المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الرابع: جهود الصحابة والتابعين في جمع الحديث ورواياته ومناهضتهم للكذابين - الحديث والمحدثون

[محمد محمد أبو زهو]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌الإهداء

- ‌الداعي لنشر هذا الكتاب:

- ‌مقدمة المؤلف:

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌المبحث الأول: معنى السنة لغة واصطلاحا

- ‌المبحث الثاني: السنة من الوحي

- ‌المبحث الثالث: منزلة السنة النبوية في الدين

- ‌المبحث الرابع: في أن السنة النبوية مبينة للقرآن الكريم

- ‌السنة في أدوارها المختلفة

- ‌الدور الأول: السنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: استعداد الصحابة لحفظ السنة ونشرها

- ‌المبحث الثاني: "مجالس النبي صلى الله عليه وسلم العلمية

- ‌المبحث الثالث: كيف كان الصحابة يتلقون الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: البعوث والوفود، وأثرها في انتشار الحديث النبوي:

- ‌الدور الثاني: السنة في زمن الخلافة الراشدة

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية لهذا العهد

- ‌المبحث الثاني: منهج الصحابة في رواية الحديث

- ‌المبحث الثالث: رد شبه واردة على منهج الصحابة في رواية الحديث، والعمل به

- ‌الدور الثالث: السنة بعد زمن الخلافة الراشدة إلى نهاية القرن الأول

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية وظهور الفرق

- ‌المبحث الثاني: الخوارج ورأيهم في الخلافة

- ‌المبحث الثالث: الشيعة ومعتقداتهم

- ‌المبحث الرابع: جهود الصحابة والتابعين في جمع الحديث ورواياته ومناهضتهم للكذابين

- ‌المبحث الخامس: كتابة الحديث

- ‌المبحث السادس: تراجم لبعض مشاهير الرواة من الصحابة، رضي الله عنهم

- ‌المبحث السابع: تراجم لبعض رواة الحديث من التابعين

- ‌المبحث الثامن:

- ‌الدور الرابع: السنة في القرن الثاني

- ‌المبحث الأول: تدوين الحديث في هذا العصر وأشهر الكتب المؤلفة فيه

- ‌المبحث الثاني: شيوع الوضع في الحديث في هذا العصر

- ‌المبحث الثالث: النزاع حول حجية السنة في القرن الثاني

- ‌المبحث الرابع: تراجم لبعض مشاهير المحدثين في القرن الثاني

- ‌المبحث الخامس: الرد على تمويهات لبعض المستشرقين لها صلة بهذا العصر، وما قبله

- ‌الدور الخامس: السنة في القرن الثالث

- ‌المبحث الأول: النزاع بين المتكلمين وأهل الحديث وأثر ذلك في الحديث

- ‌المبحث الثاني: نشاط أهل الأهواء في وضع الأحاديث

- ‌المبحث الثالث: تراجم لبعض أئمة الحديث في هذا العصر

- ‌المبحث الرابع: تدوين الحديث في هذا العصر وطريقة العلماء في ذلك

- ‌الدور السادس

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية في هذا الدور

- ‌المبحث الثاني: السنة في القرن الرابع

- ‌المبحث الثالث: السنة بعد القرن الرابع إلى آخر هذا الدور

- ‌الدور السابع

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية

- ‌المبحث الثاني: منهج العلماء رواية السنة في هذا الدور

- ‌المبحث الثالث: عناية المسلمين بالسنة في الممالك المختلفة

- ‌المبحث الرابع: طريقة العلماء في تصنيف الحديث في هذا الدور

- ‌الخاتمة:

- ‌خاتمة الطبع:

- ‌تقاريظ الكتاب:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌المبحث الرابع: جهود الصحابة والتابعين في جمع الحديث ورواياته ومناهضتهم للكذابين

‌المبحث الرابع: جهود الصحابة والتابعين في جمع الحديث ورواياته ومناهضتهم للكذابين

المبحث الرابع: جهود الصحابة والتابعين في جمع الحديث، وروايته ومناهضتهم للكذابين

كان من وراء الشيعة، والخوارج ومن على شاكلتهم الجمهور الأعظم من المسلمين، الذين لم يتدنسوا بالتشيع، ولا بالخروج، وتمسكوا بالسنن الصحيحة ورفضوا الأحاديث، التي تروى من طريق أرباب هذه النحل، أيا كان لونهم السياسي، ونفوا عن السنة كل دخيل، وحفظوها من عبث أهل الأهواء ذلك أنه لم تزل أعلام الدين قائمة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير منهم ما زال على قيد الحياة، وهؤلاء التابعون لهم بإحسان يؤازرونهم، ويؤيدونهم في مهمة التعليم، ونشر السنة وإزالة أدران التشيع والقضاء على أباطيل الكذابين. لقد تظاهر الصحابة، والتابعون وكونوا جبهة قوية في وجوه أرباب النحل المختلة. فمن يوم أن وقعت الفتنة لم يقبلوا الأحاديث بمجرد روايتها، حتى يسألوا عن أسانيدها، ويفحصوا رجالها رجلا رجلا. يروي مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين قال:"لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع، فلا يؤخذ حديثهم"، كذلك أخذ الرواة وحملة الحديث من التابعين، يسألون الصحابة ليميزوا لهم الطيب من الخبيث، فلم يكونوا كحاطب ليل يجمع إلى الحطب الحيات، والثعابين بل كانوا يتحرجون من حمل ما لا يعرفون له أصلا، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا ابن أبي مليكة يقول: كتبت إلى ابن عباس، أسأله أن يكتب لي كتابا، ويخفي عني فقال: ولد ناصح، أنا أختار له الأمور اختيارا، وأخفي عنه قال: فدعا بقضاء علي، فجعل يكتب منه أشياء ويمر بالشيء فيقول. والله ما قضى بهذا علي، إلا أن يكون قد ضل "روى ذلك مسلم في مقدمة صحيحه" فهذا الأثر يعطيك فكرة عن إفساد الشيعة، لقضاء علي كرم الله وجهه.

كما يعطيك فكرة عن تنبه الصحابة، وعنايتهم التامة بالحديث، وتمييز غثه من سمينه. وأخيرا يعطيك فكرة واضحة عن حال الرواة في طلب الصحيح من الحديث، ورجوعهم في ذلك إلى الصحابة الأجلاء.

ولقد بلغ الحد من تبجح الكذابين، إن كانوا يجلسون للحديث بالمساجد على مرأى، ومسمع من الصحابة الذين كانوا يزجرونهم أعظم

ص: 99

زجر ويطردونهم من المساجد أقبح الطرد، حتى لقد كان بعض الصحابة يستعين في ذلك برجال الشرط. يروي ابن أبي شيبة، والمروزي عن مجاهد قال: دخل قاص فجلس قريبا من ابن عمر، فقال له: قم، فأبى أن يقوم فأرسل إلى صاحب الشرط، فأرسل إليه شرطيا فأقامه"، وسترى كثيرا من أمثال هذه الآثار التي بها يتضح لك أن أعلام الدين من الصحابة، والتابعين كانوا واقفين لهؤلاء الوضاعين بالمرصاد، معقبين على أقوالهم، وأفعالهم بالإبطال، حتى لا تقع العامة في حبالتهم، فيضلوا عن طريق السداد.

وكما ناهضوا الوضاعين، وكشفوا عن حقيقة أمرهم، بذلوا جهودا جبارة في جمع الأحاديث وروايتها، وتعلمها وتعليمها، والرحلة في طلبها، وإليك تفصيل ذلك:

أولا: اتساع الفتوح الإسلامية، وتفرق الصحابة في الأمصار:

اتسعت المملكة الإسلامية بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، اتساعا عظيما على يد أصحابه، تحقيقا لوعد الله الذي لا يتخلف:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} الآية. فقد فتح الشام كله، والعراق بأكمله في سنة سبع عشرة هجرية. وفتحت مصر سنة عشرين من الهجرة. وفتحت فارس سنة إحدى وعشرين. ووصل المسلمون سمرقند سنة ست وخمسين، وأخذت أسبانيا سنة ثلاث وتسعين.

هذا وكان على أثر هذه الفتوح أن دخل كثير من أهلها الإسلام، وتعطشت نفوسهم إلى تعلم أحكامه، فكان لزاما على خلفاء المسلمين أن

ص: 100

يبعثوا إليهم من يعلمهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحكام دينهم. على أن كثيرا من الصحابة، نزحوا إلى تلك الأمصار المختلفة من تلقاء أنفسهم، معلمين، ومرشدين، ومنهم من طاب له المقام فاستوطن البلد الذي نزله حتى الممات.

وبنزول الصحابة في تلك البلدان المختلفة، أصبحت معاهد لتعليم القرآن والحديث، يجتمع عليهم طلاب العلم، يغترفون من بحارهم الفياضة، ويحفظون عنهم ما حفظوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تخرج على أيديهم في كل قطر طبقة من التابعين، كانوا فيما بعد حماة السنة ورواة الحديث. ولا يقعن في خاطرك أنه كان هناك مدارس، ومعاهد بالمعنى المعروف عندنا الآن، ذات نظم خاصة ومكتبات، وقاعات للمحاضرات وما إلى ذلك. بل كان القوم على البساطة الأولى، فقد كان الصحابي يحمل علمه في صدره، ويعيه بقلبه، وكانت المساجد في الغالب هي دور العلم، ومعاهد الحديث يجلس الصحابي في المسجد، وحوله حلقة من أتباعه وتلاميذه يستمعون له، ويحفظون عنه ويسألونه ويستفتونه، وهو في كل ذلك لا يخرج عن كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الرأي المستند إلى أصل صحيح منهما، وقلما يكون ذلك. ولا بأس أن نذكر نبذا عن دور الحديث بالأقطار المختلفة فنقول:

دور الحديث في الأمصار المختلفة:

1-

دار الحديث بالمدينة المنورة:

كانت المدينة المنورة، هي مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبها حدث النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثه؛ لأن أكثر التشريع

ص: 101

الإسلامي كان بها. وكان المهاجرون يحبون المقام بها، ويكرهون التحول عنها إلى مكة أو غيرها. وما زالت المدينة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، هي عاصمة الأمة الإسلامية، ومركز الخلافة الراشدة، ومقر كبار الصحابة.

لذلك كانت المدينة هي موطن الصحابة الأول، الذي يفضلونه على غيره حيث يصيبون من بركة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد وفاته، وكانوا لا يبرحونها إلا لحاجة ملحة حكومية، أو معاشية أو تعليمية.

روى ابن سعد في الطبقات عن محمد بن عمر أنه قال: لا نعلم أحدا من المهاجرين من أهل بدر رجع إلى مكة -يعني بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فنزلها غير أبي سبرة، فإنه رجع إلى مكة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلها فكره ذلك له المسلمون، وولده ينكرون ذلك، ويدفعون أن يكون رجع إلى مكة، فنزلها بعد أن هاجر منها، ويغضبون من ذكر ذلك.

وقد اشتهر بالمدينة من الصحابة، الذين كانت لهم قدم في الحديث، والفقه عدد كثير منهم أبو بكر وعمر، وعلي قبل انتقاله إلى الكوفة، وأبو هريرة وعائشة أم المؤمنين وعبد الله بن عمر، وأبو سعيد الخدري وزيد بن ثاب، الذي اشتهرم بفهم الأحكام من الكتاب والسنة والرأي السديد، حتى أن عمر كان يستبقيه للاستئناس برايه، فيما يعرض له من القضايا. وقد استمر زيد مترئسا على القضاء، والفتوى والقراء والفرائض زمن عمر، وعثمان، وعلي إلى أن مات سنة 45 في خلافة معاوية رضي الله عنهم.

هذا وقد تخرج على أيدي هؤلاء الأفاضل، الفوج الأول من التابعين لهم بالمدينة، ومن أشهر هؤلاء سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير بن العوام، وابن شهاب الزهري، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود

ص: 102

وسالم بن عبد الله بن عمر، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، ونافع مولى ابن عمر وغير هؤلاء من حفاظ السنة، الذين كان إليهم المرجع في الحديث والفتوى.

2-

دار الحديث بمكة المكرمة:

لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، خلف بها معاذ بن جبل يعلم أهلها الحلال والحرام، ويفقههم في الدين ويقرئهم القرآن الكريم. وكان معاذ من أفضل شباب الأنصار علما وحلما، وسخاء شهد مع رسول الله المشاهد كلها، وكان يعد من أعلم الصحابة بالحلال والحرام. وقد روى عنه ابن عباس وعمر وابنه. وأخيرا تزعم دار الحديث بمكة عبد الله بن عباس، بعد رجوعه من البصرة وإليه يرجع الفضل فيما كان لمكة من شهرة علمية. فقد كان عبد الله من أوعية العلم وحفاظ الحديث. وكان بها كثير من الصحابة غيره ذكر منهم الحاكم في كتابه "معرفة علوم الحديث" جملة وافرة. فمنهم عبد الله بن السائب المخزومي، قارئ الصحابة مكة، وعتاب بن أسيد خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوه خالد بن أسيد والحكم بن أبي العاص.

وعثمان بن طلحة، وغيرهم.

وقد تخرج بهذه الدار على يد عبد الله بن عباس، كثير من التابعين من أشهرهم مجاهد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم.

هذا ولا تنس ما لمكة والمدينة من أثر كبير، امتازتا به على جميع بلدان العالم، حتى في عصرنا الحاضر ففيهما ينعقد هذا المؤتمر الإسلامي في كل عام، ويأتي إليه المسلمون من كل فج عميق. ولا يخفى ما لهذا الاجتماع من أثر كبير في نشر العلوم، والمعارف إذ يلتقي فيه رواة

ص: 103

الحديث وحملة العلم بعضهم ببعض، يعرضون الأحاديث وينقحون الأسانيد، فيستكمل الراوي علمه بالحديث ورجاله.

ولقد كان الحج من أعظم الروابط، والصلات التي تربط الأقطار الإسلامية بالحياة العلمية في هذين البلدين. إلا أن ذلك لم يكن ليسد حاجة هذه الأقطار الواسعة، لذلك نزح كثير من الصحابة إليها هداة ومعلمين.

3-

دار الحديث بالكوفة:

كانت الكوفة هي قاعدة الجيوش الإسلامية، لذلك نزل بها عدد كبير منالصحابة، زمن الفتوح وأكثرهم دفن بها. منهم علي وعبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد وخباب بن الأرت، وسلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر وأبو موسى الأشعري، والبراء بن عازب والمغيرة بن شعبة، والنعمان بن بشير وأبو الطفيل، وأبو جحيفة وكثير جدا غيرهم. "علوم الحديث للحاكم ص191".

وقد كانت الزعامة في هذه الدار إلى عبد الله بن مسعود، لكثرة علمه وطول مكثه بها، فتخرج على يديه كثير من أصحابه، من أشهرهم مسروق بن الأجدع الهمداني، وعبيدة بن عمرو السلماني، الذي قال فيه الشعبي:

كان يوازي شريحا في القضاء. والأسود بن يزيد النخعي، وشريح بن الحارث الكندي، الذي استقضاه عمر على الكوفة، ولم يزل قاضيا عليها حتى زمن الحجاج، ثم استقال قبل موته بسنة، وإبراهيم بن يزيد النخعي فقيه العراق وسعيد بن جبير، وعامر بن شراحيل الشعبي علامة التابعين، وكان إماما حافظا. أعلام الموقعين "1-20".

ص: 104

4-

دار الحديث بالبصرة:

زعيم هذه الدار هو أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد نزلها كثير من الصحابة غيره منهم ابن عباس -وكان واليا عليها من قبل علي- وعتبة بن غزوان، وعمران بن حصين. وأبو برزة الأسلمي، ومعقل بن يسار وأبو بكرة وعبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن الشخير، وجارية بن قدامة، وغيرهم "علوم الحديث للحاكم ص191".

وقد تخرج بهذه الدار من التابعين، أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي، والحسن البصري، وأدرك خمسمائة من الصحابة، ومحمد بن سيرين وأبو الشعثاء جابر بن زيد صاحب ابن عباس. وقتادة بن دعامة الدوسي، ومطرف بن عبد الله بن الشخيير، وأبو بردة بن أبي موسى، وغير هؤلاء كثير.

5-

دار الحديث بالشام:

لما فتح المسلمون الشام، دخل كثير من أهلها في الإسلام، وقد اهتم الخلفاء بهذا القطر، فأرسلوا إليه فضلا الصحابة كمعاذ بن جبل، الذي أخذ مكانة علمية فائقة، فهو مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وهو خليفته على أهل مكة، يعلمهم الحلال والحرام، وهو مبعوث عمر إلى الشام، ليفقههم في دين الله. روى ابن سعد في الطبقات عن أبي مسلم الخولاني قال: دخلت مسجد حمص، فإذا فيه نحو من ثلاثين كهلا، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا فيهم شاب أكحل العينين، براق الثنايا ساكت لا يتكلم، فإذا امترى القوم في شيء، أقبلوا عليه فسألوه فقلت لجليس لي: من هذا؟ قال: معاذ بن جبل، ويروي ابن سعد أيضا، عن عمر بن الخطاب أنه قال حين خرج معاذ إلى الشام: لقد أخل

ص: 105

خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه، وما كان يفتيهم به. ولقد كنت كلمت أبا بكر، رحمه الله أن يحبسه لحاجة الناس إليه فأبى علي، وقال: رجل أراد جهادا يريد الشهادة، فلا أحبسه فقلت: والله إن الرجل ليرزق الشهادة، وهو على فراشه".

ومن أشهر من قام بالتعليم في هذا القطر أيضا عبادة بن الصامت، الذي امتاز بجمع القرآن، وكان من أفقه الناس في الدين، شديدا في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم. أنكر على معاوية كثيرًا من أموره.

ومنهم أبو الدرداء الأنصاري، وكان معدودا من فقهاء الصحابة، وحفاظ الحديث، وقد أرسلهما عمر مع معاذ إلى الشام، إجابة لطلب يزيد بن أبي سفيان، فإنه كتب إلى عمر بن الخطاب: قد احتاج أهل الشام إلى من يعلمهم القرآن، ويفقههم فأرسل معاذا وعبادة وأبا الدرداء. ذكر ذلك البخاري في تاريخه. كان هؤلاء هم حجر الزاوية في الحركة العلمية، ونشر السنة المحمدية في ربوع تلك البلاد. وقد أرسل عمر أيضًا عبد الرحمن بن غنم للمهمة نفسها، وكان يقال له صاحب معاذ لكثرة ملازمته له، على أنه اختلف في صحبته. هذا وكثير من الصحابة غير هؤلاء انتشروا في الشام هداة، ومعلمين منهم شرحبيل بن حسنة، والفضل بن العباس بن عبد المطلب. يروي الحاكم أنه مدفون بالأردن. وأبو مالك الأشعري وغيرهم كثير.

وقد تخرج على أيديهم كثير من التابعين في مدارس الشام، المختلفة منهم أبو إدريس الخولاني عائذ الله. وقبيصة بن ذؤيب، ومكحول بن أبي مسلم، ورجاء بن حيوة الكندي العالم، الثقة، الفاضل.

ص: 106

6-

دار الحديث بمصر:

فتح المسلمون مصر، فدخل كثير من أهلها الإسلام، كذلك نزلها كثير من الصحابة، ينشرون أحكام الدين وتعاليمه، وأشهرهم عبد الله بن عمرو بن العاص، الذي كان من أكثر الصحابة، حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما امتاز عن غيره من سائر الصحابة، بكتابة ما يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. خرج عبد الله مع أبيه عمرو بن العاص إلى مصر عند ما ولاه إياها معاوية، ولما توفي عمرو بقي ابنه عبد الله مقيما بمصر فكان يحج ويعتم، ثم يرجع إليها إلى أن توفي بها في بعض الأقوال.

وقد نزل كثير من الصحابة غير عبد الله بن عمرو مصر، وقاموا بمهمة التعليم وتفقه على أيديهم كثير من أهل البلاد، منهم عقبة بن عامر الجهني، وخارجة بن حذافة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومحمية بن جزء، وعبد الله بن الحارث بن جزء، وأبو بصرة الغفاري، وأبو سعد الخير ومعاذ بن أنس الجهني، وغيرهم حتى لقد أفردهم محمد بن الربيع الجيزي بالتأليف، فبلغ عددهم مائة ونيفا وأربعين صحابيا، كما أورد أحاديثهم في تأليفه ذلك1.

تخرج على هؤلاء الصحابة كثير من التابعين، منهم أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني، مفتي أهل مصر روى عن أبي أيوب الأنصاري، وأبي بصرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني. ومنهم يزيد بن أبي حبيب.

روى عن بعض الصحابة، وأكثر روايته عن التابعين، وهو بربري الأصل أبوه من أهل دنقلة، ولكنه نشأ مصر.

1 أعلام الموقعين "1-2" علوم الحديث للحاكم "ص 193"، ضحى الإسلام "3-89".

ص: 107

هذه نبذة قصيرة عن معاهد العلم، ودور الحديث في أشهر الأمصار الإسلامية، لذلك العهد تدلك على مكانة هؤلاء الصحابة، وتابعيهم في نشر ورواية الحديث.

ثانيا: رحلة العلماء في طلب الحديث:

تفاوت الصحابة في حفظ الحديث:

رأيت كيف اتسعت الفتوح الإسلامية، وما تبع ذلك من تفرق الصحابة في الأمصار المتباعدة، ينشرون دين الله، وأحاديث رسول الله.

وبدهي أن الصحابة لم يكونوا على درجة واحدة في حفظ الحديث، وجمع السنن، بل كانوا مختلفين اختلافا كبيرا، فكان عند بعضهم الحديث الواحد وعند بعضهم الحديثان وهكذا. فقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم قوما بما لم يحدث به آخرين، ووقع من الحوادث أمام قوم ما لم يطلع عليه آخرون، ومن هنا قال مسروق -وكان من التابعين: لقد جالست أصحاب محمد، فوجدتهم كالأخاذ فالأخاذ يروي الرجل، والأخاذ يروي الرجلين والأخاذ يروي العشرة، والأخذا يروي المائة، والأخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم.

ماذا يكون الحال إذا تفرق الصحابة، كما رأيت وحالهم على ما رأيت.

لقد تناثرت الأحاديث في الأمصار، تبعا لتفرق الصحابة في البلدان والأحاديث لا غنى عنها في فهم القرآن، والتفقه في أحكام الدين نعم جمع القرآن الكريم على عهد عثمان رضي الله عنه، ووزعت المصاحف على الأقطار، وحفظه المسلمون لا يختلفون فيه. أما السنة التي هي بيان للكتاب، فلم تكتب لا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد الخلفاء الراشدين إلى نهاية القرن الأول لأسباب ستأتي فيما بعد.

ص: 108

حاجة العلاء إلى الرحلة في هذا العصر:

ماذا يصنع أهل كل مصر فيما يعن لهم من الحوادث، ويتجدد لهم من الأحكام، والحال كما وصفنا؟ إنه ليس أمامهم سوى باب واحد يطرقونه مهما كلفهم ذلك من عناء، ومهما بذلوا فيه من أموالهم وأنفسهم.

وذلك هو الرحلة من قطر إلى قطر -وذلك هو الذي كان من الصحابة، والتابعين بل وأتباع التاعين فشمروا عن ساعد الجد، وجابوا البلاد شرقا، وغربا مستعذبين كل مر وصاب في سبيل الحصول على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنك إذا تتبعت تراجم المحدثين من الصحابة، والتابعين وتابعيهم، ومن جاء بعدهم إلى أن دونت السنة في بطون الكتب، بل وبعد تدوينها أيضا تجد أن المؤرخين لحياتهم، يقولون في الرجل منهم مثلا: هو فلان بن فلان المكي، ثم المدني، ثم الكوفي، ثم البصري، ثم الشامي، ثم المصري إيذانا منهم بأن هذا الراوي كان رحالة في طلب الحديث، والعلم.

أثر الرحلة في تمحيص الأحاديث:

ليس هناك من شك في أن الرحلة إلى العلماء، والتقاء الحفاظ بعضهم ببعض طريق عظيم في تثقيف العقول، وتنقيح العلوم، وتمحيص المحفوظ من الحديث وبها يقف الراوي بنفسه على سيرة الرواة في بلدانهم، ويعلم قوتهم من ضعفهم فضلا عن الاستزادة من الحديث، وحفظ ما لم يكن موجودا عند علماء بلده، وأهل مصره. وقد كانت الرحلة هي سنة العلماء، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن أدرك الأمة الإسلامية التكاسل، والتواكل وقعدت عن العمل النافع، المجدي الذي كان عليه أسلافهم.

ص: 109

وقد قدمنا لك أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا بعدت به الدار يركب إلى المدينة، فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستمر أمر الصحابة على ذلك أيضا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرحل بعضهم إلى بعض في طلب الحديث. إلا أنه لما اتسعت الفتوح الإسلامية، وتفرق بها الصحابة، كما سبق شاعت الرحلة، وظهر أمرها بين الصحابة والتابعين في عصرنا هذا. ونحن نذكر لك طائفة من الآثار بعضها عن الصحابة، وبعضها عن التابعين لتلمس بنفسك تلك الجهود الجبارة، التي قام بها أسلافنا، حيال جمع الحديث، وليتضح لك عنايتهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على جمعها. فهذا أبو أيوب الأنصاري، يرحل من المدينة إلى عقبة بن عامر بمصر، يسأله عن حديث، سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري، أمير مصر خرج إليه فعانقه ثم قال له: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ قال: حديث سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، لم يبق أحد سمعه منه غيري، وغير عقبة فابعث من يدلني على منزله، فبعث معه من يدله على منزل عقبة، فخرج إليه عقبة فعانقه فقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يبق أحد سمعه منه غيري، وغيرك في ستر المؤمن. قال عقبة: نعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ستر مؤمنا في الدنيا على خزية، ستره الله يوم القيامة"، فقال أبو أيوب: صدقت ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعا إلى المدينة، وما حل رحله فما أدركته جائزه مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر.

فانظر رعاك الله إلى همة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف هانت عليهم الدنيا، وصغرت أمامهم العظائم في سبيل المحافظة

ص: 110

على سنة رسول الله، فضحوا براحتهم وركبوا الأخطار، وقطعوا المفاوز والقفار في طلب الحديث. فأبو أيوب على تقدم صحته، وكثرة سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرحل من المدينة إلى مصر متحملا مشقة السفر، ووعثاءه، ثم هو يرجع من ساعته، ولا تحدثه نفسه بالمقام بمصر يوما، أو يومين يستجم فيه.

وهذا عمرو بن أبي سلمة يقول للأوزاعي: يا أبا عمرو أنا ألزمك منذ أربعة أيام، ولم أسمع منك إلا ثلاثين حديثا. قال: وتستقل ثلاثين حديثا في أربعة أيام؟ لقد سار جابر بن عبد الله إلى مصر، واشترى راحلة فركبها حتى سأل عقبة بن عامر عن حديث واحد، وانصرف إلى المدينة، وأنت تستقل ثلاثين حديثا في أربعة أيام. فجابر بن عبد الله معدود من المكثرين في الحديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يستعظم أن يفوته بعض الحديث، فيرحل إلى مصر على بعد الشقة بينها، وبين المدينة ويشتري لهذه الغاية الشريفة دابة يركبها. فانظر إلى أي حد كان الصحابة يخدمون دينهم، ويجمعون أحاديث نبيهم، وكل همهم أن يكونوا سعداء بحمل الحديث، وتبليغه والعمل به.

وهذا سعيد بن المسيب يقول: إني كنت لأسافر مسيرة الأيام، والليالي في الحديث الواحد "روى هذه الآثار كلها الحاكم في معرفة علوم الحديث ص7، 8".

وروى البخاري في كتاب العلم عن صالح الهمداني، عن الشعبي عن أبي بردة عن أبيه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل كانت عنده وليدة، فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها، وأعتقها فتزوجها فله أجران، وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه

ص: 111

وآمن بي فله أجران وأيما مملوك أدى حق مواليه، وأدى حق ربه فله أجران"، فلما انتهى الشعبي من وراية هذا الحديث، قال للسامع الذي يتلقاه عنه: "خذها بغير شيء قد كان الرجل، يرحل فيما دونها إلى المدينة"،

فكلمة الشعبي هذه، وهو من التابعين تعلمنا بما كان يقوم به العلماء من الصحابة، والتابعين من الرحلات إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم في طلب الحديث، مهما كان قليلًا.

وعن جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فابتعت بعيرا فشددت عليه رحلي، ثم سرت إليه شهرا، حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بن أنيس الأنصاري، فأتيت منزله وأرسلت إليه أن جابر على الباب، فرجع إلى الرسول، فقال جابر بن عبد الله قلت: نعم، فخرج إلي فاعتنقته، واعتنقني قال: قلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم لم أسمعه أنا منه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله تبارك وتعالى العباد

الحديث " وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، يقول: كان يبلغنا الحديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أشاء أن أرسل إليه حتى يجيئني فيحدثني فعلت، ولكني كنت أذهب إليه، فأقيل على داره، حتى يخرج فيحدثني، وهذا بسر بن عبد الله الحضرمي يقول: إن كنت لأركب إلى المصر من الأمصار في طلب الحديث الواحد لأسمعه، رواهما ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وقد عقد بابا لذلك خاصة، سماه باب ذكر الرحلة في طلب العلم، وأخرج الخطيب عن أبي العالية، قال: كنا نسمع عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نرضى حتى خرجنا إليهم، فسمعنا منهم.

ص: 112

هكذا تعاون العلماء في الأمصار المختلفة على حفظ السنة، رحل بعضهم إلى بعض، وتلقى بعضهم عن بعض، وجاهدو في سبيل الحديث، وجمعه جهادا عظيما، وضربوا المثل عاليا لمن بعدهم من أهل الحديث، فساروا على ضوء نبراسهم. وقد كان للرحلة أثر عظيم في عصور التدوين، حتى لقد عد من يكتب الحديث في بلده، ولا يرحل في طلبه ضالا طريق الرشاد، بعيدا عن محجة الهدى والسداد. فهذا يحيى بن معين يقول: أربعة لا تؤنس منهم رشدا، حارس الدرب، ومنادي القاضي وابن المحدث، ورجل يكتب في بلده، ولا يرحل في طلب الحديث، ولأمر ما يقول عبد الله بن عمر بن الخطاب، قلت لطالب العلم يتخذ نعلين من حديد. التفت أيها القارئ -وتصور العصر الذي نحدثك عنه، وكيف كانت المواصلات فيه، لم تكن هناك طرق معبدة، ولا سيارات ولا طائرات بل كانت ركوبتهم الخيل، والجمال يقطعون بها الفيافي المخيفة ما بين حزون، وسهول وجبال، وتلال وأسود وذئاب، وكثيرا ما تلفحهم الصحارى بقيظها، وتقرسهم الفيافي بقرها، ويغشاهم الليل بظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج الواحد منهم يده لم يكد يراها. وكل هذه المخاطر كانت في نظرهم قليلة في جنب الله، هينة في سبيل جمعهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجزاهم الله عن المسلمين خير الجزاء.

أثر الرحلة في شيوع رواية الحديث، وتعدد طرقه:

تفرق علماء الصحابة في البلدان ينشرون الحديث، ويروون السنن ولتفاوتهم في حفظ الحديث قلة، وكثرة نشطت الرحلة ونزح العلماء من قطر إلى قطر في جمع الحديث. وتبع اتساع الفتوح تجدد الحوادث، والأقضية فأبرز العلماء من الصحابة ما عندهم من أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضاياه وقضايا الخليفتين من بعده. فكان طبيعيا

ص: 113

أن يترتب على كل ذلك شيوع رواية الحديث بين العلماء، في الأقطار المختلفة فبعد أن كان المصري، مثلا يتحمل الحديث، ويرويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وغيره ممن نزل مصر أصبح يروى الحديث، عن معاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وأبي موسى وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وهكذا وبعد أن كان الحديث يقع للراوي من طريق واحد، أصبح يرويه من طرق عديدة. وبعد أن كانت بعض البلدان أكثر حظا بالحديث وحملته كالمدينة مثلا، أصبحت البلدان كلها تتمتع برواية الحديث، وتعمل به في أحكامها، وقضاياها، وعباداتها، ومعاملاتها. وكل ذلك بفضل ارتحال علماء الأقطار من بلد إلى بلد في طلب الحديث، وتلقيه حتى رأينا الصحابي ينزح من المدينة، التي هي مهبط الوحي، وملاذ الحديث إلى مصر في طلب حديث، سمعه زميله من النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالثا: ظهور الكذب في الحديث ومناهضة العلماء للكذابين:

كان حسنا أن تشيع رواية الحديث بين المسلمين في الأقطار المختلفة، وكان حسنا أن يتلقى التابعون عن الصحابة، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشغف عظيم، وكان حسنا أن يطبق المسلمون أحاديث نبيهم على كل أمورهم دينية كانت، أم دنيوية.

ولكن لا تنس أيها القارئ إن للإسلام، كما قدمناه لك أعداء واقفين له بالمرصاد، فمن الوقت الذي وقعت فيه الفتنة بين المسلمين، بقتل الخليفة الثالث أولا وبافتراقهم إلى شيعة وخوارج، وجمهور ثانيا، وجد أعداء الإسلام من الفرس، وغيرهم ستارا يحجبهم، فعملوا في الخفاء ودسوا الأكاذيب، كما قدمناه لك. ولما شاعت رواية الحديث، واتسعت الأقطار.

ص: 114

وجد هؤلاء الكائدون جوا صالحا، لبث سمومهم وإلقاء أكاذيبهم في طول البلاد وعرضها. كان الصحابة في الدور الأول، زمن الخلافة الراشدة لا يبرحون المدينة، إلا لحاجة ماسة، وكانوا مشغولين بالحروب، وكانت المدينة هي دار الحديث الوحيدة، وكان أبو بكر وعمر قد أخذا الناس بالحزم، وأمراهم بإقلال الرواية، حتى لا تفشو وتشيع فيتخذها الجهال، والمنافقون ذريعة للكذب وإلقاء بذور الشر والفساد، وقد نجحت تلك التجربة أيما نجاح، وكفى الله السنة شر الكذابين. ولما انقضى عهد الخلافة الراشدة، وانشق المسلمون بعضهم على بعض ظهر الكذابون، والمنافقون من أهل الملل الأخرى، الذين لم يتجاوز الإيمان حناجرهم، وقد قدمنا لك بعضا من أعمالهم وخرافاتهم. فلما أن شاعت رواية الحديث، كما رأيت بين أهل الأقطار الإسلامية، ظهر هؤلاء الدجالون من أرباب الفرق المختلفة، بوجوه في نهاية التبجح، والقحة فأخذوا يكذبون على الصحابة، ويدعون أنهم رووهم الحديث، وربما لم يكونوا قد رأوهم، ولا سمعوا منهم.

أخذ هؤلاء الكذابون يأتون بالعظائم، مما لم يأذن به الله ولا رسوله.

فهذا جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي، أبو عبد الله الكوفي الرافضي، المتوفى سنة 127هـ يقول: عندي خمسون ألف حديث ما حدثت منها بشيء. ويقول فيه سفيان: سمعت جابرا يحدث بنحو ثلاثين ألف حديث، ما أستحل أن أذكر منها شيئا، وإن كان لي كذا وكذا. وروى الحميدي عن سفيان قال: "سمعت رجلا سأل جابرا عن قوله عز وجل: {لَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} . فقال جابر: لم يجئ تأويل هذه الآية. قال سفيان: وكذب فقلنا: وما أراد بهذا قال: إن الرافضة تقول: إن عليا في السحاب، فلا نخرج مع من خرج من

ص: 115

ولده حتى ينادي مناد من السماء، يريد أن عليا ينادي، اخرجوا مع فلان يقول جابر: فذا تأويل هذه الآية وكذب. كانت في أخوة يوسف".

وهذا همام يقول: قدم علينا أبو داود الأعمى، فجعل يقول: حدثنا البراء، وحدثنا زيد بن أرقم. فذكرنا ذلك لقتادة فقال: كذب ما سمع منهم إنما كان إذ ذاك سائلا، يتكفف الناس زمن طاعون الجارف، أي عام سبع وثمانين ويقول همام: دخل أبو داود الأعمى على قتادة فلما قام قالوا: إن هذا يزعم أنه لقي ثمانية عشر بدريا فقال قتادة: هذا كان سائلا قبل الجارف لا يعرض لشيء من هذا ولا يتكلم فيه. فوالله ما حدثنا الحسن عن بدري مشافهة، ولا حدثنا سعيد بن المسيب، عن بدري مشافهة إلا عن سعد بن مالك1. فانظر كيف ادعى هذا الأعمى، أنه سمع ثمانية عشر صحابيا، ممن شهد بدرا مع أن الحسن، وسعيد بن المسيب، وهما أكبر منه سنا وأكثر اعتناء بالحديث، وملازمة لأهله واجتهادا في الأخذ عن الصحابة، ما حدث واحد منهما عن بدري واحد، فكيف بأبي داود الأعمى، يدعي أنه لقي ثمانية عشر بدريا، سبحانك هذا بهتان عظيم.

ولكن الصحابة والتابعين، رضي الله عنهم أخذوا على هؤلاء الوضاعين المسالك، وشردوا بهم من خلفهم. انظر إلى قول الشعبي رضي الله عنه.

حدثني الحارث الأعور، وكان كذابا. وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يؤتى بقضاء علي كرم الله وجهه في خريطة، فيمحوه ولا يترك منه، إلا مقدار ذراع. وذلك؛ لأن الشيعة أفسدوا كثيرا من علم الإمام علي، فقاتلهم الله أنى يؤفكون. وهذا بشير بن كعب يأتي ابن عباس، فيحدثه بأحاديث فيقول له ابن عباس: عد لحديث كذا وكذا، فيعود له ثم يحدث

1 هو سعد بن أبي وقاص.

ص: 116

فيقول له: عد لحديث كذا وكذا فيعود له. فقال له: ما أدري أعرفت حديثي كله، وأنكرت هذا أم أنكرت حديثي كله، وعرفت هذا. فقال له ابن عباس: إنا كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا لم يكن يكذب عليه فلما ركب الناس الصعبة، والذلول تركنا الحديث عنه. وهذا مجاهد يقول: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدث، ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه فقال: يا ابن عباس. ما لي أراك لا تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تسمع؟، فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعبة، والذلول لم نأخذ من الناس، إلا ما نعرف ذكر هذه الآثار مسلم في مقدمة صحيحة.

هذا وهناك صنف من الوضاعين، كان شرا مستطيرا على الحديث، ألا وهم القصاص الذين يستهوون العامة بالمناكير، ويأخذون عليهم قلوبهم برواية الغرائب، التي لا أصل لها، وقد وجد منهم في هذا الدور خلق كثير.

فهذا هو الشعبي التابعي العظيم، أحد أعيان المائة الأولى للهجرة "17-104" يقول: بينما عبد الملك بن مروان جالس، وعنده وجوه الناس من أهل الشام قال لهم: من أعلم أهل العراق قالوا: ما نعلم أحدا أعلم من عامر الشعبي. فأمر بالكتاب إلي، فخرجت إليه حتى نزل "تدمر"، فوافقت يوم جمعة، فدخلت أصلي في المسجد، فإذا غلى جانبي شيخ عظيم اللحية، قد أطاف به قوم فحدثهم قال: حدثني فلان، عن فلان يبلغ به النبي صلى الله عله وسلم: أن الله تعالى خلق صورين في كل صور

ص: 117

نفختان نفخة الصعق ونفخة القيامة. قال الشعبي فلم أضبط نفسي أن خففت صلاتي، ثم انصرفت فقلت: يا شيخ اتق الله، ولا تحدثنا بالخطأ إن الله تعالى لم يخلق إلا صورا واحدا، وإنما هي نفختان نفخة الصعق، ونفخة القيامة. فقال لي: يا فاجر، إنما يحدثني فلان عن فلان، وترد علي ثم رفع نعله، وضربني بها، وتتابع القوم علي ضربا معه، فوالله ما أقلعوا عني، حتى حلفت لهم أن الله تعالى خلق ثلاثين صورا له، في كل صور نفخة فأقلعوا عني. فرحلت حتى دخلت دمشق، ودخلت على عبد الملك، فسلمت عليه.

فقال لي يا شعبي: بالله حدثني بأعجب شيء رأيته في سفرك، فحدثته حديث المتقدمين، ضحك حتى ضرب برجليه، ذكره السيوطي في تحذير الخواص ص51، 52.

فانظر إلى أي حد بلغ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك العصر، وانظر إلى استماع العامة للأكاذيب، وتعلقهم بها حتى إنهم إذا نصحوا ثاروا على الناصح، فأهانوه وضربوه. فمن ذلك نأخذ أن مهمة المحدثين في هذا الوقت، كانت من أشق ما يكون فقد أفسد القصاص، والزنادقة قلوب العامة وحشوها بالخرافات، وشأن العامة في كل زمان الاستماع للغريب من الحديث، والجلوس إلى القاص، إذا ما كان كلامه عجيبا خارجا عن فطر العقول، أو كان رقيقا يحزن القلوب ويستغزر العيون. وهذا ابن عمر يزجر القاص، ويأمره بالقيام من المسجد فلا يستمع لأمره، حتى يستعين عليه بصاحب الشرطة، فيبعث إليه شرطيا يخرجه إلى غير ذلك من الحوادث.

وقد رأينا أن نتكلم على نشأة الوضع في الحديث، وتاريخه وجهود العلماء لمناهضة الوضاعين في فصل خاص، إن شاء الله عند الكلام على أنواع الحديث في الخاتمة؛ لأن الوضع لم يكن خاصا بعصر من العصور، بل هو وليد العصور جميعها، ونكتفي بهذا القدر الآن.

ص: 118