الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: افتتهمونني؟ قالوا: لا. قال: فإنّي أوصيكم، أتقبلون؟ قالوا: نعم. قال: عليكم بما عليه أهل الحديث، فإنّي رأيت الحق معهم.
وقال أبو الوفاء بن عقيل: لقد بالغت في الأصول طول عمري، ثمّ عدت القهقرى إلى مذهب المكتب.
قال القرطبي: وهذا الشّهرستاني صاحب ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (1) وصف حاله فيما وصل إليه من الكلام وما ناله، فتمثّل بما قاله:
لعمري لقد طفت المعاهد كلّها
…
وسيّرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كفّ حائر
…
على ذقن أو قارعاً سنّ نادم
ثمّ قال: ((عليكم بدين العجائز، فإنّه أسنى الجوائز)). انتهى ما حكاه القرطبي.
فانظر إلى أمر [أعلام](2) البرهان، وفرسان هذا الشأن، كيف رجعوا القهقرى إلى ما قاله علماء الأثر وأئمة السّنّة، فإذا عرفت هذا تبيّن لك أنّ اختيار أهل /الحديث لترك الكلام والتّأويل ليس يلازم البله وجمود الفطنة، وأنّه ربما ذهب إلى ذلك من هو ألطف منك طبعاً، وأصلب نبعاً، وأحسن فهماً، وأغرز علماً.
الرّابع عشر:
أنّ ذلك إنّما يلازم البله وجمود الفطنة، لو كانوا قد بذلوا جهدهم في تفهّم علم الكلام، وتعلّم أساليب أهل الجدال، فكلّ منهم الجدّ، ولم يساعدهم الجدّ، ليس كذلك الأمر، فإنّهم إنّما تركوه
(1) انظر: (ص/3).
(2)
في (أ) و (ي): ((أعلم)) والتصويب من (س).
لما ورد في القرآن من الأمر بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك يقتضي الاقتداء في فعل ما كان يفعله وترك ما كان يتركه، ولما ورد في ((الصّحيح)) (1) من النّهي عن البدع، والأمر بالاقتداء بالخلفاء الرّاشدين، كما روى التّرمذي (2) وحكم بصحّته عن النّبي صلى الله عليه وسلم:((عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ)) الحديث. وكذلك روى التّرمذي (3) مرفوعاً: ((ما ضلّ قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدال)) ، وفي ((صحيح مسلم)) (4)((إنّ أبغض الرّجال إلى الله تعالى الألدّ (5) الخصم)).
قال [القرطبي](6): ((وهذا الخصم المبغوض عند الله هو الذي يقصد بمخاصمته: مدافعة الحقّ، وردّه بالأوجه الفاسدة، والشّبه الموهمة، وأشدّ ذلك الخصومة في أصول الدّين، كخصومة أكثر المتكلّمين المعرضين عن الطرّق التي أرشد إليها كتاب الله، وسنة نبيّه، وسلف أمّته، إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدليّة وأمور صناعيّة، مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية ومناقشات
(1) مثل حديث: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) أخرجه مسلم برقم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
(5/ 43) وقال: ((هذا حديث حسن صحيح)) اهـ.
(3)
(5/ 353) وقال: ((هذا حديث حسن صحيح)) اهـ.
(4)
برقم (2668) ، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5)
سقط من (س).
(6)
في (أ): ((الترمذي))! وهو خطأ. وانظر كلام القرطبي في ((المفهم)): (6/ 690).
لفظية، يرد بسببها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالاً عنها أجدلهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشّبهة لا يقوى على حلّها، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها.
ثمّ إنّ هؤلاء المتكلّمين قد ارتكبوا أنواعاً من المحال، لا يرتضيها البله ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيّز الجواهر والأكوان والأحوال، لأنّهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عن البحث فيه السّلف الصّالح، ولم يؤخذ عنهم فيه بحث واضح، وهو كيفية تعلّقات صفات الله تعالى وتعديدها وإيجادها في أنفسها، وأنّها هي الذّات أو غيرها؟)).
إلى قوله: إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة التي لم يأمر صاحب الشّرع بالبحث عنها، وسكت أصحابه ومن سلك سبيلهم عن الخوض فيها، لعلمهم أنّها بحث عن كيفية ما لم يعلم كيفيّته، فإنّ العقول لها حدّ تقف عنده وهو: العجز عن التّكييف لا تتعداه، ولا فرق بين البحث في كيفيّة الذّات وكيفيّة الصّفات، ولذلك قال العليم الخبير:((ليس كمثله شيءٌ وهو السميع العليم)) [الشورى/11] ، ولا تبادر بالانكار فعل الأغبياء الأغمار، فإنّك قد حُجبت عن كيفية حقيقة نفسك مع علمك بوجودها، وعن كيفيّة إدراكاتك مع أنّك تدركها، وإذا عجزت عن إدراك كيفيّة ما / بين جنبيك؛ فأنت عن إدراك ما ليس كذلك أعجز.
وغاية علم العلماء، وإدراك عقول العقلاء الفضلاء؛ أن يقطعوا بوجود فاعل لهذه المصنوعات، منزّه عن صفاتها، مقدّس عن
أحوالها، موصوف بصفات الكمال الّلائق به بتمامها، فما (1) أخبرنا الصّادقون عنه بشيء من أسمائه وصفاته قبلناه واعتقدناه، وما لم يتعرّضوا له؛ سكتنا عنه، وتركنا الخوض فيه.
هذه طريقة السّلف (2وما سواها مهاوٍ وتلف)) ، ثم أورد ما جاء عن الأئمة والسّلف (2) من النّهي عنه.
والقصد بإيراد هذا الكلام أن يظهر لك أنّ القوم لم يتركوا علم الكلام لدقّته وغموضه، وإنّما تركوه لما نصّوا عليه من ثبوت النّهي عنه عندهم، وكونه غير مفيد اليقين في الخفيّات، ولا يحتاج إليه في الجليّات. وقد نصّ على هذه العلّة كثير من المتكلّمين كما قدّمنا. وقد خاض في علم الكلام غير واحد من المحدّثين كابن تيمية، والشّيخ تقي الدّين (3) ، فبلغوا في التّدقيق وراء مدارك الفطناء من أئمة الكلام كما يعرف ذلك من رأى كلامهم، وردّوا على المتكلّمين ودقّقوا مع المدقّقين، وإنّما أوّل القرطبي النّهي عن الجدال؛ لأنّ الموجب لتأويله نصّ القرآن في قوله تعالى:((وجادلهم بالتي هي أحسن)) [النحل/125] وقوله تعالى في الحكاية عن قوم نوح عليه السلام: ((يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا)) [هود/32] ونحو ذلك. وإنّما يكون المكروه منه نوعان:
(1) في (س): ((ثم مهما)) ، وكذا في ((المفهم)).
(2)
ما بينهما ساقط من (س).
(3)
لعلّه ابن دقيق العبد ت (702).
أحدهما: المراء به واللّجاج (1) الذي يعرف صاحبه أنّه غير مفيد، وربما عرف أنّه مثير للشّرّ، والفرق بينه وبين الجدال بالتي هي أحسن: أن يكون المجادل بالتي هي أحسن قاصداً لإيضاح الحقّ، أو طامعاً في اتّباع خصمه لا يقبل، ولم يكن له مقصد إلا غلبة الخصم، ومجرّد الظّهور عليه، ملاحظة لحظّ النّفس في ذلك فقد صار ممارياً وداخلاً في المنهيّ عنه.
وثانيهما: أن ينتصر للحقّ بالخوض في أمور يستلزم الخوص فيها الشّكوك والحيرة والبدعة، ولا يقتصر -في الانتصار للحقّ- على أساليب القرآن والأنبياء عليهم السلام والسّلف الصّالح رضي الله عنهم، وإنّما كره الانتصار للحقّ بتلك الطريقة لما أشار إليه كثير من محقّقي علم الكلام: من أنّها خوض في محارات العقول، وبحث في غوامض تلتبس العلوم فيها بالظّنون، وسير في متوعّرات مسالك تزلّ فيها أقدام الحلوم.
ألا ترى أنّهم قد خاضوا في الرّوح مع قوله تعالى: ((ويسئلونك عن الرّوح قل الرّوح من أمر ربّي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)) [الإسراء/85] مع عدم الحاجة إلى الخوض فيه؛ لأنّ معرفته غير واجبة كمعرفة الله تعالى، وقد حاولوا تأويل الآية ليتنزّهوا عن دعوى ما لا يعلمون، فجمعوا بين خطر تأويل القرآن بغير قاطع، ولغير موجب، وبين خطر دعوى علم ما لم يثبت على دعواه برهان قاطع، وقد قال الله تعالى: ((ولا تقف ما ليس لك به علم/ إنّ السّمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك
(1) في (س): ((المراد به اللجاج))!.