الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ الْقُسْطَلَانِيّ جوزها كثير من الْفُقَهَاء والأصوليين مِنْهُم ابْن جريج وَابْن الصّباغ
السَّابِع الوجادة من وجد يجد موجد وَهُوَ أَن يقف على كتاب بِخَط شيخ فِيهِ أَحَادِيث لَيْسَ لَهُ رِوَايَة مَا فِيهَا فَلهُ أَن يَقُول وجدت أَو قَرَأت بِخَط فلَان أَو فِي كتاب فلَان بِخَطِّهِ حَدثنَا فلَان يَسُوق بَاقِي الْإِسْنَاد والمتن وَقد اسْتمرّ عَلَيْهِ الْعَمَل قَدِيما وحديثا وَهُوَ من بَاب الْمُرْسل وَفِيه شوب من الإتصال وَاعْلَم أَن قوما شَدَّدُوا فَقَالُوا لَا حجَّة فِيمَا رَوَاهُ حفظا وَقيل يجوز من كِتَابه إِلَّا إِذا خرج من يَده وتشاهل آخَرُونَ وَقَالُوا تجوز الرِّوَايَة من نسخ غير مُقَابلَة بأصولها وَالْحق أَنه إِذا قَامَ فِي التَّحَمُّل والضبط والمقابلة بِمَا تقدم جَازَت الرِّوَايَة عَنهُ وَكَذَا إِن غَابَ الْكتاب إِذا كَانَ الْغَالِب سَلَامَته من تَغْيِير وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ مِمَّن لَا يخفي عَلَيْهِ تغيره غَالِبا انْتهى
الثَّامِن بِأَن يُوصي الرَّاوِي عِنْد مَوته اَوْ سَفَره لشخص بِكِتَاب يرويهِ فجوزه مُحَمَّد بن سِيرِين وَعلله عِيَاض بِأَنَّهُ نوع من الْإِذْن وَالصَّحِيح عدم الْجَوَاز إِلَّا أَن كَانَ لَهُ من الْمُوصي إجَازَة فَتكون رِوَايَته بهَا لَا بِالْوَصِيَّةِ
الْفَصْل الرَّابِع
فِي صفة الْمُحدث وتقصير النَّاس فِي طلب علم الحَدِيث وَمَا يُنَاسِبه
قَالَ أَبُو المظفر مُحَمَّد بن أَحْمد بن حَامِد بن الْفضل البُخَارِيّ لما عزل أَبُو الْعَبَّاس الْوَلِيد بن إِبْرَاهِيم بن زيد الْهَمدَانِي عَن قَضَاء الرّيّ ورد بخاري سنة ثَمَان عشرَة وثلاثمائة لتجديد مَوَدَّة كَانَت بَينه وَبَين أبي الْفضل البلعمي فَنزل جوارنا فَحَمَلَنِي معلمي أَبُو إِبْرَاهِيم اسحاق بن ابراهيم الخلتي اليه فَقَالَ أَسأَلك أَن تحدث هَذَا الصَّبِي عَن مشايخك فَقَالَ مَا لي سَماع قَالَ فَكيف وَأَنت فَقِيه فَمَا هَذَا قَالَ لِأَنِّي لما بلغت مبلغ الرِّجَال تاقت نَفسِي إِلَى معرفَة الحَدِيث وَرِوَايَة الْأَخْبَار وسماعها فقصدت مُحَمَّد بن اسماعيل البُخَارِيّ ببخاري صَاحب التأريخ المنظور اليه فِي علم الحَدِيث وأعلمته مرادي وَسَأَلته الإقبال على ذَلِك
فَقَالَ يَا بَين لَا تدخل فِي أَمر إِلَّا بعد معرفَة حُدُوده وَالْوُقُوف على مقاديره فَقلت عرفني رحملك الله تَعَالَى حُدُود مَا قصدتك بِهِ مقادير وَمَا سَأَلتك عَنهُ فَقَالَ لي اعْلَم أَن الرِّجَال لَا يصير مُحدثا كَامِلا فِي حَدِيثه إِلَّا بعد أَن يكْتب أَرْبعا مَعَ أَربع كأربع مثل أَربع فِي أَربع عِنْد أَربع بِأَرْبَع على أَربع لأَرْبَع عَن أَربع لأَرْبَع وكل هَذِه الرباعيات لَا تتمّ إِلَّا بِأَرْبَع مَعَ أَربع فَإِذا تمت لَهُ كلهَا هان عَلَيْهِ أَربع وابتلي بِأَرْبَع فَإِذا صَبر على ذَلِك أكْرمه الله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِأَرْبَع وأثابه فِي الْآخِرَه بِأَرْبَع قلت فسر لي رَحِمك الله تَعَالَى مَا ذكرت من أَحْوَال هَذَا الرباعيات من قلب صَاف بشرح كَاف طلبا للآجر الوافي
فَقَالَ نعم الْأَرْبَعَة الَّتِي يحْتَاج إِلَى كتبهَا هِيَ أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وشرائعه وَالصَّحَابَة رضي الله عنهم ومقاديرهم وَالتَّابِعِينَ وأحوالهم وَسَائِر الْعلمَاء وتواريخهم مَعَ أَسمَاء رِجَالهمْ وَكُنَاهُمْ وأمكنتهم وأزمنتهم كالتحميد مَعَ الْخطب وَالدُّعَاء مَعَ التوسل والبسملة مَعَ السُّورَة وَالتَّكْبِير مَعَ الصَّلَوَات مثل المسندات والمرسلات والموقوفات فِي صفره وَفِي إِدْرَاكه وَفِي شبابه وَفِي كهولته عِنْد فَرَاغه وَعند شغله وَعند فقره وَعند غناهُ بالجبال والبحار والبلدان والبراري على الْأَحْجَار والأخزاف والجلود والأكتاف إِلَى الْوَقْت الَّذِي يُمكنهُ نقلهَا إِلَى الأوراق عَمَّن هُوَ فَوْقه عَمَّن هُوَ مثله وَعَمن هُوَ دونه عَن كتاب أَبِيه إِن تَيَقّن أَنه بخطابيه دون غَيره لوجه الله تَعَالَى طلبا لمرضاته وَالْعَمَل بِمَا وَافق كتاب الله عز وجل مِنْهَا ونشرها بَين طالبيها ومحبيها والتأليف فِي إحْيَاء ذكره بعده ثمَّ لَا تتمّ لَهُ هَذِه الاشياء إِلَّا بِأَرْبَع هِيَ من كسب العَبْد أَعنِي معرفَة الْكِتَابَة واللغة وَالصرْف والنحو مَعَ أَربع هِيَ من إِعْطَاء الله تَعَالَى أَعنِي الْقُدْرَة وَالصِّحَّة والحرص وَالْحِفْظ فَإِذا تمت لَهُ هَذِه الْأَشْيَاء كلهَا هان عَلَيْهِ أَربع الْأَهْل وَالْمَال وَالْولد والوطن وابتلى بِأَرْبَع بشماتة الْأَعْدَاء وملامة الأصدقاء وَطعن الجهلاء وحسد الْعلمَاء فَإِذا صَبر على هَذِه المحن أكْرمه الله عز وجل فِي الدُّنْيَا بِأَرْبَع بعز القناعة وبؤيبة النَّفس وبدذه الْعلم وبحياة الْأَبَد وأثابه فِي الْآخِرَة بِأَرْبَع بالشفاعة لمن أَرَادَ من إخوانه وبظل الْعَرْش يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله وبسقي من أَرَادَ من حَوْض
نبيه صلى الله عليه وسلم وبمجاورة النَّبِيين فِي أَعلَى عليين فقد أعلمتك يَا بني مُجملا مَا سَمِعت من مشايخي مفصلا فِي هَذَا الْبَاب فاقبل الْآن إِلَى مَا قصدت إِلَيْهِ أَو دع فهالني قَوْله فَسكت متفكرا وأطرقت متأدبا
فَلَمَّا رأى ذَلِك مني قَالَ وَإِن لم تطق حمل هَذِه المشاق كلهَا فَعَلَيْك بالفقه يمكنك تعلمه وَأَنت فِي بَيْتك قار سَاكن لَا تحْتَاج إِلَى بعد الآسغر وطي الديار وركوب الْبحار وَهُوَ مَعَ هَذَا ثَمَرَة الحَدِيث وَلَيْسَ ثَوَاب الْفَقِيه دون ثَوَاب الْمُحدث فِي الاخرة وَلَا عزة بِأَقَلّ من عز الْمُحدث
فَلَمَّا سَمِعت ذَلِك نقص عزمي فِي طلب الحَدِيث وَأَقْبَلت على دراسة الْفِقْه وتعلمه إِلَى أَن صرت فِيهِ مُتَقَدما ووقفت مِنْهُ على معرفَة مَا أمكنني من تعلمه بِتَوْفِيق الله تَعَالَى فَلذَلِك لم يكن عِنْدِي مَا أمليه على هَذَا الصَّبِي يَا أَبَا إِبْرَاهِيم فَقَالَ لَهُ أَبُو إِبْرَاهِيم إِن هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد الَّذِي لَا يُوجد عِنْد غَيْرك خير للصَّبِيّ من ألف حَدِيث يجده عِنْد غَيْرك انْتهى
قَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ إِن علم الحَدِيث لَا يعلق إِلَّا بِمن قصر نَفسه عَلَيْهِ وَلم يضم غَيره من الْفُنُون اليه قَالَ الشَّافِعِي أَتُرِيدُ أَن تجمع بَين السفقه والْحَدِيث هَيْهَات كَذَا فِي إرشاد الساري
وَذكر المطرزي لأهل الحَدِيث خمس مَرَاتِب أَولهَا الطَّالِب وَهُوَ المبتديء ثمَّ الْمُحدث وَهُوَ من تحمل رِوَايَته واعتنى بدرايته ثمَّ الْحَافِظ وَهُوَ من حفظ ألف حَدِيث متْنا وإسنادا ثمَّ الْحجَّة وَهُوَ من حفظ ثَلَاثمِائَة ألف ثمَّ الْحَاكِم وَهُوَ من أحَاط بِجَمِيعِ الْأَحَادِيث
وَأخرج ابْن أبي حَاتِم فِي كتاب الْجرْح وَالتَّعْدِيل عَن الزُّهْرِيّ أَنه قا لَا يُولد الْحجَّة إِلَّا فِي كل أَرْبَعِينَ سنة وَلَعَلَّ ذَلِك فِي الزَّمن الْمُتَقَدّم وَأما فِي زَمَاننَا هَذَا فَلَا يُولد فِيهِ الْحَافِظ أَيْضا بل الْمُحدث الْكَامِل بل الشَّيْخ الْفَاضِل بل عدم فِيهِ الطَّالِب الصَّادِق والمبتدىء الرَّاغِب أَيْضا وَالْمرَاد بِالْحَافِظِ هَهُنَا الْحَافِظ للْحَدِيث وَإِن لم يكن حَافِظًا لقرآن لِأَن ذَلِك لَيْسَ مرَادا هُنَا وَفِي القَوْل الْجَمِيل ونعني
بالمحدث المشتفل بكتب الحَدِيث بِأَن يكون قَرَأَ لَفظهَا وَفهم مَعْنَاهَا وَعرف صِحَّتهَا وسعمها وَلَو بأخبار حَافظ واستنباط فَقِيه وَكَذَلِكَ بالمفسر المشتفل بشرح غَرِيب كتاب الله وتوجيه مشكله وَلما رُوِيَ عَن السّلف فِي تَفْسِيره انْتهى
قلت وَأما الشَّيْخ فَقَالَ الرَّاغِب أَصله من طعن فِي السن ثمَّ عبروا بِهِ عَن كل أستاذ كَامِل وَلَو كَانَ شَابًّا لِأَن شَأْن الشَّيْخ أَن تكْثر معارفه وتجاربه وَمن زعم أَن المُرَاد هُنَا من هُوَ فِي سنّ يسن فِيهِ التحديث وَهُوَ من نَحْو خمسين إِلَى ثَمَانِينَ فقد أبعد وتكلف وَالْتزم الْمَشْي على القَوْل المزيف لِأَن الصَّحِيح أَن مدَار التحديث على تأهل الْمُحدث حدث البُخَارِيّ وَمَا فِي وَجهه شعر حَتَّى أَنه رد على بعض مشايخه غَلطا وَقع لَهُ فِي سَنَده وَقد حدث مَالك وَهُوَ ابْن سَبْعَة عشر وَالشَّافِعِيّ وَهُوَ فِي حَدَاثَة السن وَالْحق أَن الْكَرَامَة والفضيلة إِنَّمَا هِيَ بِالْعلمِ وَالْعقل دون الْعُمر وَالْكبر فكم من شيخ فِي سنّ يسن فِيهِ التحديث وَهُوَ لَا يَهْتَدِي إِلَى تَمْيِيز الطّيب من الْخَبيث شعر
(وَعند الشَّيْخ أَجزَاء كبار
…
مجلدة وَلَكِن مَا قراها)
وَكم من طِفْل صَغِير يفوق الشَّيْخ الْكَبِير فِي الدِّرَايَة وملكة التَّحْرِير وَالله يخْتَص برحمته من يَشَاء
قَالَ الْمولى أَبُو الْخَيْر رَحمَه الله تَعَالَى إِن قصارى نظر أَبنَاء هَذَا الزَّمَان فِي علم الحَدِيث فِي مَشَارِق الْأَنْوَار فَإِن ترفعت إِلَى مصابيح الْبَغَوِيّ ظنت أَنَّهَا تصل إِلَى دَرَجَة الْمُحدثين وَمَا ذَاك إِلَّا لجهلهم بِالْحَدِيثِ بل لَو حفظهما عَن ظهر قلب وَضم إِلَيْهِمَا من الْمُتُون مثلهمَا لم يكن مُحدثا حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط وَإِنَّمَا الَّذِي يعده أهل الزَّمَان بَالغا إِلَى النِّهَايَة وينادونه مُحدث الْمُحدثين وبخارى الْعَصْر من اشْتغل بِجَامِع الْأُصُول لِابْنِ الْأَثِير مَعَ حفظ عُلُوم الحَدِيث لِابْنِ الصّلاح أَو التَّقْرِيب للنووي إِلَّا أَنه لَيْسَ فِي شَيْء من رُتْبَة الْمُحدثين
وَإِنَّمَا الْمُحدث من عرف الْأَسَانِيد وَالْمَسَانِيد والعلل وَأَسْمَاء الرِّجَال
والعالي والنازل وَحفظ مَعَ ذَلِك جملَة مستكثرة من الْمُتُون وَسمع الْكتب السِّتَّة ومسند الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل وَسنَن الْبَيْهَقِيّ ومعجم الطَّبَرَانِيّ وَضم إِلَى هَذَا الْقدر ألف جرم الْأَجْزَاء الحديثية هَذَا أقل فَإِذا سمع مَا ذَكرْنَاهُ وَكتب الطَّبَقَات وَزَاد على الشُّيُوخ وَتكلم فِي الْعِلَل والوفيات والأسانيد كَانَ فِي أول دَرَجَات الْمُحدثين ثمَّ يزِيد الله سُبْحَانَهُ مَا يَشَاء هَذَا ماذكره تَاج الدّين السُّبْكِيّ انْتهى
وَقد ذكر هَذَا فِي وقته وَلَو رأى زَمَاننَا هَذَا الَّذِي ذهب فِيهِ مَاؤُهُ ونضب رواؤه وَكثر جاهلوه وَقل عالموه لقَالَ مَا قَالَ فقد نَبتَت فِي هَذَا الزَّمَان فرقة ذَات سمعة ورياء تَدعِي لأنفسها علم الحَدِيث وَالْقُرْآن وَالْعَمَل بهما على العلات فِي كل شَأْن مَعَ أَنَّهَا لَيست فِي شَيْء من أهل الْعلم وَالْعَمَل والعرفان لجهلها عَن الْعُلُوم الآلية الَّتِي لَا بُد مِنْهَا لطَالب الحَدِيث فِي تَكْمِيل هَذَا الشَّأْن وَبعدهَا من الْفُنُون الْعَالِيَة الَّتِي لَا مندوحة لسالك طَرِيق السّنة عَنْهَا كالصرف والنحو واللغة والمعاني وَالْبَيَان فضلا عَن كمالات أُخْرَى وَأَن تشبهوا بالعلماء ويظهروا فِي زِيّ أهل التَّقْوَى نظم
(تصدر للتدريس كل مهوس
…
بليد يُسمى بالفقيه الْمدرس)
(فَحق لأهل الْعلم أَن يتمثلوا
…
بِبَيْت قديم شاع فِي كل مجْلِس)
(لقد هزلت حَتَّى بدا من هزالها
…
كلاها وَحَتَّى استامها كل مُفلس)
وَلذَلِك تراهم يقتصرون مِنْهَا على النَّقْل ومبانيها وَلَا يصرفون العاينة إِلَى فهم النسة وتدبر مَعَانِيهَا ويظنون أَن ذَلِك يكفيهم وهيهات بل الْمَقْصُود من الحَدِيث فهمه وتدبر مَعَانِيه دون الِاقْتِصَار على مبانيه فَالْأول فِي الحَدِيث السماع ثمَّ الْحِفْظ ثمَّ الْفَهم ثمَّ الْعَمَل ثمَّ النشر وَهَؤُلَاء قد اكتفوا بِالسَّمَاعِ والنشر من دون ثَبت وَفهم وَإِن كَانَ لَا فَائِدَة فِي الِاقْتِصَار عَلَيْهِ والاكتفاء بِهِ فَالْحَدِيث فِي هَذَا الزَّمَان لقِرَاءَة الصّبيان دون أَصْحَاب الإيقان وهم فِي غفلتهم يعمهون
نقل الْغَزالِيّ عَن أبي سُفْيَان أَنه حضر فِي مجْلِس زَائِد بن أَحْمد فَكَانَ أول حَدِيث سَمعه قَوْله صلى الله عليه وسلم من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه
مَا لَا يعنيه فَقَامَ وَقَالَ يَكْفِينِي حَتَّى أفرغ مِنْهُ ثمَّ أسمع غَيره فَهَكَذَا يكون سَماع النَّاس الأكياس وَأما هَؤُلَاءِ الجهلة فجل تحديثهم عبارَة عَن اخْتِيَار بعض الْمسَائِل الْمُخْتَلف فِيهَا بَين الْمُجْتَهدين والمحدثين فِي بَاب الطَّاعَات دون الْمُعَامَلَات الدائرة بَينهم كل يَوْم على العلات وَتَمام اتباعهم حِكَايَة خلاف أهل الِاجْتِهَاد مَعَ أهل الحَدِيث الْوَاقِع فِي الْعِبَادَات دون الإرتفاقات وَمن ثمَّ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَا انتقده أهل الحَدِيث فِي الْبَاب سَبِيلا وَلَا يعْرفُونَ من فقه السّنة فِي الْمُعَامَلَات شَيْئا قَلِيلا وَكَذَلِكَ لَا يقدرُونَ على اسْتِخْرَاج مَسْأَلَة واستنباط حكم على أسلوب السّنَن وأهليها وَلَا يوفقون للْعَمَل بِمَسْأَلَة حَدِيثِيَّةٌ فِي الإرتفاقات على منهاج ذويها وَكَيف يوفقون لَهُ وهم اكتفوا عَن الْعَمَل بهَا بالدعاوى اللسانية وَعَن اتِّبَاع السّنة بالتسويلات الشيطانية ثمَّ اعتقدوها عين الدّين وَرَضوا أَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِف بَين الْمُسلمين وَهَذِه شِيمَة كلهم أَمِيرهمْ وفقيرهم وصحيحهم وسقيمهم فقد اختبرت إيَّاهُم مرَارًا فَمَا وجدت أحدا يرغب فِي طَرِيق الصَّالِحين أَو يسير سيرة الْمُؤمنِينَ بل صادفت جُمْلَتهمْ منهمكين فِي الدُّنْيَا الدنية مستغرقين فِي زخارفها الرَّديئَة جامعين للجاه وَالْمَال طامعين فِيهِ من دون مبالاة الْحَرَام والحلال خلاة الأذهان عَن حلاوة الْإِسْلَام قساة الْقلب بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسلمين كالمردة الطغام شعر
(أملتهم ثمَّ تأملتهم
…
فلاح لي أَن لَيْسَ فيهم فلاح)
وَكَيف يفلح قوم يُخَالف قَوْلهم فعلهم وفعلهم قَوْلهم يَقُولُونَ عَن خير الْبَريَّة وهم شَرّ الْبَريَّة إِذا سئلوا عَن شَيْء قَالُوا فِيهِ قولا سديدا وَإِذا قدرُوا على شَيْء لم يبالوا بِهِ بل نالوا مِنْهُ نيلا شَدِيدا نظم
(عجبت من شَيْخي وَمن زهده
…
وَذكره النَّار وأهوالها)
يكره أَن يشرب فِي فضَّة
…
وَيسْرق الْفضة إِن نالها)
فيا لله الْعجب من أَيْن يسمون أنفسهم بالموحدين المخلصين وَغَيرهم بالمشركين المبتدعين وهم أَشد النَّاس تعصبا وغلوا فِي الدّين قد أَنْفقُوا فِي غير شَيْء نفائس الْأَوْقَات والأنفاس واتعبوا أنفسهم وحيروا من
خَلفهم من النَّاس ضيعوا الْأُصُول فحرموا الْقبُول وأعرضوا عَن الرسَالَة فوقعوا فِي مهامة الْحيرَة والضلالة وَالْمَقْصُود أَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم رُؤْيَتهمْ قذاء الْعُيُون وشجى الحلوق وكرب النُّفُوس وَحمى الْأَرْوَاح وغم الصُّدُور وَمرض الْقُلُوب إِن أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الْإِنْصَاف وَإِن طلبته مِنْهُ فَأَيْنَ الثريا لأمن يَد الملتمس الوصاف قد انتكست قُلُوبهم وَعمي عَلَيْهِم مطلوبهم رَضوا بالأماني وابتلوا بالحظوظ الفواني وحصلوا على الحرمان وخاضوا بحار الْعلم لَكِن بالدعاوى الْبَاطِلَة وشقاشق الهذيان وَالله مَا ابتلت من وشلة أَقْدَامهم وَلَا زكتْ بِهِ عُقُولهمْ وأحلامهم وَلَا ابْيَضَّتْ بِهِ لياليهم وَلَا أشرقت بنوره أيامهم وَلَا ضحِكت بِالْهدى وَالْحق مِنْهُ وُجُوه الدفاتر إِذْ بَكت بمداد أقلامهم فَمَا هَذَا دين إِن هَذَا إِلَّا فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَاد كَبِير كَيفَ وَلَو كَانَ لهَؤُلَاء إخلاص فِي القَوْل وَالْعَمَل وحرص على الْعلم النافع عِنْد مَجِيء الْأَجَل وخيفة من الْحَيّ القيوم وحياء من النَّبِي الْمَعْصُوم لزهدوا فِي أوساخ الْأَمْوَال وَلَا ستنكفوا عَن التزي بزِي الصّلاح لصيد الْجُهَّال وَلَا يَأْكُلُوا أبدا مَال الْمُسلم بِالْبَاطِلِ وَلَا يرْضوا بالعاجل عَن الآجل وَلَا يكتفوا من علم الحَدِيث على رسمه وَمن الْعَمَل بِالْكتاب على اسْمه وَلَا يبذلوا نفائس الْأَوْقَات إِلَّا فِي الطَّاعَات وَلَا يصرفوا شرائف الأنفاس فِي غير الْبَاقِيَات الصَّالِحَات وَلَا يصحبوا أهل الدُّنْيَا لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا يرَوا غَيره تَعَالَى للمهام مدارا وَلَا يتقدموا للوعظ والفتيا إِلَّا بِحَقِّهَا وَلَا يجترؤا على نصبهم للإرشاد إِلَّا على وَجههَا كَمَا فعل أهل الحَدِيث من قبلهم وَأَصْحَاب التَّوْحِيد فِي عَهدهم فَأُولَئِك الَّذين يُحَقّق لَهُم الْعَمَل بِالْكتاب وَالسّنة والتمسك بهما وَالدُّعَاء إِلَيْهِمَا وهما عَن النَّار جنَّة لَا لهَؤُلَاء النَّفر المتباهين بدعواهم المتلبسين بالرياء والسمعة فِي أولاهم وأخراهم شعر
(نَعُوذ بِاللَّه من أنَاس
…
تشيخوا قبل أَن يشيخوا)
(إحدودبوا وانحنوا رِيَاء
…
فَاحْذَرْهُمْ إِنَّهُم فخوخ)
لَا ومقلب الْقُلُوب وعلام الغيوب أَن الْمُؤمن الَّذِي يخَاف مقَامه
بَين يَدي الله تَعَالَى لَا يجتريء أبدا مثل ذَلِك الاجتراء وَلَا يرضى سرمدا من نَفسه المنصفة سيرة هَؤُلَاءِ وقانا الله تَعَالَى وَجَمِيع الْمُسلمين عَن ضيغ هَؤُلَاءِ الطّلبَة للدنيا فِي سرادق الدّين وحفظنا وَسَائِر الْمُتَّقِينَ عَن المداهنة والنفاق والوقاحة وصحبة الْجَاهِلين نظم
(قد أَرحْنَا وَاسْتَرَحْنَا
…
من غَد ورواح)
(واتصال بأمير
…
ووزير ذِي صَلَاح)
(لكفاف وعفاف
…
وقنوع وَصَلَاح)
وَهَذَا الدَّاء العضال إِنَّمَا تولد من تعصب الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء بَينهم وَكَثْرَة القيل والقال حَتَّى عَمت بِهِ الْبلوى والجدال فجزى الله تَعَالَى من أعَان الْإِسْلَام وَلَو بِشَطْر كلمة خيرا فَالْحق أَحَق بالإتباع ولمسلك الصَّوَاب اتساع شعر
(وَلَا بُد من شكوى إِلَى ذِي مروة
…
يواسيك أَو يسليك أَو يتوجع)
وَلَيْسَ هَذَا بِأول قَارُورَة كسرت فِي الْإِسْلَام فقد قَالَ الْفُلَانِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي إيقاظ الهمم مَا نَصه وَمن جملَة أَسبَاب تسليط الفرنج على بِلَاد الْمغرب والتتر على بِلَاد الْمشرق كَثْرَة التَّعَب والتفرق والفتن بَينهم فِي الْمذَاهب وَغَيرهَا وكل ذَلِك من اتِّبَاع الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى انْتهى
وَكَانَ خُرُوج التتار على بني الْعَبَّاس سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة وَمثله وَقع فِي الْهِنْد سنة ثَلَاث وَسبعين بعد ألف وَمِائَتَيْنِ من قبل اخْتلَافهمْ وتكفيرهم فِيمَا بَينهم وهم إِلَى الْآن فِي سكرتهم يعمهون
قَالَ صَاحب الْإِنْصَاف وفتنة هَذَا الْجِدَال وَالْخلاف قريبَة من الْفِتْنَة الأولى حِين تشاجروا إِلَى الْملك وانتصر كل رجل لصَاحبه فَكَمَا أعقبت تِلْكَ ملكا عَضُوضًا ووقائع صماء عمياء فَكَذَلِك عقبت هَذِه جهلا واختلاطا وشكوكا وهماما لَهَا من إرجاء ونشأت من بعدهمْ قُرُون على التَّقْلِيد الصّرْف لَا يميزون الْحق من الْبَاطِل وَلَا الْجِدَال من الاستنباط
فالفقيه يَوْمئِذٍ هُوَ الثرثار المتشدق الَّذِي حفظ أَقْوَال الْفُقَهَاء قويها وضعيفها من غير تَمْيِيز وسددها بشقشقة شدقية والمحدث من عد الْأَحَادِيث صحيحها وسقيمها بِقُوَّة لحييْهِ وَلَا أَقُول ذَلِك مطردا كليا فَإِن لله طَائِفَة من عباده لَا يضرهم من خذلهم وهم حجَّة الله فِي أرضه وَإِن قلوا وَلم يَأْتِ قرن بعد ذَلِك إِلَّا وَهُوَ أَكثر فتْنَة وأوفر تقليدا وَأَشد انتزاعا للأمانة من صُدُور النَّاس حَتَّى اطمأنوا بترك الْخَوْض فِي الدّين وَبِأَن يَقُولُوا إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم لمقتدون وَإِلَى الله المشتكى انْتهى
وَمن جملَة أَسبَاب قلَّة علم الحَدِيث كَثْرَة الْعُلُوم الفلسفية اليونانية وانهماك النَّاس فِيهَا كَمَا أبان عَنْهَا أَبُو مُحَمَّد الدمياطي حِين كثر ذَلِك فِي عصره بِمصْر وَغَيرهَا من الْأَمْصَار وأصر النَّاس عَلَيْهَا أَشد الْإِصْرَار وَمن الْأَمر الْمُنكر عَلَيْهِم والنكر الْمَعْرُوف لديهم تدرسهم لعلم الفضول وتشاغلهم بالمعقول عَن الْمَنْقُول فِي إكبابهم على علم الْمنطق واعتقادهم أَن من لَا يُحسنهُ لَا يحسن أَن ينْطق فليت شعري هَل قَرَأَهُ الشَّافِعِي وَمَالك أَو هُوَ إضاء لأبي حنيفَة المسالك وَهل يُعلمهُ أَحْمد بن حَنْبَل أَو كَانَ الثَّوْريّ على تعلمه قد أقبل وَهل اسْتَعَانَ بِهِ إِيَاس فِي ذكائه أَو بلغ بِهِ عَمْرو مَا بلغ من دهائه أَو تمرس بِهِ قس وسحبان ولولاه لما أفْصح بِهِ أَحدهمَا وَلَا أبان أَتَرَى عقول الْقَوْم كليلة إِذْ لم تشحذ على مُسِنَّة أَتَرَى فطنتهم عليلة إِذا لم تكرم فِي أجنة كلا هِيَ أشرف من أَن تقيد فِي سجنه وأشف من أَن يستحوذ عَلَيْهَا طَارق جنَّة بِاللَّه لقد غرق الْقَوْم فِيمَا لَا يعنيهم وأظهروا بالإفتقار إِلَى مَا لَا يغنيهم بل يتعبهم إِلَى السامات والشيطان يعدهم ويمنيهم أما أَنه قد كَانَ أحاد من أهل الْعلم ينظرُونَ فِيهِ غير مجاهرين ويطالعونه لَا متظاهرين لِأَن أقل افاته أَن يكون شغلا بِمَا لَا يُغني الْإِنْسَان وَإِظْهَار تحوج إِلَى مَا أغْنى عَنهُ الرب المنان وَأما هَؤُلَاءِ فقد جَعَلُوهُ من أكبر الْمُهِمَّات واتخذوه عدَّة للثوابت وَالْمُسلمَات فهم يكثرون فِيهِ الأوضاع وَينْفق كل وَاحِد مِنْهُم فِي تَحْصِيله الْعُمر المضاع ويحهم أما سمعُوا قَول دَاعِي الهذي لمن أمه حِين رأى عمر قد كتب التَّوْرَاة فِي لوح وضمه فَغَضب وَقَالَ مفهما لِلْحَافِظِ الواعي
لَو كَانَ مُوسَى حَيا لما وَسعه إِلَّا اتباعي فَلم يوسعه عذرا فِي الْكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نورا فَمَا ظَنك بِمَا وَضعه المتخبطون فِي ظلام الشَّك وافتروا فِيهِ كذبا وزورا فيا لله للعقول المنحرفة غرقت فِي بحار ضلال الفلسفة نظم
(وَمَا الْعلم إِلَّا فِي كتاب وَسنة
…
وَمَا الْجَهْل إِلَّا فِي كَلَام ومنطق)
(وَمَا الْخَيْر إِلَّا فِي سكُوت بحسبة
…
وَمَا الشَّرّ إِلَّا فِي كَلَام ومنطق)
وَيُؤَيّد ذَلِك مَا قَالَ الإِمَام النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم حثا على عُلُوم الحَدِيث وأهم أَنْوَاع الْعُلُوم تَحْقِيق معرفَة الْأَحَادِيث النبويات أعنى معرفَة متونها صحيحها وحسنها وضعيفها ومتصلها ومرسلها ومنقطعها ومضلها ومقلوبها ومشهورها وغريبها وعزيزها ومتواترها وآحادها وأفرادها ومعروفها وشاذها ومنكرها ومعللها ومدرجها وناسخها منسوخها وخاصها وعامها ومجملها ومبينها ومختلفها وَغير ذَلِك من أَنْوَاعهَا المعروفات وَمَعْرِفَة علم الْأَسَانِيد أَعنِي معرفَة حَال رجالها وصفاتها الْمُعْتَبرَة وَضبط أسمائهم وأنسابهم ومواليدهم ووفياتهم وَغير ذَلِك من الصِّفَات وَمَعْرِفَة التَّدْلِيس والمدلسين وطرق الِاعْتِبَار والمتابعات وَمَعْرِفَة حكم اخْتِلَاف الروَاة فِي الْأَسَانِيد والمتون والوصل والإرسال وَالْوَقْف وَالرَّفْع وَالْقطع والإنقطاع وزيادات الثِّقَات وَمَعْرِفَة الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ واتباعهم وَاتِّبَاع اتباعهم وَمن بعدهمْ وَغير مَا ذكرته عَن علومها المشتهرات وَدَلِيل مَا ذكرته أَن شرعنا مَبْنِيّ على الْكتاب