المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: شيوع الوضع في الحديث في هذا العصر - الحديث والمحدثون

[محمد محمد أبو زهو]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌الإهداء

- ‌الداعي لنشر هذا الكتاب:

- ‌مقدمة المؤلف:

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌المبحث الأول: معنى السنة لغة واصطلاحا

- ‌المبحث الثاني: السنة من الوحي

- ‌المبحث الثالث: منزلة السنة النبوية في الدين

- ‌المبحث الرابع: في أن السنة النبوية مبينة للقرآن الكريم

- ‌السنة في أدوارها المختلفة

- ‌الدور الأول: السنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: استعداد الصحابة لحفظ السنة ونشرها

- ‌المبحث الثاني: "مجالس النبي صلى الله عليه وسلم العلمية

- ‌المبحث الثالث: كيف كان الصحابة يتلقون الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: البعوث والوفود، وأثرها في انتشار الحديث النبوي:

- ‌الدور الثاني: السنة في زمن الخلافة الراشدة

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية لهذا العهد

- ‌المبحث الثاني: منهج الصحابة في رواية الحديث

- ‌المبحث الثالث: رد شبه واردة على منهج الصحابة في رواية الحديث، والعمل به

- ‌الدور الثالث: السنة بعد زمن الخلافة الراشدة إلى نهاية القرن الأول

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية وظهور الفرق

- ‌المبحث الثاني: الخوارج ورأيهم في الخلافة

- ‌المبحث الثالث: الشيعة ومعتقداتهم

- ‌المبحث الرابع: جهود الصحابة والتابعين في جمع الحديث ورواياته ومناهضتهم للكذابين

- ‌المبحث الخامس: كتابة الحديث

- ‌المبحث السادس: تراجم لبعض مشاهير الرواة من الصحابة، رضي الله عنهم

- ‌المبحث السابع: تراجم لبعض رواة الحديث من التابعين

- ‌المبحث الثامن:

- ‌الدور الرابع: السنة في القرن الثاني

- ‌المبحث الأول: تدوين الحديث في هذا العصر وأشهر الكتب المؤلفة فيه

- ‌المبحث الثاني: شيوع الوضع في الحديث في هذا العصر

- ‌المبحث الثالث: النزاع حول حجية السنة في القرن الثاني

- ‌المبحث الرابع: تراجم لبعض مشاهير المحدثين في القرن الثاني

- ‌المبحث الخامس: الرد على تمويهات لبعض المستشرقين لها صلة بهذا العصر، وما قبله

- ‌الدور الخامس: السنة في القرن الثالث

- ‌المبحث الأول: النزاع بين المتكلمين وأهل الحديث وأثر ذلك في الحديث

- ‌المبحث الثاني: نشاط أهل الأهواء في وضع الأحاديث

- ‌المبحث الثالث: تراجم لبعض أئمة الحديث في هذا العصر

- ‌المبحث الرابع: تدوين الحديث في هذا العصر وطريقة العلماء في ذلك

- ‌الدور السادس

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية في هذا الدور

- ‌المبحث الثاني: السنة في القرن الرابع

- ‌المبحث الثالث: السنة بعد القرن الرابع إلى آخر هذا الدور

- ‌الدور السابع

- ‌المبحث الأول: وصف الحالة السياسية

- ‌المبحث الثاني: منهج العلماء رواية السنة في هذا الدور

- ‌المبحث الثالث: عناية المسلمين بالسنة في الممالك المختلفة

- ‌المبحث الرابع: طريقة العلماء في تصنيف الحديث في هذا الدور

- ‌الخاتمة:

- ‌خاتمة الطبع:

- ‌تقاريظ الكتاب:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌المبحث الثاني: شيوع الوضع في الحديث في هذا العصر

‌المبحث الثاني: شيوع الوضع في الحديث في هذا العصر

بالرغم من تعاون الكتابة، والحفظ على جمع الحديث وضبطه في هذا الدور فإنه قد انبث جراثيم الشر، وعوامل الفتنة من الذين أخذوا يضعون الأحاديث، ويلقون على الناس الأساطير، وينشرون فيهم الخرافات والأكاذيب.

وجد في هذا الوقت طوائف كثيرة تعمل على إفساد الحديث، وتجتهد في تزييفه، وأشهر هذه الطوائف هم الدعاة السياسيون، والقصاص، والزنادقة ونحن نذكر لك شيئا من أعمال كل طائفة من هذه الطوائف الثلاثة لترى مقدار خطرهم على الحديث، كما ترى أن مهمة أهل الحديث في ذلك العصر كانت من الصعوبة بمكان.

أولا: الدعاة السياسيون:

قامت الدولة العباسية على أنقاض دولة بني أمية، فكان هذا العصر عصر انتقال سياسي خطير، انتقلت فيه الخلافة من بيت إلى بيت. وبالضرورة لم يكن هذا الانتقال طفرة. بل تقدمه دعوة سرية مكثت شطرا من الزمان لم يكن هذا الانتقال طفرة. بل تقدمه دعوة سرية مكثت شطرا من الزمان، تظهر حينا وسرعان ما تخبو حتى لمحها بعض الأدباء الأمويين، فقال يحذر قومه:

أرى خلل الرماد وميض نار

ويوشك أن يكون له ضرام

لئن لم يطفها عقلاء قوم

يكون وقودها جثث وهام

بدأت هذه الدعوة السرية من أول القرن الثاني، واتخذ لها من النقباء اثنا عشر رجلا من ورائهم سبعون آخرون، يأتمرون بأمرهم ويبثون الدعوة بين الناس مختفين في زي تجار حينا، وحينا في زي حجاج. مكثوا على هذا أعواما كثيرة وما أن جاء عام سبع وعشرين ومائة، حتى كمن خلف السار داهية السواس أبو مسلم الخراساني، الذي لعب دورا هاما في قلب الدولة الأموية، وإقامة الدولة العباسية. تزعم أبو مسلم الحركة الانقلابية في بلاد خراسان، فوجد نفوسا طيعة وقلوبا مستعدة لقبول الدعوة لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بني العباس واستخدم لذلك الدعاة في طول البلاد وعرضها1.

اتخذ هؤلاء الدعاة فيما اتخذوا الأحاديث النبوية مطية لأغراضهم.

1 تاريخ الأمم الإسلامية للخضري ص20 في الكلام على الدولة العباسية.

ص: 260

السياسية فدسوا فيها ما ليس منها، مما يوافق تلك الأغراض ووضع الأحاديث التي تنذر بخلافة بني أمية، وتنفر الناس منهم وفي الوقت نفسه، وضعوا الحأاديث المبشرة بخلافة بني العباس لتحبب الناس فيهم.

وإليك طائفة من هذه المفتريات:

1-

أحاديث وضعوها للتنفير من بني أمية:

من ذلك قولهم: أن رجلا قام إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية، فقال: سودت وجوه المؤمنين فقال: لا تؤنبني فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، ونزلت:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، يملكها بنو أمية يا محمد، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات. وأنزل الله تعالى في ذلك:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} ، ثم يروون عن يعلى بن مرة أن المراد بالشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية، ويروون عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.

ومن ذلك ما يروونه أيضا: "رأيت بني أمية على منابر الأرض، وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء".

2-

أحاديث وضعوها في التبشير بخلافة بني العباس:

عن عبد العزيز بن بكار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 261

"يلي ولد العباس من كل يوم يليه بنو أمية يومين ولكل شهر شهرين، وعن عبد الله بن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى العباس مقبلا، فقال: هذا عمي أبو الخلفاء الأربعين أجود قريش كفا وأجملها.

من ولده السفاح والمنصور والمهدي. يا عمي بي فتح الله هذا الأمر وسيختمه برجل من ولدك".

وعن ابن عباس مرفوعا: "إذا سكن بنوك السواد ولبسوا السواد، وكان شيعتهم أهل خراسان لم يزل الأمر فيهم حتى يدفعوه إلى عيسى بن مريم، وعنه صلى الله عليه وسلم، قال: "رأيت بني مروان يتعاورون على منبري فساءني ذلك، ورأيت بني العباس يتعاورون على منبري فسرني ذلك".

هذا وهناك أحاديث، وضعها دعاة بني العباس مروية عن علي بن أبي طالب، أو بعض أولاده أو غيرهم وقصدهم بذلك تخدير أعصاب الشيعة، وصرفهم عن المطالبة بالخلافة لمن يتولونه وإليك طائفة منها.

عن علي بن موسى الرضي عن أبي موسى، عن أبيه جعفر عن محمد، عن أبيه علي عن أبيه الحسين، عن أبيه علي بن أبي طالب مرفوعا:"هبط علي جبريل وعليه قباء أسود، وعمامة سوداء فقلت: "ما هذه الصورة التي لم أرك هبطت علي فيها"، قال: "هذه صورة الملوك من ولد العباس". قلت: "وهم على حق". قال: "نعم"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم للعباس وولده حيث كانوا، وأين كانوا". قال جبريل:"ليأتين على أمتك زمان يعز الله الإسلام بهذا السواد". قلت: "رياستهم ممن". قال: "من ولد العباس"، قلت:"وأتباعهم". قال: "من أهل خراسان". قلت: "وأي شيء يملك ولد العباس".

قال: "يملكون الأصفر والأخضر، والمدر والسرير، والمنبر والدنيا، والمحشر والملك إلى المنشر".

ص: 262

ومن ذلك زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال للعباس -وعلي عنده:"يكون الملك في ولدك، ثم التفت إلى علي فقال: لا يملك أحد من ولدك".

ويروون عن أم سلمة أنها قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فتذاكروا الخلافة فقالوا: ولد فاطمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن يصلوا إليها أبدا، ولكنها في ولد عمي صنو أبي حتى يسلموها إلى المسيح.

2-

أحاديث وضعت للتنفير من بني العباس:

ثم إننا نرى الشيعة وغيرهم من دعاة بني أمية بعد أن تم الأمر لبني العباس، أو كاد يضعون الأحاديث في التنفير منهم، والتحذير من طاعتهم.

ومن ذلك ما يروونه عن سعيد بن المسيب أنه قال: لما فتحت أداني خراسان بكى عمر بن الخطاب، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك وقد فتح الله عليك مثل هذا الفتح؟، قال: وما لي لا أبكي والله لوددت أن بيننا وبينهم بحرا من النار. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أقبلت رايات ولد العباس من عقاب خراسان، جاءوا بنفي الإسلام فمن سار تحت لوائهم لم تنله شفاعتي يوم القيامة".

وعن ثوبان مرفوعا: "ويل لأمتي من بني العباس، صبغوها وألبسوها السواد ألبسهم الله ثياب النار. هلاكهم على يد رجل من أهل بيت هذه، وأشار إلى أم حبيبة".

وعن أبي شراعة قال: كنا عند ابن عباس في البيت، فقال: هل فيكم غريب قالوا:

لا. قال: إذا خرجت الرايات السود فاستوصوا بالفرس خيرا، فإن دولتنا معهم فقال أبو هريرة: ألا أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وأنك هنا؟. حدث. قال: سمعته يقول:

ص: 263

"إذا أقبلت الرايات السود من قبل المشرق، فإن أولها فتنة وأوسطها حرج وآخرها ضلالة1".

وهذه الأحاديث كلها أباطيل لا يعول عليها في قليل، ولا كثير ومنها ترى أن هؤلاء الدعاة لبني العباس، وخصومهم من الشيعة وغيرهم ممن لا خلاق لهم، ولا دين قد استباحوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحصلوا على تلك الأغراض الدنيئة.

ثانيا: الزنادقة:

هم، قوم من أعداء الإسلام تظاهروا به، وانتحلوا في الدين نحلا وآراء لا تتفق وأصوله العامة وقواعده المقررة، وغرضهم من ذلك استدراج العامة إلى الخروج من الإسلام، وإضعاف شوكة المسلمين وقد وجد منهم في هذا العصر خلق كثير أخذوا يضعون الأحاديث، لاجتذاب العامة إلى معتقدهم الزائف، ويغمرون الناس بوابل من الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي جعل خلفاء بني العباس يتعقبونهم، ويقتلونهم أما؛ لأنهم كانوا يضعون الأحاديث في ذم بني العباس، وتنفير الناس منهم. وهذا باب فتنة يدخلون منه على المسلمين يضعفون به دولتهم وإما؛ لأن الخلفاء كانوا حريصين على دينهم. لا يهمنا أن يكون هذا أو ذك أو هما معا. بل الذي يهمنا أن هؤلاء الزنادقة، كذبوا كثيرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلقوا من الأحاديث ما لم يأت عنه بل ما ترده أصول الدين، والعقل السليم وغرضهم كما ذكرنا هو طمس

1 انظر تاريخ الخلفاء للسيوطي ص9، وتفسيري ابن كثير والألوسي في سورتي الإسراء والقدر واللآلئ المصنوعة للسيوطي ج1 كتاب المناقب في مواضع متفرقة.

ص: 264

هذا الدين والقضاء على الأصل الثاني من أصوله، وهو الحديث النبوي عمدة المسلمين في الأحكام وفهم القرآن.

يروي السيوطي في تاريخ الخلفاء1 عن ابن عساكر، عن ابن علية أنه قال: أخذ هارون الرشيد زنيقا، فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لم تضرب عني؟. قال له: أريح العباد منك. قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله كلها ما فيها حرف نطق به؟، قال: فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا". ا. هـ.

فمن هذه الحادثة تلمح الحالة، التي أصابت الحديث من عمل الزنادقة، كما ترى منها جهود المحدثين في ذلك العصر لتنقية الحديث، والتمييز بين الغث والسمين. فهذا زنديق واحد يضع ألف حديث، ولو امتد به الأجل لوضع الآلاف المؤلفة فما بالك بالزنادقة الكثيرين، الذين أخذوا يضعون الأحاديث في الخفاء؟.

كان من الزنادقة من يكتب الحديث لشيخه فينتهز غفلة شيخه، ويدس في الكتاس كثيرا من الأحاديث المكذوبة، فيرويها الشيخ على أنها من حديثه. وكان المهدي العباسي يقول: أقر عندي رجل من الزنادقة أنه وضع أربعمائة حديث، فهي تجول في أيدي الناس إلى غير ذلك، مما شحنت به كتب الموضوعات.

ثالثا: القصاص:

احترف القصص طائفة من الجهلة بالحديث، الذين رق دينهم ليتكسبوا به، ولتكون لهم عند عامة الناس الحظوة، والصدارة ولقد لاقى المحدثون

1 ص194.

ص: 265

منهم كل شدة ولحقهم من ورائهم العناء الكبير. ذلك أن طبيعة العامة تنجذب إلى كل غريب من القول، لا سيما القصص فأقبلوا على هؤلاء القصاص، الذين أخذوا يضعون الأقاويل -ويروونها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو منها بريء، ونحن نذكر لك بعض الحوادث، التي تدل على مبلغ إفسادهم للحديث، ومقدار تعلق العامة بهم حتى إنهم كانوا يفضلونهم على الأئمة من العلماء.

1-

روى ابن الجوزي في كتابه "القصاص والمذكرين"، عن أبي الوليد الطيالسي أنه قال: كنت مع شعبة، فدنا منه شاب فسأله عن حديث: فقال له: أقاص أنت؟ قال: نعم. قال: اذهب فإنا لا نحدث القصاص.

فقلت له: لم يا أبا بسطام؟ قال: يأخذون الحديث منا شبرا، فيجعلونه ذراعا".

فهذه شهادة من شعبة، وهو من أعيان المحدثين في هذا العصر، تلقي ضوءا على أعمال القصاص الإفسادية للأحاديث، كما أنها ترينا مبلغ تنبه العلماء لأفاعيلهم، ما يتزيدونه في الحديث من أباطيلهم.

2-

وأخرج ابن الجوزي بسنده إلى حجر بن عبد الجبار الحضرمي أنه قال: كان في المسجد قاص يقال له: زرعة. فأرادت أم أبي حنيفة أن تستفتي في شيء فأفتاها أبو حنيفة، فلم تقبل وقالت: لا أقبل إلا ما يقول زرعة القاص، فجاء بها أبو حنيفة إلى زرعة فقال: هذه أمي تستفيك في كذا وكذا فقال: أنت أعلم مني وأفقه فافتها أنت قال أبو حنيفة: قد أفتيتها بكذا وكذا فقال زرعة: القول كما أبو حنيفة فرضيت وانصرفت1".

فهذه القصة ترينا كيف كان القصاص يسيطرون على عقول العامة.

1 انظر تحذير الخواص من أكاذيب القصاص ص80-81.

ص: 266

أبو حنيفة الذي بلغ في الفقه والعلم، والذكاء، والفهم مبلغا عظيما وطار صيته في الآفاق لا تقنع أمه بفتواه، حتى تطلب فتوى زرعة القاص.

هذا ولم تكن هذه الفرق الثلاث تعمل وحدها في وضع الأحاديث بل كان وراءهم كثير من الفرق مجسمة، ومرجئة وغيرهم يختلقون الحديث، لترويج بدعهم كما كان وراءهم كثير من جهلة المتصوفة، يستبيحون وضع الأحاديث الأحاديث في الترغيب والترهيب، يرتجون من ورائها خيرهم وخير الناس، إلا غير هؤلاء ممن أضلهم الله. اتحدوا جميعا على وضع الأحاديث واختلاق الأسانيد. لكن الله تعالى لم يترك حديث نبيه صلى الله عليه وسلم تلعب به الأهواء، ويتزيد فيه الكذابون كما يشاءون. بل قيض في كل زمان من ينافح عنه، ويكافح دونه. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} .

مناهضة العلماء للوضاعين:

هيأ الله تعالى للدفاع عن الأحاديث في هذا العصر طائفة من فطاحل النقاد، وكبار الحفاظ انتدبوا أنفسهم لتخليص الحق من الباطل، وتقربوا إلى الله بالكشف عن أحوال هؤلاء الكذابين على رسوله صلى الله عليه وسلم المتزايدين في حديثه. وأنزلوا الرواة منازلهم، وبينوا للناس درجاتهم ولقبوهم بما يستحقونه من المحاسن، أو المثالب لا تأخذهم بأحد رحمة في دين الله فتراهم يقولون فلان ثقة. فلا حجة. فلان كذاب. فلان لين الحديث. فلان لا بأس به. فلا ضعيف. إلى غير ذلك من ألقاب الرعفة، أو سمات الضعة والسقوط.

نشط علماء الحديث في هذا العصر -الذي يعرف عند المؤرخين بعصر التدوين- نشاطا عظيما في تدوين الحديث، حتى لم يبق أحد منهم.

ص: 267

إلا صنف الكتب الحديثية، ورحل في سبيل ذلك المراحل العديدة، وقطع الأسفار البعيدة إلى الأمصار الإسلامية المختلفة. فتجمع لديهم ثروة عظيمة من الأحاديث، وتعددت أمامهم طرقها وأسانيدها وبسبب ذلك انكشف لهم ما كان خافيا من اتصال بعض الأسانيد، أو انقطاعها وبإمعانهم النظ في متون الأحاديث، وفحصهم الدقيق عن قيمتها ظهر لهم الدخيل من غير الدخيل منها، فكانت نهضة مباركة في جمع الحديث، وثورة عنيفة في وجوه الوضاعين غير أنهم لم يصلوا إلى هذه المرحلة الحاسمة، والنصر المبين على أعداء الإسلام الألداء إلا بشق الأنفس. فهذا أبو داود السجستاني في رسالته إلى أهل مكة يقول ما خلاصته: كان سفيان ووكيع وأمثالهما يجتهدون غاية الاجتهاد فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتصل إلا من دون ألف حديث1.

فإذاكان الحديث الواحد المستوفي الشرائط، لا يمكن الحصول عليه إلا من بين الف حديث سواه من ضعيف وموضوع. ظهر لنا ما كان يكابده هؤلاء الأئمة من جهد جهيد، حتى أبلوا ذلك البلاء المبين، وفي الحق أن علماء الحديث أبانوا عن علم غزير في الحديث، ورجاله ومتونه، وأسانيده كا أظهروا حيطة شديدة في الأخذ والتحمل عن الشيوخ. فأنت تراهم لم يكتفوا في تصحيح الحديث بدين الراوي وأمانته، وكثرة حفظه حتى يكون مع ذلك ضابطا عارفا بما يتحمله من الحديث غير متساهل فيه.

فهذا مالك بن أنس يقول: "لا يؤخذ العلم عن أربعة، ويؤخذ ممن سوى ذلك: لا يؤخذ عن سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هوى، يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذ في أحاديث الناس، وإن كان لا يتهم

1 انظر حجة الله البالغة جـ1 ص148.

ص: 268

على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من شيخ له فضل، وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به"1، وسئل مالك أيؤخذ العلم ممن ليس له طلب ولا مجالسة فقال: لا. فقيل: أيؤخذ ممن هو صحيح ثقة غير أنه لا يحفظ ولا يفهم مايحدث به فقال: لا يكتب العلم إلا عمن يحفظ، ويكون قد طلب وجالس الناس، وعرف وعمل ويكن معه ورع"، ويقول مالك أيضًا: لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين، فما أخذت عنهم شيئا، وأن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أمينا؛ لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، وقدم علينا ابن شهاب، فكنا نزدحم عند بابه"، وهذا عبد الله بن المبارك يقول: قلت لسفيان الثوري: أن عباد بن كثير من تعرف حاله، وإذا حدث جاء بأمر عظيم أترى أن أقول للناس: لا تاخذوا عنه؟ قال سفيان: بلى. قال عبد الله: فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد أثنيت عليه في دينه، وأقول: لا تأخذوا عنه". وهذا يحيى بن سعيد القطان، يقول:"لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث"2.

وهذا سفيان الثوري يقول: إني أحب أن أكتب الحديث على ثلاثة أوجه. حديث أكتبه أريد أن أتخذه دينا. وحديث رجل أكتبه، فأوقفه لا أطرحه ولا أدين به، وحديث رجل ضعيف أحب أن أعرفه ولا أعبأ به.

والأوزاعي رضي الله عنه يقول: "تعلم ما لا يؤخذ، كما تتعلم ما يؤخذ3". وهذا خليفة المسلمين في القرن الثاني هارون الرشيد يقول للزنديق، وقد قال: أني وضعت ألف حديث على رسول الله. فأين أنت يا عدو الله من أبي

1 الانتقاء لابن عبد البر ص15-16.

2 انظر هذه الآثار في توجيه النظر ص35، 36.

3 انظر جامع بيان العلم وفضله جـ1 ص76.

ص: 269

إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا"، وتقدم لك هذا الأثر قريبا.

من هذا كله يظهر لك جليا ما كان عليه أئمة الحديث، في هذا العصر من بصيرة نقادة، ومعرفة تامة بالسنة متونها وأسانيدها، فتراهم غربلوا الرواة وأقصوا كثيرا منهم عن حظيرة السنة، والتمتع بشرف روايتها. كما ميزوا الأحاديث، فحديث علموا صحته، وعملوا به وحديث علموا كذبه فتركوه، وحديث تبين لهم ضعفه فلم يعتمدوا عليه وحده، وحديث اشتبه أمره فتوقفوا فيه، حتى يظهر حاله وينكشف أمره. وتراهم يأمرون بحمل جميع ما يسمعونه لينتقوا منه الصحيح، حتى أصبحوا بحق صيارفة الحديث، ونقاد الأسانيد.

وإليك جملة مما ذكره ابن عدي في كامله، تلقي لنا ضوءا على جهود هؤلاء الجهابذة في هذا العصر قال رحمه الله ما نصه:

"وأما القرن الثان فقد كان في أوائله من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء. وضعف أكثرهم نشأ غالبا من قبل تحملهم وضبطهم للحديث. فكانوا يرسلون كثيرا ويرفعون الموقوف، وكانت لهم أغلاط، وذلك مثل أبي هارون العبدري المتوفى سنة 143هـ. ولما كان آخر عصر التابعين، وهو حدود الخمسين ومائة تكلم في التعديل، والتجريح طائفة من الأئمة فضعف الأعمش المتوفى سنة 128هـ جماعة ووثق آخرين. ونظر في الرجال شعبة المتوفى سنة 160هـ، وكان متثبتا لا يكاد يروي إلا عن ثقة. ومثله مالك المتوفى سنة 179هـ، وممن كان في هذا العصر إذا قال: قبل قوله معمر المتوفى سنة 153، وهشام الدستوائي المتوفى سنة 154، والأوزاعي المتوفى سنة 156هـ. وسفيان الثوري المتوفى سنة 161هـ.

ص: 270

وابن الماجشون المتوفى سنة 213هـ، وحماد بن سلمة المتوفى سنة 167هـ. والليث بن سعد المتوفى سنة 175.

وبعد هؤلاء طبقة. منهم ابن المبارك المتوفى سنة 181. وهشيم بن بشير المتوفى سنة 188هـ. وأبو إسحاق الفزاري المتوفى سنة 185هـ.

والمعافى بن عمران الموصلي المتوفى سنة 185هـ. وبشر بن المفضل المتوفى سنة 186هـ. وابن عيينة المتوفى سنة 197هـ. وقد كان في زمنهم طبقة أخرى منهم ابن علية المتوفى سنة 193هـ. وابن وهب المتوفى سنة 197هـ. ووكيع بن الجراح المتوفى سنة 197هـ.

وقد انتدب في ذلك الزمان لنقد الرجال، الحافظان الحجتان يحيى بن سعيد القطان، المتوفى سنة 189، وعبد الرحمن بن مهدي المتوفى سنة 198هـ، وكان للناس وثوق بهما فصار من وثقاه مقبولا، ومن جرحاه مجروحا. ومن اختلفا فيه، وذلك قليل رجع الناس إلى ما ترجح عندهم.

ثم ظهرت بعدهم طبقة أخرى يرجع إليهم في ذلك، منهم يزيد بن هارون المتوفى سنة 206هـ، وأبو داود الطيالسي المتوفى سنة 204، وعبد الرزاق بن همام المتوفى سنة 211هـ، وأبو عاصم الضحاك النبيل بن مخلد المتوفى "سنة 212هـ". ا. هـ1.

1 توجيه النظر ص114.

ص: 271