الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: كتابة الحديث
الكتابة عند العرب قبيل الإسلام:
الخط مظهر من مظاهر التحضر، وأثر من آثار الاجتماع والتمدن، لذا سبق إليه الأمم المتمدنة، وكان أبعد الناس منه الأمم البادية.
والعرب لما كانوا قوما بدويين، كانوا بطبيعة الحال أميين لا يقرءون، ولا يكتبون، اللهم إلا في الجهات التي عرفتها الحضارة من جزيرتهم كاليمن، فقد كان أهل هذه البلاد يخطون، وكان خطهم يسمى بالخط المسند. على أنه لم تكن الكتابة عندهم بالشيء الذائع، يتناوله جميع الأفراد، بل كان ذلك في الخاصة منهم. ومن اليمن انتقل الخط إلى الحيرة، والأنبار لما كان من الارتباط بين ملوك الإقليمين. وكانوا يسمون خطهم بخط الجزم؛ لأنه اقتطع من المسند الحميري. ومن الحيرة انتقل الخط إلى مكة، نقله حرب بن أمية، وكان رجلا سفارا، ومن عهده بدأ الخط بمكة، فتعلمه بعض رجال قريش. هذه هي الجهات الثلاث، التي وجدت بها الكتابة الخطية على أنها، كما قلنا لم تكن بالشيء الذائع المتداول. أما بادية العرب، فلم تكن تخط بل كانت ترى الخط وصمة عار، وسمة عيب كما هو شأنها في سائر الصناعات المدنية.
هذا وكأن الله تعالى أذن بنقل الكتابة من الحيرة إلى مكة، قبيل الإسلام لتكون فيما بعد عاملا من عوامل حفظ القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، ثم إنه لم تكن الكتابة منتشرة بين العرب، بل كانت منحصرة في أفراد قليلين، مما يجعل الحكم على الأمة العربية بأنها
أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب من السهولة بمكان، حتى لقد سماها القرآن عند مجيء الإسلام بذلك، فقال سبحانه وتعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} ، وقد كان عدم انتشار الكتابة، وذيوعها بين العرب من أهم العوامل في تنمية ملكة الحفظ فيهم، فقد اعتمدوا على قوة الحافظة في جميع ما يهمهم من الأشعار، والأنساب، والمفاخر، والأيام.
والملكة متى استعملت عظمت ونمت، ولذا كان العرب من أحفظ الأمم، التي عرفها التاريخ إلى يومنا هذا.
الكتابة بمكة عند مجيء الإسلام:
وأيا ما كان الأمر فقد جاء الإسلام، وليس بمكة ممن يعرف الكتابة، سوى سبعة عشر رجلا منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح، وطلحة ويزيد بن أبي سفيان، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو سفيان بن حرب وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وحاطب بن عمرو، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي. وبعض من نسائهم كن يكتبن أيضا، منهن الشفاء بنت عبد الله العدوية، وحفصة بنت عمر، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأم كلثوم بنت عقبة، وكريمة بنت المقداد، وغيرهن.
الكتابة بالمدينة عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليها:
أما في المدينة فكانت الكتابة بين الأوس والخزرج قليلة، وكان بعض اليهود قد علم كتابة العربية، وكان يعلمها الصبيان بالمدينة في الزمن الأول. فجاء الإسلام وفي الأوس، والخزرج عدة يكتبون، منهم سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت الذي كان يكتب العربية، والعبرانية ورافع بن مالك، وأسيد بن حضير. وغيرهم وقد عدهم البلاذري أحد عشر رجلا.
النبي يعمل على نشر الكتابة:
هذا ولما جاء الإسلام أخذ بيد العرب إلى ترقية الكتابة، والنهوض بها والعمل على نشرها، وكان للكتابة منزلة عظيمة في حفظ الوحي، وتبليغ السالة إلى الملوك وأهل الآفاق. لذا كانت عناية النبي صلى الله عليه وسلم بها شديدة، فقد انتهز أول فرصة لنشر الكتابة بين المسلمين، فجعل فداء بعض الأسرى في بدر ممن يعرفون الكتابة، أن يعلم الواحد منهم عشرة من صبيان المسلمين بالمدينة القراءة والكتابة، ولا يطلق إلا بعد أن يتم تعليمهم.
كتابة القرآن والرسائل:
وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم، الكتابة في تدوين ما ينزل من القرآن، وفي إرسال الرسائل إلى الملوك، يدعوهم فيها إلى الإسلام، واتخذ لذلك كتابا من الصحابة. فأول من كتب له بمكة من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح، لكنه ارتد وهرب من المدينة إلى مكة، ثم عاد إلى الإسلام بعد الفتح، وأول من كتب له بالمدينة أبي بن كعب، وكان إذ غاب دعا النبي صلى الله عليه وسلم، زيد بن ثابت فكتب له، وكان زيد وأبي يكتبان الوحي، والرسائل أيضا، ثم لما فتحت مكة وأسلم معاوية بن أبي سفيان، كان يكتب للنبي الوحي، وغير هؤلاء كثير، كانوا يكتبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كالخلفاء الراشدين، وأبان بن سعيد، وزيد بن أرقم، وحنظلة بن الربيع1.
هذا وقد كتب القرآن كله بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، على الرقاع والأضلاع، والحجارة الرقاق؛ لأن الورق المعروف الآن، لم يكن قد وجد عند العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان نزول
1 فتوح البلدان ص458.
القرآن متفرقا على حسب الحوادث والأسئلة، فكانت الآية تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فيأمر كاتب الوحي بكتابتها في موضع كذا من سورة كذا، وقد مكث الأمر على هذا الحال ثلاثة وعشرين عاما "على أحد الأقوال"، من يوم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن توفاه الله.
هل كتب الحديث في حياة النبي، صلى الله عليه وسلم كما كتب القرآن؟:
حكمة النهي عن كتابة الحديث:
نزل القرآن كما قدمنا لك منجما آية آية وسورة سورة، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم لكتابته أفرادا من الصحابة. والقرآن الكريم، وإن امتاز عن سائر كلامالبشر بجزالة المعنى، وفخامة اللفظ، وحسن السياق، وكما النظم، الأمر الذي أعجز البلغاء عن محاكاته، فخروا لبلاغته ساجدين، فإنه مع ذلك قد يلتبس الأمر على من ليسوا من فرسان البلاغة، إذ يشته عليهم الآية من القرآن بالحديث من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفعا لهذا الاشتباه، ومنعا للوقوع في خطر التغيير والتبديل، الذي وقع فيه أهل الكتاب من اليهود والنصارى من قبل، منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتابة السنن، وتدوين الأحاديث، حتى يتسع المجال أمام القرآن، ويأخذ مكانه من الحفظ والكتابة معا، وحتى يثبت في صدور الحفاظ، وتألفه أسماعهم، وبذلك يزول خطر الالتباس. لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث. روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن، ومن
كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه". فتراه قد منعهم من كتابة الحديث، ووكله إلى حفظهم، وأجاز لهم روايته ونقله عنه، مع تحذيره لهم من الكذب عليه، وقد كان الصحابة كما تقدم لك على جانب عظيم في الحفظ، فلم يكن هناك خوف على السنن من الضياع. وشيء آخر جعل النبي صلى الله عليه وسلم، ينهاهم عن كتابة الحديث، هي المحافظة على تلك الملكة، التي امتازوا بها في الحفظ، فلو أنهم كتبوا لاتكلوا على المكتوب، وأهملوا الحفظ، فتضيع ملكاتهم بمرور الزمن. أضف إلى هذا أن الكتابة لم تكن منتشرة فيهم، ولم يكونوا أتقنوها حتى تحل محل الحفظ، وما كان من الكتابة عند أفراد قلائل، فقد انحصر عملهم في كتابة القرآن، والرسائل، ولو أنهم كلفوا مع ذلك كتابة السنن لوقع الناس في حرج عظيم، والتبس عليهم أمر السنة والكتاب.
التوفيق بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن فيها:
هذا وربما يقول قائل: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كما نهى عن كتابة الحديث كذلك ورد عنه الإذن بالكتابة وإباحتها، فقد روى البخاري في كتاب العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اكتبوا لأبي شاه"، يعني الخطة التي سمعها منه صلى الله عليه وسلم، يوم فتح مكة وقد سأله أبو شاه أن يكتبها له، وروي عن أبي هريرة أنه قال: ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب. إلى غير ذلك من الآثار الدالة على إباحته صلى الله عليه وسلم كتابة الحديث عنه، وهي بظاهرها تتعارض مع حديث أبي سعيد في النهي عن ذلك.
والجواب عن هذا التعارض: أن النهي كان خاصا بوقت نزول
القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن بالكتاب كان في غير ذلك الوقت. أو أن النهي كان عن كتابة غير القرآن مع القرآن في صحيف واحدة، والإذن كان بكتاب ذلك متفرقا حتى يؤمن الالتباس. أو يقال: كان النهي عن الكتابة متقدما لخوف التباس القرآن بالحديث، أو لخوف الاتكال على الكتاب، وإهمال الحفظ، أو غير ذلك، وكان الإذن متأخرا ناسخا للنهي السابق، عند أمن اللبس، أو عدم الخوف من الاتكال على المكتوب.
على أن بعض العلماء يرى أن حديث أبي سعيد هذا، موقوف عليه وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك البخاري وغيره.
وعلى أي حال، فإن الحديث لم يكتب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، على النحو الذي كتب عليه القرآن، فلم يأمر النبي أحدا من كتاب الوحي بكتابة حديثه، وإن وجد من بعض الأفراد كتابة شيء فذلك قليل جدا، وقد كان جل اعتمادهم على الحفظ كما رأيت.
ثم إننا لو لم نلتف إلى قول بعض العلماء في وقف حديث أبي سعيد، وقلنا برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الذي نميل إليه، ونستظهره هو أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الإذن بكتابة الحديث، ودليلنا على ذلك:
أولا: ما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال: "لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه، قال: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاا لا تضلوا بعده
…
الحديث "، فقد هم النبي صلى الله عليه وسلم، أن يكتب لأصحابه كتابا حتى لا يختلفوا من بعد، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بحق، فهذا منه صلى الله عليه وسلم نسخ للنهي السابق في حديث أبي سعيد.
ثانيا: روى أحمد، والبيهقي في المدخل والعقيلي من طرق مختلفة أن أبا هريرة قال: ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يكتب بيده ما سمع منه فأذن له. فاستئذان عبد الله بن عمرو من النبي في كتابة الحديث، يدل على أن الكتابة كانت منهيا عنها في أول الأمر، وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالكتابة لما استأذنه، ولا خصوصية لعبد الله بن عمرو على غيره. وعليه فيمكن أن يقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يلتحق بالرفيق الأعلى، إلا وكتابة الحديث مأذون فيها1.
كتابة الحديث بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم:
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تدون السنة كما دون القرآن الكريم للحكمة، التي أشرنا إليها فيما سبق. فلما كان عهد الخلفاء الراشدين -وقد رأيت أمرهم بتقليل الرواية، مخافة أن يشغل الناس بالحديث، ويتركوا القرآن وأكثرهم لا يزال حديث عهد به، ولما يتم له جمعه في صدره- كذلك لم يريدوا أن يدونوا الحديث في الصحف، كراهة أن يتخذها الناس مصاحف، يضاهون بها صحف القرآن العزيز، فيشتبه على بعضهم القرآن بالأحاديث، وربما اشتغلوا بها عن تلاوته ودرسه. لهذا نرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليستشيرهم في كتابة السنن، فيشيرون عليه بكتابتها، ثم يحجم عمر عن كتابتها، مخافة أن يتخذها الناس مصاحف كالقرآن، فيلتبس الأمر على عامتهم، ومن يأتي بعدهم فيقعوا فيما وقع فيه أهل
1 بل هذا هو المتعين قال في الفتح "1-182": إن السلف اختلفوا في ذلك عملا وتركا، وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه بل على وجوبه على من خشي النسيان، ممن يتعين عليه تبليغ العلم. ا. هـ.
الكتاب حيث كتبوا الكتاب بأيديهم، وقالوا هذا من عند الله، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم. وقد حدثنا القرآن عنهم فقال:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} . روى البيهقي في المدخل، عن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب، أراد أن يكتب السنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشاروا عليه أن يكتها فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: أني كنت أردت أن أكتب السنن وأني ذكرت قوما كانوا قبلكم، كتبوا كتبا فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله. وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا1.
وقد كان هذا رأيا من عمر رضي الله عنه، يتناسب وحالة الناس في ذلك الوقت، فإن عهدهم بالقرآن ما يزال جديدا، لا سيما من يدخل الإسلام من أهل الآفاق، فلو أن السنن دونت ووزعت على الأمصار، وتناولها الناس بالحفظ، والدرس لزاحمت القرآن الكريم، وما أمن أن تلتبس به على كثير. فأراد عمر بثاقب فكره، أن يحبس الناس على القرآن الكريم، حتى يتمكن حفظه من نفوسهم، وترسخ صورته في قلوهم، وينتشر بين خاصهم وعامهم فلا تحوم حوله الشبهات، ولا تؤثر فيه الشكوك والأوهام، فأمر بتقليل الرواية أولا، وأحجم عن كتابة السنن ثانيا، سدا لذرائع الفساد وغلقا لباب الفتنة.
وليس في هذا تضييع للأحاديث، فإنه ما زال الناس خير، وما زالت ملكاتهم قوية وحوافظهم قادرة على حفظ السنن. وقد تتابع الخلفاء على سنة عمر رضي الله عنه، فلم يشأ أحدهم أن يدون السنن، ولا أن يأمر
1 تدريب الراوي ص151.
الناس بذلك حتى جاء عمر بن عبد العزيز، فأمر بجمع الحديث لدواع، اقتضت ذلك بعد حفظ الأمة لكتاب ربها، وأمنها عليه أن يشتبه بالسنن.
أول من أمر بتدوين السنة من الخلفاء:
كاد القرن الأول ينتهي، ولم يصدر أحد من الخلفاء أمره إلى العلماء، بجمع الحديث بل تركوه موكولا إلى حفظهم، وبعض كتابات لأفراد منهم يعملونها لأشخاصهم، أو لمن يطلبها منهم. ومرور مثل هذا الزمن الطويل، كفيل بتركيز القرآن في نفوسهم، فقد أصبح يتلوه القاصي والداني، ويعرفه الخاص والعام، لا يختلف فيه أحد، ولا يتشكك في شيء من آياته، ولأول وهلة يسمع المسلم حرفا من القرآن، يعلم لوقته أنه هو القرآن لا غيره، يحمل متانة ألفاظه، وجزالة أسلوبه وقوة إعجازه.
ومرور هذا الزمن الطويل، كفيل بأن يذهب بكثير من حملة الحديث من الصحابة، والتابعين، ويهيئ لكثير من أهل الأهواء، كالخوارج والروافض أن يتزيدوا في الحديث ما شاءوا، وشاءت لهم أهواؤهم.
ومرور مثل هذا الزمن، جعل العرب يختلطون بالأعاجم في البلدان المختلفة، فيحصل بينهم الازدواج والتناسل، فينشأ جيل جديد قليل الضبط ضعيف الحفظ.
لذلك لما أن ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز في العام التاسع والتسعين من الهجرة نظر بثاقب رأيه إلى الحديث النبوي، فوجد من الواجب عليه كتابته، وتدوينه، فقد زال المانع وتوفرت الدواعي.
فإزاء هذا كله أصدر عمر بن عبد العزيز، أمره إلى علماء الآفاق بجمع الحديث وتدوينه. روى البخاري في باب كيف يقبض العلم: "وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم، انظر ما كان من حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك، حتى يكون سرا"، وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان: "أن عمر بن عبد العزيز، كتب إلى أهل الآفاق انظروا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه"، وروى مالك في الموطأ -رواية محمد بن الحسن- "أن عمر بن عبد العزيز، كتب إلى عامله، وقاضيه على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء".
من هذه الروايات ترى أن عمر بن عبد العزيز، كتب إلى أهل الآفاق بأن يكتبوا الحديث. لكن من ذا الذي كان له فضيلة السبق في تدوين السنن منهم المشهور على ألسن علماء الحديث وحفاظ الأثر، أن ابن شهاب الزهري، هو أول من جمع الحديث على رأس المائة الأولى للهجرة، بأمر الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز. ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في باب كتابة العلم من فتح الباري ما نصه:"قال العلماء وكره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظا، كما أخذوه حفظا، لكن لما قصر الهمم، وخشي الأئمة ضياع العلم دونوه وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة، بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين، ثم التصنيف وحصل بذلك خير كثير، والحمد لله". ا. هـ "ج1 ص815 الأميرية".
هذا وكانت طريقتهم في التدوين تتبع وحدة الموضوع، فهم يجمعون في المؤلف الواحد الأحاديث التي تدور حول موضوع واحد كالصلاة مثلا يجمعون الأحاديث الواردة فيها في مؤلف واحد، وهكذا الصوم والزكاة والطلاق وهلم جرا.
إلا أنه لم يبلغنا شيء من هذه الكتب الحديثية، والظاهر أن العلماء فيما بعد أدمجوها ضمن مصنفاتهم، لا سيما إذا كانت محفوظة لهم، كما هو الغالب من حالهم.