الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بل قال: "دخل الجنة إن صدق" وكذلك ما أمر الصحابة أهل البوادي وغيرهم بالعرض على مجتهد ليميز له الناسخ من المنسوخ. فظهر أن المعتبر في النسخ ونحوه بلوغ الناسخ لا وجوده، ويدل على أن المعتبر البلوغ لا الوجود أن المكلف مأمور بالعمل على وفق المنسوخ. بل صحح ذلك حديث نسخ القبلة إلى الكعبة المشرفة، فإن خبره وصل إلى أطراف المدينة المنورة كأهل قباء، وغيرهم بعد ما صلوا على وفق القبلة المنسوخة، فمنهم من وصله الخبر في أثناء الصلاة. ومنهم من وصله بعد أن صلى الصلاة. والنبي صلى الله عليه وسلم قررهم على ذلك، ولم يأمر أحدا منهم بالإعادة، فلا عبرة لما قيل:"لا يجوز العمل قبل البحث عن المعارض والمخصص"، وإن ادعى عليه الإجماع، فإنه لو سلم فإجماع الصحابة، وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على إجماع من بعدهم، على أن ما ادعى من الإجماع، قد علم خلافه كما ذكر في بحر الزركشي في الأصول". ا. هـ. ملخصًا.
المبحث الرابع: في أن السنة النبوية مبينة للقرآن الكريم
أنزل الله القرآن الكريم هداية للناس في أمور دينهم، ودنياهم ولكن بأسلوب إجمالي في الغالب لا يمكن الوقوف منه على مراد الله عز وجل، بطريق الوضوح وقد وكل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أن يبلغ القرآن الكريم للناس وأن يبين لهم بقوله، وفعله ما يحتاج إلى البيان فقال:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، وهو صلى الله عليه وسلم، إذ يبين للناس كتاب الله لا يصدر عن نفسه، ولكنه يتبع ما يوحى إليه من ربه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، فالسنة النبوية وظيفتها تفسير القرآن الكريم
والكشف عن أسراره وتوضيح مراد الله تعالى من أوامره، وأحكامه ونحن إذا تتبعنا السنة من حيث دلالتها على الأحكام التي اشتمل عليها القرآن إجمالا، أو تفصيلا وجدناها ترد على هذه الوجوه الأربعة.
الأول: أن تكون موافقة لما جاء في القرآن، فتكون واردة حينئذ مورد التأكيد ومن أمثلة ذلك:
1-
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم، إلا بطيب من نفسه"، رواه الديلمي فإنه يوافق قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} .
2-
قوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في النساء فإنهم عوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله"، فإنه يوافق قوله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
3-
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته"، يوافق قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} .
الثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن، ومن أمثلة هذا النوع:
1-
بيان المجمل في مثل الأحاديث، التي جاء فيها تفصيل أحكام الصلاة والزكاة والصيام، والحج وغيرها.
2-
تقييد المطلق كالأحاديث التي بينت المارد من اليد في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، وأنها اليمنى وأن القطع من الكوع لا من المرفق.
3-
تخصيص العام كالحديث، الذي بين أن المراد من الظلم في قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، هو الشرك فإن بعض الصحابة فهم منه العموم حتى قال:"أينا لم يظلم" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس بذاك إنما هو الشرك".
4-
توضيح المشكل كالحديث، الذي بين المراد من الخيطين في قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، فهم منه بعض الصحابة العقال الأبيض، والعقال الأسود، فقال صلى الله عليه وسلم:"هما بياض النهار وسواد الليل".
الثالث: أن تكون دالة على حكم سكت عنه القرآن، ومن أمثلة هذا النوع:
1-
قوله صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته".
2-
قوله صلى الله عليه وسلم في الجنين، الخارج ميتا من بطن أمه المذكاة:"ذكاة الجنين ذكاة أمه".
3-
الأحاديث الواردة في تحريم ربا الفضل.
4-
الأحاديث الواردة في تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم لحوم الحمر الأهلية.
الرابع: أنها تكون ناسخة لحكم ثبت بالكتاب على رأي من يجوز نسخ الكتاب بالسنة، ومثال ذلك حديث:"لا وصية لوارث" فإنه ناسخ لحكم الوصية للوالدين، والأقربين الوارثين الثابت بقوله تعالى في سورة البقرة:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، على أحد الوجوه في تفسير الآية، وحديث:"البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"، فهو ناسخ لآية النساء:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} ، الآية على أحد الوجوه أيضا.
والأمثلة كثيرة لا سيما على مذهب الحنفية، الذين يقولون: إن الزيادة على الكتاب من قبيل النسخ. والمسألة مختلف فها بين الفقهاء على ما هو معروف في الأصول.
هذا والنسخ من قبيل البيان؛ لأنه بيان انتهاء أمد الحكم، ولذلك يطلق عليه بعض علماء الأصول "بيان التبديل".
هل السنة النبوية تستقبل بالتشريع؟؟
وقد يقول قائل: أن الوجه الثالث، الذي ذكرته يفيد أن السنة قد يثبت بها أحكام لم ترد في القرآن إجمالا، ولا تفصيلا، وهو يخالف ظاهر قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، فإنه يفيد أن السنة إنما تبين القرآن، ولا تتعداه إلى غيره، ولنا عن ذلك جوابان:
الجواب الأول:
أنا لا نسلم خلو القرآن عن الأحكام المذكورة في الوجه الثالث من أوجه البيان، ولكنه اشتمل عليا بطريق الأجمال، فصح أن تكون السنة بيانا للقرآن بهذا الاعتبار. وتوضيح ذلك أن الأحكام التي جاءت بها السنة، وسكت عنها القرآن ظاهرا، يمكن أن تكون بيانا له إما بطريق الإلحاق، وإما بطريق القياس وإما بطريق استنباط القواعد العامة من الجزئيات، وإليك توضيح ذلك:
البيان بطريق الإلحاق:
قد ينص القرآن على حل شيء، وحرمة آخر، ويكون هناك شيء ثالث لم ينص على حكمه، وهو آخذ من كل منهما بطرف، فيكون ثم مجال للاجتهاد في إلحاقه بأحدهما، فيعطيه النبي صلى الله عليه وسلم حكم أحدهما، وحينئذ يتبين أنه كان من مشمولاته. ومن الأمثلة على ذلك:
1-
أحل الله الطيبات وحرم الخبائث، وبقي بين هذين الأصلين أشياء يمكن إلحاقها بأحدهما، فبين عليه الصلاة والسلام في ذلك ما اتضح به الأمر، فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وقال أنها رجس. ونهى عليه الصلاة والسلام عن أكل الجلالة وألبانها ذلك لما في لحمها ولبنها من أثر
الجلة، فهذا كله راجع إلى معنى الإلحاق بأصل الخبائث، كما ألحق عليه الصلاة والسلام الضب والحبارى، والأرنب وأشباهها بأصل الطيبات.
2-
أباح الله من صيد الجارح المعلم ما أمسك عليك وعلم من ذلك أن ما لم يكن معلما، فصيده حرام إذ لم يمسك إلا على نفسه، فدار بين الأصلين ما كان معلما، ولكنه أكل من صيده، فالتعليم يقتضي أنه أمسك عليك، والأكل يقتضي أنه اصطاد لنفسه لا لك، فتعارض الأصلان، فجاءت السنة ببيان ذلك فقال عليه الصلاة والسلام:"إن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون، إنما أمسك على نفسه"، أخرجه الشيخان.
3-
أحل الله صيد البحر فيما أحل من الطيبات، وحرم الميتة فيما حرم من الخبائث، فدارت ميتة البحر بين الطرفين، وأشكل حكمها فقال عليه الصلاة والسلام:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته" أخرجه أصحاب السنن.
4-
حرم الله الميتة وأحل المذكاة، فدار الجنين الخارج من بطن المذكاة ميتا بين الطرفين، فاحتمل أن يلحق بكل منهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ذكاة الجنين ذكاة أمه"، رواه أبو داود والترمذي، وحسنه وهذا منه صلى الله عليه وسلم ترجيح لجانب الجزئية على جانب الاستقلال.
5-
قال تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} ، فبقيت البنتان مسكوتا عنهما، فنقل في السنة حكمهما، وهو إلحاقهما بما فوق البنتين.
فهذه أمثلة يستعان بها على ما سواها، وبها يتبين أن السنة في هذا النوع مبينة للقرآن الكريم.
البيان بطريق القياس:
قد ينص القرآن على حكم شيء، فيلحق به الرسول صلى الله عليه
وسلم مااجتمع معه في العلة بطريق القياس، وذلك راجع في الحقيقة إلى دلالة القرآن، فإن النص القرآني المقرر لحكم الأصل، وإن كان خاصبا به في الصورة، فهو عام في المعنى من حيث عموم العلة، وسواء علينا أقلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قاله بالقياس أم بالوحي إلا أنه جار في أفهامنا مجرى القياس.
ومن أمثلة هذا النوع:
1-
أن الله عز وجل حرم الربا. وربا الجاهلية الذي قالوا فيه: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} هو فسخ الدين في الدين يقول الطالب: إما أن تقضي وإما أن تربي، وهو الذي دل عليه قوله تعالى:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} ولما كان المنع فيه من قبل كونه زيادة بلا عوض، ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بهذا المعنى، فقال عليه الصلاة والسلام:"الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد".
2-
حرم الله الجمع بين الأختين ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ، فجاء نهيه صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين المرأة، وعمتها أو خالتها من باب القياس؛ لأن المعنى الذي من أجله حرم الجمع بين الأختين موجود هنا، وقد روي هذا المعنى في الحديث:"فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" رواه ابن حبان.
3-
بين القرآن بعض المحرمات من الرضاع بقوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} فألحقت السنة بهاتين سائر القرابات بالرضاعة من اللاتي كن يحرمن بالنسب كالعمة، والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم من الرضاع
ما حرم من النسب" أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح وهذا الإلحاق بطريق القياس من باب نفي الفارق بين الأصل والفرع.
البيان بطريق استنباط الواعد العامة من نصوص القرآن الجزئية في المواضع المختلفة:
قد تأتي نصوص من القرآن الكريم في معان مختلفة، لكن يشملها معنى واحد، فتأتي السنة بمقتضى ذلك المعنى الواحد، فيعلم أو يظن أن ذلك المعنى مأخوذ من مجموع تلك النصوص القرآنية، ومن أمثلة ذلك:
1-
قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، فهاتان القاعدان تؤخذان من الآيات، التي تحث على الإخلاص وتذم الرياء، وتبين أنه ليس للإنسان إلا ما سعى مثل:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} ، {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ، إلى غير ذلك.
2-
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" فهذه القاعدة مأخوذة من عدة أوامر، ونواه متفرقة في القرآن الكريم في جزئيات مختلفة منها:{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} ، {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} ، {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} ، {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ} ، {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} ، وما في معناها.
3-
قوله صلى الله عليه وسلم: "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه"، وقوله:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، فكل من الحديثين معناه سد ذرائع الفساد، وهو منتزع من آيات كثير منها: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ
لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} ، {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، {لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} ، {لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} ، {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} .
ومن ذلك كله يعلم أن السنة موضحة للقرآن، ومبينة لمقاصده الكلية والجزئية.
الجواب الثاني:
فإن أبيت إلا أن تجعل الأحكام، التي جاءت بها السنة زيادة عما في القرآن من قبيل استقلال السنة بالتشريع، فلا يضيرنا ذلك بعد ما نطق القرآن نفسه بأن طاعة الرسول صل الله عليه وسلم، إنما هي طاعة لله عز وجل، وأنه لا ينطق عن الهوى، فلو كان لا يطاع إلا فيما يوافق القرآن لم تكن له طاعة خاصة وقد قال تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، وقال:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، كرر الفعل في الآية الأولى وجعل طاعته في الثانية طاعة لله إشارة إلى ما ذكرنا، وأنه يجب طاعته مطلقا وأما قوله تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، فلا يفيد قصره صلى الله عليه وسلم على البيان، بل يستفاد من هذه الآية ومن الآيتين السابقتين، أنه يبين للناس كتاب الله، وأنه إذا جاوز البيان إلى غيره من الأحكام، التي لم يتعرض لها القرآن لا ينطق عن الهوى، وقد صرح بهذا طائفة من علماء السلف، فمن ذلك ما روي عن عبد الرحمن بن يزيد، أنه رأى محرما عليه ثيابه، فنهاه فقال: ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وما روي عن طاوس أنه كان يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس: اتركهما فقال: إنما نهى عنهما أن تتخذا سنة، فقال ابن عباس: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن صلاة بعد العصر، فلا أدري أتعذب عليها أم
تؤجر؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية، وكذلك ما روي عن ابن مسعود حينما لعن الواشمة والمستوشمة، وقد تقدم "الموافقات4-24 إلى 48".
هذا ونحن نرى أنه لا تخاف بين الجوابين على أصل الاعتراض، فمن قال: إن السنة لا تأتي بأحكام زائدة عما في القرآن، أراد أن القرآن اشتمل على جميع الأحكام، إما بطريق التفصيل، وإما بطريق الإجمال، ومن قال: إن السنة تأتي بأحكام زائدة عما في القرآن أراد بها الأحكام التفصيلية، التي لم ينص عليها صراحة في القرآن، وبذلك يلتقي القولان عند نقطة واحدة.
بيان السنة للقرآن في غير الأحكام: يقع على ثلاثة أضرب:
الأول: ما يرد موافقا لما في القرآن، فيكون مؤكدا له، ولا يخلو مع ذلك عن شرح، وبيان كحديث الخضر مع موسى عليه السلام في البخاري وغيره، فإنه يوافق القصة المذكورة عنهما في سورة الكهف.
الثاني: ما يرد مورد التوضيح والشرح، ومثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم:"يدعى نوح فيقال: هل بلغت فيقول: نعم فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد فيقال: من شهودك فيقول: محمد وأمته قال: فيؤتى بكم تشهدون أنه قد بلغ، فذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} "، أخرجه البخاري، والترمذي.
الثالث: ما يرد على طريق الاستقلال، ومن أمثلته حديث جريج العابد، وحديث الأبرص والأقزع، والأعمى وحديث الصخرة، فهذه الأحاديث وما في معنها مؤكدة للمقاصد، التي جاء بها القرآن وحكمتها تنشيط المكلفين وتنبيه الغافلين.