الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْل الثَّالِث فِي ضبط الحَدِيث ودرسه وتحمله
إعلم أَن الضَّبْط الَّذِي يُؤْخَذ فِي صِحَة الحَدِيث كَانَ لَهُ فِي الْأمة المرحومة ثَلَاث أَحْوَال
الأول أَنهم كَانُوا يحفظون الْأَحَادِيث فِي زمن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ عَن ظهر غيب ويقتصرون عَلَيْهَا وَكَانَ ضبطهم يَوْمئِذٍ فِي جودة الْحِفْظ فَقَط
الثَّانِي أَنهم كَانُوا يَكْتُبُونَ الْأَحَادِيث فِي زمن تبع التَّابِعين وأوائل الْمُحدثين إِلَى الطبقه السَّابِعَة أَو الثَّامِنَة وَكَانَ ضبط ذَلِك الْوَقْت فِي تَبْيِين الْخط وَالِاحْتِيَاط فِي الثِّقَات والحركات والسكنات وتصوير الْحُرُوف ومقابلتها على أُصُولهَا الصَّحِيحَة وَحفظ الْكتاب عَن الْعَوَارِض الطارئة عَلَيْهِ وَنَحْوهَا
الثَّالِث أَنهم أَي الْحفاظ صنفوا كتبا جمة فِي أَسمَاء الرِّجَال وغريب الحَدِيث وَضبط الْأَلْفَاظ المشكلة وصنفوا شروحا لَهَا حافلة وتعرضوا بِمَا يَلِيق بِهِ التَّعَرُّض والبحث عَن أحوالها
وَأما الْيَوْم فالضبط أَن ينظر الطَّالِب الرَّاغِب فِي تصانيف هَؤُلَاءِ الْأَعْلَام وشروحها ويروي الْأَحَادِيث بحسبها مَعَ الصِّحَّة والإتقان وَمن ثمَّ تساهل أهل الحَدِيث وتسامحوا فِي هَذَا الزَّمَان فِيمَا شدد فِيهِ المتقدمون الْأَعْيَان كَمَا تساهل المتوسطون فِي الْحِفْظ واكتفوا مِنْهُ على الْخط فَقَط وَلِهَذَا شاعت فيهم الوجادة والمنابذة الْمُجَرَّدَة وَنَحْوهَا بِخِلَاف الطَّبَقَات السَّابِقَة فَإِنَّهُم اجتهدوا اجْتِهَادًا تَاما فِي كل من هَذِه الْأُمُور لتكميل هَذَا الشَّأْن فاشتغال الْمُحدث بأحوال رجال السَّنَد بعد تَصْحِيح أساميهم وبتفرقة وثوقهم سِيمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَمثلهمَا وبتأويل لفظ لَيْسَ منا من فعل كَذَا وَإِن الله قبل وَجهه وَنَحْوهَا وبالفروع الْفِقْهِيَّة وَبَيَان اخْتِلَاف مَذَاهِب الْفُقَهَاء وبالتوفيق فِي اخْتِلَاف رواياتهم وترجيح بعض الْأَحَادِيث على بَعْضهَا من قبيل الإمعان والتعمق وَكَانَت أَوَائِل هَذِه الْأمة المرحومة مشتغلة بهَا وَإِنَّمَا يَخُوض فِي أَمْثَال هَذِه الْأُمُور الْفُقَهَاء والمتكلمون
قَالَ الْقُسْطَلَانِيّ وَيسْتَحب الاعتناء بضبط الحَدِيث وتحقيقه لفظا وشكلا وإيضاحا من غير مشق وَلَا تَعْلِيق بِحَيْثُ يُؤمن مَعَه اللّبْس أَو إِنَّمَا يشكل الْمُشكل وَلَا يشْتَغل بتقييد الْوَاضِح وَصوب عِيَاض شكل الْكل للمبتدئ وَغير المعرب وَرَأى بعض مَشَايِخنَا الِاقْتِصَار فِي ضبط البُخَارِيّ على رِوَايَة وَاحِدَة لَا كَمَا يَفْعَله من ينْسَخ البُخَارِيّ من نُسْخَة الْحَافِظ شرف الدّين اليونيني لما يَقع فِي ذَلِك من الْخَلْط الْفَاحِش بِسَبَب عدم التَّمْيِيز ويتأكد ضبط الملبس من الْأَسْمَاء لِأَنَّهُ نقل مَحْض لَا مدْخل للإفهام فِيهِ كبريد بِضَم الْمُوَحدَة فَإِنَّهُ يشْتَبه بِيَزِيد بالتحتية فضبط ذَلِك أولى لِأَنَّهُ لَيْسَ قبله وَلَا بعده شَيْء يدل عَلَيْهِ وَلَا مدْخل للْقِيَاس بِهِ وليقابل مَا يَكْتُبهُ بِأَصْل شَيْخه أَو بِأَصْل أصل شَيْخه الْمُقَابل بِهِ أصل شَيْخه أَو فرع مُقَابل بِأَصْل السماع وليعن بالتصحيح بِأَن يكْتب صَحَّ على كَلَام صَحَّ رِوَايَة وَمعنى لكَونه عرضة للشَّكّ أَو الْخلاف وَكَذَا بالتضبيب وَيُسمى التمريض بِأَن يمد خطأ أَوله كرأس الصَّاد وَلَا يلصقه بالممدود عَلَيْهِ على ثَابت نقلا فَاسِدا لفظا أَو معنى أَو ضَعِيف أَو نَاقص وَمن النَّاقِص مَوضِع الْإِرْسَال وَيصْلح النِّيَّة فِي التحديث بِحَيْثُ يكون مخلصا لَا يُرِيد بذلك عرضا دنيويا بَعيدا عَن حب الرِّئَاسَة ورعونتها وليقرأ الحَدِيث بِصَوْت حسن فصيح مرتل وَلَا يسْرد سردا لِئَلَّا يلتبس أَو يمْنَع السَّائِل من إِدْرَاك بعضه وَقد تسَامح بعض النَّاس فِي ذَلِك وَصَارَ يعجل استعجالا يمْنَع السَّامع من إِدْرَاك حُرُوف كَثِيرَة بل كَلِمَات وَالله تَعَالَى بمنه وَكَرمه يهدينا سَوَاء السَّبِيل انْتهى
وَأما درس الحَدِيث فَلهُ ثَلَاثَة طرق عِنْد عُلَمَاء الْحَرَمَيْنِ الشريفين
أَولهَا السرد وَهُوَ أَن يَتْلُو الشَّيْخ المستمع أَو الْقَارئ كتابا من كتب هَذَا الْفَنّ من دون تعرض مباحثه اللُّغَوِيَّة والفقهية وَأَسْمَاء الرِّجَال وَنَحْوهَا
وَثَانِيها طَرِيق الْحل والبحث وَهُوَ أَن يتَوَقَّف بعد تِلَاوَة الحَدِيث الْوَاحِد مثلا على لَفظه الْغَرِيب وتراكيبه العويصة وَاسم قَلِيل الْوُقُوع من أَسمَاء الْإِسْنَاد وسؤال ظَاهر الْوُرُود وَالْمَسْأَلَة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا وبحلة بِكَلَام متوسط ثمَّ يسْتَمر فِي قِرَاءَة مَا بعْدهَا
وَثَالِثهَا طَرِيق الإمعان وَهُوَ أَن يذكر على كل كلمة مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا كَمَا يذكر مثلا على كل كلمة غَرِيبَة وتراكيب عويصة شواهدها من كَلَام الشُّعَرَاء وأخوات تِلْكَ الْكَلِمَة وتركيبها فِي الِاشْتِقَاق ومواضع استعمالاتها وَفِي أَسمَاء الرِّجَال حالات قبائلهم وسيرهم وَيخرج الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة على الْمسَائِل الْمَنْصُوص عَلَيْهَا ويقص الْقَصَص العجيبة والحكايات الغريبة بِأَدْنَى مُنَاسبَة وَمَا أشبههَا فَهَذِهِ الطّرق هِيَ المنقولة عَن عُلَمَاء الْحَرَمَيْنِ قَدِيما وحديثا
قَالَ الْمولى ولي الله الدهلوي ومختار الشَّيْخ حسن العجيمي وَالشَّيْخ أَحْمد الْقطَّان وَالشَّيْخ أبي طَاهِر الْكرْدِي هُوَ الطَّرِيق الأول يَعْنِي السرد بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَواص المتبحرين ليحصل لَهُم سَماع الحَدِيث وسلسلة رِوَايَته على عجالة ثمَّ إِحَالَة بَقِيَّة المباحث على شروحه لِأَن ضبط الحَدِيث مَدَاره الْيَوْم على تتبع الشُّرُوط والحواشي وبالنسبة إِلَى المبتدئين والمتوسطين الطَّرِيق الثَّانِي يَعْنِي الْبَحْث والحل ليحيطوا بالضروري فِي علم الحَدِيث علما ويستفيدوا مِنْهُ على وَجه التَّحْقِيق دركا وفهما وعَلى هَذَا يسرحون أنظارهم فِي شرح من شُرُوح كتب الحَدِيث غَالِبا ويرجعون إِلَيْهِ أثْنَاء الْبَحْث لحل العضال وَرفع الأشكال وَأما الطَّرِيق الثَّالِث فَهُوَ طَريقَة الْقصاص القاصدين مِنْهُ إِظْهَار الْفضل وَالْعلم لأَنْفُسِهِمْ وَنَحْوهَا وَالله أعلم دون رِوَايَة الحَدِيث وَتَحْصِيل الْعلم
وَأما تحمل الحَدِيث فَيصح قبل الْإِسْلَام وَكَذَا قبل الْبلُوغ فَإِن الْحسن وَالْحُسَيْن وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير رضي الله عنهم تحملوا قبل الْبلُوغ وَلم يزل النَّاس يسمعُونَ الصّبيان وَاخْتلف فِي الزَّمن الَّذِي يَصح فِيهِ السماع من الصَّبِي قيل خمس سِنِين وَقيل يعْتَبر كل صَغِير بِحَالهِ فَإِذا فهم الْخطاب ورد الْجَواب صححنا سَمَاعه وَإِن كَانَ دون خمس وَإِلَّا لم يَصح ولتحمله طرق
أَعْلَاهَا السماع من لفظ الشَّيْخ سَوَاء قَرَأَ بِنَفسِهِ أَو قَرَأَ غَيره على الشَّيْخ وَهُوَ يسمع وَيَقُول فِيهِ عِنْد الْأَدَاء أخبرنَا والأحوط الإفصاح
فَإِن قَرَأَ بِنَفسِهِ قَالَ قَرَأت على فلَان وَإِلَّا قَالَ قَرَأَ عَليّ فلَان وَأَنا أسمع
وَالثَّانِي الْقِرَاءَة عَلَيْهِ
وَالثَّالِث الْإِجَازَة وَلها أَنْوَاع أَعْلَاهَا إجَازَة معِين لمُعين كأجزتك الصَّحِيح للْبُخَارِيّ مثلا وأجزت فلَانا جَمِيع مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ فهرسي وَنَحْوه وإجازة معِين فِي غير معِين كأجزتك مسموعاتي أَو مروياتي وإجازة الْعُمُوم كأجزت للْمُسلمين أَو لمن أدْرك حَياتِي أَو زماني أَو لأهل الإقليم الْفُلَانِيّ وَيَقُول الْمُحدث بهَا أَنبأَنَا وأنبأني وَالصَّحِيح جَوَاز الرِّوَايَة بِهَذِهِ الْأَقْسَام وإجازة الْمَعْدُوم كأجزت لمن يُولد لفُلَان وَالصَّحِيح الْمَنْع وَلَو قَالَ لفُلَان وَلمن يُولد لَهُ أَو لَك ولعقبك جَازَ كالوقف وَالْإِجَازَة للطفل الَّذِي لم يُمَيّز صَحِيحه لِأَنَّهَا إِبَاحَة وَالْإِبَاحَة تصح للعاقل وَغَيره وإجازة الْمجَاز كأجزت لَك مَا أُجِيز لي وَيسْتَحب الْإِجَازَة إِذا كَانَ الْمُجِيز وَالْمجَاز لَهُ من أهل الْعلم لِأَنَّهَا توسع يحْتَاج اليه أهل الْعلم وَيَنْبَغِي للمجيز أَن يتَلَفَّظ بهَا فَإِن اقْتصر على الْكتاب صحت
وَقَالَ الْقُسْطَلَانِيّ وَشرط صِحَة الْإِجَازَة أَن تكون من عَالم بالمداز وَالْمجَاز لَهُ من أهل الْعلم الْمجَاز بِهِ صناعَة وَعَن ابْن عبد الْبر الصَّحِيح أَن الْإِجَازَة لَا تقبل إِلَّا لماهر بالصناعة حاذق فِيهَا يعرف كَيفَ يَتَنَاوَلهَا وَمَا لَا يشكل إِسْنَاده لكَونه مَعْرُوفا معينا وَإِن لم يكن كَذَلِك لم يُؤمن أَن يحديث الْمجَاز عَن الشَّيْخ بِمَا لَيْسَ من حَدِيثه أَو ينقص من إِسْنَاده الرجل وَالرّجلَيْنِ وَقَالَ ابْن سيد النَّاس أقل مَرَاتِب الْمُجِيز أَن يكون عَالما بِمَعْنى الْإِجَازَة الْعلم الإجمالي من أَنه روى شَيْئا وَأَن معنى إِجَازَته لذَلِك الْغَيْر فِي رِوَايَة ذَلِك الشَّيْء عَنهُ بطرِيق الْإِجَازَة الْمَعْهُودَة إِلَّا الْعلم التفصيلي بِمَا روى وَبِمَا يتَعَلَّق بِأَحْكَام الْإِجَازَة وَهَذَا الْعلم الإجمالي حَاصِل فِيمَا رَأَيْنَاهُ من عوام الروَاة فان انحط راو فِي الْفَهم عَن هَذِه الدرجَة وَلَا إخال أحدا ينحط عَن إِدْرَاك هَذَا إِذا عرف بِهِ فَلَا أَحْسبهُ أَهلا لِأَن يتَحَمَّل عَنهُ باجازة وَلَا سَماع قَالَ وَهَذَا الَّذِي أَشرت إِلَيْهِ من التَّوَسُّع فِي الاجازة هُوَ طَرِيق الْجُمْهُور
قَالَ شَيخنَا وَمَا عداهُ من التَّشْدِيد فَهُوَ منَاف لما جوزت الاجازة لَهُ من بَقَاء السلسلة نعم لَا يشْتَرط التأهل حِين التَّحَمُّل وَلم يقل أحد بِالْأَدَاءِ بِدُونِ شَرط الرِّوَايَة وَعَلِيهِ يحمل قَوْلهم أجزت لَهُ رِوَايَة كَذَا بِشَرْطِهِ وَمِنْه ثُبُوت الْمَرْوِيّ من حَدِيث الْمُجِيز وَقَالَ أَبُو مَرْوَان الطَّيِّبِيّ إِنَّهَا لَا تحْتَاج بِغَيْر مُقَابلَة نُسْخَة بأصول الشَّيْخ وَقَالَ عِيَاض بعد تَصْحِيح رِوَايَات الشَّيْخ ومسموعاته وتحقيقها وَصِحَّة مُطَابقَة كتب الرَّاوِي لَهَا والإعتماد على الْأُصُول المصححة وَكتب بَعضهم لمن علم مِنْهُ التأهيل أجزت لَهُ الرِّوَايَة عَنى وَهُوَ لما علم من اتقانه وَضَبطه غَنِي عَن تقييدي ذَلِك بِشَرْطِهِ انْتهى
الرَّابِع المناولة وأعلاها مَا يقرن بالاجازة وَذَلِكَ بِأَن يدْفع إِلَيْهِ الشَّيْخ أصل سَمَاعه أَو فرعا مُقَابلا بِهِ وَيَقُول هَذَا سَمَاعي أَو روايتي عَن فلَان فاروه عَنى وأجزت لَك رِوَايَته ثمَّ يبقيه فِي يَده تَمْلِيكًا أَو إِلَى أَن ينسخه وَمِنْهَا أَن يناول الطَّالِب الشَّيْخ سَمَاعه فيتأمله وَهُوَ عَارِف متيقظ ثمَّ يناوله الطَّالِب وَيَقُول هُوَ حَدِيثي أَو سَمَاعي فارو عَنى وَيُسمى هَذَا عرض المناولة وَلها أَقسَام أخر
الْخَامِس الْمُكَاتبَة وَهِي أَن يكْتب مسموعه أَو مقرره جَمِيعه أَو بعضه لغَائِب أَو حَاضر بِخَطِّهِ أَو يَأْذَن لَهُ بكتبه لَهُ وَهِي إِمَّا مقترنة بِالْإِجَازَةِ كَأَن يكْتب أجزت لَك ومجردة عَنْهَا وَالصَّحِيح جَوَاز الرِّوَايَة على التَّقْدِيرَيْنِ
السَّادِس الْإِعْلَام وَهُوَ أَن يعلم الشَّيْخ الطَّالِب أَن هَذَا الْكتاب رِوَايَته من غير أَن يَقُول اروه عني وَالأَصَح أَنه لَا يجوز رِوَايَته لاحْتِمَال أَن يكون الشَّيْخ قد عرف فِيهِ خللا فَلَا يَأْذَن فِيهِ