الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْل الثَّانِي فِي تَرْجَمَة مُحَمَّد بن اسماعيل البُخَارِيّ
الإِمَام حَافظ الْإِسْلَام خَاتِمَة الجهابذة النقاد الْأَعْلَام شيخ الحَدِيث وطبيب علله فِي الْقَدِيم والْحَدِيث أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن اسماعيل بن إِبْرَاهِيم ابْن الْمُغيرَة بن بردزبه وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ الزراع الْجعْفِيّ وَكَانَ بردزبه فارسيا على دين قومه ثمَّ أسلم وَلَده الْمُغيرَة على يَد الْيَمَان الْجعْفِيّ وَالِي بُخَارى فنسب إِلَيْهِ نِسْبَة وَلَاء عملا بِمذهب من يرى أَن من أسلم على يَد شخص كَانَ وَلَاؤُه لَهُ وَلذَا قيل للْبُخَارِيّ الْجعْفِيّ ويمان هَذَا هُوَ جد الْمُحدث عبد الله بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن يمَان الْجعْفِيّ المسندي
قَالَ الْحَافِظ بن حجر وَأما إِبْرَاهِيم بن الْمُغيرَة فَلم نقف على شَيْء من أخباره وَأما وَالِد البُخَارِيّ فقد ذكرت لَهُ تَرْجَمَة فِي كتاب الثِّقَات لِابْنِ حبَان فَقَالَ فِي الطَّبَقَة الرَّابِعَة اسماعيل بن إِبْرَاهِيم وَالِد البُخَارِيّ يروي عَن حَمَّاد بن زيد وَمَالك روى عَنهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَذكره وَلَده فِي التَّارِيخ الْكَبِير فَقَالَ اسماعيل بن إِبْرَاهِيم بن الْمُغيرَة سمع من مَالك وَحَمَّاد بن زيد وَصَحب ابْن الْمُبَارك
وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي تأريخ الْإِسْلَام وَكَانَ أَبُو البُخَارِيّ من الْعلمَاء الورعين وَحدث عَن أبي مُعَاوِيَة وَجَمَاعَة وروى عَنهُ أَحْمد بن جَعْفَر وَنصر بن الْحُسَيْن قَالَ أَحْمد بن حَفْص دخلت على أبي الْحسن اسماعيل بن إِبْرَاهِيم عِنْد مَوته فَقَالَ لَا أعلم فِي جَمِيع مَالِي درهما من شُبْهَة فَقَالَ أَحْمد فتصاغرت إِلَيّ نَفسِي عِنْد ذَلِك
وَكَانَ مولد أبي عبد الله البُخَارِيّ يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من شَوَّال وَقَالَ ابْن كثير لَيْلَة الْجُمُعَة الثَّالِث عشر من شَوَّال سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة ببخارى وَهِي من أعظم مدن مَا وَرَاء النَّهر بَينهمَا وَبَين سَمَرْقَنْد ثَمَانِيَة أَيَّام وَتوفى أَبوهُ وَهُوَ صَغِير فَنَشَأَ يَتِيما فِي حجر والدته وَكَانَ نحيفا لَيْسَ بالطويل وَلَا بالقصير وَكَانَ فِيمَا ذكره غُنْجَار فِي تأريخ بُخَارى واللالكائي فِي شرح السّنة فِي بَاب كرامات
الْأَوْلِيَاء وَغَيرهمَا قد ذهبت عَيناهُ فِي صغره فرأت أمه إِبْرَاهِيم عليه السلام فِي الْمَنَام فَقَالَ لَهَا قد رد الله على ابْنك بَصَره بِكَثْرَة دعائك لَهُ فَأصْبح وَقد رد الله عَلَيْهِ بَصَره
قَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن أبي حَاتِم وراق قلت للْبُخَارِيّ كَيفَ كَانَ بَدْء أَمرك قَالَ ألهمت الحَدِيث فِي الْمكتب ولي عشر سِنِين أَو أقل ثمَّ خرجت من الْمكتب بعد الْعشْر فَجعلت أختلف إِلَى الداخلي وَغَيره فَقَالَ يَوْمًا فِيمَا كَانَ يقْرَأ للنَّاس سُفْيَان عَن أبي الزبير عَن إِبْرَاهِيم فَقلت لَهُ إِن أَبَا الزبير لم يرو عَن إِبْرَاهِيم فَانْتَهرنِي فَقلت لَهُ ارْجع إِلَى الأَصْل إِن كَانَ عنْدك فَدخل فَنظر فِيهِ ثمَّ خرج فَقَالَ لي كَيفَ هُوَ يَا غُلَام فَقلت هُوَ الزبير بن عدي عَن إِبْرَهِيمُ فَأخذ الْقَلَم مني وَأصْلح كِتَابه وَقَالَ صدقت فَقَالَ بعض أَصْحَاب البُخَارِيّ لَهُ ابْن كم كنت قَالَ ابْن احدى عشرَة سنة فَلَمَّا طعنت فِي سِتّ عشرَة سنة حفظت كتب ابْن الْمُبَارك ووكيع وَعرفت كَلَام هَؤُلَاءِ يَعْنِي أَصْحَاب الرَّأْي ثمَّ خرجت مَعَ أخي أَحْمد وَأمي إِلَى مَكَّة فَلَمَّا حججْت رَجَعَ أخي إِلَى بُخَارى فَمَاتَ بهَا وَكَانَ أَخُوهُ أسن مِنْهُ وَأقَام هُوَ بِمَكَّة يطْلب الحَدِيث قَالَ وَلما طعنت فِي ثَمَانِي عشرَة صنفت كتاب قضايا الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وأقاويلهم وصنفت التَّارِيخ الْكَبِير إِذْ ذَاك عِنْد قبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي اللَّيَالِي المقمرة وَقل اسْم فِي التَّارِيخ إِلَّا وَله عِنْدِي قصَّة إِلَّا أَنِّي كرهت تَطْوِيل الْكتاب وَقَالَ أَبُو بكر بن أبي عتاب الْأَعْين كتبنَا عَن مُحَمَّد بن اسماعيل وَهُوَ أَمْرَد على بَاب مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ وَمَا فِي وَجه شعر وَكَانَ موت الْفرْيَابِيّ سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ فَيكون للْبُخَارِيّ إِذْ ذَاك نَحْو من ثَمَانِيَة عشر عَاما أَو دونهَا
وَأما ذكاؤه وسعة حفظه وسيلان ذهنه فَقيل أَنه كَانَ يحفظ وَهُوَ صبي سبعين ألف حَدِيث سردا وَرُوِيَ أَنه كَانَ ينظر فِي الْكتاب مرّة وَاحِدَة فيحفظ مَا فِيهِ من نظرة وَاحِدَة وَقَالَ مُحَمَّد بن أبي حَاتِم وراقة سَمِعت حاشد بن اسماعيل وَآخر يَقُولَانِ كَانَ البُخَارِيّ يخْتَلف مَعنا إِلَى السماع وَهُوَ غُلَام فَلَا يكْتب حَتَّى أَتَى على ذَلِك أَيَّام فَكُنَّا نقُول لَهُ
فَقَالَ إنَّكُمَا قد أكثرتما عَليّ فأعرضا عَليّ مَا كتبتما فأخرجنا إِلَيْهِ مَا كَانَ عندنَا فَزَاد ذَلِك على خَمْسَة عشر ألف حَدِيث فقرأها كلهَا عَن ظهر قلب حَتَّى جعلنَا نحكم كتبنَا من حفظه ثمَّ قَالَ أَتَرَوْنَ أَنِّي اخْتلف هدرا وأضيع أيامي فَعرفنَا أَنه لَا يتقدمه أحد قَالَ فَكَانَ أهل الْمعرفَة يعدون خَلفه فِي طلب الحَدِيث وَهُوَ شَاب حَتَّى يغلبوه على نَفسه ويجلسوه فِي بعض الطَّرِيق فيجتمع إِلَيْهِ أُلُوف أَكْثَرهم مِمَّن يكْتب عَنهُ وَكَانَ شَابًّا
وَقَالَ مُحَمَّد بن أبي حَاتِم سَمِعت ابْن مُجَاهِد يَقُول كنت عِنْد مُحَمَّد بن سَلام البيكندي فَقَالَ لي لَو جِئْت قبل لرأيت صَبيا يحفظ سبعين ألف حَدِيث قَالَ فَخرجت فِي طلبه فَلَقِيته فَقلت أَن الَّذِي تَقول أَنا أحفظ سبعين ألف حَدِيث قَالَ نعم وَأكْثر وَلَا أجيبك بِحَدِيث عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِلَّا من عرفت مولد أَكْثَرهم ووفاتهم ومساكنهم وَلست أروي حَدِيثا من حَدِيث الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الأولى فِي ذَلِك أصل أحفظه حفظا عَن كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
وَقَالَ ابْن عدي حَدثنِي مُحَمَّد بن أَحْمد القوسي سَمِعت مُحَمَّد بن حَمْدَوَيْه يَقُول سَمِعت مُحَمَّد بن اسماعيل يَقُول أحفظ مائَة ألف حَدِيث صَحِيح ومائتي ألف حَدِيث غير صَحِيح وَقَالَ أخرجت هَذَا الْكتاب من نَحْو سِتّمائَة ألف حَدِيث وَقَالَ دخلت بَلخ فسألوني أَن أملي عَلَيْهِم لكل من كتبت عَنهُ فأمليت ألف حَدِيث عَن ألف شيخ وَقَالَ تذكرت يَوْمًا من الْأَصْحَاب أنسا فحضرني فِي سَاعَة ثَلَاثمِائَة نفس وَقَالَ وراقة عمل كتابا فِي الْهِبَة فِيهِ نَحْو خَمْسمِائَة حَدِيث وَقَالَ لَيْسَ فِي كتاب وَكِيع فِي الْهِبَة إِلَّا حديثان مسندان أَو ثَلَاثَة وَفِي كتاب ابْن الْمُبَارك خَمْسَة أَو نَحْوهَا
وَأما كَثْرَة اطِّلَاعه على علل الحَدِيث فقد روينَا عَن مُسلم بن الْحجَّاج أَنه قَالَ دَعْنِي أقبل رجليك يَا أستاذ الأستاذين وَسيد الْمُحدثين وطبيب الحَدِيث فِي علله
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ لم أر بالعراق وَلَا بخراسان فِي معرفَة الْعِلَل والتاريخ وَمَعْرِفَة الْأَسَانِيد أعلم من مُحَمَّد بن اسماعيل
وَقَالَ مُحَمَّد بن أبي حَاتِم سَمِعت سليم بن مُجَاهِد يَقُول سَمِعت أَبَا الْأَزْهَر يَقُول كَانَ بسمرقند أَرْبَعمِائَة مِمَّن يطْلبُونَ الحَدِيث فَاجْتمعُوا سَبْعَة أَيَّام وأحبوا مغالطة مُحَمَّد بن اسماعيل فأدخلوا إِسْنَاد الشَّام فِي إِسْنَاد الْعرَاق وَإسْنَاد الْعرَاق فِي إِسْنَاد الشَّام وَإسْنَاد الْحرم فِي إِسْنَاد الْيمن وَبِالْعَكْسِ فَمَا اسْتَطَاعُوا مَعَ ذَلِك أَن يتعلقوا عَلَيْهِ بسقطة لَا فِي الْإِسْنَاد وَلَا فِي الْمَتْن
وَقَالَ أَحْمد بن عدي الْحَافِظ سَمِعت عدَّة من الْمَشَايِخ يحكون أَن البُخَارِيّ قدم بَغْدَاد فَاجْتمع أَصْحَاب الحَدِيث وعمدوا إِلَى مائَة حَدِيث فقلبوا متونها وأسانيدها وَجعلُوا متن هَذَا الْإِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد آخر وَإسْنَاد هَذَا الْمَتْن لمتن آخر ودفعوا إِلَى كل وَاحِد عشرَة أَحَادِيث ليلقوها على البُخَارِيّ فِي الْمجْلس امتحانا فَاجْتمع النَّاس من الغرباء من أهل خُرَاسَان وَغَيرهم وَمن البغداديين فَلَمَّا اطْمَأَن الْمجْلس بأَهْله انتدب أحدهم فَقَامَ وَسَأَلَهُ عَن حَدِيث من تِلْكَ الْعشْرَة فَقَالَ لَا أعرفهُ فَسَأَلَهُ عَن آخر فَقَالَ لَا أعرفهُ حَتَّى فرغ الْعشْرَة فَكَانَ الْفُقَهَاء يلْتَفت بَعضهم إِلَى بعض وَيَقُولُونَ الرجل فهم وَمن كَانَ لَا يدْرِي قضى عَلَيْهِ بِالْعَجزِ ثمَّ انتدب آخر فَفعل كَفعل الأول وَالْبُخَارِيّ يَقُول لَا أعرفهُ إِلَى أَن فرغ الْعشْرَة وَهُوَ لَا يزيدهم على لَا أعرفهُ فَلَمَّا علم أَنهم فرغوا الْتفت إِلَى الأول فَقَالَ أما حَدِيثك الأول فَقلت كَذَا وَصَوَابه كَذَا وحديثك الثَّانِي كَذَا وصابه كَذَا وَالثَّالِث وَالرَّابِع على الْوَلَاء حَتَّى أَتَى على تَمام الْعشْرَة فَرد كل متن إِلَى إِسْنَاده وكل إِسْنَاد إِلَى مَتنه وَفعل بالآخرين مثل ذَلِك فَأقر النَّاس لَهُ بِالْحِفْظِ وأذعنوا لَهُ بِالْفَضْلِ
وَقَالَ الْحَافِظ ابْن حمدون رَأَيْت البُخَارِيّ فِي جَنَازَة وَمُحَمّد بن يحيى الذهلي يسْأَله عَن الْأَسْمَاء والعلل وَالْبُخَارِيّ يمر فِيهِ كالسهم كَأَنَّهُ يقْرَأ وَأما تآليفه فَإِنَّهَا سَارَتْ مسيرَة الشَّمْس ودارت فِي الدُّنْيَا فَمَا جحد فَضلهَا إِلَّا الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس وأجلها وَأَعْظَمهَا الْجَامِع
الصَّحِيح وَمِنْهَا الْأَدَب الْمُفْرد وَيَرْوِيه عَنهُ أَحْمد بن مُحَمَّد الْجَلِيل بِالْجِيم الْبَزَّار وَمِنْهَا بر الْوَالِدين وَيَرْوِيه عَنهُ مُحَمَّد بن دلويه الْوراق وَمِنْهَا التَّارِيخ الْكَبِير الَّذِي صنفه عِنْد قبر النَّبِي عليه الصلاة والسلام فِي اللَّيَالِي المقمرة وَيَرْوِيه عَنهُ أَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن فَارس وَأَبُو الْحسن مُحَمَّد بن سهل النسوي وَغَيرهمَا وَمِنْهَا التَّارِيخ الْأَوْسَط وَيَرْوِيه عَنهُ عبد الله بن أَحْمد بن عبد السَّلَام الْخفاف وزنجويه بن مُحَمَّد اللباد وَمِنْهَا التَّارِيخ الصَّغِير وَيَرْوِيه عَنهُ عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْأَشْقَر وَمِنْهَا خلق أَفعَال الْعباد الَّذِي صنفه بِسَبَب مَا وَقع بَينه وَبَين الذهلي وَيَرْوِيه عَنهُ يُوسُف بن ريحَان بن عبد الصَّمد والفربري أَيْضا
قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر وَهَذِه التصانيف مَوْجُودَة مروية لنا بِالسَّمَاعِ وَالْإِجَازَة قَالَ وَمن تصانيفه الْجَامِع الْكَبِير ذكره ابْن طَاهِر والمسند الْكَبِير وَالتَّفْسِير الْكَبِير ذكره الْفربرِي وَكتاب الْأَشْرِبَة ذكره الدَّارَقُطْنِيّ فِي المؤتلف والمختلف وَكتاب الْهِبَة ذكره وراقة وأسامي الصَّحَابَة ذكره أَبُو الْقَاسِم بن مندة وَأَنه يرويهِ من طَرِيق ابْن فَارس عَنهُ وَقد نقل عَنهُ أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ الْكثير فِي مُعْجم الصَّحَابَة وَكَذَا ابْن مندة فِي الْمعرفَة وَنقل عَنهُ كتاب الوحدان لَهُ وَهُوَ من لَيْسَ لَهُ إِلَّا حَدِيث وَاحِد من الصَّحَابَة وَكتاب الْمَبْسُوط ذكره الْخَلِيل فِي الْإِرْشَاد وَأَن مهيب بن سليم رَوَاهُ عَنهُ فِي كتاب الْعِلَل وَذكره أَبُو الْقَاسِم بن مندة أَيْضا وَأَنه يرويهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن حمدون عَن أبي مُحَمَّد بن الشَّرْقِي عَنهُ وَكتاب الكنى ذكره الْحَاكِم أَبُو أَحْمد وَنقل مِنْهُ وَكتاب الْفَوَائِد ذكره التِّرْمِذِيّ فِي أثْنَاء كتاب المناقب من جَامعه وَمن شعره مِمَّا أخرجه الْحَاكِم فِي تَارِيخه نظم
(اغتنم فِي الْفَرَاغ فضل رُكُوع
…
فَعَسَى أَن يكون موتك بَغْتَة)
(كم صَحِيح رَأَيْت من غير سقم
…
ذهبت نَفسه الصَّحِيحَة فلته)
وَلما نعي إِلَيْهِ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ الْحَافِظ أنْشد شعر
(إِن عِشْت تفجع بالأحبة كلهم
…
وفناء نَفسك لَا أَبَا لَك أفجع)
وَأما ثَنَاء النَّاس عَلَيْهِ بِالْحِفْظِ والورع والزهد وَغير ذَلِك فقد وَصفه غير وَاحِد بِأَنَّهُ كَانَ أحفظ أهل زَمَانه وَفَارِس ميدانه كلمة شهد لَهُ بهَا الْمُوَافق والمخالف وَأقر بحقيقتها المعادي والموالف وَكَانَ لقبه فِي الْمُحدثين أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث وناصر الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة وناشر الْمَوَارِيث المحمدية
قَالَ الشَّيْخ تَاج الدّين السُّبْكِيّ فِي طبقاته كَانَ البُخَارِيّ إِمَام الْمُسلمين وقدوة الْمُؤمنِينَ وَشَيخ الْمُوَحِّدين والمعول عَلَيْهِ فِي أَحَادِيث سيد الْمُرْسلين قَالَ وَقد ذكره أَبُو عَاصِم فِي طَبَقَات أَصْحَابنَا الشَّافِعِيَّة وَقَالَ سمع من الزَّعْفَرَانِي وَأبي ثَوْر والكرابيسي قَالَ وَلم يرو عَن الشَّافِعِي فِي صَحِيحه لِأَنَّهُ أدْرك أقرانه وَالشَّافِعِيّ مَاتَ مكتهلا فَلَا يرويهِ نازلا انْتهى نعم ذكره البُخَارِيّ فِي صَحِيحه فِي موضِعين فِي الزَّكَاة وَفِي تَفْسِير الْعَرَايَا
وَقَالَ الْحَافِظ عماد الدّين بن كثير فِي تَارِيخه الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة كَانَ إِمَام الحَدِيث فِي زَمَانه والمقتدى بِهِ فِي أَوَانه والمقدم على سَائِر أضرابه وأقرانه
وَقَالَ قُتَيْبَة بن سعيد جالست الْفُقَهَاء والعباد والزهاد فَمَا رَأَيْت مُنْذُ عقلت مثل مُحَمَّد بن اسماعيل وَهُوَ فِي زَمَانه كعمر فِي الصَّحَابَة وَقَالَ أَيْضا لَو كَانَ فِي الصَّحَابَة لَكَانَ آيَة
وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل فِيمَا رَوَاهُ الْخَطِيب بِسَنَد صَحِيح مَا أخرجت خُرَاسَان مثل مُحَمَّد بن اسماعيل
وَعَن مُحَمَّد بن بشار شيخ البُخَارِيّ وَمُسلم قَالَ حفاظ الدُّنْيَا أَرْبَعَة أَبُو زرْعَة بِالريِّ وَمُسلم بنيسابور والدارمي بسمرقند وَالْبُخَارِيّ ببخارى
قَالَ عَليّ ابْن حجر وَالْبُخَارِيّ أعلمهم وأبصرهم وأفهمهم
قَالَ ابْن الْمدنِي لم ير البُخَارِيّ مثله
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ مَا رَأَيْت نَظِيره وَقد جعله الله زِينَة هَذِه الْأمة
قَالَ بَعضهم هُوَ آيَة من آيَات الله تمشي على وَجه الأَرْض
وَقَالَ مُسلم لَهُ لَا يبغضك إِلَّا حَاسِد وَأشْهد أَنه لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مثلك
وَقَالَ بنْدَار بن بشار هُوَ أفقه خلق الله فِي زَمَاننَا
وَقَالَ نعيم بن هناد وَهُوَ فَقِيه هَذِه الْأمة
وَقَالَ اسحاق بن رَاهَوَيْه يَا معشر أَصْحَاب الحَدِيث انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّاب واكتبوا عَنهُ فَإِنَّهُ لَو كَانَ فِي زمن الْحسن الْبَصْرِيّ لاحتاج النَّاس إِلَيْهِ لمعرفته بِالْحَدِيثِ وفقهه وَقد فَضله بَعضهم فِي الْفِقْه والْحَدِيث على أَحْمد وَإِسْحَاق
وَقَالَ رجا بن مرجا فضل البُخَارِيّ فِي زَمَانه على الْعلمَاء كفضل الرِّجَال على النِّسَاء
وَقَالَ الفلاس كل حَدِيث لَا يعرفهُ البُخَارِيّ فَلَيْسَ بِحَدِيث
وَقَالَ يحيى بن جَعْفَر البيكندي لَو قدرت أَن أَزِيد من عمري فِي عمر البُخَارِيّ لفَعَلت فَإِن موتِي يكون موت رجل وَاحِد وَمَوته فِيهِ ذهَاب الْعلم
وَقَالَ الدَّارمِيّ رَأَيْت الْعلمَاء بالحرمين والحجاز وَالشَّام وَالْعراق فَمَا رَأَيْت فيهم أجمع مِنْهُ
وَقَالَ أَبُو سهل مَحْمُود بن النَّضر الْفَقِيه سَمِعت أَكثر من ثَلَاثِينَ عَالما من عُلَمَاء مصر يَقُولُونَ حاجتنا فِي الدُّنْيَا النّظر إِلَيْهِ وَقَالَ كنت أستملي لَهُ بِبَغْدَاد فَبلغ من حضر الْمجْلس عشْرين ألفا
وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة مَا تَحت أَدِيم السَّمَاء أعلم بِالْحَدِيثِ وأحفظ لَهُ مِنْهُ
وَقَالَ الْحَافِظ مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي وحسبك بِإِمَام الْأَئِمَّة ابْن خُزَيْمَة يَقُول فِيهِ هَذَا القَوْل مَعَ لقِيه الْأَئِمَّة والمشايخ شرقا وغربا
وَقَالَ عبد الله بن حَمَّاد الاملي لَوَدِدْت أَنِّي كنت شَعْرَة فِي جسده وَكَانَ غَايَة فِي الْحيَاء والشجاعة والسخاء والورع والزهد فِي دَار الدُّنْيَا دَار الفناء وَالرَّغْبَة فِي العقبى دَار الْبَقَاء
وَكَانَ يخْتم فِي رَمَضَان كل يَوْم ختمة وَيقوم بعد صَلَاة التَّرَاوِيح كل ثَلَاث لَيَال بختمة وَقَالَ وراقة كَانَ يُصَلِّي وَقت السحر ثَلَاث عشرَة رَكْعَة وَقَالَ أَرْجُو أَن ألْقى الله وَلَا يحاسبني أَنِّي اغتبت أحدا وَيشْهد لهَذَا كَلَامه فِي التجريح والتضعيف فَإِنَّهُ أبلغ مِمَّا يَقُول فِي الرجل الْمَتْرُوك أَو السَّاقِط فِيهِ نظر أَو سكتوا عَنهُ وَلَا يكَاد يَقُول فلَان كَذَّاب قَالَ وراقة سمعته يَقُول لَا يكون لي خصم فِي الْآخِرَة فَقلت يَا أَبَا عبد الله إِن بعض النَّاس ينقم عَلَيْك التَّارِيخ يَقُول فِيهِ اغتياب النَّاس فَقَالَ إِنَّمَا روينَا ذَلِك رِوَايَة وَلم نَقله من عِنْد أَنْفُسنَا وَقد قَالَ صلى الله عليه وسلم بئس أَخُو الْعَشِيرَة وَقَالَ مَا اغتبت مُنْذُ علمت أَن الْغَيْبَة تضر أَهلهَا
وَكَانَ قد ورث من أَبِيه مَالا كثيرا فَكَانَ يتَصَدَّق بِهِ وَكَانَ قَلِيل الْأكل جدا كثير الْإِحْسَان إِلَى الطّلبَة مفرطا فِي الْكَرم وَلما قدم نيسابور تَلقاهُ أَهلهَا من مرحلَتَيْنِ أَو ثَلَاث وَكَانَ الذهلي فِي مَجْلِسه فَقَالَ من أَرَادَ أَن يسْتَقْبل مُحَمَّد بن اسماعيل غَدا فليستقبله فَإِنِّي استقبله فَاسْتَقْبلهُ عَامَّة عُلَمَاء نيسابور فَدَخلَهَا وَلما رَجَعَ إِلَى بُخَارى نصبت لَهُ القباب على فَرسَخ من الْبَلَد واستقبله عَامَّة أَهلهَا حَتَّى لم يبْق مَذْكُور ونثر عَلَيْهِ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَبَقِي مُدَّة يُحَدِّثهُمْ فَأرْسل إِلَيْهِ أَمِير الْبَلَد خَالِد بن مُحَمَّد الذهلي نَائِب الْخلَافَة العباسية يتلطف مَعَه ويسأله أَن يَأْتِيهِ بِالصَّحِيحِ ويحدثهم فِي قصره فَامْتنعَ البُخَارِيّ من ذَلِك وَقَالَ لرَسُوله قل لَهُ أَنا لَا أذلّ الْعلم وَلَا أحملهُ إِلَى أَبْوَاب السلاطين فَإِن كَانَت لَهُ حَاجَة إِلَى شَيْء مِنْهُ فليحضر إِلَى مَسْجِدي أَو دَاري فَإِن لم يُعْجِبك هَذَا فَأَنت سُلْطَان فامنعني من الْمجْلس ليَكُون لي عذرا عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة إِنِّي لَا أكتم الْعلم فراسله أَن يعْقد لأولاده لَا يحضر غَيرهم فَامْتنعَ من ذَلِك أَيْضا وَقَالَ لَا يسعني أَن أخص بِالسَّمَاعِ قوما دون قوم فحصلت بَينهمَا وَحْشَة واستعان خَالِد بحريث بن أبي الورقاء وَغَيره من أهل الْعلم
ببخارى عَلَيْهِ حَتَّى تكلمُوا فِي مذْهبه فنفاه عَن الْبَلَد وَأمر بِالْخرُوجِ عَنهُ فَدَعَا البُخَارِيّ عَلَيْهِم وَكَانَ من دُعَائِهِ اللَّهُمَّ أرهم مَا قصدوني بِهِ فِي أنفسهم وَأَوْلَادهمْ وأهاليهم وَكَانَ مجاب الدعْوَة فَلم يَأْتِ شهر حَتَّى ورد أَمر الْخلَافَة بِأَن يُنَادى على خَالِد فِي الْبَلَد فَنُوديَ عَلَيْهِ على أتان وَحبس إِلَى أَن مَاتَ وَلم يبْق أحد مِمَّن ساعده إِلَّا ابْتُلِيَ ببلاء شَدِيد شعر
(لله قوم إِذا حلوا بِمَنْزِلَة
…
حل الرِّضَا ويسير الْجُود إِن سَارُوا)
وَلما خرج البُخَارِيّ من بُخَارى كتب إِلَيْهِ أهل سَمَرْقَنْد يخطبونه إِلَى بلدهم فَسَار إِلَيْهِم فَلَمَّا كَانَ بخرتنك قَرْيَة على فرسخين من سَمَرْقَنْد وَكَانَ لَهُ بهَا أقرباء فَنزل عِنْدهم وبلغه أَنه قد وَقع بَينهم بِسَبَبِهِ فتْنَة فقوم يُرِيدُونَ دُخُوله وَآخَرُونَ يكرهونه فَأَقَامَ أَيَّامًا حَتَّى ينجلي الْأَمر فَمَرض وَوجه إِلَيْهِ رَسُول من أهل سَمَرْقَنْد يَلْتَمِسُونَ خُرُوجه إِلَيْهِم فَأجَاب وتهيأ للرُّكُوب وَلبس خفيه وتعمم فَلَمَّا مَشى قدر عشْرين خطْوَة أَو نَحْوهَا إِلَى الدَّابَّة ليرْكبَهَا قَالَ أرسلوني فقد ضعفت فَأَرْسلُوهُ فَدَعَا بدعوات مِنْهَا اللَّهُمَّ أَنه قد ضَاقَتْ عَليّ الأَرْض بِمَا رَحبَتْ فاقبضني إِلَيْك بَعْدَمَا فرغ من صلَاته فِي لَيْلَة من اللَّيَالِي ثمَّ اضْطجع فَقضى فَسَالَ عرق كثير لَا يُوصف وَمَا سكن مِنْهُ الْعرق حَتَّى أدرج فِي أَكْفَانه قَالَ بَعضهم فِي وِلَادَته وعمره ووفاته نظم
(كَانَ البُخَارِيّ حَافِظًا ومحدثا
…
جمع الصَّحِيح مكمل التَّحْرِير)
(ميلاده صدق وَمُدَّة عمره
…
فِيهَا حميد وانقضى فِي نور)
رُوِيَ أَنه ضجر لَيْلَة السبت لَيْلَة عيد الْفطر سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ عَن اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سنة إِلَّا ثَلَاثَة عشر يَوْمًا وَكَانَ أوصى أَن يُكفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة فَفعل بِهِ ذَلِك وَلما صلي عَلَيْهِ وَوضع فِي حفرته فاح من تُرَاب قَبره رَائِحَة طيبَة كالمسك ودامت أَيَّامًا وَجعل النَّاس يَخْتَلِفُونَ إِلَى قَبره مُدَّة يَأْخُذُونَ مِنْهُ شعر
(فَهَذَا الشذا آثَار رفقته معي
…
وَلست بورد إِنَّمَا أَنا تربه)
وروى الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى عبد الْوَاحِد آدم بن الطراولسي
قَالَ رَأَيْت النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ جمَاعَة من أَصْحَابه وَهُوَ وَاقِف فِي مَوضِع فَسلمت عَلَيْهِ فَرد عَليّ السَّلَام فَقلت مَا وقوفك هُنَا يَا رَسُول الله قَالَ انْتظر مُحَمَّد بن اسماعيل فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام بَلغنِي مَوته فَنَظَرت فَإِذا هُوَ فِي السَّاعَة الَّتِي رَأَيْت فِيهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلما ظهر أمره بعد وَفَاته خرج بعض مخالفيه إِلَى قَبره وأظهروا التَّوْبَة والندامة
قَالَ الْحَافِظ الديبع اليمني توفّي وَلم يعقب ولدا ذكرا رَحل فِي طلب الْعلم إِلَى جَمِيع محدثي الْأَمْصَار وَكتب عَن الْحفاظ وَأخذ عَنهُ الحَدِيث خلق كثير انْتهى
وَقَالَ ابْن خلكان فِي وفيات الْأَعْيَان رَحل فِي طلب الحَدِيث إِلَى أَكثر محدثي الْأَمْصَار وَكتب بخراسان وَالْجِبَال ومدن الْعرَاق والحجاز وَالشَّام ومصر وَقدم بَغْدَاد وَاجْتمعَ إِلَيْهِ أَهلهَا واعترفوا بفضله وشهدوا بتفرده فِي علم الرِّوَايَة والدراية وَكَانَ ابْن صاعد إِذا ذكره يَقُول الْكَبْش النطاح انْتهى
وَرُوِيَ عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ رويت الحَدِيث عَن ألف وَثَمَانمِائَة مُحدث وروى عَنهُ خلق كثير قيل مائَة ألف مُحدث وَقد أطنب الْقُسْطَلَانِيّ فِي شَرحه على البُخَارِيّ فِي ذكر رحلته ومشايخه تركتهَا مَخَافَة الإطالة واكتفاء على الإحالة وَبِالْجُمْلَةِ فمناقب أبي عبد الله البُخَارِيّ كَثِيرَة ومحاسنة ومفاخره شهيره وَفِيمَا ذكرته كِفَايَة ومقنع وبلاغ وَلَو فتحنا بَاب تعديد مناقبه ومآثره الحميده لخرجنا عَن غَرَض الِاخْتِصَار
قَالَ النَّوَوِيّ فِي التَّهْذِيب ومناقبه لَا تستقصى لخروجها عَن أَن تحصى وَهِي منقسمة إِلَى حفظ ودراية واجتهاد فِي التَّحْصِيل وَرِوَايَة ونسك وإفادة وورع وزهادة وَتَحْقِيق واتقان وعرفان وأحوال وكرامات وَغَيرهَا من المكرمات رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وأرضاه