الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رووا تحريمه، وترك ما رووا وجوبه، بل هو أقرب إلى الحرام؛ لأنّه من قبيل ارتكاب ما يغلب على الظّنّ تحريمه، فتأمّل ذلك ونظائره في الحديث.
الحجّة العاشرة:
أنّه يحرم عليهم كتم ما يعرفونه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ورد في تحريم ذلك من القرآن والسّنّة والإجماع، فلا يرتفع وجوب ذلك عنهم إلا بدليل يعارض أدلّة تحريم كتم العلم في القوّة والظّهور، ولا شكّ أنّه لا يوجد ما يماثل ذلك في إسقاط تحريم الكتم عليهم، وإذا ثبت أنّه يجب عليهم التّبليغ ويحرم عليهم الكتم/ ثبت أنّه يجب قبولهم وإلا لم يكن لتبليغهم فائدة، ولا لوجوب ذلك عليهم معنى.
وأمّا المصرّح بالكفر والفسق؛ فغير متعبّد بذلك في حال فسقه، لانعقاد الإجماع على اشتراط توبته في القبول.
وأمّا المتأوّل؛ فلم ينعقد الإجماع على ذلك بل ادّعى غير واحد من أهل الفقه انعقاد الإجماع على قبولهم كما قدّمنا فافترقا. وفي هذا بحث لطيف تركته اختصاراً.
وهذه عشر حجج اختصرتها من نيّف وثلاثين حجّة ذكرتها في ((الأصل)) (1) ، وأردفتها بذكر بضعة عشر مرجّحاً لقبولهم على ردّهم.
وأمّا الرّادّون لحديث كفار التّأويل وفسّاقه، فقد احتجّوا بأمور
(1)(2/ 316 - 373). ذكر فيه اثنتين وثلاثين حجّة، وذكر خمسة عشر مرجّحاً.
ضعيفة، وقد أوردتها في ((الأصل)) (1) وأضحت الجواب عليها، وأنا أورد هنا أقوى ما تمسّكوا به، وألوّح إلى جمل كافية في الجواب على ذلك.
فممّا احتجّوا به قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة)) [الحجرات/6].
قال المعترض: وهذا في معنى العموم كأنّه قال: إن جاءكم فاسق أيّ فاسق.
والجواب من وجوه:
الوجه الأوّل: أنّ المتأوّل لا يستحق اسم الفسوق في عرف العرب؛ لأنّه في عرف أهل اللّغة: الذي يتعمّد ارتكاب الفواحش تمرّداً أو خلاعة، وليس هو من يكفّ نفسه عن كلّ ما يعلم تحريمه أو يظنّه، ولا يفعل قبيحاً إلا بتأويل، وإذا لم يكن يسمّى فاسقاً في عرفهم لم تتناوله الآية، سواء كان يسمّى في وضع اللغة أم لا، لأنّ الحقيقة العرفية مقدّمة على الحقيقة اللّغوية، والذي يدلّ على ذلك العرف آيات كثيرة، منها: قوله تعالى في الكفّار: ((وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين)) [الأعراف/102] وقوله تعالى في المشركين: ((كيف يكون للمشركين عهد عند الله -إلى قوله- وأكثرهم فاسقون)) [التوبة/7 - 8] وقوله تعالى في اليهود: ((وأنّ أكثركم فاسقون)) [المائدة/59] وهذه الآيات الكريمة دالّة على أنّ في المشركين وسائر الكفّار من ليس بفاسق، وقد فسّر الزّمخشري هذه
(1)(2/ 130 - وما بعدها).
الآيات على المعنى الذي ذكرته، فقال (1) في قوله تعالى:((وأكثرهم فاسقون)) [التوبة/8]((متمرّدون خلعاء لا مروءة تزعهم، ولا شمائل مرضيّة تردعهم، كما يوجد ذلك في بعض الكفرة من التّفادي عن الكذب والنّكث، والتّعفّف عمّا يثلم العرض ويجرّ أحدوثة السّوء)) انتهى.
وهو تصريح منه بما ذكرته في تفسير الفاسق، فكيف يدخل فيه المتأوّل المتعبّد المتورّع المتخشّع!؟ وقد فهم هذا المعنى في هذه الآية بخصوصها غير واحد من أهل العلم بتفسير كتاب الله تعالى، فقال عبد الصّمد (2) في تفسيرها: سمّى الله الوليد فاسقاً لكذبه الذي وقع به الإغراء، وقال القرطبي في هذه الآية في ((تفسيره)) (3):((وسمّى الله الوليد فاسقاً أي: كاذباً)) قال القرطبي (4): ((وقال العلماء: الفاسق
(1)((الكشّاف)): (2/ 141).
(2)
ذكر الداوودي في ((طبقات المفسرين)): (1/ 309 - 310) اثنين ممن يسمّى عبد الصمد:
1 -
عبد الصمد بن حامد بن أبي البركات النّهشلي كان مقرءاً مفسّراً. ت (بعد 750هـ).
…
=
= 2 - عبد الصمد بن عبد الرحمن بن أبي رجاء البلوي الأندلسي، من المحققين في القراءات والتفسير، ت (619هـ).
ولم يذكر لأحد منها كتاباً في التفسير ولا في غيره فالله أعلم.
وانظر: ((طبقات القراء)): (2/ 610) للذهبي، و ((غاية النهاية)):(1/ 388 - 389) لابن الجزري، وقد تقدّم للمؤلّف النقل عنه.
(3)
(16/ 205).
(4)
بنحو، وإلا فالقرطبي قد سمّى من قال بذلك من العلماء، ولم يُبهم.
الكذّاب، وقيل: الذي لا يستحي من الله)). انتهى كلامه.
وفيه شهادة للمعنى الذي ذكرته، أقصى ما في الباب: أنّ هذا الاحتمال غير ظاهر، لكنّه محتمل غير مرجوح، وذلك يمنع من الاحتجاج بها في المتأوّلين.
الوجه الثّاني: أنّ الله تعالى قال: ((إن جاءكم فاسق بنبأ فنبيّنوا)) [الحجرات/6] ولم يقل: فلا تقبلوه، والتّبيّن هو تطلّب/ البيان، وليس القطع على أنّه كاذب يسمّى تبيّناً في اللغة ولا في العرف ولا في الشّرع، وقد جاء الأمر بالتّبيّن في القرآن الكريم، وليس المراد به الرّدّ والتّكذيب، وذلك في قوله تعالى في سورة النّساء:((يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا)) [النساء/94] فروى البخاريّ ومسلم (1) من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ المسلمين لحقوا رجلاً في غُنيمة له، فقال: السّلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غُنيمته فنزلت، وهو حديث صحيح مرويّ من غير طريق، فثبت أنّ التّبيّن طلب البيان لا ردّ المتّهم.
فنقول: من جملة التّبيّن أنّا ننظر إلى المخبر أهو من أهل الصّدق والتّحري أم لا؟ فإن لم يكن منهم لم نقبله، وإن كان منهم نظرنا هل أخبرنا بأمر يتعلّق بحقوق المخلوقين، أو بأمر من أمور (2) الدّين، فإن كان ممّا يتعلّق بأمر الدّين؛ اكتفينا فيه بظنّ صدقه وأمانته ما لم يجرح بأمر يعارض أدلّة قبوله، وإن كان في حقوق المخلوقين لم نصدقه حتّى
(1) أخرجه البخاري ((الفتح)): (8/ 107) ، ومسلم برقم (3025).
(2)
في (ي) و (س): ((أمر)).
يشهد معه شاهد آخر غالباً، ولا شكّ أنّ الآية نزلت في حقوق المخلوقين وأنّ الوليد لم يكن في المتأوّلين باتّفاق العارفين.
الوجه الثّالث: أنّ الله تعالى علّل التبيّن بخوف الإصابة بالجهالة، وهذه العلّة غير حاصلة في خبر المتديّن (1)، فإنّ خبره يفيد الظّنّ الرّاجح وذلك لا يسمّى جهالة لوجهين:
الوجه الأوّل: أنّه يسمّى علماً في لغة العرب لقوله تعالى: ((وما شهدنا إلا ما علمنا)) [يوسف/81] وغير ذلك، وما ثبت أنّه يسمّى علماً في لسان العرب فلا يسبق إلى الفهم أنّه يسمّى جهالة، ولا يجوز ذلك إلا بدليل.
الوجه الثّاني: وهو المعتمد أنّا نظرنا في الجهالة هل هي عدم العلم أو عدم الظّنّ؟ فوجدناها عدم الظّنّ لا عدم العلم، وإنّما قلنا ليست عدم العلم؛ لأنّ العلم لا يحصل أيضاً بخبر المسلم الثّقة ولا بخبر الثّقتين، فثبت أنّ الجهالة تنتفي بحصول الظّنّ، وهو حاصل بخبر المتأوّل المتديّن، وقد قال القرطبي (2):((في هذه الآية الكريمة سبع مسائل، وذكر منها: أنّ القاضي إذا قضى على الظّنّ لم يكن ذلك عملاً بجهالة كالقضاء بشاهدين عدلين، وقبول قول عالم مجتهد)) انتهى.
وهو صريح في المعنى الذي ذكرته ولله الحمد. وللزّمخشري (3)
(1) في نسخة: ((المتبيّن)) كذا في هامش (أ) و (ي).
(2)
((الجامع لأحكام القرآن)): (16/ 206).
(3)
((الكشاف)): (4/ 88).
قال في تفسيرها: ((العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظّنّ الغالب، بالحلف وظهور الأمارات)) اهـ.
مثل ذلك ذكره في تفسير قوله تعالى: ((فإن علمتموهمّ مؤمنات)) [الممتحنة/10].
الوجه الرّابع: أنّ الآية خاصّة في حقوق المخلوقين (2لا عامّة في جميع أخبار المخبرين، ولا شكّ أنّ خبر الواحد الثقة غير مقبول في حقوق المخلوقين (1) على الإطلاق، وأنّ الثّقات غير مقبولين في حقوقهم إذا كانت بينهم أحنة عداوة، والوليد كان بينه وبين الذين كذب عليهم عداوة، فلا حجّة في الآية لا في عمومها، ولا في (3مفهومها، ولا في (2) تعليلها المقتضي للقياس عليها.
الوجه الخامس: أنّا لو قدّرنا عمومها وسلّمنا تسليم جدل لم يمنع ذلك من تخصيصها، ولا شكّ أنّ في أدلّتنا المتقدّمة ما هو أخصّ منها كالإجماع، ودليل المعقول وغيرهما.
الوجه السّادس: أنّا لو سلّمنا عدم وجود المخصّص، لم يلزم ما ذكره الخصوم؛ لأنّ ما أوردناه من الآيات الكريمة معارضة لعموم هذه الآية، لو سلّمنا /أنّها عامّة وتلك الآيات أرجح لكثرتها، ولما في قبول المتأوّلين من الاحتياط غالباً، ولما في مخالفة ذلك من خوف مخالفة الإجماع، ولغير ذلك من المرجّحات المذكورة في ((الأصل)) وقد ذكرت في ((الأصل)) (3) سبعة عشر وجهاً في القدح على المعترض
(1) ما بينهما ساقط من (س)!.
(2)
ما بينهما ساقط من (س)!.
(3)
(2/ 160 - 188).
في احتجاجه بهذه الآية الكريمة، وفي هذا القدر كفاية -إن شاء الله تعالى-.
الحجّة الثّانية: ممّا احتجّوا به: القياس على الكافر والفاسق المصرّحين، قالوا: فإنّ العلّة في ردّهما الكفر والفسق، وهي حاصلة في المتأوّلين، والجواب من وجوه:
الأوّل: أنّ هذا قياس مصادم للإجماع والدّليل العقلي، فلا يقبل وفاقاً، فإنّ كلّ واحد منهما يمنع منه.
الوجه الثّاني: أنّه مخصّص لكثير من الآيات القرآنية (1) والآثار الصّحيحة، وكلّ قياس على هذه الصّفة لم يلزم المصير إليه، بل يقف ذلك على حسب مذهب العالم في تجويز تخصيص العموم به، وعلى حسب قوّة العموم أو (2) قوّة القياس أو ضعفهما، أو قوّة أحدهما وضعف الآخر.
الوجه الثّالث: أنّ التّعليل بالفسق غير مسلّم، وإذا لم تسلّم العلّة انهدم أساس القياس، وذلك أنّ الخصم ادّعى أنّ العلّة في قبول العدل: أنّ قبول منصب تعظيم وتشريف، والفاسق المتأوّل غير أهل لذلك، وعندي أنّ العلّة هي ظنّ الصّدق ورجحانه، والدّليل على ذلك وجوه:
الوجه الأوّل: قوله تعالى: ((واستشهدوا شهيدين من رجالكم)) [البقرة/282] ، فلو كانت العلّة مجرّد العدالة، وكونها منصباً شريفاً، مستحقّاً للتعظيم، مانعاً من قبول الرّدّ لما فيه من الاستهانة بالمردود
(1) في (س): ((الكريمة)).
(2)
في (س): ((و)).
والتهمة له، لكفى العدل الواحد، فإن قيل: هذا ينعكس عليكم، فإنّه لو كان العلّة الظّنّ لكفى الوحد أيضاً، فالجواب من وجوه (1):
أحدهما: أنّ القصد في حقوق المخلوقين الظّنّ الأقوى حسب الإمكان المتيسّر، وفي حقوق الله تعالى مجرّد الظّنّ.
وثانيهما: أنّه إذا بطل بهذا تعليلنا بطل به تعليل الخصم، وذلك يضرّ الخصم ولا يضرّنا، لأنّ بطلان به تعليل يستلزم بطلان القياس وبذلك تبطل حجّة الخصم القياسية. وأمّا نحن؛ فلم (2) نحتج إلى القياس في هذه المسألة وإنّما قصدنا بطلانه.
وثالثها: أنّ سائر أدلّتنا في استنباط التعليل بالظّنّ غير معارضة بما يساويها في القوّة.
الوجه الثّاني: (3) قوله تعالى: ((او آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت)) [المائدة/106] فأباح الله تعالى قبول كافر التّصريح عند الضّرورة الدّنيوية، حين لم يوجد من يحفظ المال بالشّهادة سواه، فدلّ على أنّ قبولها ليس بمنصب تشريف لا يستحقه إلا مؤمن، فأولى وأحرى أن نقبل المتأوّل من أهل القبلة، إذا اضطررنا إلى ذلك في أمر ديننا، بأن يحفظ عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم حكماً ونظنّ صدقه فيه ولا نجد غيره أحداً يرويه، فإنّ الشّرع قد جعل الشّهادة في حقوق المخلوقين آكد من الخبر عن أمور الدّين، لما ورد فيها من اعتبار
(1) في (س): ((وجهين)) وهو خطأ.
(2)
في (س): ((فلا))!.
(3)
على كون العلّة هي رجحان الصّدق.
شاهدين اثنين، وعدم الاجتزاء بامرأة واحدة عن احد الشّاهدين ونحو ذلك، فإذا جاز في الضّرورة اعتبار كافر التّصريح في الشّهادة، مع تغليظ حكمها، فجواز اعتبار كافر التّأويل في الرّواية أولى، وفي هذه الآية أوضح دليل على جواز تخصيص العلّة، فتأمّل ذلك.
الوجه الثّالث: قوله تعالى: ((ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها)) [المائدة/108] فعلّل بما يفيد قوّة الظّنّ.
الوجه الرّابع: قوله تعالى في /الكتابة: ((ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا)) [البقرة/282] وهذا أوضح دليل على اعتبار ما يبعد عن الرّيبة، دون اعتبار منصب العدالة الرّاجع إلى ما يستحقه المسلم من التّعظيم.
الوجه الخامس: ورود الشّرع بشاهد ويمين عند من يقول بذلك من أهل العلم، ولا شكّ أنّ شرع اليمين يدلّ على اعتبار قوّة الظّنّ ولا يناسب مقام تعظيم المؤمن، بل فيها تهمة للشّاهد والحالف، ولو صُدّقا من غير شهادة ولا يمين كان أكثر تعظيماً لهما.
الوجه السّادس: أنّه يجب ردّ حديث العدل في دينه إذا كان سيء الحفظ [يترجّح](1) خطؤه على صوابه، وهذا إجماع، وفيه أكبر دليل على أن العبرة الظّنّ، ولهذا وجب ردّ المسلم المتديّن حيث زال الظّنّ لصدقه، ولو كانت العلّة ما ذكره المعترض من استحقاقه لمنصب القبول بإسلامه وإيمانه وديانته؛ لوجب قبول سيء الحفظ، وإن كان
(1) في (أ) و (ي): ((ومرجح)) وأشار في هامش (ي) إلى أنّه في نسخة ((يترجح)) وهو كذلك في (س).
خطؤه أكثر من صوابه، لأنّه لم يتعمّد ولا إثم [عليه](1) في ذلك ولا حرج باتفاق المسلمين.
الوجه السّابع: أنّ علماء الأصول عملوا في باب التّرجيح بتقديم خبر من قوي الظّنّ بإصابته وصدقه، ولم يقدّموا خبر من كثر ثوابه وعظمت منزلته عند الله تعالى، فاعتبروا في التّرجيح جودة الحفظ، وملازمة الفنّ، وموافقة أهل الإتقان، ولم يعتبروا أسباب عظم المنزلة عند الله من كثرة الجهاد والصّدقة والذّكر، وقد ضعّفوا [جماعة](2) لكثرة اشتغالهم بالعبادة وانقطاعهم في الذكر، حتّى غفلوا عن الحديث وساء حفظهم، وهذا أوضح دليل على تعليل القبول بالظّنّ لا باستحقاق منصب التعظيم.
الوجه الثّامن: أنّه يجب على المجتهد العمل بما يُفيده الظّنّ في المعاني القرآنية اللفظيّة ونحوها، فيجب عليه تقديم دليل المنطوق على دليل المفهوم ونحو ذلك، وليس العلّة أنّ دليل المنطوق منصب (3) للتعظيم، ودليل المفهوم منصب للاستهانة، وإنّما العلّة وجوب قبول الرّاجح وتقديمه على المرجوح، فيجب مثل ذلك في رواة الأخبار النّبويّة، فإنّ العلّة واحدة وهي حصول الظّنّ الرّاجح.
قال المعترض: يلزم وجوب قبول من ظنّ صدقه من المصرّحين
(1) من (س).
(2)
في (أ) و (ي): ((الأئمة)) وهو خطأ، والمثبت من نسخة كما في هامش (ي) ، و (س).
(3)
في (أ) و (ي): ((منصباً)) في الموضعين.
بالمعاصي.
والجواب: أنّه مخصوص بالإجماع على ردّه، وهذا لا يبطل العلّة لأنّه تخصيص، وتخصيص العلّة جائز كما في تعليل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان، مع أنّه يخص من ذلك الأب إذا قتله ابنه عمداً عدواناً، فإنّه لا يقتل به قصاصاً، وإن كانت علّة وجوب القصاص قد وجدت فيه للدّليل الذي خصّه، ولابدّ للمخالف من تخصيص العلّة، فإنّ من علّل بالعدالة خصّص من العدول سيء الحفظ الذي خطؤه أكثر من صوابه.
وقد ذكرنا أنّ قوله تعالى: ((أو آخران من غيركم)) [المائدة/106] حجّة ظاهرة على جواز تخصيص العلّة، على أنّ الشّيخ العلامة عزّ الدّين بن عبد السّلام قد روى خلافاً في قبول فاسق التّصريح المظنون صدقه، فروى عن الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه: أنّ فاسق التّصريح متى كان معروفاً بالصّدق مشهوراً بالأنفة العظيمة من رذيلة الكذب، بحيث أنه اختبر في ذلك وعرف منه أنّه يجتنبه كما يجتنب المؤمن الحرام قُبلت شهادته، ذكره في كتاب ((قواعد الأحكام في مصالح الأنام)) (1) وبه قال المنصور بالله من أئمة الزّيديّة، وشرط في جواز قبوله خلوّ الأرض -التي يقبل فيها- عن وجود أهل العدالة؛ لأنّه قاس ذلك على جواز قبول الكافر في السّفر عند عدم المسلمين.
واحتج سائر أهل العلم على المنع من قبول المصرّحين: بأنّ
(1) بمعناه، (2/ 89).
وازع المصرّح عن (1) الكذب إنّما هو الحياء عن (2) ظهور هذه الرّذيلة عليه والأنفة من ذلك، وهذا الوازع وإن عظم فإنّه /لا يقوم مقام وازع التّقوى والمراقبة لله تعالى، لأنّ خوف العار وحبّ المحمدة يضعف فيما يخفى ويظنّ صاحبه أنّه لا ينكشف للنّاس، والوازع الأخروي، والحياء من الله، والخوف من غضبه وعقوبته مستو في الباطن والظّاهر، والفاسق المصرّح وإن حصل بخبره ظنّ، فالظّنّ بخبر الثّقة من أهل العدالة أقوى، ولا يمنع أن يرد الشّرع باعتبار ظنّ دون ظنّ في حقوق الله تعالى لزيادة قوّة أحدهما على الآخر، كما ورد باعتبار ذلك في حقوق المخلوقين لهذه العلّة، فوجب الحكم بالظّنّ الصادر عن شهادة عدلين دون الظّنّ الصّادر عن شهادة عدلتين، وكذلك حقوق الله تعالى فلا يمنع وجوب قبول الظّنّ الصّادر عن العدل دون غيره، ولكن هذا خلاف الظّاهر فلا يصار إليه إلا بدليل، وذلك الدّليل هو قوله تعالى:((شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم)) [المائدة/106]، وقوله تعالى:((ممّن ترضون من الشهداء)) [البقرة/282] ونحو ذلك ممّا ورد في السّنّة النّبويّة، فلهذا تركنا الفاسق والكافر المصرّحين.
وأمّا الفرق بين الكافر والفاسق تأويلاً، وقبول الفاسق دون الكافر فضعيف؛ لأنّ التّأويل إن أثّر في القبول لعلّة ظنّ الصّدق اعتبر فيهما معاً، وإلا لم يعتبر، وأمّا من لم يقبل الدّعاة منهم فله وجهان:
(1) في نسخة: ((من)).
(2)
في (س): ((من)).