الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن:
الرد على شبه وردت على رواية الحديث، وكتابته في القرن الأول ظهر لنا مما تقدم أن الحفظ والكتابة تعاونا على جمع الحديث، وصيانته في القرن الأول، حتى جاء عصر التدوين، ولكن بعض الزنادقة أبوا ألا أن يشككوا المؤمنين في رواية السنة، وحملتها في عهودها المختلفة، بزخرف من القول، وباطل من الأدلة، ونحن نورد مقالتهم، ثم نتبعها بما يدحضها، معتمدين على الله، فنقول:
كيف كانت تروى الأحاديث النبوية:
رد شبه أثيرت حول الرواية بالمعنى:
يقول دعاة الإلحاد: أن الأحاديث قد رواها الرواة بالمعنى، لا بالألفاظ المسموعة منه صلى الله عليه وسلم، وكان هذا شأن الرواة في كل طبقة، يسمعون الأحاديث بألفاظ ثم يروونها بألفاظ أخرى وهكذا، حتى وصلت إلينا، وقد انطمست معالم ألفاظها ومعانيها، فكان للرواية بالمعنى ضرر كبير في الدين واللغة والأدب، ولهذا لم يثق العلماء على اختلاف مشاربهم بالأحاديث، فالمتكلمون ردوا منها ما لا يتفق وما ذهبوا إليه من أصول، والفقهاء أخذوا منها وتركوا، وعلماء العربية لما رأوا الحاديث قد رويت بالمعنى، ولم يعلموا على اليقين لفظه صلى الله عليه وسلم الذي نطق به، رفضوا أن يستشهدوا بها في إثبات اللغة أو قواعد النحو، في الوقت الذي يستشهدون فيه بكلام أجلف العرب الذين كانوا يبولون على أعقابهم.
قالوا: وقد كان الواجب يقضي أن تكتب الأحاديث بين يديه صلى الله عليه وسلم كالقرآن، ويتلقاها الرواة طبقة بعد طبقة، مضبوطة الألفاظ، متواترة الإسناد، حتى يمكن الوثوق بها.
الجواب:
ولتفنيد هذه الشبهة ينبغي أن نتعرض للبحث في الموضوعات الآتية:
1-
لماذا لم تدون السنة بين يديه صلى الله عليه سلم كالقرآن؟
2-
رواية السنة بالمعنى لا تجوز بعد تدوينها في الكتب.
3-
الصحابة ومن بعدهم كانوا يحرصون على الرواية باللفظ النبوي. لا يعدلون عنه إلا عند الاضطرار.
4-
اختلاف ألفاظ الأحاديث التي تتوارد على معنى واحد، لا يرجع إلى الرواية بالمعنى وحدها.
5-
قبول التشكيك في الأحاديث يرفع الثقة عن جميع العلوم.
6-
لماذا أخذ العلماء من الأحاديث وتركوا.
7-
المحققون من أئمة العربية على جواز الاستشهاد بالأحاديث في اللغة والنحو.
وإليك هذه المباحث بإيجاز حتى تنجاب عنك تلك الظلمات:
1-
"لماذا لم تدون السنة بين يديه صلى الله عليه وسلم كالقرآن".
اعلم أن كتابة القرآن بين يديه صلى الله عليه وسلم، كان بوحي من الله عز وجل؛ لأنه متعبد بتلاوته، معجز بنظمه، ومن أجل ذلك لا تجوز روايته بالمعنى، بل لا بد من المحافظة على لفظه المنزل، فلو ترك لحوافظ العرب تعيه، بدون أن تستعين على وعيه بالكتابة، لما أمن أن يزيدوا فيه حرفا أو ينقصوه، أو يبدلوا كلمة بكلمة، أو جملة بأخرى، إلى غير ذلك من أنواع التغيير والتبديل، فيختل بذلك ركن من أركانه وهو النظم.
وكذلك ترك كتابة السنة بين يديه صلى الله عليه وسلم، كان بوحي من الله جل شأنه؛ لأن المقصود منها المعنى دون اللفظ، ولذلك لم يتعبد بتلاوتها، ولم يقع التحدي بنظمها، وتجوز روايتها بالمعنى.
هذا إلى أن في المحافظة على لفظ القرآن صيانة الشريعة، وفي الاكتفاء برواية السنة بالمعنى التيسير على الأمة، والتخفيف عنها،
في تحملها وأدائها، وذلك؛ لأن السنة لو كانت كالقرآن في وجوب أخذها وأدائها باللفظ المسموع منه صلى الله عليه وسلم، لتحملت الأمة في روايتها من ضروب الضيق والحرج ما لا يحصى، ولو كان القرآن كالسنة في جواز روايته بالمعنى لما كانت النفوس تطمئن إلى الشريعة، ولكان في القرآن منفذ للزنادقة والملحدين، إذ يقولون: لا ثقة لنا بأنه تنزيل من الله، ولكن الله عز وجل صان الشريعة، وخفف عن الأمة.
ولا يغيب عنك أن رواية السنة بالمعنى، يشترط فيها أن يكون الرواي خبيرا باللغة وأسرارها، وبالشريعة ومقاصدها، ذا ملكة قوية فيهما، وأن يكون الحديث الذي يريد روايته بالمعنى ليس من جوامع الكلم، ولا مما يتعبد بلفظه، ولا مما تعيه ذاكرته، فإن كان الراوي غير عالم بأساليب العرب، أو بعلوم الشريعة ومقاصدها، أو كان الحديث من جوامع الكلم، أو مما يتعبد بلفظه كأحاديث الدعاء، أو كان محفوظا للراوي، لم تجز الرواية بالمعنى في هذه الأحوال كلها، ومن ذلك كله يتبين لك أن الرواية بالمعنى لا يترتب عليها إخلال بالسنة، أو عبث بها.
فإن قال قائل بعد هذا البيان: "إن ترك كتابة السنة بين يديه صلى الله عليه وسلم مما يرفع الثقة بها"، قلنا له: معنى ذلك رمي النبي صلى الله عليه وسلم -وحاشاه- بالتقصير في تبليغ الوحي الإلهي، أو معناه أن السنة ليست من الدين، والقول بهذا أو ذاك، ضلال مبين، واتباع لغير سبيل المؤمنين.
2-
الرواية بالمعنى لا تجوز بعد تدوين الحديث:
الرواية بالمعنى لم تكن من الرواة بعد تدوين الحديث، وذلك؛ لأن الأصل في الرواية أن تكون على اللفظ المسموع منه صلى الله عليه
وسلم، فإذا نسي اللفظ جازت الرواية بالمعنى على سبيل التخفيف والرخصة، وبتدوين الأحاديث زال هذا المعنى الذي أوجب التيسير والرخصة، فوجب أخذ الحديث وروايته بلفظه، ولقد بدأ تدوين الحديث بشكل ظاهر منظم على رأس المائة الأولى، بأمر من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، فأخذ العلماء في جميع الأمصار يدونون ما وعته حوافظهم القوية، أو صحفهم المصونة، وتتابعوا على تدوين السنة في مراحل مختلفة، وبطرق متنوعة، إلى أن انتهت تلك المراحل والطرق بظهور الأصول الخمسة، "البخاري، ومسلم، والنسائي، وأبو داود، والترمذي" في القرن الثالث، الذي يعد بحق العصر الذهبي لتدوين السنة، ولقد كانوا في تدوينهم للسنة يقابلون ما يكتبون على الأصول، خشية الزيادة أو النقص بسبب الخطأ أو النسيان، حتى إذا اطمأنوا إلى ما كتبوا صانوا تلك الكتب، أوالصحف عن أن تمتد إليها يد تغير أو تبدل، هذا مع بقائهم على ما كان عليه أسلافهم من حفظ الحديث في الصدور، وإتقانه في الأداء، وتلقيه من أفواه المشايخ بالأسانيد المتصلة، فكان التدوين عاملًا جديدًا من عوامل حفظ السنة وصيانتها، أضيف إلى ما كانوا عليه من حفظ السنة في الصدور، ووعيها في القلوب.
وما ذكرنا من أن الرواية بالمعنى لم تكن بعد تدوين الكتب، ولا تجوز بعدها، نص عليه علماء الحديث الأعلام، منهم الإمام أبو عمرو، عثمان بن عبد الرحمن، المعروف بابن الصلاح، المتوفى سنة 642هـ، إذ يقول في مقدمته بعد أن ذكر اختلاف العلماء في جواز الرواية بالمعنى: "ثم إن هذا الخلاف، لا نراه جاريا ولا أجراه الناس -فيما نعلم- فيما تضمنته بطون الكتب، فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف، ويثبت بدله فيه لفظا آخر بمعناه، فإن الرواية
بالمعنى رخص فيها من رخص، لما كان عليهم في ضبط الألفاظ والجمود عليها من الحرج والنصب، وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه بطون الأوراق والكتب؛ ولأنه أن ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غيره، والله أعلم" ا. هـ ومثله في تقريب النواوي، وشرحه تدريب الراوي.
وبذلك يسقط قول الملحدين: "إن الرواة تناقلوا الحديث بألفاظهم في جميع العصور".
3-
"الصحابة والتابعون كانوا يحرصون في رواية الحديث على اللفظ النبوي".
الرواية بالمعنى كانت في المائة الأولى للهجرة، أي في عصر الصحابة والتابعين قبل أن يشيع تدوين الحديث، ولم يكونوا على وفاق في الرواية بها، فبعضهم كان يحجم عن رواية الحديث، إذا نسي لفظه صلى الله عليه وسلم، تورعا خشية أن لا يصيب المعنى، ويرى بأنه قد خرج من إثم كتمان العلم، بأداء غيره ممن هو أحفظ منه وأضبط، وبعضهم كان إذا نسي لفظ الحديث أو بعضه رواه على المعنى إذا كان ضابطا له، خروجا من إثم كتمان العلم، وعملا بحديث:"إذا لم تحلوا حراما، ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس"، قاله صلى الله عليه وسلم لمن قال له من الصحابة:"يا رسول الله إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمع منك يزيد حرفا أو ينقص حرفا، قال الحسن: "لولا هذا ما حدثنا"؛ ولأن تبليغ الأحاديث واجب، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فإذا ند اللفظ عن الذهن وعلم المعنى وجب أداؤه بلفظ مماثل، روى البيهقي عن مكحول، قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع، فقلنا له يا أبا الأسقع، حدثنا
بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس فيه وهم ولا مزيد ولا نسيان، فقال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئا، فقلنا نعم، وما نحن له بحافظين جدا، إنا لنزيد الواو والألف وننقص، قال:"فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم، لا تألونه حفظا، وأنتم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى أن لا نكون سمعناها منه لا مرة واحدة، حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى"، وأسند عن أبي أويس، قال: سألنا الزهري عن التقديم والتأخير في الحديث فقال: "إن هذا يجوز في القرآن1، فكيف به في الحديث، إذا أصبت معنى الحديث، فلم تحل به حراما، ولم تحرم به حلالا فلا بأس"، وأسند عن وكيع قال:"إن لم يكن المعنى واسعا، فقد هلك الناس"، وعلى جواز الرواية بالمعنى عند نسيان اللفظ النبوي جمهور السلف، وعليه كان العمل كما بينا، ومن هنا أخذ الماوردي اشتراط نسيان لفظه صلى الله عليه وسلم، في جواز الرواية بالمعنى، إذ يقول:"إن نسي اللفظ جاز؛ لأنه تحمل اللفظ والمعنى، وعجز عن أداء أحدهما، فيلزمه أداء الآخر، لا سيما أن تركه قد يكون كتما للأحكام، فإن لم ينسه لم يجز أن يورده بغيره؛ لأن في كلامه صلى الله عليه وسلم من الفصاحة ما ليس في غيره". ا. هـ ونعم ما قال، رحمه الله، قال السيوطي: ولا شك في اشتراط أن لا يكون مما تعبد بلفظه، قال: وعندي أنه يشترط أن لا يكون من جوامع الكلم. ا. هـ، وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه
1 أي في مقام الشرح والبيان، لا في مقام التلاوة والأداء. ويجوز أن يكون في مقام التلاوة والأداء، ولكن في الجملة الوافرة من السورة.
كأن يقرأ سورة الكهف من منتصفها، ثم ينشط فيقرأ باقيها من أولها.
وسلم إذا اضطروا إلى الرواية بالمعنى، أو شكوا في اللفظ النبوي أو في بعضه، أوردوا عقب الحديث لفظا يفيد التصون والاحتياط، وهم أعلم الناس بمعاني الكلام، لعلمهم بما في الرواية بالمعنى من الخطر، روى ابن ماجه، وأحمد والحاكم عن ابن مسعود أنه قال يوما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، ثم قال: "أو مثله، أو نحوه، أو شبيه به"، وفي مسند الدارمي والكفاية للخطيب عن أبي الدرداء أنه كان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أو نحوه أو شبهه"، وروى ابن ماجه وأحمد عن أنس بن مالك، أنه كان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرغ قال: "أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم".
هذا ما كان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين عند رواية الحديث النبوي، لا يترخصون في الرواية بالمعنى إلا عند نسيان اللفظ المسموع منه صلى الله عليه وسلم، وفي غير جوامع الكلم، وما تعبد بلفظه1، ثم بعد هذا كله يتبعون الحديث بقول يفيد احتياطهم في روايته، وينبهون أثناء سياق الحديث على موضع السهو أو التردد، بما لا تجده لأمة من الأمم في أي عصر من العصور، وإن شئت فاقرأ طرفا من كتب السنة المصونة كالصحيحين، أو السنن لتلمس ما كان عليه القوم من حفظ وضبط، ومن أمانة تامة، وبيان لحقيقة ما يروون:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
…
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وأكثر ما كانوا يفعلون، الرواية على اللفظ النبوي المسموع منه
1 كألفاظ الدعاء أو الأذان والإقامة، أوالتشهد في الصلاة.
صلى الله عليه وسلم، يحرصون على ذلك أشد الحرص وأبلغه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح العرب؛ ولأن أحاديثه دين:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وساعدهم على ذلك أمور:
أولا: حوافظهم الواعية، وأذهانهم الصافية، وقلوبهم العاقلة، وسجل لهم التاريخ الصحيح من ذلك، العجب العجاب، فقد كانوا يحفظون القصائد والخطب الطويلة، بسماعها مرة أو مرتين أو ثلاثا، ثم تبقى في أذهانهم ما بقوا؛ لأنهم قوم أميون، دواوينهم صدورهم، وكتبهم حوافظهم، نمت فيهم ملكة الحفظ بالممارسة، ومن الخطأ أن يقاسوا على الأمم الأخرى، أو يقاسوا علينا في هذا العصر.
ثانيا: تدوين كثير منهم لأحاديثه صلى الله عليه وسلم كتابة، خشية أن يضيع منها شيء عن أذهانهم، بسبب السهو أو الخطأ أوتقديم السن، وكانت الكتابة في التابعين أكثر منها بين الصحابة، فكان هذا التدوين الشخصي إلى جانب الحفظ في الصدور من أكبر العوامل على صون الحديث، كما سمع منه صلى الله عليه وسلم، ومن كره تدوين الحديث من الصحابة أو التابعين كان خشية الاعتماد على الكتابة وترك الحفظز، أو؛ لأنهم تلقوها حفظا فأحبوا أن تؤخذ عنهم كذلك، أو؛ لأنهم خافوا أن تضعف ملكة الحفظ فيهم بسبب التدوين، إلى غير ذلك مما تقدم لنا تفصيله.
ثالثا: تلك المجالس التي كانوا يعقدونها لتحمل الحديث وروايته، وتلك الرحلات إلى الأمصار المختلقة لذلك، فكانت هذه وتلك مما أعانت على بقاء حفظ السنة في أذهانهم، وضبطها في صدورهم، وتثبيتهم فيما عسى أن يكونوا قد شكوا أو ترددوا فيه، وتلقيهم ما فاتهم من حديثه
صلى الله عليه وسلم. وقد رغبهم صلى الله عليه وسلم في التبليغ عنه، فصدعوا بما أمروا، وتفانوا في القرآن والحديث أخذا وتحملا، فرضي الله عنهم، وأثابهم أعظم المثوبة.
من أجل ذلك كله نستطيع أن نقول ونحن مطمئنون: أن الرواية بالمعنى كانت قبل فساد اللسان العربي، ومن أئمة كبار في اللغة والشرع معا، وكانوا يرونها رخصة عند الاضطرار، وكان نسيانهم قليلا بل نادرا، فإن كان ففي بعض حروف العطف، أو المفردات، أو بعض الجمل.
4-
"اختلاف ألفاظ الأحاديث لا يرجع إلى الرواية بالمعنى وحدها":
من الخطأ البين أن يعزى اختلاف ألفاظ الأحاديث، التي تتوارد على معنى واحد، إلى الرواية بالمعنى وحدها، بل كان لمجالسه صلى الله عليه وسلم المتعددة بتعدد الأزمنة والأمكنة، والحوادث والأحوال، والسامعين والمستفتين، والمتخاصمين والمتقاضين، والوافدين والمبعوثين، أثر في ذلك كبير، فكانت ألفاظه صلى الله عليه وسلم تختلف في كل ذلك، إيجازا وإطنابا، ووضوحا وخفاء، وتقديما وتأخيرا، وزيادة ونقصانا، بحسب ما تقتضيه الحال، ويدعو إليه المقام، فقد يسأل عن أفضل الأعمال مثلا، فيجيب كل سائل بجواب غير جواب صاحبه، أو عن أفضل الجهاد، فيذكر لكل مستفت نوعا من أعمال البر غير ما يذكره للآخر، أو عن أحب أنواع الصدقة فيذكر لهذا غير ما يذكره لذاك، أويسأل عن معنى البر والإثم فتعدد أجوبته بتعدد السائلين، وهكذا، فيظن من لا علم عنده أن هذا من باب التعارض، أو من عدم ضبط الرواة، وواقع الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان طبيب
النفوس، فيجيب كل إنسان عن مسألته بما يناسبه، وبما يكون أنفع له أو للناس في جميع الظروف، أو في الظرف الذي كان فيه الاستفتاء.
وانظر إلى اختلاف ألفاظ الأذان والإقامة والتشهد، والأذكار في الصلوات وبعدها، والأدعية فيها وفي غيرها، والرواة في الجميع عدول ضابطون، فيظن من لا علم عنده أن هذا من باب التناقض، أو أنه من عدم ضبط الرواة، أو من الوراية بالمعنى، والواقع أن كل ذلك كان بتعليم منه صلى الله عليه وسلم، إشارة إلى جواز الجميع، وأن في الأمر سعة وتيسيرا على الأمة -ثم انظر تعاليمه صلى الله عليه وسلم للوفود، ووصاياه القيمة لمن يبعثهم إلى الأقطار المختلفة، معلمين ومرشدين، ومبرشين ومنذرين، وإلى كتبه للملوك والرؤساء والحكام، تجدها حافلة ببالغ العظات، ونافع الوصايا، مع تفنن في القول، ورعاية للمناسبات، وخطاب للناس على مقدار عقولهم.
ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطب في الجمع والأعياد، والغزوات والحروب، ومهمات المسائل وجسام الأمور، يحذر فيها وينذر، ويبصر فيها ويرشد، ويذكر قواعد الإسلام، ومعالم الأحكام، وأحوال الجنة والنار، وأشراط الساعة، وعذاب القبر، وألفاظه في ذلك تختلف باختلاف المناسبات، وتطول وتقصر تبعا لما تقتضيه الأحوال.
ولقد كانت مجالسه المباركة على كثرتها سفرا وحضرا، حافلة ببيان الأحكام، وتصحيح الأخطاء، والوصايا بتقوى الله عز وجل، والحث على مكارم الأخلاق، والتحذير من مساوئها، وربما قص عليهم فيها من أنباء الأمم الخالية، ما فيه عبرة وذكرى، يصرف القول في جميع
ذلك بما يتلاءم وحال السامعين، من البسط والإيجاز، والوضوح والخفاء1.
فهل ترى في أحاديثه صلى الله عليه وسلم في جميع ما ذكرنا، وتنويعها حسب ما يليق بكل حال، تناقضا واختلافا، أو أن الرواة لم يضبطوا ما سمعوا فترخصوا في الرواية بالمعنى، فكان من ذلك التناقض والاختلاف؟، اللهم لا هذا ولا ذاك، ولكنه الحكمة في التعليم، والرعاية للمناسبات، والتطلف في تبليغ الوحي الإلهي، وإعطاء ما يناسب الأفراد والجماعات، من العظات وبيان الأحكام.
وما لنا نذهب بعيدا، وهذا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيه القصة الواحدة لنبي من الأنبياء، تذكر في جملة سور منه على وجوه شتى، فتارة تذكر كلها كاملة، موجزة أو مبسوطة، وتارة يذكر طرف منها في سورة وطرف آخر في سورة أخرى، موجزا ذلك الطرف أو مبسوطا، كل ذلك مع اختلاف الألفاظ، وتنوع العبارات، كما تراه في قصة آدم ونوح وإبراهيم وموسى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام، أتر في تصريف القول في كل قصة من قصص الأنبياء مثلا تناقضا واختلافا، كما يراه من في قلوبهم مرض، أم أنه الحق من ربك، يصدق بعضه بعضا، ويشرح المجمل فيه بالمفصل، ويضم طرف من القصة الواحدة في موضع إلى طرف منها في موضع آخر، فتلتئم أطراف القصة، وإن ذلك كله كان لاختلاف المقام، ورعاية الحال، كما يعلمه الراسخون في العلم، قائلين "كل من عند ربنا".
1 فإذا أضفت إلى هذا كله، أو رواة أحاديثه صلى الله عليه وسلم في كل مجلس، قد يروون جميع ما سمعوا، وقد يقتصرون على بعضه، وما يقتصر عليه هذا غير ما يقتصر عليه ذاك تبعا لمواطن الاستشهاد مع المحافظة على اللفظ المسموع، استبان لك أن شبهات الملحدين قد ذهبت هباء.
أما أنه لو لم يثبت القرآن بالتواتر حفظا وكتابة، وكان ثبوته عن طريق الآحاد كالسنة، لكانت الشبهة هي الشبهة، ولكن الله عزوجل قد صانه عن الشبهات بالتواتر، ليضرب لنا فيه الأمثال على صدق السنة:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} .
5-
اعتبار التشكيك في الأحاديث يرفع الثقة بجميع العلوم:
ليس لدينا علم من العلوم سعد باتصال الأسانيد بالثقات الضابطين، وتنوع تلك الأسانيد، ومعرفة أحوال الرواة، من جهة شيوخهم وتلاميذهم، وتعديلهم وتجريحهم، وحلهم وترحالهم، ومواليدهم ووفياتهم، مثل علم الحديث النبوي، ففيه من كتب الرجال والطبقات في جميع العصور والأمكنة، ما تستطيع به أن تطلع على تاريخ كل راو من رواة السنة وما قيل فيه، ولو حاولت أن تفعل ذلك أو بعضه مع رواة الأدب، أو مع رواة التاريخ أو غيرهما من العلوم، لالتوى عليك البحث، وأدركك العجز، مهما أوتيت من سعة الذهن، ووفرة المراجع، وسعة الاطلاع.
وقد أتاح الله عز وجل لهذه السنة النبوية المباركة، أن يخدمها في كل عصر ومصر أئمة كرام بررة، وأعلام ثقات مهرة؛ لأنها شارحة للقرآن، ومفصلة لمقاصده، بمقتضى قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، فكان حفظها حفظا للقرآن، والعناية بها أخذا وتحملا، سندا ومتنا، عناية بالقرآن، الذي ضمن الله بقاءه على الدهر، بقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
ولو أننا ذهبنا نستمع إلى من في قلوبهم مرض، من دعاة الإلحاد، وخصوم الإسلام، وصرنا إلى ما صاروا إليه من الشبهات، المؤسسة
على شفا جرف هار، لذهبت ثقتنا بجميع العلوم، ذلك؛ لأن علماءها لم يبذلوا فيها، من الدرس والتمحيص، والدقة والتحري، عشر معشار ما بذله علماء الحديث، في حفظ السنة ورعايتها، وتمييز صحيحها من ضعيفها، ومعرفة أحوال رواتها على اختلاف طبقاتهم وأزمنتهم وأمكنتهم، كما بينا، فإذا انهار حصن السنة الحصين، بعد تلك العناية البالغة، التي يشهد بها التاريخ والواقع، لم يبق هناك علم نرجع إليه أو نثق به، وكفى بذلك حمقا وجهلا.
إنك لو فتشت عما يريده هؤلاء المارقون، لرأيتهم يريدون الإتيان على الإسلام من القواعد، لذلك ترى فريقا منهم يحاول صد الناس عن اتباع السنة، عن طريق النيل من حماتها، وتسفيه حملتها، ورميهم بكل نقيصة، بغيا وحسدا، باسم البحث الحر، والدراسة التحليلية، والطريقة العلمية، ومن عجيب أمر هؤلاء أنهم يحملون علماء السنة وحماتها، أوزار الوضاعين، من الجهلة والزنادقة والمغرضين، ويردون ما صح من الأحاديث بإجماع الأئمة، بأخبار ضعيفة، وآثار واهية، ينقلونها عن كتب الأدب والتاريخ، وعن جهلة الشيعة والمعتزلة، وهي إذا وزنت بميزان النقد الصحيح انهارت أسانيدها ومتونها، وذهبت هباء منثورا،
بل ويذهبون بتسعة أعشار السنة، التي تلقاها العلماء بالقبول في جميع الإعصار والأمصار، بحديث من وضع الزنادقة لا وزن له عند علماء السنة، وهو "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله
…
" إلخ، ويتظاهرون بإجلال القرآن واحترامه، وأنه الحجة التي ليس وراءها حجة، هذا حال فريق منهم إزاء السنة، وهناك فريق آخر يحاولون أن يتلاعبوا بالقرآن عن طريق التأويلات الباطلة، والأفهام الزائفة، باسم التجديد، ونبذ القديم، ويلتقي هذا الفريق وذاك عند هدف
واحد، هو هدم الإسلام، وصد الناس عن اتباعه:{أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . ولكن الله قد حمى عرين الدين بهؤلاء العلماء، الثقات الأمناء، فردوا كيدهم في نحورهم، وذهبوا بأباطيلهم:{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
6-
ترك العلماء لبعض الأحاديث وسببه:
لم يكن ذلك منهم استهانة بالسنة ومسايرة للأغراض والشهوات، معاذ الله أن يكون منهم هذا، وهم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وحملة السنة وحماتها، وفي القرآن الكريم:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} ، وفي الحديث:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"، وإنما كانوا يفعلون ذلك؛ لأن الحديث لم يبلغهم، أو بلغهم ولم يصح لديهم، أوصح ولكن عارضه ما هو أقوى من أدلة الشريعة أو رأوه منسوخا، إلى غير ذلك من الاعتبارات الشرعية، التي بسطها ابن تيمية في رسالته "رفع الملام عن الأئمة الأعلام". وقد تكلمنا عن أمثلة منها في المقدمة، ونزيد الآن على ما أسلفنا تلك الفوائد، حتى لا يختلط عليك الحق بالباطل، فنقول وبالله التوفيق:
أولا: العقائد التي يتوقف عليها صحة الإسلام ثابتة بالأدلة القطعية من العقل والنقل، وذلك كالإيمان بوجود الله ووحدانيته، ووصفه بأوصاف الكمال والجلال، وتنزيهه عن سمات الحدوث والنقصان، وكالإيمان بملائكة الله، وكتبه ورسله والقدر خيره وشره، وكالإيمان
بالبعث بعد الموت، والمجازاة على الأعمال بالنعيم في الجنة، أو العذاب في النار يوم القيامة.
هذا النوع من العقائد لا يثبت إلا بصريح العقل، ونصوص القرآن وما تواتر لفظا أو معنى من أحاديث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، فإن رأيت فيه حديثا غير متواتر فلا ترده؛ لأنه عاضد للدليل القطعي، أما العقائد التي لا يتوقف عليها أصل الإيمان، ولا تحقق الإسلام فهذه يجوز إثباتها بأخبار الآحاد الصحيحة، التي لا عارض قرآنا ولا سنة متواترة ولا إجماعا، ولا عقلا صريحا، وذلك كوصف الله تعالى بشيء من أوصاف الكمال تفصيلا، وتسميته
ببعض أسمائه الحسنى، وكالأخبار عن بعض المغيبات الكائنة أو المستقبلة، وكعذاب القبر ونعيمه وما يكون فيه، وكتفاصيل ما يكون يوم القيامة من الشفاعة ووزن الأعمال، ورؤية الله عزوجل.
على أن الأحاديث الآحادية في هذا النوع من العقائد كثيرا ما تتعدد طرقها، فتكتسب الشهرة أو التواتر، وقد يحتف بها من القرائن أو يعاضدها من ظواهر القرآن الكريم، وإجماع العلماء الذين يعتد بإجماعهم ما يجعلها في درج الأدلة اليقينية، وجاحد هذا النوع من العقائد ضال مضل، وفاسق مبتدع.
ثانيا: علمت مما تقدم أن ما لم يتواتر من الأحاديث، "وهو خبر الوحد في اصطلاح المحدثين"، يحتج به في العقائد التي لا يتوقف عليها أصل الإيمان، وذلك بناء على أن مثل هذه العقائد يكتفي فيها بالظن القوي، أو بناء على ما يراه كثير من المحققين من أن خبر الواحد يفيد
العلم1 لا سيما إن تعددت طرقه، أو انضم إليه ظاهر القرآن الكريم، أو إجماع علماء الدين.
ونفيد هنا أن الإمام البخاري في آخر صحيحه عقد كتابا خاصا بالتوحيد، أثبت فيه لله عز وجل كثيرا من أوصاف الكمال والجلال، بمقتضى الأحاديث الصحيحة، قال الحافظ في فتح الباري:"الذي يظهر من تصرف البخاري في كتاب التوحيد، أنه يسوق الأحاديث التي وردت في الصفات المقدسة، فيدخل كل حديث منها في باب، ويؤيده بآية من القرآن، للإشارة إلى خروجها عن أخبار الآحاد، على طريق التنزل في ترك الاحتجاج بها في الاعتقاديات، وأن من أنكرها خالف الكتاب والسنة جميعا، وقد أخرج ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية بسند صحيح، عن سلام بن أبي مطيع، وهو شيخ شيوخ البخاري، أنه ذكر المبتدعة فقال: ويلهم ماذا ينكرون من هذه الأحاديث، والله مافي الحديث شيء إلا وفي القرآن مثله، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} ، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه} ، {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ، {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، ونحو ذلك فلم يزل -أي سلام بن أبي مطيع- يذكر الآيات من العصر إلى غروب الشمس". ا. هـ "13-304" من الأميرية.
1 روي عن مالك وأحمد، وجماعة من أهل الحديث أن خبر الواحد الصحيح يفيد القطع، وحكاه ابن حزم عن داود وانتصر له، وأفاد الحافظ في شرح النخبة أنه يفيد العلم إذا احتف بالقرائن، ومثل له بما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، وبالمشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل، وبالمسلسل بالأئمة الحفاظ حيث لا يكون غريبا.
ثالثا: أسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني، قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن، وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عله وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسر شيئا منها، وقال بقول حبهم فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفارق الجماعة؛ لأنه وصف الرب بصفة "لا شيء"، وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي، عن يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول:"لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الروية والفكر، فنثبت هذه الصفات، وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} ، وقال الترمذي في باب فضل الصدقة من جامعه: "قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها ولا نتوهم، ولا يقال كيف، كذا جاء عن مالك وابن عيينة، وابن المبارك أنهم أمروها بلا كيف، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكروها، وقالوا: هذا تشبيه، وقال إسحاق بن راهويه: إنما يكون التشبيه لو قيل: يد كيد، وسمع كسمع، وقال في تفسير المائدة: قال الأئمة: نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير، منهم الثوري، ومالك، وابن عيينة، وابن المبارك"، وقال ابن عبد البر: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة، ولم يكيفوا شيئا منها، وأما الجهمية، والمعتزلة، والخوارج، فقالوا: من أقربها فهو مشبه، فسماهم من أقر بها معطلة"، وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: "اختلفت مسالك العلاء في هذه الظواهر: فرأى بعضهم تأويلا، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف، إلى الانكفاف
عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الله تعالى، والذي نرتضيه رأيا، وندن الله به عقيدة، اتباع سلف الأمة، للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما، لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك هو الوجه المتبع". ا. هـ راجع فتح الباري "13-342، 343 ط الأميرية".
ومن ذلك يتبين لك أن الأحاديث الصحيحة، التي اشتملت على الصفات الإلهية المقدسة، لم يردها أئمة السلف، ولكنهم آمنوا بها كما جاءت، من غير أن يخوضوا في حقيقة معناها، ومع تنزيه ربنا عز وجل عن مشابهة الخلق، ولكن الذي أنكرها إنما هم الجهمية وأضرابهم من المبتدعة، وهؤلاء ليس لهم وزن عند علماء القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير، قال صاحب فتح الباري:"رد الروايات الصحيحة، والطعن في أئمة الحديث الضابطين، مع إمكان توجيه ما رووا، من الأمور التي أقدم عليها كثير من غير أهل الحديث، وهو يقتضي قصور فهم من فعل ذلك منهم، ومن ثم قال الكرماني: لا حاجة لتخطئة الرواة الثقات، بل حكم هذا حكم سائر المتشابهات إما التفويض، وإما التأويل". ا. هـ "13-339ط الأميرية"، وقد علمت أن التفويض هو ما كان عليه السلف في عصور الخير، ولا ندين الله بغيره.
رابعا: النصوص الشرعية على ظواهرها، ما لم يكن هناك موجب لصرفها عن هذا الظاهر من عقل صريح، أو نقل صحيح إو إجماع ظاهر، ولا يجوز رد النصوص، أو صرفها عن ظاهرها بالهوى، أو بقياس الغائب
على الشاهد أو بناء على الاستبعاد العادي، أو؛ لأنها خارقة للنواميس العادية التي يسير عليها عالمنا الذي نعيش فيه، فإن لكل عالم نظامًا يخصه، ونواميس يجري عليها، وبناء على ما قدمنا فن الخطأ رد أحاديث الدجال، أو نزول عيسى عليه السلام، أو طلوع الشمس من مغربها، أو رد أحاديث عذاب القبر أو الشافعة، أو رؤية الله عز وجل في الآخرة، كما أن من الخطأ رد أحاديث شق الصدر الشريف، وانشقاق القمر أو الإسراء والمعراج، أو معجزاته صلى الله عليه وسلم الحسية، والفاعل هو الله، والله عز وجل لا يعجزه شيء في الأرض، ولا في السماء، ومبنى المعجزات خرق النواميس العادية، وإلا لما كانت معجزات، ولله عز وجل أن يكرم من شاء بما شاء، وهو العليم الحكيم، وأما قوله تعالى:{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ، فهذا في قتال أهل الحق مع أهل الباطل، يبتلي الله أولياءه بأعدائه، ثم تكون العاقبة للمتقين، وفي الأمم مع رسل ربها إذا كذبت وبغت يأخذها الله أخذ عزيز مقتدر، {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا، فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} ، {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} ، هذا ما يرشد إليه السياق في جميع الآيات، ومن الحمق أن ترد تلك الأحاديث لمجرد الظاهر من غير تأمل السياق، وقد صرح القرآن نفسه بمعجزات حسية لبعض أنبياء الله، كموسى وعيسى وإبراهيم، عليهم السلام، فهل ترد تلك المعجزات لمخالفتها للنواميس العادية، كما هو دأب الزنادقة والملحدين، أو تقبل النصوص كلها، ولا يرد بعضها ببعض، كما هو دأب الراسخين في العلم، يقولون:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، لا شك أن مسالك أهل الحق هو المتعين؛ لأن ذلك جميعه
تنزيل من الله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
7-
الاستشهاد بالأحاديث في اللغة والنحو:
علمت ما قدمنا أن الرواية بالمعنى لم تكن بعد تدوين السنة، وإنما كانت في القرن الأول قبل فساد اللسان العربي، على قلة وفي حدود ضيقة، وأن رواة الأحاديث كانوا أحرص ما يكون على نقل الألفاظ النبوية نفسها، ومن ثم أجاز المحققون من أئمة العربية الاستشهاد بالأحاديث على إثبات اللغة، وقواعد النحو، ومن هؤلاء ابن مالك والرضي والبدر الدماميني، وصاحب خزانة الأدب، وإليك عبارة صاحب الخزانة، وهي أجمع العبارات وأوفاها في تقرير هذا البحث، قال في الجزء الأول "ص5، وما بعدها":
"وأما الاستدلال بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جوزه ابن مالك، وتبعه الشارح المحقق "الرضي" في ذلك، وزاد عليه الاحتجاج بكلام أهل البيت رضي الله عنهم، وقد منعه ابن الضائع، وأبو حيان وسندهما أمران:
أحدهما: أن الأحاديث لم تنقل كما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما رويت بالمعنى.
وثانيهما: أن أئمة النحو المتقدمين من المصريين "البصرة والكوفة".
لم يتحجوا بشيء منها.
ورد الأول -على تقدير تسليمه- بأن النقل بالمعنى إنما كان في الصدر الأول قبل تدوينه في الكتب، وقبل فساد اللغة، وغايته تبديل لفظ بلفظ يصح الاحتجاج به فلا فرق، على أن اليقين غير مشروط بل الظن كاف.
ورد الثاني بأنه لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به.
والصواب: جواز الاحتجاج بالحديث للنحوي في ضبط ألفاظه، ويلحق به ما روي عن الصحابة، وأهل البيت، كما صنع الشارح المحقق.
ثم قال صاحب الخزانة نقلا عن الدماميني في رد المذهب الذي لا يحتج بالحديث:
"وقد رد هذا المذهب الذي ذهبوا إليه البدر الدماميني في شرح التسهيل -ولله دره فإنه قد أجاد في الرد- قال: قد أكثر المصنف "يريد به ابن مالك صاحب التسهيل"، من الاستدلال بالأحاديث النبوية، وشنع أبو حيان عليه، وقال: إن ما استند إليه من ذلك لا يتم له، لتطرق احتمال الرواية بالمعنى، فلا يوثق بأن ذلك المحتج به لفظه صلى الله عليه وسلم حتى تقوم به الحجة، وقد أجريت ذلك لبعض مشايخنا، فصوب رأي ابن مالك فيما فعله، بناء على أن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب، وإنما المطلوب غلبة الظن، الذي هو مناط الأحكام الشرعية، وكذا ما يتوقف عليه من نقل مفردات الألفاظ، وقوانين الأعراب، فالظن في ذلك كله كاف، ولا يخفى أنه يغلب على الظن أن ذلك المنقول المحتج به لم يبدل؛ لأن الأصل عدم التبديل، لا سيما والتشديد في الضبط والتحري في نقل الأحاديث، شائع بين النقلة والمحدثين. ومن يقول منهم بجواز النقل بالمعنى، فإنما هو عنده بمعنى التجويز العقلي، الذي لا ينافي وقوع نقيضه فلذلك تراهم يتحرون في الضبط، ويتشددون مع قولهم بجواز النقل بالمعنى، فيغلب على الظن من هذا كله أنها لم تبدل، ويكون احتمال التبديل فيها مرجوحا فيلغى، ولا يقدح في صحة الاستدلال بها.
"ثم إن الخلاف في جواز النقل بالمعنى إنما هو فيما لم يدون ولا كتب، وأما ما دون وحصل في بطون الكتب، فلا يجوز تبديل ألفاظه من غير خلاف بينهم، قال ابن الصلاح بعد أن ذكر اختلافهم في نقل الحديث بالمعنى: "إن هذا الخلاف لا نراه جاريا، ولا أجراه الناس -فيما نعلم- فيما تضمنته بطن الكتب، فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف، ويثبت فيه لفظا آخر". ا. هـ وتدوين الأحاديث والأخبار -بل وكثير من المرويات- وقع في الصدر الأول، قبل فساد اللغة العربية، حين كان كلام أولئك المبدلين -على تقدير تبديلهم- يسوغ الاحتجاج به، وغايته يومئذ تبديل لفظ بلفظ يصح الاحتجاج به، فلا فرق بين الجميع في صحة الاستدلال، ثم دون ذلك المبدل -على تقدير التبديل، ومنع من تغييره ونقله بالمعنى، كما قال ابن الصلاح، فبقى حجة في بابه، ولا يضر توهم ذلك السابق في شيء من استدلالهم المتأخر، والله أعلم بالصواب. ا. هـ كلام صاحب الخزانة.
موقف صاحب مجلة المنار من الأحاديث، والآثار الواردة في كتابة الحديث:
كتب المرحوم الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار في الجزء العاشر من المجلد العاشر من هذه المجلة مقالا في تدوين الأحاديث في القرن الأول، خالف فيه طريق العلماء من وجوه نذكرها، ثم تتبعها بالرد عليها فنقول:
أولا: يرى أن أول من دون الحديث، هو خالد بن معدان الحمصي فيقول في ص754: "لعل أول من كتب الحديث وغيره من التابعين في القرن الأول، وجعل ما كتبه مصنفا مجموعا، هو خالد بن معدان الحمصي.
روى عنه أنه لقي سبعين صحابيا. قال في تذكرة الحفاظ وقال بحير.
ما رأيت أحدا ألزم للعلم منه. وكان علمه في مصحف له أزرار وعرى"
ثم قال: "فخالد بن معدان جمع علمه في مصنف واحد، جعل له وقاية لها أزرار وعرى تمسكها لئلا يقع شيء من تلك الصحف، وكان ذلك في القرن الأول فإنه مات سنة 103، أو سنة 104. ولكن المشهور أن أول من كتب الحديث ابن شهاب الزهري القرشي. ولعل سبب ذلك أخذ أمراء بني أمية عنه". ا. هـ.
خالف الشيخ المشهور عند العلماء قديما وحديثا من أن أول من دون الأحاديث بأمر الخليفة، لتنشر في جميع الأقطار الإسلامية هو ابن شهاب الزهري، ولا دليل يستند إليه سوى قول بحير في خالد بن معدان، "وكان علمه في مصحف له أزرار وعرى"، مع أنه لا دلالة فيه على أولية التدوين، وهذا تدوين لنفسه خاصة سبقه به كثير كعبد الله بن عمرو بن العاص، وكل ما هنالك أنه شهد له بغزارة العلم، وأنه كان يكتبه في صحف خشية أن يضيع، والثابت أن ابن شهاب كان ألزم للعلم من خالد، وأحرص على التدوين منه وأقوى حفظا من غيره، وأنه أول من دون الحديث على الإطلاق من التابعين لينشر في الأقطار الإسلامية.
وقد نقل الشيخ نفسه من ثناء العلماء على الزهري، ما هو أبلغ من قول بحير في خالد حفظا، وكتابة فهلا كان ذلك عنده مبررا لأوليته في التدوين.
ثانيا: يرى أن الأحاديث التي صحت في الإذن بكتابة السنة، لا تدل لكتابتها على الإطلاق، بل هي في موضوعات خاصة لا تتعداها. وإن الأحاديث الضعيفة، التي تدل للكتابة مطلقا ساقطة لا يحتج بها، ولا ينظر إليها. قال في ص765، 766:-
1-
حديث أبي هريرة "اكتبوا لأبي شاه" في الصحيحين وموضوعه خاص. وروى عنه البخاري قوله: "أن عبد الله بن عمرو كان يكتب، وأنه هو لم يكن يكتب"، وله حديث عند الترمذي:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لرجل سيئ الحفظ بأن يستيعين بيمينه".
2-
حديث أنس: "قيدوا العلم بالكتاب"، ضعيف.
3-
حديث أبي بكر: "من كتب عني علما أوحديثا، لم يزل يكتب له الأجر ما بقي ذلك العلم أو الحديث"، رواه ابن عساكر في تاريخه. ضعيف.
4-
حديث رافع بن خديج: قلت: يا رسول الله إنا نسمع منك أشياء فنكتبها قال: "اكتبوا ولا حرج"، رواه الحكيم الترمذي، والطبراني والخطيب ضعيف.
5-
حديث حذيفة: "اكتبوا العلم قبل ذهاب العلماء"، عند ابن النجار في تاريخ. ضعيف أيا بل يشم منه رائحة الوضع.
6-
حديث علي في الصحيفة رواه أحمد، والبخاري والثلاثة، وموضوعها خاص ومنسوب إلى الوحي -والحديث المشار إليه، هو ما رواه هؤلاء الأئمة عن مطرف بن طريف. قال سمعت الشعبي يقول: أخبرني أو جحيفة قال: قلت لعلي بن أبي طالب: "هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن. قال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه وما في هذه الصحيفة.
قلت وما في الصحيفة. قال: العقل وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر".
7-
كتاب الصدقات والديات والفرائض لعمرو بن حزم. رواه أبو داود والنسائي، وابن حبان والدارمي وموضوعه خاص. وإنما كتب
له ذلك ليحكم به إذ ولي عمل نجران -والحديث المذكور هو ما رواه الأئمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب كتاب الصدقات، والديات، والفرائض، والسنن لعمرو بن حزم وغيره.
8-
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص هو أكثر ما ورد في الباب، وهو كما في بعض رواياته، "قلت: يا رسول الله اكتب كل ما أسمع منك، قال: نعم. قلت: في الرضا والغضب. قال: نعم، فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقا"، قال الشيخ وقد جاء بألفاظ مختلفة من طريقين فيما أعلم الآن عند أحمد، وأبي داود والحاكم. فالطريق الأول عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أي عبد الله بن عمرو بن العاص فهو جده. وهذا الطريق فيه مقال مشهور للمحدثين لم يمنع بعض المتأخرين من الاحتجاج به، وهو تساهل منهم. ونقل هنا مقالة المتقدمين في هذا الطريق عن الميزان للذهبي. ثم قال: والطريق الثاني عن عبد الله بن المؤمل، عن ابن جريج عن عطاء عنه بلفظ: "قيدوا العلم"، وعبد الله بن المؤمل، قال أحمد أحاديثه مناكير، وقال النسائي والدارقطني ضعيف أما ما رواه ابن عبد البر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص من قوله: ما يرغبني في الحياة إلا خصلتان الصادقة والوهط، فأما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الوهط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص كان عبد الله يقوم عليها -ففي سنده ليث، عن مجاهد، وليث هذا هو ابن سليم. ضعفه يحيى والنسائي. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي قال: ما رأيت يحيى بن سعيد أسوأ رأيا في أحد منه في ليث، ومحمد بن إسحاق وهمام لا يستطيع أحد أن يراجعه فيهم. ذكره في الميزان، وذكر أنه اختلط في آخر عمره. ا. هـ، ونحن نناقش الشيخ في بعض مقالته هذه لئلا يطول بنا المقال فنقول:
مناقشته في أحاديث أبي هريرة الثلاثة:
ادعى أن حديث أبي هريرة عند الشيخين خاص بأبي شاه، ولم يبين لنا وجه تلك الخصوصية. ومن المقرر عند العلماء أن دعوى الخصوصية بلا دليل غير مقبولة. فإن أراد بالخصوصية أن قوله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاه، خاص بخطبته عام فتح مكة فذلك صريح الحديث. لكن لا يدل على منع الكتابة في غير خطبته هذه، أو لغير أبي شاه؛ لأنه لا فارق بين خطبته في هذا المقام، وبين سائر أحاديثه في وجوب العناية بحفظها ووجوب تبليغها، كما أنه لا خصوصية لأبي شاه عن غيره من سائر الصحابة رضي الله عنهم، بل عن جميع المكلفين. فإن قيل: يحتمل أنه كان سيئ الحفظ قلنا: ويحتمل أنه أراد أن يضم الكتابة إلى الحفظ، والاحتمالات بابها واسع. فالمصير إلى احتمال معين ودعوى أن ما عداه باطل محض تحكم.
وأما حديث أبي هريرة الثاني فقد سكت عنه. وهو ما رواه البخاري في صحيحه عن همام بن منبه قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حدثا مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب"، ولا يلتفت إلى الطعن في همام بعد تخريج البخاري له في الصحيح. ونحن نستدل بهذا الحديث على أن كتابة الحديث جائزة بل مستحبة، فإن ابن عمرو فعلها، وأبو هريرة لم ينكر عليه بل جعل ذلك من محاسنه، وأنه من أجل ذلك كان أكثر حديثا منه: قال في فتح الباري وروى أحمد، والبيهقي في المدخل من طريق عمرو بن شعيب، عن مجاهد والمغيرة بن حكيم قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب بيده ويعي بقلبه، وكنت أعي ولا أكتب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتابة عنه، فأذن له1 إسناده حسن. أفاد هذا الحديث أن عبد الله بن عمرو استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الحديث، فأذن له وأنه لم يكن به آفة تضطره إلى الكتابة، بدليل قول أبي هريرة "فإنه كان يكتب بيده، ويعي بقلبه"، وأن موضوعه ليس بخاص، بل هو عام في الأحاديث كلها.
وأما حديث أبي هريرة الثالث عند الترمذي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، أذن لرجل سيئ الحفظ بأن يستعين بيمينه"، فواضح الدلالة على أنه يجوز لمن كان على مثل حال هذا الرجل أن يستعين بالكتابة، وذلك لا يمنع جواز الكتابة لمن كان حسن الحفظ، فإن ذلك آكد لحفظه.
ولعل صاحب المنار يقصد بإيراد حديث الترمذي المذكور، عقب حديث البخاري في كتابة عبد الله بن عمرو، أن عبد الله هو ذلك الرجل الذي كان سيئ الحفظ، وقد ذكرنا ما يبطل ذلك. وقد مر بك في ترجمة عبد الله بن عمرو السبب في قلة ما وصل إلينا من حديثه بالنسبة لأبي هريرة، مع أنه جمع إلى حفظ الحديث كتابته.
مناقشته في حديث صحيفة علي، وكتاب عمرو بن حزم:
بعد أن سلم الشيخ بصحة الحديثين، ادعى أن كلا منهما في موضوع خاص. وقد أبطلنا فيما سبق أن خصوص المكتوب، أو الكاتب لا يدل على المنع من الكتابة في غير المكتوب أو لغير الكاتب. فإن السنة وحي من الله يجب على الناس تبليغها، ومن وسائل ذلك التبليغ: الكتابة.
1 انظر جـ1 ص148.
ومن العجيب قول الشيخ في كتاب عمرو بن حزم، "أن موضوعه خاص، وإنما كتب له ذلك ليحكم به، إذ ولي عمل نجران"، مع أن لفظ الحديث كما سبق:"كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقات، والديات، والفرائض والسنن لعمرو بن حزم وغيره"، فالكتابة لم تكن لعمرو بن حزم وحده، بل كانت له ولغيره، وموضوعها ليس بخاص كما هو ظاهر -وكأن الشيخ فهم أن الكتابة للحكم يلزم منها منع الكتابة للحفظ، مع أن الحفظ من وسائل الحكم، وعوامل الإصابة فيه، وإليك عبارة العلامة ابن القيم في زاد المعاد جـ1 ص59 قال- في معرض كلامه على كتبه صلى الله عليه وسلم إلى أهل الإسلام في الشرائع ما نصه: ومنها كتابه إلى أهل اليمن، وهو الكتاب الذي رواه أبو بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيه عن جده، وكذلك رواه الحاكم في صحيحه والنسائي وغيرهما مسندا متصلا، ورواه أبوداود وغيره مرسلا، وهو كتاب عظيم فيه أنواع كثيرة من الفقه في الزكاة، والديات والحكام، وذكر الكبائر والطلاق، والعتاق وأحكام الصلاة في الثوب الواحد، والاحتباء فيه ومس المصحف، وغير ذلك.
قال الإمام أحمد: لا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه، واحتج الفقهاء كلهم بجملة ما فيه من مقادير الديات. ا. هـ فأنت ترى أن موضوع هذا الكتاب لم يكن خاصا، والمكتوب إليهم هم أهل اليمن عامة.
مناقشته في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له أن يكتب كل ما يسمع منه:
نقول: هذا الحديث صححه الحفاظ، وهو من أقوى الأدلة، وأصرحها على أن كتابة الحديث جميعه جائزة بل مستحبة. وقد روى من عدة طرق يقوي بعضها بعضا. قال الحافظ في فتح الباري: وعند أحمد
وأبي داود من طريق يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يتكلم في الرضا والغضب. فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال:"اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق"، ولهذا طرق أخرى عن عبد الله بن عمرو، ويقوي بعضها بعضا. ا. هـ1، ولكن الشيخ لما وجد هذا الحديث يحول بينه وبين ما يرمي إليه من النتائج، أخذ يتكلم في متنه تارة وفي إسناده تارة أخرى. فقال عن المتن: قد جاء بألفاظ مختلفة من طريقين فيما أعلم"، ونقول له: إن اختلاف ألفاظ الحديث الواحد لا يعد طعنا فيه، إذا كانت غير متعارضة ولا متدافعة. والحديث الذي معنا كذلك اختلفت ألفاظه طولا وقصرا، ولكن لا تنافي بينها، فلا يجوز أن يتخذ ذلك طعنا فيه.
وقال عن السند: جاء من طريقين الأول، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، وفيه مقال مشهور للمتقدمين من علماء الحديث، ولكن هذا المقال لم يمنع بعض المتأخرين من الاحتجاج به، وهو تساهل منهم ثم أخذ يسرد ما قاله المتقدمون نقلا عن الميزان للذهبي2، والطريق الثاني عن عبد الله بن المؤمل، وعبد الله بن المؤمل، قال أحمد: إن حديثه مناكير وقال النسائي والدارقطني: ضعيف.
ونحن نقول له: أما الطريق الأول، فالذي عليه المحققون والجماهير من المتقدمين، والمتأخرين أنه يحتج به. قال ابن الصلاح في النوع الخامس والأربعين من مقدمته: لعمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده
1 انظر جـ1 ص149.
2 سيأتي لك في ردنا عليه أن الذهبي اعتمد طريق عمرو بن شعيب هذا، ورد على ابن حبان.
بهذا الإسناد نسخةكبيرة أكثرها فقهيات جياد. وشعيب هذا هو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. قد احتج أكثر أهل الحديث بحديثه حملا لمطلق الجد فيه على الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص، دون ابنه محمد والد شعيب لما ظهر لهم من إطلاقه ذلك. ا. هـ وقال السيوطي في التدريب قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه وأبا عبيدة وعامة أصحابنا يحتجون بحديثه ما تركه أحد من المسمين، وقال مرة: اجتمع علي، ويحيى بن معين، وأحمد وأبو خيثمة وشيوخ من أهل العلم، فتذاكروا حديث عمرو بن شعيب، فثبتوه وذكروا أنه حجة، وقال أحمد بن سعيد الدارمي: احتج أصحابنا بحديثه. قال النووي في شرح المهذب: وهو الصحيح المختار الذي عليه المحققون من أهل الحديث، وهم أهل هذا الفن وعنهم يؤخذ حملا لجده على عبد الله الصحابي، دون محمد التابعي لما ظهر لهم في إطلاقه ذلك.
وسماع شعيب من عبد الله بن عمرو ثابت. وقال إسحاق بن راهويه: عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده كأيوب، عن نافع عن ابن عمر. قال النووي: وهذا التشبيه غاية الجلالة من مثل إسحاق، وقد ألف العلائي جزءا مفردا في صحة الاحتجاج بهذه النسخة، والجواب عما طعن عليها قال: ومما يحتج به لصحتها احتجاج مالك بها في الموطأ، فقد أخرج عن عبد الرحمن بن حرملة عنه حديث:" الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب"! قال: وذهب قوم إلى ترك الاحتجاج به؛ لأن روايته عن أبيه عن جده كتاب ووجادة، فمنهنا جاء ضعفه؛ لأن التصحيف يدخل على الراوي من الصحف، ولذا تجنبها أصحاب الصحيح، وقال ابن حبان: إن أراد جده عبد الله فشعيب لم يلقه فيكون منقطعا، وإن أراد محمدًا فلا صحبة له فيكون مرسلًا. قال الذهبي وغيره: وهذا القول لا شيء
لأن شعيبا ثبت سماعه من عبد الله، وهو الذي رباه لما مات أبوه محمد. ا. هـ كلام السيوطي بحذف يسير.
وقال ابن تيمية: "وكان عند آل عبد الله بن عمرو بن العاص نسخة، كتبها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا طعن بعض الناس في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه شعيب عن جده، وقالوا: هي نسخة، وشعيب هو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. وقالوا: إن عني جده الأدنى محمدا، فهو مرسل فإنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وإن عني جده الأعلى عبد الله فهو منقطع، فإن شعيبا لم يدركه، وأما أئمة الإسلام وجمهور العلماء، فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده إذا صح النقل إليه مثل مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة ونحوهما، ومثل الشافعي وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيره. قالوا: الجد هو عبد الله فإنه يجيء مسمى، وشعيب أدركه. قالوا: وإذا كانت نسخة مكتوبة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان هذا أوكد لها، وأذل على صحتها، ولهذا كان في نسخة عمرو بن شعيب من الأحاديث الفقهية، التي فيها مقدرات ما احتاج إليه عامة علماء الإسلام1. ا. هـ.
وأما الطريق الثاني الذي ضعفه الأئمةكما قال الشيخ، فهو وإن لم يصلح للاحتجاج به لكتابة الحديث، فهو يصلح شاهدا على ذلك، والحجة قائمة بغيره من الأحاديث الصحيحة.
مناقشته في إهدار الأحاديث الضعيفة، إذا تعددت طرقها:
وضعف حديث أنس، وحديث أبي بكر وحديث رافع بن خديج، وحديث حذيفة إلى غير ذلك، ونسي ما قرره العلماء من أن الأحاديث
1 انظر قواعد التحديث ص36، 37.
الضعيفة إذا تعددت طرقها قوى بعضها بعضا، وأصبحت صالحة للاحتجاج فضلا عن الاعتبار، إذا كان الضعف ناشئا عن سوء حفظ الراوي، الصدوق الأمين كما هنا. فكيف وقد ورد في الإذن بالكتابة أحاديث صحيحة، بعضها يفيد العموم نصا، وبعضها يفيده دلالة.
ثالثا: وبناء على ما سبق للشيخ من أن أحاديث الإذن بالكتابة، لا تدل للكتابة يرى أن الأحاديث الواردة في المنع من كتابة الحديث، أرجح من أحاديث الإذن بها، ويضيف إلى ذلك أن أقوى أحاديث المنع على الإطلاق، هو حديث أبي سعيد الخدري، عند مسلم وأحمد. فيقول:"وأما ما ورد في المنع فأقواه حديث أبي سعيد الخدري: "لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه"، وهو في صحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد، وهو أصح ما ورد في باب النهي عن كتابة الحديث والسنة". ا. هـ.
ونحن نقول في الرد عليه: علمت أن أحاديث الإذن بالكتابة منها صحيح يدل عليها نصا، أو دلالة ومنها ضعيف تعددت طرقه، فيصلح للاعتبار أن قصر عن درجة الاحتجاج. فلم يبق إلا الجمع بينهما، وبين حديث أبي سعيد. وطريق الجمع أن يقال: إن النهي عن كتابة الحديث خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن بها في غير ذلك.
أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في صحيفة واحدة، والإذن فيما إذا كتب الحديث في غير صحيفة القرآن. أو أن النهي خاص بمن خشي عليه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك.
رابعا: حاول الشيخ أن يجمع بين أحاديث الإذن بالكتابة، والنهي عنها بما لا يصلح، فقال: "ولذلك وجوه أحدها. أن ما أمر بكتابته
لأبي شاه يحتمل أن يكون خاصا به. ثانيها. لعله كان سيئ الحفظ فأمر أن يكتب له كما طلب. ثالثها: أن حديث النهي عن الكتابة مقيدة بإبقاء المكتوب، وفيه الرخصة الصريحة لمن يكتب مؤقتا، ثم يمحوه ويؤيد هذا المعنى ما رواه ابن عبد البر، عن زيد بن ثابت، وابن مسعود وعلي في محو المكتوب. وما رواه من قول مالك: فمن كتب منهم الشيء، فإنما كان يكتبه ليحفظه، فإذا حفظه محاه. وهذا الوجه يصلح جوابا عن حديث الإذن لعبد الله بن عمرو بالكتابة، ويؤيده قول عبد الله. كنت أكتب كل شيء أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد حفظه فصرح بأنه كان يكتب ليحفظ. وقد علمت ما قاله أئمة الحديث في رواية حفيده، عن النسخةالمكتوبة، ويصلح أيضا جوابا عن صحيفة علي، وكتاب عمرو بن حزم". ا. هـ.
ونحن نقول في الرد عليه: أن الخصوصية لا تثبت لمجرد الاحتمال، ودعوى أنه سيئ الحفظ، تحتاج إلى نقل صحيح، ولم يوجد ولو سلمناه، فليس حديث أبي شاه هو كل ما ورد في الإذن بالكتابة.
وأما ذكره في الوجه الثالث من وجوه الجمع، فيعارضه أن عبد الله بن عمرو بن العاص، كان يكتب الحديث لا لضعف حفظه، ولكن ليرجع إليه عند الحاجة، وقد أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إذنا مطلا، فكتب عنه صحيفته الصادقة التي بقيت في آله إلى أن رواها عنه حفيده عمرو بن شعيب، واعتمدها أكابر المحدثين كالبخاري، ومالك، وأحمد، وإسحاق بن راهويه وغيره. ويعارضه أيضا ما ثبت أن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم، خص عليا رضي الله عنه بشيء من الوحي، فسأل عليا رضي الله عنه أبو جحيفة، وقيس بن عبادة
والأشتر النخعي في ذلك فقال علي كرم الله وجهه: ما عندنا شيء نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة، وكان فيها أحكام الديات، ومقاديرها، وأصنافها وحكم تخليص الأسير من يد العدو، والترغيب في ذلك وحكم تحريم قتل المسلم بالكافر، وفرائض الصدقة إلى غير ذلك من الأحكام. فلو كانت كتابة الحديث لأجل الحفظ فقط، ثم يجب محوها بعد ذلك لما بقيت صحيفة علي إلى زمن خلافته.
وأما محو بعض الصحابة لما كتبوه، أو أمرهم بذلك فليس؛ لأن الكتابة منهي عنها على وجه البقاء. بل لخشيتهم أن يشتغل بها الناس عن القرآن، ولما يحفظوه بعد. أو؛ لأنهم رأوا أن الأولى التعويل على الحفظ استنهاضا لعزائم الناس، وهممهم على تنمية ملكة الحفظ التي فطر عليها العرب.
أو؛ لأن هذه الصحف كات منقولة عن أهل الكتاب، فخافوا أن يشتغل بها الناس عن دينهم، بدليل ما رواه ابن عبد البر أن الأسود، وعلقمة أصابا صحيفة فانطلقا بها إلى عبد الله بن مسعود، فقالا: هذه صحيف فيها حديث حسن فأمر ابن مسعود بماء فمحاها وتلا: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ، قالا: انظر فيها فإن فيها حديثا عجيبا، فجعل يمحوها ويقول: هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بغيره.
قال أبو عبيدة "أحد رواة هذه القصة": يرى أن هذه الصحيفة أخذت من أهل الكتاب، فلذا كره عبد الله رحمه الله النظر فيها، وأذن فلا طريق للجمع بين أحاديث النهي، وأحاديث الإذن في الكتاب على وجه مقبول، إلا بما ذكرناه، واستظهرناه لا بما ذكره الشيخ، واستظهره.
خامسًا: حاول الشيخ أن يقدم أحاديث النهي، عن الكتابة على أحاديث الإذن بها على تقدير صحتها، وتعذر الجمع بينها فقال: "ولو فرضنا أن بين أحاديث النهي عن الكتابة، والإذن بها تعارضا يصح أن
يكون أحدهما ناسخا للآخر، لكان لنا أن نستدل على كون النهي هو المتأخر بأمرين. أحدهما: استدلال من روى عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة، ومنعها بالنهي عنها، وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وثانيهما: عدم تدوين الصحابة الحديث ونشره، ولو دونوا، ونشروا لتواتر ما دونوه.
ونقول في الرد عليه:
أولا: أن أحاديث الإذن بالكتابة أصح عند المحدثين من أحاديث النهي بدليل أن البخاري وغيره، أعلوا حديث أبي سعيد الخدري في النهي عن كتابة الحديث. وقالوا: الصواب وقفه علي أبي سعيد مع أن هذا الحديث باعتراف الشيخ، هو أقوى أحاديث المنع على الإطلاق.
ثانيا: أنه على تقدير التعارض بين أحاديث الإذن، والنهي فقد كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الإذن بالكتابة دون النهي عنها، بدليل ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه، قال:"ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا، لا تضلوا بعده"، وفي بعض رواياته "لما حضرت النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة"، وله من حديث سعيد بن جبير أن ذلك كان يوم الخميس، وهو قبل موته صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام1. ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، هم قبيل وفاته أن يكتب لأمته كتابا يحصل معه الأمن من الاختلاف، وهو لا يهم إلا بحق.
ثالثا: أن امتناع بعض الصحابة عن كتابة الحديث، ومنعهم منها لم يكن سببه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث، بدليل
1 انظر جـ1 ص146 من فتح الباري.
أن الآثار الواردة عنهم في المنع، أو الامتناع من كتابة الحديث لم ينقل فيها التعليل بذلك، وإنما كانوا يعللون بمخافة أن يشتغل الناس بها عن كتاب الله، أو بمخافة أن يهمل الناس الحفظ اعتمادا على الكتابة، أو لغير ذلك من الأغراض.
رابعا: إن عدم تدوين الصحابة للحديث، كما دونوا القرآن وجمعوه لم يكن لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث، وإنما كان خوف أن تختلط بصحف القرآن، فيلتبس على الناس أمر دينهم، في وقت لم يجمع القرآن فيه إلا نفر قليل من الصحابة. وقد روى البيهقي في المدخل، عن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب، أراد أن يكتب السنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشاروا عليه أن يكتبها فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أردت أن أكتب للسنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم، كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا، فهذا الأثر يدل على جواز كتابة الحديث، بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم، أشاروا عليه بذلك، وأن عمر رضي الله عنه رأى أن يأخذ الحيطة لكتاب الله، ويتوثق لصيانته وذلك يستدعي أن تكون الكتابة قاصرة على القرآن، وأن يكتفي في الأحاديث بالحفظ لئلا يختلط الأمر على الناس، فما كان للصحابة أن يشيروا على عمر بكتابة السنن، إذا كان النهي عنها هو آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لو كان النهي عن كتابة السنن باقيا، لما جاز لهم أن يسكتوا عن الإنكار على عمر عزمه على كتابة السنن، فضلا عن أن يشيروا عليه بكتابتها.
هذا ولا بأس أن ننقل هنا نصوصا لبعض العلماء في كتابة الحديث، فنقول:
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: إن السلف اختلفوا في ذلك -يعني كتابة العلم- عملا، وتركا، وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان، ممن يتعين عليه تبليغ العلم1. ا. هـ.
وقال أبو عمر بن عبد البر: "من كره كتاب العلم إنما كرهه لوجهين: لئلا يتخذ مع القرآن كتاب يضاهي به -ولئلا يتكل الكاتب على ما يكتب، فلا يحفظ فيقل الحفظ. ثم قال: وليس أحد اليوم على هذا، ولولا الكتاب لضاع كثير من العلم. وقد أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كتاب العلم ورخص فيه جماعة من العلماء، وحمدوا ذلك، وقد دخل على إبراهيم النخعي شيء في حفظه لتركه الكتاب. وعن منصور قال: كان إبراهيم يحذف الحديث فقلت له: إن سالم بن الجعد يتم الحديث، قال: إن سالما كتب، وأنا لم أكتب. قال ابن عبد البر: فهذا النخعي مع كراهته لكتابة الحديث، قد أقر بفضل الكتاب"2. ا. هـ.
وقال ابن الصلاح في النوع الخامس والعشرين من مقدمته:
اختلف الصدر الأول رضي الله عنهم في كتابة الحديث، فمنهم من كره كتابة الحديث والعلم، وأمروا بحفظه ومنهم من أجاز ذلك قال: ثم إنه زال ذلك الخلاف، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته. ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة". ا. هـ3.
فكيف يجمع المسلمون على نقيض آخر الأمرين، من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1 انظر فتح الباري ج1 ص146.
2 انظر جامع بيان العلم وفضله جـ1 ص68، 70. 3 ص87-88.
سادسا: استخلص الشيخ من بحثه هذا أن الصحابة لم يدونوا الأحاديث؛ لأنهم لم يريدوا أن يجعلوها دينا عاما، دائما كالقرآن مؤيدا ذلك، يعمل عمر بن الخطاب على خلاف بعض الأحاديث. وباكتفاء علماء الأمصار، كأبي حنيفة بما بلغه منها وعدم تعنيه في جمعها. وبمخالفة الفقهاء لكثير من الأحاديث الصحيحة، ونحن ننقل ذلك عنه بالتفصيل، ونرد عليه فنقول:
أ- قال الشيخ: وإذا أضفت إلى هذا ماورد في عدم رغبة الصحابة في التحديث، بل رغبتهم عنه بل في نهيهم عنه قوى عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث دينا عاما، دائما كالقرآن. ا. هـ.
وتلك لعمر الله مقدمات عقيمة، ونتيجة باطلة وذلك؛ لأن الصحابة إنما أمروا بتقليل الرواية، لئلا يكثر الخطأ، أو السهو في الأحاديث فيدخلها ما ليس منها، ولئلا يتخذها المنافقون ذريعة للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولئلا ينصرف الناس عن القرآن، ولما يتمكن من نفوسهم فضل تمكن. كذلك لم يدونوا الأحاديث، لئلا يلتبس الأمر على عامة الناس فيضاهوا بصحف الحديث، صحف القرآن، ومخافة أن تقضي الكتابة على ملكة الحفظ فيهم.
فلم يكن عدم تدوين الأحاديث، وقلة التحديث من الصحابة رضي الله عنهم لما ذكره الشيخ، من أنهم يريدون ألا يتخذوا الأحاديث دينا عاما، دائما فهذه نتيجة لا أساس لها. وأن القرآن العظيم ليفضح أمرها، ويكشف سترها. وقد تكلمنا في المقدمة على منزلة السنة في الدين، فارجع إليها إن شئت.
ب- قال الشيخ: ولو كانوا فهموا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه يريد ذلك لكتبوا، ولأمروا بالكتابة، ولجمع الراشدون ما كتب
وضبطوا ما وثقوا به، وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه، ويعملوا به، ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتبعة، المعروفة للجمهور بجريان العمل بها. وبهذا يسقط قول من قال: إن الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية. ا. هـ.
نقول: إن الصحابة رضي الله عنهم، فهموا عن نبيهم أنه يريد أن تكون السنة دينا عاما، دائما. وكيف لا يفهمون ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، وهو يقول لهم في حجة الوداع قبل وفاته بقليل:"إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك، مما تحاقرون من أعمالكم واحذروا. إني قد تكت فيكم ما إن اعتصمتم به، فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه"، رواه الحاكم وصححه وله أصل في الصحيح، وكيف لا يفهم الصحابة عن نبيهم ذلك، وهو القائل:
"من رغب عن سنتي، فليس مني"، رواه مسلم إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة المشهورة1.
نقول: كيف لا يفهمون ذلك عن نبيهم، والقرآن يأمرهم بطاعته يحذرهم مخالفة أمره. ويحتم عليهم قبول حكمه، والإذعان لقضائه كما جاء ذلك في كثير من آياته. قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، الآية. وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، الآية. وقال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .
الحق أن الصحابة فهموا أن السنة دين عام دائم كالقرآن، وكان هذا أمرا بدهيا عندهم لا يحتاج إلى استدلال، بل هو ضرورة من ضرورات الدين، وبدهي عند عامة المسلمين في جميع الأزمان حتى اليوم.
1 انظر الترغيب والترهيب جـ1 ص40.
أما إنهم لو علموا ذلك لكتبوا، ولأمروا بالكتابة إلى آخر ما قاله الشيخ، فهذا غير لازم لما قدمناه لك.
وأما إنهم اكتفوا بالقرآن، والسنة المتبعة المعروفة للجمهور إلخ. فهذا غير مسلم، ولا يقوله إلا من جهل طريقة الخلفاء الراشدين، وسائر الصحابة من ورائهم في العمل بأحكام الدين، وكيف كانوا يأخذونها، فقد تقدم لنا أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، كانا يطلبان الحكم أولا من القرآن، ثم إذا لم يجداه فيه طلباه في حديث رسول الله صلى الله عليه، وسلم فإن لم يوجد عندهما حديث في الحادثة سألا عنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا لم يجدا عندهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعا رؤوس الناس، وعلماء الصحابة وخيارهم للمشاورة، فيما عرض من الحوادث، ثم يقضيان بما اجتمعوا عليه. كما
كان من عادتهما إنه إذا استبانت لأحدهما سنة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن قضى على خلافها، فإنه ينقض قضاءه، ويرجع إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقوم هذا حالهم في احترام السنة يقال فيهم إنهم لم يريدوا أن يتخذوها دينا عاما دائما. اللهم إن هذا إنكار للحقائق، وسير في طريق الخيال، وهوى متبع وإعجاب بالرأي:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} ، وإذا كان هذا حال العمرين، اللذين كانا أعلم الصحابة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقال: إن الصحابة كانوا يكتفون بالقرآن، والسنة المتبعة المعروفة.
ج- قال الشيخ: وإذا أضفت إلى ذلك كله، حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة بما يخالف بعض تلك الأحاديث، ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول، والثاني من اكتفاء الواحد منهم كأبي حنيفة
بما بلغه ووثق به من الحديث، وإن قل وعدم تعنيه في جمع غيره إليه، ليفهم دينه ويبين أحكامه قوى عندك ذلك الترجيح. ا. هـ.
وللرد عليه نقول:
أولًا: ما رمي به عمر بن الخطاب من أنه كان يخالف السنة، على مرأى ومسمع من الصحابة، فهذا حكم جائر بالنسبة لعمر بن الخطاب.
أليس عمر هو القائل: "أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم"1، فهل هذا قول صحابي يفهم أن السنة ليست دينا عاما دائما، ويتعمد مخالفتها، أو هو قول من عرف للسنة قدرها، وحذر الناس عن مخالفتها، ونعى على أصحاب الرأي آراءهم المعارضة لها.
أما ما ورد من حكم بعض الصحابة والتابعين، أو الأئمة المجتهدين على خلاف بعض الأحاديث، فإن لهم أعذارا تكلمنا عليها في مقدمة كتابنا هذا ينبغي للقارئ الرجوع إليها، ليتضح له المقام بما يرفع الملام عن هؤلاء الأئمة.
ثانيا: يرمي الأستاذ علماء المسلمين في القرنين الأول، والثاني بعدم اهتمامهم بجمع الأحاديث، وأنت أيها القارئ إذا اطلعت على ما كتبناه، عن رحلة العلماء من الصحابة، والتابعين في القرن الأول وأعمال الأئمة في القرن الثاني، فإنك ترى العجب. ترى جهودا جبارة، بذلت في سبيل جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعناية فائقة بتمحيص الأسانيد، ونقد المتون ومناهضة الوضاعين بما لم يتوفر لدى أمة من الأمم.
1 انظر أعلام الموقعين لابن القيم جـ1 ص45.
ثالثا: يرمى الأساذ أبا حنيفة بأنه كان يكتفي بالقليل من الأحاديث، ولا يكلف نفسه عناء البحث عن سائرها ليفهم دينه إلى آخر ما قال: ومعنى هذا أن أبا حنيفة يرى في السنة ما يراه الشيخ. ونعيذ أبا حنيفة كما نعيذ سائر علماء المسلمين من هذه الوصمة القبيحة. لقد كان أبو حنيفة إماما، وإماما مجتهدا يبذل وسعه، ويفرغ جهده في استطلاع الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة. وما جاء عنه من الأحكام، مخالفا لبعض الأحاديث فهو معذور فيه على ما بيناه في المقدمة، ونزيد هنا أن أبا حنيفة رضي الله عنه، اشترط في قبول الحديث شروطا شديدة، أملاها عليه البيئة التي عاش فيها، فقد كان بالعراق التي هي عش الخوارج والشيعة، وكثير من أخلاط الأمم، وأوشاب الناس الذين أخذوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قيل في العراق أنها "دار ضرب الحديث"، فلا عجب أن يتوقى الإمام أبو حنيفة لدينه، ويحتاط الحديث، لئلا يدخل عليه من الأباطيل ما يفسد عليه أمره، ولعل الذي دعا أبا حنيفة إلى عدم الإكثار من الرحلة في طلب الحديث، أن الكوفة كانت في الصدر الأول، مهبط الصحابة الذين بثوا أحاديثهم، وعلمهم في التابعين من أهل العراق إلى غير ذلك من الاعتبارات. وسيمر بك البيان الشافي في مبحث النزاع في حجية السنة في القرن الثاني.
"د" قال الشيخ: "بل تجد الفقهاء -بعد اتفاقهم- على جعل الأحاديث أصلًا من أصول الأحكام الشرعية، وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين، وبيان ما يحتج به، وما لا يحتج به لم يجتمعوا على تحرير الصحيح، والاتفاق على العمل به، فهذه كتب الفقه في المذاهب المتبعة لا سيما كتب الحنفية. فالمالكية والشافعية فيها مئات من المسائل المخالفة للأحاديث المتفق عليها، وعلى صحتها، ولا يعد أحد منهم مخالفا لأصول
الدين، وقد أورد ابن القيم في أعلام الموقعين شواهد كثيرة جدا، من رد الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملا بالقياس، أو لغير ذلك ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقية. وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدا. ا. هـ.
نعم إن الفقهاء اتفقوا عل جعل الأحاديث أصلا من أصول الأحكام الشرعية، ولم يخالف في ذلك أحد منهم، ولكن الأحاديث لم تجتمع كلها لدى إمام من الأئمة، حتى يكون اجتهاده، موافقا للنصوص في كل حال.
بل وقع لهذا الفقيه من الحديث، ما لم يكن عند الآخر وصح عنده ما لم يصح عند غيره. لذلك وقع اختلافهم في الأحكام، ومخالفتهم للأحاديث في بعض الأحيان. ولم يكن ذلك منهم اتباعا للهوى، أو لفهمهم بأن السنة ليست دينا عاما، دائما بل لأسباب علمها العلماء، وألفوا فيها الرسائل، ومن هؤلاء الأئمة العلامة ابن تيمية، الذي ألف رسالة سماها.
"رفع الملام عن الأئمة الأعلام":
أما استدلال الشيخ باشتمال كتب الفقه في المذاهب المختلفة على مئات من المسائل، المخالفة للأحاديث الصحيحة، فنقول: إن جمود المتأخرين على التقليد وقف بالفقه في العصو المتأخر عن التقدم، ومسايرة الأدلة الصحيحة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو أنه وجد منهم نشاط علمي، فعرضوا مذاهب أئمتهم على الأحاديث الصحيحة، لرجعوا بالفقه إلى منبعه الأصلي من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولضاقت دائرة الخلاف بينهم.
وهؤلاء الفقهاء المتأخرون هم الذين أنحى عليهم العلامة ابن القيم باللائمة، حيث يقدمون آراء أئمتهم على الحديث الصحيح، عن نبيهم صلى
الله عليه وسلم في حين أن هؤلاء الأئمة جميعا، كانوا يشيرون باتباع السنة، ويأمرون الناس بترك آرائهم إذا صح الحديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الشيخ عفا الله عنه خلط أعمال الفقهاء المتأخرين، الذين لا عذر لهم في ترك الأحاديث بأعمال الفقهاء المتقدمين، الذين كان لهم العذر في ذلك. كل هذا ليؤيد رأيه في أن الأحاديث النبوية ليست دينا عاما، دائما كالقرآن.
وبعد فهذه الدعوى من الشيخ -عفا الله عنه- لا أساس لها بل هي تهدم نفسها بنفسها، فضلا عن أنها تخالف نصوص القرآن الكريم، وتتعارض مع ما تواتر من سنة الرسول الأمين، ولا تتفق وما أجمع عليه المسلمون في كافة الأزمان من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم.