فمن قاله منهم فقد كفر بالله العظيم، وطلقت امرأته من ساعته؛ لأنه لا ينبغي للمؤمنة أن تكون تحت كافر، إلا أن تكون سبقته بالقول"، وغير ذلك كثير في اللآلئ المصنوعة للسيوطي وكشف الخفاء.
5-
كان من النتائج السيئة لهذه الفتنة أن أهل الأهواء أطلقوا ألسنتهم حدادا في ذم أهل الحديث، فطعنوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأزروا على المحدثين، ورموهم بالجهل الفاضح، وألصقوا بهم صفت المرتزقة من دعاة العلم وأدعياء الحديث وألفوا الكتب في ذلك حتى جاء المستشرقون في عصور الضعف العلمي والسياسي للمسلمين، فوجدوا ثروة طائلة من هذه السخافات، والمثالب وصوروا الإسلام في صورة الخرافات، وطعنوا بدورهم في أئمة المسلمين، وقد اغتربهم الجهلة في عصرنا الحاضر، ونسجوا على منوال أساتذتهم ورموا علماء المسلمين في كل عصر بكل نقيصة وبهتان، والله يشهد إنهم لكاذبون.