المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المرتبة الثانية: حمل الكلام على المجاز اللغوي - الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - - جـ ٢

[ابن الوزير]

فهرس الكتاب

- ‌المحمل الخامس:

- ‌الأوّل:

- ‌الثاني:

- ‌الثّالث:

- ‌الرّابع:

- ‌الخامس:

- ‌السّادس:

- ‌السّابع:

- ‌الثّامن: [

- ‌التّاسع:

- ‌العاشر:

- ‌الحادي عشر:

- ‌الثّاني عشر:

- ‌الثالث عشر:

- ‌الرّابع عشر:

- ‌الطّريق الأولى:

- ‌ الطريق الثّانية

- ‌الفرقة الأولى

- ‌الفرقة الثانية:

- ‌الفرقة الثّالثة:

- ‌الفرقة الرّابعة:

- ‌الوهم الرّابع عشر:

- ‌الوهم الخامس عشر:

- ‌الوهم السّادس عشر:

- ‌الفصل الأول:

- ‌الفصل الثاني:

- ‌الفصل الثّالث:

- ‌الفصل الرّابع:

- ‌الفصل الخامس:

- ‌الوهم الثّامن عشر:

- ‌المقدمة الثّالثة:

- ‌المقدّمة الرّابعة:

- ‌المرجّح الأوّل:

- ‌المرجّح الثّاني:

- ‌المرجّح الثّالث:

- ‌المرجّح الرّابع:

- ‌المرجّح الخامس:

- ‌المرتبة الأولى: حمل الكلام على التّخيّل

- ‌المرتبة الثانية: حمل الكلام على المجاز اللّغوي

- ‌ الأولى:

- ‌ الثانية:

- ‌ محاجّة آدم وموسى

- ‌الفصل الأول:

- ‌الفصل الثّاني:

- ‌الفصل الثّالث:

- ‌أمّا المعارضة:

- ‌الوجه الأوّل

- ‌الوجه الثّاني:

- ‌الحجّة الأولى:

- ‌الحجّة الثّانية:

- ‌الحجّة الثّالثة:

- ‌الحجّة الرّابعة:

- ‌الحجّة الخامسة:

- ‌الحجّة السّادسة:

- ‌الحجّة السّابعة:

- ‌الحجّة الثّامنة:

- ‌الحجّة التّاسعة:

- ‌الحجّة العاشرة:

- ‌الفائدة الرّابعة: في ذكر ثلاث طوائف

- ‌الطّائفة الأولى المجبّرة:

- ‌الطّائفة الثانية: المرجئة

- ‌ المسألة الأولى:

- ‌ المسألة الثّانية:

الفصل: ‌المرتبة الثانية: حمل الكلام على المجاز اللغوي

(1)

، ولكن ذكرها ابن الأثير في ((النهاية)) (2) ، ولا شكّ أنّه قد يذكر الحديث الضّعيف في ((النّهاية)) (3) فإذا صحّت فهي مثال حسن في هذا المعنى، وإذا لم تصح فلا مانع على قواعد أهل الحديث من رؤيتها على الحقيقة، وهذا باب واسع يتركّب عليه في التّأويل أمور كثيرة عند من يرغب إلى التّأويل، والله سبحانه أعلم.

‌المرتبة الثانية: حمل الكلام على المجاز اللّغوي

، وأكثر التّأويل يدور عليه، وفيه: الجلي (4) والدّقيق والقريب والعميق، والمجاز: مرسل واستعارة، فالمرسل: الذي علاقته غير المشابهة كاليد في القدرة والنعمة، وله أقسام كثيرة، والاستعارة: حيث تكون العلاقة هي المشابهة، وهي مطلقة ومجرّدة ومرشّحة، فالمطلقة: التي لا تتبع بصفات المشبّه ولا بصفات المشبّه به، والمجرّدة: التي تتبع بصفات المشبّه مثل: أسد شاكي السّلاح، والمرشّحة: التي تتبع بصفات المشبّه به مثل قوله (5):

* له لبد أظفاره لم تقلّم *

وقرائن المجاز ثلاث: عقلية وعرفية ولفظية، كما مرّ تمثيلها في

(1) هو كما ذكر المصنف، فيما يتعلّق بحديث الكسوف؛ إلا أنّ هذه اللفظة جاءت في حديث أنس عند البخاري ((الفتح)):(13/ 279) كتاب الاعتصام، ولفظه:((والذي نفسي بيده، لقد عرضت عليّ الجنّة والنّار آنفاً في عرض هذا الحائط وأنا أصلّي، فلم أر كاليوم في الخير والشّر)).

(2)

(3/ 212).

(3)

بل هو من مظانّ الأحاديث الضّعاف والغرائب ونحوها.

(4)

في (ي): ((الجملي))!.

(5)

عجز بيت لزهير بن أبي سلمى من معلّقته. ((ديوانه)): (ص/45).

ص: 431

المقدّمة الرّابعة.

فإذا عرفت هذا؛ فاعلم أنّ القرينة متى (1) كانت معروفة عند المتخاطبين، [أو](2) عليها دليل قاطع يوجب اليقين حسنت المبالغة في التّجوّز ولم يدخل في باب التّعمية للمراد والإلغاز في الخطاب، هذ عند المتكلّمين، وسواء كان القاطع جليّاً أو خفيّاً، وعند أهل الحديث: متى كانت القرينة معروفة عند المتخاطبين حسن /التّجوّز وزال الإشكال. والسّرّ كلّه في هذه النّكتة هي: ظهور القرينة وخفاؤها، وعلى ذلك يدور الخلاف بين المتكلّمين والمحدّثين في كثير من التّأويل، فإنّ المتكلّمين يجعلون قرينة التّجوّز في كثير من آيات الصّفات وأحاديثها عقليّة، وإذا سألتهم عنها أحالوا في ثبوت تلك القرينة العقلية على النّظر في دقائق معارف علم المعقول التي نازعهم في صحتها من شاركهم في المعرفة بالعقليّات لدقّتها وغموضها، فكيف يتقدّر أنّ الصحابة ومن عاصرهم من العرب عرفوها؟

ومن مارس علم النّظر وعلم التّاريخ حصل له من مجموعهما علم ضروري بخلو أهل ذلك العصر الأوّل عن تلك المعارف، فأشكل الأمر حينئذ على المتكلّمين، لأنّهم إن قالوا: إنّ أهل ذلك العصر الأوّل تأوّلوا من غير دليل، وقالوا بالتّجوّز من غير قرينة فهذا لا يجوز، وهو يفتح باب القرمطة ومذهب الباطنية المجمع على بطلانه، وإن

(1) في (س): ((التي))!.

(2)

في (أ): ((و)) والمثبت من (ي) و (س).

ص: 432

قالوا: إن أهل ذلك العصر يعرفون هذه الأدلّة التي ألجأت أهل الكلام إلى التّأويل فذلك عناد يعلمه الخاصّة من أهل ذلك العصر، وهذا الثّاني هو الذي يركبه المتكلّمون، فإنّهم يدّعون مشاركة الصّحابة في المعارف العقلية على سبيل الجملة، وقد تكلّم الرّازي في ردّ ذلك بأنّ المعرفة الجملية غير صحيحة؛ لأنّ البرهان متى تركّب من عشر مقدّمات استحال من العارف أن يزيد في مقدّماته مقدّمة واحدة، واستحال من القاصر أن ينتج له العلم بمعرفة تسع مقدّمات، وكلامه هذا حقّ لا محيص عنه، فأمّا أن يدّعي المتكلّمون مشاركة الصّحابة في علم الكلام على سبيل التفصيل فهذا عناد عظيم، أو يدّعون المشاركة فيه على سبيل الجملة فهذا عذر غير مستقيم (1) ، فلهذا التجأ أهل الحديث إلى الإيمان الجملي، وترك الخوض مع الخائضين في بحار التّأويل، وسيأتي لهذه النّكتة مزيد من بيان، وقد مرّ من ذلك طرف صالح أيضاً.

وفائدة هذا الكلام: أن تعرف أنّ القرينة متى ظهرت وعرفها المتكلّم والسّامع لم يختلف أهل اللّغة في حسن التّجوّز، وهنا يتوافق المحدّث والمتكلّم، بل يكون تناسي التشبيه أبلغ وأفصح، فإذا وصفت زيداً بأنّه أسد، جاز أن تنسب إليه جميع صفات الأسد كما في قوله:

لدى أسد شاكي السّلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلّم (2)

(1) في (ي): ((فهذا غير مستقيم)) وأشار إلى أن ما أثبته في نسخة، وفي (س):((فهذا عذر سقيم)).

(2)

((ديوان زهير)): (ص/45).

ص: 433

فوصف الرّجل بصفات الأسد من اللّبد وطول الأظفار، وكذلك لو أنّك وصفت الرّجل الشّجاع بجميع صفات الأسد وأسمائه، وذكرت محلّه وأشباله /ما ازداد المجاز إلا حسناً، ولم يكن ذلك مما يصعب تأويله في لغة العرب أبداً.

قال علماء المعاني: ولأجل البناء على تناسي التّشبيه صحّ التّعجّب في قوله:

قامت تظلّلني من الشّمس

نفس أعزّ عليّ من نفسي

قامت تظلّلني فواعجبا (1)

شمس تظلّلني من الشّمس

ولذلك صحّ النّهي عن التّعجّب في قوله:

لا تعجبوا من بلى غلالته (2)

قد زرّ أزراره على القمر (3)

قالوا: ولهذا يبنى على علوّ القدر ما يبنى على علوّ المكان مثل قوله:

ويصعد حتّى يظنّ الجهول

بأنّ له حاجة في السّماء (4)

كلّ هذا ذكره علماء المعاني والبيان، وقد رأيت تأكيد ما ذكروه

(1) في نسخة: ((ومن عجب)) كذا في هامش (أ) و (ي) ، وهو كذلك في (س).

(2)

الغلالة بالكسر: شعار يلبس تحت الثوب. ((القاموس)): (ص/1343).

(3)

البيت لابن طباطبا العلوي ت (332هـ). انظر: ((معاهد التنصيص)): (2/ 129).

(4)

البيت لأبي تمّام. ((ديوانه)): (2/ 200) من قصيدة يرثي بها خالد بن يزيد الشيباني. والبيت في ((الديوان)) هكذا:

ويصعد حتّى لظنّ الجهول

أنّ له منزلاً في السّماء

وذكر التبريزي أنّه في رواية: ((له حاجة)).

ص: 434

بذكر جملة صالحة مما رود في هذا المعنى مطابقة لمقتضى الحال، فإنّ مقتضاه المبالغة في كشف عطاء البيان، لإنكار المعترض إمكان التّأويل في بعض الأحاديث التي لم تبلغ في التّجوّز مرتبة كثير مما نورده من كلام البلغاء، وإنّما وقع التّفاوت في ظهور القرينة الدّالة على التّجوّز في نفس الأمر.

فمن ذلك ما ذكره الزّمخشري رحمه الله في ((كشّافه)) (1) في تفسير قوله تعالى: ((أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم)) [البقرة/16] فإنّه تكلّم في هذا لما يشهد بما ذكرته فقال ما لفظه: ((فإن قلت هب أنّ شراء الضّلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال؛ فما معنى ذكر الربح والتّجارة كأنّ ثمّة مبايعة على الحقيقة؟

قلت: هذا من الصّنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذّروة العليا، وهي: أن تساق كلمة مساق المجاز ثمّ تقفّى بأشكال لها وأخوات إذا تلاحقن لم تر كلاماً أحسن ديباجة وأكثر ماء ورونقاً منه، وهو المجاز المرشّح، وذلك نحو قول العرب في البليد: كأن أذني قلبه خطلاوان (2) ، جعلوه كالحمار ثمّ رشّحوا ذلك روماً لتحقيق البلادة؛ فادّعوا لقلبه أذنين وادّعوا لهما الخطل، ليمثلوا البلادة تمثيلاً يلحقها ببلادة الحمار مشاهدة معاينة، ونحوه:

(1)(1/ 37).

(2)

في (س): ((كأنّ باذني قلبه خطلاوان فإنّهم .... ))!.

ص: 435

ولمّا رأيت النّسر عزّ ابن دأية (1) وعشّش في وكريه جاش له صدري

لمّا شبّه الشّيب بالنّسر، والشّعر الفاحم بالغراب، أتبعه ذكر التّعشيش والوكر)) إلى آخر كلامه في هذا، وأنشد في غير هذا الموضع في [((كشّافه))] (2):

ينازعني ردائي عبد عمرو

رويدك يا أخا عمرو بن بكر

لي الشّطر الذي ملكت يمين

ودونك فاعتجز منه بشطر

قال: أراد بردائه سيفه (3)، ثمّ قال: فاعتجز منه بشطر، فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار)) انتهى كلامه.

ومن ذلك قوله تعالى: ((يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم)) [الصف/8] فذكر الأفواه ترشيحاً لذكر الإطفاء، ومن مطربات التّرشيح قول المعرّي (4):

وسألت كم بين العقيق وبارق

فعجبت من بعد المدى المتطاول

وعذرت طيفك في الزّيارة إنّه

يسري فيصبح دوننا بمراحل

فإنّه لما تجوّز في وصف الطّيف بالزّيادة تناسى التّجوّز حتّى عليه التّأخّر عن الزّيارة فسأل عن محلّ صديقه، فأخبر ببعده

(1) ابن دأية: هو الغراب، سمّي بذلك لأنّه يقع على دأية البعير الدبر، وهو موضع الرحل، فيبقرها؛ فنسب إليها. وقيل غير ذلك.

انظر: ((المرصّع)): (ص/142) لابن الأثير.

(2)

زيادة من (س).

والبيتان فيه: (2/ 346).

(3)

تحرّفت في (س) إلى: ((ثوبه))!.

(4)

((سقط الزند)): (ص/127).

ص: 436

المفرط فعرف الطّيف، وعلم أنه لا يقدر قطع تلك المسافة المتطاولة في ليلة واحدة، وأنّه لا يصحّ في الطّيف أن يأتي نهاراً؛ لأنّه وقت اليقظة، وهذا معنى لطيف يهزّ البلغاء طرباً.

ومما جاوز حدّ الغرابة في هذا قول الزّمخشري كناية عن الجماع:

وقد خطبت على أعواد منبره

سبعاً رقاق المعاني جزلة الكلم

وقد اعترض نفسه باستعارة هذه الأمور الشّريفة لما لا حظّ له في مراتب الشّرف.

وللشّيخ عمر بن الفارض في هذا من الإجادة ما ليس لغيره، من ذلك قوله (1):

كان لي قلب بجرعاء الحمى

ضاع منّي هل له ردّ علي

فاعهدوا بطحاء وادي سلم

فهو ما بين كداء وكدي

فإنّه لما تجوّز في ضياع قلبه، بنى عليه ما يبنى على الضّياع الحقيقي فأمرهم بطلب قلبه، وعيّن لهم الموضع الذي هو فيه، وحدّه بكداء وكدي، وهما موضعان بمكة المشرّفة (2).

ومن أطول ما سمعته في هذا المعنى وأحسنه قصيدة الشّيخ أبي حفص عمر بن الفارض الصّوفي السّعدي نفع الله به (3)، التي قال فيها (4):

(1)((ديوانه)): (ص/203).

(2)

انظر: ((معجم البلدان)): (4/ 439).

(3)

انظر التعليق (ص/24، 423).

(4)

((ديوانه)): (ص/179).

ص: 437

شربنا على ذكر الحبيب مدامة

سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم

ولها البدر كأس هي شمس يديرها

هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم

ولولا شذاها ما اهتدينا (1) لحانها

ولولا سناها ما تصوّرها الوهم

فإن ذكرت في الحيّ أصبح أهله

نشاوى ولا عار عليهم ولا إثم

ومن بين أحشاء الدّنان تصاعدت

ولم يبق فيها (2) في الحقيقة إلا اسم

وإن خطرت يوماً على خاطر امرىء

أقامت به الأفراح وارتحل الهم

ولو نظر النّدمان ختم إنائها

لأسكرهم من دونها ذلك الختم

ولو نضحوا منها ثرى قبر ميّت

لعادت إليه الرّوح وانتعش الجسم

ولو طرحوا في فيء حائط كرمها

عليلاً وقد أشفى لفارقه السّقم

ولو نال فدم القوم لثم قدامها

لأكسبه معنى شمائلها اللّثم

هنيئاً لأهل الدّير كم سكروا بها

وما شربوا منها ولكنّهم همّوا

ودونكها في ألحان فاستجلها به

على نغم الألحان فهي بها غنم

فما سكنت والهمّ يوماً بموضع

كذلك لم يسكن مع النّغم الغمّ

/يقولون لي صفها فأنت بوصفها

بصير، أجل عندي بأوصافها علم

صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى

ونور ولا نار وروح ولا جسم

إلى آخر ما ذكره الشّيخ. فانظر إلى ما فيها من التّرشيح، وتناسي التّشبيه، فإنّ الشّيخ لما تولّه في حبّ الله تعالى جل جلاله، وارتفعت في منازل المحبّة أحواله، شبّه الحبّ في تلعُّبه بعقول المحبّين بالخمرة

(1) في (أ) و (ي): ((اهتديت)).

(2)

في نسخة: ((منها)).

ص: 438

فاستعار اسمها للمحبّة، ثم أخذ يفتنُّ في ترشيح الاستعارة بذكر أوصاف الخمرة ومتعلّقاتها متناسياً للتّشبيه، فذكر الشّرب، والسّاقي، والشّذا، والحان، والنّشوة، والدّنان، والفدام، وختم الإناء، والنّضح منها، والكرم الذي منه عنبها، والحائط الذي كانت غروس العنب فيه، والسّكر منها، والدّير الذي شربت فيه (1) ، وهنّأ لأهل الدّير بسكرهم منها، وذكر مزاجها وشربها صرفاً على الألحان التي تصاحبها في العادة، وزوال الهم معها، وشبّه الكأس الذي تشرب فيه بالنّجم، والسّاقي في جماله بالهلال، وأمثال ذلك.

فمن زعم أنّ هذا نظم خارج عن طريقة (2) العرب، غير بليغ ولا مستقيم، فهو بهيميّ الطبع جامد القريحة، ومن أقرّ أنّه عربي بليغ في أرفع درجات الصّنعة البديعية عند أهل هذا الشّأن؛ لزمه ألا يقول فيما هو دونه (3) بدرجات كثيرة من القرآن والحديث أنّه يستحيل تأويله على قانون اللغة العربية في التّجوّز، وبطل قول من يدّعي في كثير من ذلك أن التّجوّز فيه داخل في حدّ الإلغاز والتعمية، وما لا يجوز على الله تعالى، وأنّه يتعذّر معرفة الوجه فيه على جميع من أظلّت السّماء من العلماء والبلغاء والفطناء من أوّل الدّهر إلى آخره! وانظر أيّ تجوّز في السّنّة بلغ إلى هذا المبلغ الذي ذكرته لك في البعد عن الحقيقة.

فإن قلت: إنّ هذه المبالغة لا يجوز دخولها في القرآن والحديث لأنّها كذب محض، ولا يجوز ذلك في كتاب الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

(1) في نسخة: ((منه)) كذا في هامش (أ) و (ي) وهو كذلك في (س).

(2)

في (س): ((لغة)).

(3)

أي: أقل منه مبالغة.

ص: 439

قلت: هذا جهل باللغة والبلاغة، بل جهل بما في الكتاب والسّنة من ذلك. وقد تقدّم شيء من ذلك في هذا النّوع الذي نحن فيه، وفي القرآن العظيم ما هو أعظم ممّا ذكرناه، ولو لم يرد في جواز هذا، والشّهادة بالبراءة له من الكذب (1) إلا قول الله تعالى:((إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً)) [الإنسان/19] فإنّا نعلم أنّ من رأى الولدان الحسان لا يحسبهم لؤلؤاً منثوراً في صفاء ألوانهم، وحسن منظرهم كالدّرّ. ووصفه للدّرّ بأنّه منثور من جملة ما ذكرنا من ترشيح الاستعارة.

وكذلك قول الكاتب: كلام لو مزج به ماء البحر لَعَذُبَ/ طعمه، ليس بكذب؛ لأنّ المتكلّم به لم يقصد أن يوهم السّامع حقيقة ذلك، ولا خاف من السّامع أن يتوهّم ذلك، وإنّما قصد وصف الكلام بالبلاغة لا غير، وعرف أنّه لا يفهم من عبارته إلا ذلك، فكأنّ أهل اللسان وضعوا لوصف الكلام بالحسن عبارتين:

إحداهما: أن يقول: كلام فصيح أو بليغ، أو نحو ذلك.

وثانيهما: أن يقول: كلام لو مزج به ماء البحر لعَذُبَ ونحو ذلك، وهذا يخالف الكذب القبيح، فإنّ الكذب هو: ما قصد المتكلّم به إيهام السّامع ما ليس بصدق، والمتجوّز لم يقصد ذلك، (2وهذا هو الفرق بين الاستعارة والكذب، كما ذكره أهل البيان (2) ، وقد أكثرت

(1) تحرّفت في (س) إلى ((الكتب))!.

(2)

ما بينهما ساقط من (س).

ص: 440

من الاستشهاد على أمر جليّ لمّا ادّعى الخصم أنّ في الحديث ما لم يمكن تأويله، وما يجب تكذيب راويه، وفيما ذكرت ما يردّ عليه على ما سيأتي تفصيله

-إن شاء الله تعالى-.

المرتبة الثالثة في التّأويل: الحكم بالوهم لدليل يوجب ذلك، والوهم أنواع: فمنه الوهم في اللفظ وهو صحيح مأثور، ومنه حديث عائشة الثّابت في البخاري ومسلم (1) وغيرهما: وفيه عن ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما مرفوعاً: ((الميّت يعذّب في قبره بما نيح عليه)) وفيه: قالت عائشة: ((لا والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إنّ الميّت يعذّب ببكاء أحد، ولكنّه قال: إنّ الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذاباً، وإنّ الله لهو أضحك وأبكى، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولكنّ السّمع يخطىء)). هذا لفظ البخاري ومسلم، وفيما ذكرته شهادة لجواز ظنّ الوهم في الرّاوي عند من اعتمد (2) القطع بأنّ الظّاهر لا يصحّ، وأنّه وقع مثل ذلك في زمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله عنهم، في حقّ أوثق الرّواة وأفضلهم وأروعهم ممّن يُعتقد تعظيمه وتفضيله، على أنّ المختار صحّة مثل ذلك على أصول الجميع.

أمّا أهل الحديث؛ فقد ذكر الذّهبي (3) في ضمّة القبر أنّها مثل آلام الدّنيا تصيب المطيع والعاصي، وأمّا على أصول المعتزلة فلأنّ كلّ ألم صحّ فيه العِوَض والاعتبار فهو جائز، وكلاهما ممكن في

(1)((الفتح)): (3/ 180) ، ومسلم برقم (929).

(2)

في نسخة ((اعتقد)) كذا في هامش (أ) و (ي) ، وهو كذلك في (س).

(3)

((السير)): (1/ 290).

ص: 441

ذلك: أما العوض فلا إشكال، وأما الاعتبار فاعتبار من يعلم بذلك من المكلّفين، وفي المعتزلة من يجيز الإيلام لأجل العوض فقط، ولكن في الحديث إشارة إلى تعليل استحقاق العذاب بالبكاء، فلذلك تأوّله البخاري (1) والنّووي (2) لمن أوصى أن يبكى عليه، ويكن الجواب بشيء (3) آخر، وهو: أن البكاء جعل سبباً للعذاب لا مؤثراً في استحقاقه، كما تكون أسباب الآلام في الدّنيا /أموراً غير مأثّرة في الاستحقاق.

والحكمة في جعل البكاء سبباً للعذاب: ما في ذلك من الزّجر العظيم عن البكاء. وتسمية الآلام عذاباً كثير في اللّغة شائع، على أنّه قد تقدّم أنّ السّمع قد دلّ على استحقاق كلّ أحد لشيء من العذاب، فمن الجائز أن يكون عذاباً مستحقاً بذنب غير البكاء، وجعل البكاء سبباً على سبيل الزّجر عنه والله أعلم.

فهذه الوجوه كلّها دالّة على سعة وجوه الحكمة الرّبّانية، وعلى أنّه يجب على المسلم ألا يعجل برمي الرّواة الثّقات بالوهم في الحديث ما أمكنه، فإن قال بذلك قائل فلا حرج (4) عليه، ففي عائشة رضي الله عنها أسوة حسنة.

ومن هذا القبيل حديث قيام السّاعة لمقدار مئة سنة، وهو في

(1)((الصحيح)) مع ((الفتح)): (3/ 180).

(2)

((شرح مسلم)): (6/ 229).

(3)

في نسخة ((بوجه)) كذا في هامش (أ) و (ي) وهو كذلك في (س).

(4)

في (ي): ((فلا يُحرج)) ، وفي (س):((لم يخرج)).

ص: 442

((الصّحيح)) (1) وليس المراد به القيامة، وذلك لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما قال:((لا يأتي مئة سنة حتّى أتتكم ساعتكم)) هكذا ورد في بعض ألفاظ ((الصّحيح)) (2) وساعتهم هي الموت، وهو معنى صحيح قرآني.

قال الله تعالى في تسمية الموت بالسّاعة: ((ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتّى تأتيهم السّاعة بغتةً أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، الملك يومئذ لله يحكم بينهم)) [الحج/55 - 56] قال الجوهري في ((صحاحه)) (3) سمّي يوم القيامة عقيماً؛ لأنّه لا موت بعده، قلت: ويدلّ على ما قاله الجوهريّ قوله تعالى: ((الملك يومئذ لله يحكم بينهم)) فدلّ على أنّ السّاعة في الآية هي الموت. وقد ظنّ بعض السّامعين للحديث أنّه أراد القيامة فإنّ في التّرمذي (4) وأبي داود (5) عن

(1) البخاري ((الفتح)): (1/ 255) ، ومسلم برقم (2537) من حديث ابن عمر

رضي الله عنهما.

(2)

لم أجده بهذا اللفظ، لا في الصحيح ولا في غيره.

ولكن أخرج أحمد: (1/ 93)، وأبو يعلى:(1/ 245)، والطبراني في ((الكبير)):

(17/ 693) ، وغيرهم، عن أبي مسعود رضي الله عنه أنه كان يظن أن قيام الساعة بعد مائة عام، ويفتي الناس بذلك، فبين له عليّ رضي الله عنه خطأه في ذلك.

قال الهيثمي في ((المجمع)): (1/ 203): ((رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات)) اهـ.

وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه في ((المسند)): (2/ 93).

(3)

(5/ 1989).

(4)

(4/ 451).

(5)

(4/ 516).

أقول: وهذا في ((الصحيحين)) من رواية ابن عمر، ولم يختص بذكر ذلك التّرمذي وأبو داود!.

ص: 443

ابن عمر أنّ النّاس وهلوا في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدثونه بتلك الأحاديث نحو مئة سنة، وإنّما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد)) يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن، فهذا نصّ ابن عمر على أنّ النّاس وهلوا في ذلك، والوهل هنا: بمعنى الوهم في معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن الأثير في ((جامع الأصول)) (1): تقول: وهل إلى الشّيء إذا ذهب وهمه إليه: وقد يكون الوهل بمعنى الفزع، ولكنّه لا يلائم كلام ابن عمر ههنا، لقول ابن عمر في الرّدّ على من وهل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد إلا انخرام ذلك القرن، فدلّ على أنّهم وهموا أنّه أراد القيامة، كما قد جاءت أحاديث توهم ذلك، ولعلّها من رواية أولئك الذين وهموا (2) والله أعلم.

ومثل هذا إذا وقع نادر في بعض الأحاديث، لم يوجب التّشكيك في الرّجوع إلى الأحاديث الصّحيحة، فإنّ الثّقة لا يعصم من الخطأ. وفي ((الصّحيح)) (3):((من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النّار)) فقيّد الوعيد بالتّعمّد، وأجمع العلماء على أنّ الثّقة لا يجرح بالخطأ إلا إذا كثر كما تقدّم تفصيله (4).

(1)(3/ 52) ، لكنها في شرح ((وهم)).

(2)

راجع التعليق (ص/443).

(3)

حديث متواتر، انظر:((قطف الأزهار)) (ص/23) للسيوطي.

(4)

(ص/47، 161).

ص: 444

ومن أنواع الوهم: رفع الموقوف على الصّحابي، وجعله مرفوعاً إلى النّبي صلى الله عليه وسلم.

وأشدّ منه: الإدراج، وهو ان يتكلّم راوي الحديث بكلام بعد فراغه من رواية الحديث، فيحسبه السّامع من الحديث لاتصاله به.

ومن أنواع الوهم: أن يروي الحديث أحد الضّعفاء، وله اسم أو كنية أو نسبة يوافق فيها بعض الثّقات، فيحسب السّامع أنّه عن الثّقة فيرويه عن الثّقة لا (1) على وجه يميّز الثّقة عن الضّعيف فيلصق بالثّقة ما لم يقله، وقد بالغ الحفّاظ في الاحتراز من هذا الخلل /وصنّفوا في ذلك كتب العلل؛ فهذا [آخر](2) وجوه المحامل، ومع إمكانه لا يجوز الحكم على الثّقات بتعمّد الكذب، ومثل هذا لا يبطل به علم الأثر لوجهين:

أحدهما: أنّ الخطأ قد يقع من أئمة أهل النّظر في نظرهم، فكما لم يبطل بذلك (3علم النّظر عندهم فكذلك (3) لا يبطل علم الأثر بمثله عند أهل الأثر.

وثانيهما: أنّه لو وجب الاحتراز من الوهم للزم الرّاوي ألا يعمل بشيء مما حفظه وسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنّه يجوز فيما لم يعلمه بالضّرورة على نفسه من الوهم ما يجوز على سائر الثّقات، وهذا خلاف العقل والنّقل، فإذا قدحنا بالوهم لم يختص أهل الأثر، ولزم

(1) سقطت من (س)! فتغيّر المعنى!.

(2)

في (أ) و (ي): ((أحد)) ، ولمثبت من ((العواصم)):(8/ 320) و (س). وهو الصواب.

(3)

ما بينهما ساقط من (س).

ص: 445

أهل النّحو واللّغة والفقه والتّفسير، فإذا كان الوهم مجوّزاً فأقل الحديث وهماً: كتب أئمة الحديث المنقّحة المصحّحة، التي حكم بعلوّ قدرها في الصّحة أئمة النّقد، وعكف الأفاضل على تحقيقها من قبل ومن بعد. وهذا القدر كاف في التّمهيد للجواب بذكر هذه المقدّمات.

ولنشرع الآن في الجواب، ونتكلّم على فصلين، أحدهما: في الجواب الجملي، وثانيهما: في طرف من المعارضات، فأمّا التّحقيق؛ فلا مكانه ولا زمانه ولا فرسانه ولا ميدانه.

أمّا الفصل الأوّل: فالجواب أنّ المعترض ذكر أحاديث معيّنة وذكر أنّه لا يصح لها تأويل، فنقول له: مرادك لا يصحّ لها تأويل في فهمك؟ فمسلّم ولا يضرّ تسليمه، أو مرادك لا يصحّ لها تأويل في علم الله تعالى، ولا في علم أحد من الرّاسخين في العلم؟ فهذا ممنوع لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ موسى كليم الله لما لم يعلم تأويل فعل الخضر عليه السلام لم يجب أن لا يعلمه الخضر، فإذا جاز على موسى الكليم عليه السلام أن يجهل ما علمه غيره؛ جاز على المعترض أكثر من ذلك.

الوجه الثّاني: أنّ الملائكة عليهم السلام ما عرفوا حكمة الله تعالى على التّعيين في استخلافه لآدم عليه السلام في الأرض، وسألوا الله تعالى عن ذلك فقالوا:((أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)) بالبقرة/30] ، فلم يخبرهم تعالى بوجه الحكمة على التّعيين، بل أجاب عليهم بالجواب الجملي فقال

ص: 446

تعالى: ((إنّي أعلم ما لا تعلمون)) [البقرة/30] فإذا كفى الملائكة الجواب (1) الجملي كفى كثيراً من المسلمين، فأمّا فهم معنى الآيات؛ فقد قدّمنا أنّه لا يجب على جميع المسلمين من العامّة والعجم إجماعاً، وانّ معرفة البعض إذا كانت كافية في ذلك، فلا مانع من أن معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكفي في ذلك.

الفصل الثاني: وهو في المعارضات فهو نوعان:

أحدهما: معارضة الخصم بتأويل أصحابه المعتزلة لما هو أصعب تأويلاً من تلك الأحاديث، من آيات القرآن العظيم، الدّالّة على أنّه تعالى سميع بصير مريد، وأنّه الذي أوجب الواجبات الشّرعيّة، وحرّم المحرّمات الشّرعية، ورفع الحرج فيها عن المسلمين، وأراد اليسر في ذلك بالمؤمنين ونحو ذلك مما لا يصح عند المعتزلة إلا بتأويل ظاهر، وهذا النّوع ظاهر (2) لا سبيل إلى استقصائه، وقد ذكر قاضي القضاة، عبد الجبّار بن أحمد -وهو أحد علمائهم- ما يخالف مذهبهم من القرآن العظيم، فجاء في مجلّد كبير (3) ، فلنقتصر في هذا الوجه على هذه الاشارة، ففيها تنبيه على كيفية معارضتهم بهذه الطريقة، وقد ذكرت /في ((الأصل)) (4) طرفاً من الآيات التي تعسّفوا في تأويلها وحكموا بصحّة ذلك التّأويل، وبيّنت أنّ تأويل الأحاديث التي ذكرها المعترض أقرب من تأويلهم لتلك الآيات.

(1) في نسخة ((العلم)) كذا في هامش (أ) و (ي) ، وهو كذلك في (س).

(2)

في نسخة ((واسع)) كذا في هامش (أ) و (ي) ، وهو كذلك في (س).

(3)

وهو كتاب ((تأويل متشابه القرآن)) طبع في مجلد كبير.

(4)

(8/ 333 - وما بعدها).

ص: 447

النوع الثّاني: معارضة الخصم بإيراد شواهد تلك الأحاديث التي زعم أنّه لا يمكن تأويلها بذكر ما هو مثلها من القرآن العظيم، وأنّه يلزم من أقرّ بصحّة تأويل تلك الآيات أن يصحّح تأويل تلك الأحاديث التي انتقاها المعترض من أدقّ ما وجد في الحديث، وأبعد ما فيه عن التّأويل، وسوف أجيب عن جميعها، وأبيّن أنّ في القرآن ما هو مثلها، فمن تأوّله تأوّلها، ومن آمن به آمن بها، ومن ردّها لزمه أن يردّ ما هو في معناها من كلام الله تعالى: وهي هذه مرتّبة على ترتيب المورد لها:

الحديث الأوّل: الحديث الطّويل الوارد في صفة يوم القيامة وفي الشّفاعة، وفيه:((وتبقى هذه الأمّة فيها منافقوها، فيأتيهم الله فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: هذا مكاننا حتّى يأتينا ربّنا فإذا جاء ربّنا عرفناه، فيأتيهم الله فيقول: أنا ربّكم)) هذه رواية البخاري ومسلم (1) في حديث أبي هريرة.

وفي البخاري ومسلم (2) من حديث أبي سعيد: ((حتّى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من برّ وفاجر أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسّجود، ولا يبقى من كان يسجد اتّقاء ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلّما أراد أن يسجد خرّ على قفاه)) الحديث.

(1)((الفتح)): (13/ 430) ، ومسلم برقم (182).

(2)

((الفتح)): (13/ 431) ، ومسلم برقم (183).

ص: 448

وفي ((صحيح مسلم)) (1) من طريق أبي (2) الزّبير عن جابر بن عبد الله بلفظ السّماع من جابر رضي الله عنه نحو ذلك. وللحديث طرق ليس هذا موضع استيفائها، وفي بعض ألفاظ الحديث، ذكر التّجلّي، وفي بعضها ذكر وضع القدم في النّار، وفي بعضها ذكر الضّحك.

والجواب (3):

أنّه قد ثبت أنّ علماء التّأويل من أهل (4) المعاني والبيان وأهل الكلام قد أوّلوا آيات كثيرة في القرآن مثل قوله تعالى: ((هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة)) [البقرة/210] وقوله تعالى: ((هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربّك)) [الأنعام/158] وقالوا في هذه الآيات وأمثالها: إنّ إسناد المجيء والإتيان إلى الله تعالى مجاز وهو من باب الإيجاز، أحد

(1) برقم (191).

(2)

في (س): ((ابن)) وهو خطأ.

(3)

مقصود المؤلف هنا معارضة الخصم بأنه يمكن تأويل تلك الأحاديث التي أوردها، وأنه إذا لم يمكن تأويلها وجب ردّها بزعمه، فينقض عليه المؤلّف بتأويلات أصحابه المعتزلة لما هو أصعب تأويلاً من تلك الأحاديث - وإن كان المؤلف لا يرتضي هذا التّأويل- وإنما أورده للإلزام والمعارضة. وانظر المقدمة.

وأما ما أورده المؤلف من كلام النّووي وغيره في تأويل المجيء والصورة، فالجواب عليها مستفيض في كتب علماء السنة، انظر ((الردود والتعقبات)):(ص/171 - 190) لمشهور حسن. ومذهب أهل السنة في آيات الصفات وأحاديثها مشهور معلوم، ولله الحمد.

(4)

في (س): ((علماء)).

ص: 449

علوم المعاني، وهو: حذف بعض الكلام لدلالة القرينة على حذفه، والقرينة الدّالّة هنا هي القرينة العقليّة كالقرينة في قوله تعالى:((وسئل القرية التي كنّا فيها والعير)) [يوسف/82] أي أهل القرية وأهل العير، قالوا: والمعنى: وجاء أمر ربّك أو عذابه أو نحو ذلك من المقدّرات المحذوفة.

فنقول: إذا كان مثل هذا صحيحاً عندكم صحّ في الحديث مثله فيقال: إنّ إسناد المجيء فيه إلى الله تعالى مجاز وهو في الحقيقة مسند إلى ملك من ملائكة الله. وقوله في الحديث: ((أنا ربّكم)) أي: رسول ربّكم، وكذلك قولهم:((أنت ربّنا)) أي: رسول ربّنا، وإذا جاز تأويل لفظ على معنى جاز تأويله على ذلك المعنى، وإن كرّر مئة مرة، وهذا التأويل مفحم للمبتدعة، وقد كان /وقع في خاطري وكنت محباً أن أقف على مثل ذلك لأحد من أهل العلم لاستأنس بموافقته، فأسلم من وحشة الشّّذوذ، فوقفت عليه في ((شرح مسلم للنووي)) (1) رحمه الله ووجدته قد تأوّل الحديث بذلك فقال رحمه الله ما لفظه:((وقيل المراد ((يأتيهم الله)) أي: يأتيهم بعض ملائكته. قال القاضي عياض: وهذا الوجه أشبه عندي بالحديث قال: ويكون هذا الملك الذي جاءهم في الصّورة التي أنكروها من سمات الحدث (2) الظّاهرة على الملك والمخلوق، قال: أو يكون معناه يأتيهم الله في صورة، أي: بصورة ويظهر لهم من صورة ملائكته ومخلوقاته التي لا تشبه صفات

(1)(3/ 19 - 20).

(2)

في (س): ((الحدوث)).

ص: 450

الإله [ليختبرهم](1) ، وهذا آخر امتحان المؤمنين، وإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة:((أنا ربّكم)) رأوا عليه من سمات المخلوق ما يعلمون به أنّه ليس بربّهم ويستعيذون بالله منه.

وأمّا قوله: ((فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها)) فالمراد بالصّورة هنا الصّفة، ومعناه فيتجلّى لهم على الصّفة التي يعرفونها، وإنّما عبّر عن الصّفة بالصّورة لمشابهتهما ولمجانسة الكلام فإنّه تقدم ذكر الصورة، وأمّا قولهم:((نعوذ بالله منك)) فقال الخطّابي: يحتمل أن تكون الاستعاذة من المنافقين خاصّة، وأنكر القاضي عياض هذا، قال النّووي: وما قاله القاضي عياض هو الصّواب، ولفظ الحديث مصرّح به أو ظاهر فيه، وإنّما استعاذوا منه لما قدّمناه من كونهم رأوا سمات المخلوق. وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم:((فيتبعونه)) فمعناه يتبعون أمره إيّاهم بذهابهم إلى الجنّة)) انتهى ما ذكره النّووي رضي الله عنه.

وقوله في هذا التّأويل: فيتجلّى لهم على الصّفة التي يعرفونها، أراد به تجلّي الرّؤية على مذهب أهل الحديث والأشعرية وغيرهم، وقد صرّح به لكنّه سقط التّصريح له من هذا الكلام (2) ، ولم يحضرني ((شرح مسلم)) فانقل منه كلامه بنصّه (3).

(1) في ((الأصول)): ((لتحريهم))! والتصويب من ((شرح مسلم)).

(2)

في (س): ((الكلام المنقول)).

(3)

نصّه في ((شرح مسلم)): (3/ 20): ((وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: ((فيأتيهم في صورته التي يعرفون)) فالمراد بالصورة هنا الصفة، ومعناه: فيتجلّى الله سبحانه وتعالى لهم على الصّفة التي يعلمونها ويعرفونه بها، وإنّما عرفوه بصفته، وإن لم تكن تقدّمت لهم رؤية له سبحانه وتعالى؛ لأنهم يرونه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، وقد علموا أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، فيعلمون أنّه ربّهم، فيقولون:((أنت ربّنا)).

وإنما عبّر بالصورة عن الصفة .... )) اهـ، وانظر التعليق (ص/449).

ص: 451

وأمّا على مذهب المعتزلة فتأويل التّجلّي عندهم كتأويله في قوله تعالى: ((فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكاً)) [الأعراف/143]، ويكون المعنى عند المعتزلة على مقتضى أساليبهم في التأويل: فيتجلّى ما يدلّ على عظيم قدرة الله تعالى، وإحاطة علمه من عجائب أفعاله المعجزة لجميع المخلوقين التي يعلم بها أنّه المكلم.

وإنّما ذكرت تأويل الحديث على كلّ مذهب ليظهر للمعترض بطلان قوله: إنّ تأويل الحديث غير ممكن على مذهب المعتزلة، وأنه يجب على أصولهم ردّه، وقد ظهر أنّه لا يمكنهم ردّه، مع إقرارهم بما هو مثله في كتاب الله تعالى، وليس في الحديث الذي أورده المعترض ما يظنّ أنّه زائد على ما في القرآن إلا ثلاثة أمور:

أحدها: ذكر أنّهم سجدوا لتلك الصّورة، والجواب عنه من وجهين:

الوجه الأوّل: أنّه يجوز أن يكونوا قصدوا بالسّجود التّعبّد لله تعالى عند رؤيتهم لذلك الملك، تعظيماً لله تعالى حين رأوا من عظيم مخلوقاته ما يوجب ذلك.

الوجه الثاني: أنّه يجوز السّجود للملك على سبيل التّعظيم والتّكرمة، كما سجدت الملائكة لآدم عليه السلام ، وكما سجد إخوة يوسف له، فإنّ تحريم السّجود لغير الله حكم شرعي يجوز تغيّره إجماعاً.

ص: 452

الأمر الثّاني: مما ورد في الحديث، وليس في كتاب الله تعالى: ذكر الصّورة /وأنّه جاءهم على صورتين، والجواب من وجهين:

الوجه الأوّل: ما ذكره النّووي والقاضي عياض وقد تقدّم.

الوجه الثاني: وهو القاطع للّجاج أنّا قد ذكرنا أنّ الذي جاءهم ملك من ملائكة الله تعالى.

فإن قلت: لا يجوز أن يكون للملك صورتان، وإنّما المعروف أن له صورة واحدة.

فالجواب من وجوه:

الأوّل: أنّه لا مانع من ذلك فهو داخل في قدرة الله تعالى.

الوجه الثاني: أنّه قد جاء حديث صحيح يرفع الإشكال في ذلك، و [أنّه](1) جاءهم في الصّورة الأولى محتجباً عنهم، وفي الثانية متجليّاً لهم، رواه شيخنا النّفيس العلوي في ((كتابه الأربعين)) (2) وهو صحيح خرّجه الإمام شمس الدّين ابن قيّم الجوزية (3).

الوجه الثالث: ما تقدّم ذكره عن القاضي عياض والنّووي في تأويل الصّورة بالصّفة.

الأمر الثّالث: أنّه كثر في الحديث ذكر ما يقتضي التّشبيه الكثير حتّى صار ذلك فيه كالتّصريح، وليس في القرآن مثل ذلك.

والجواب عليه: أنّ هذا على أصول أهل التّأويل أقلّ إشكالاً لأنّ

(1) في (أ): ((وأنهم)).

(2)

راجع (ص/183) تعليق رقم (5).

(3)

((حادي الأرواح)): (ص/214 فما بعدها).

ص: 453

صفات المخلوقين كلما [كثرت](1) كانت أظهر دلالة على التّجوّز، وعلى حذف المسند إليه، وكان هذا أشبه بالاستعارة المجرّدة (2) التي يذكر فيها صفات المشبّه مثل قولنا: أسد شاكي السّلاح، حسن الثّياب، لطيف الأخلاق، فصيح الكلام، ونحو ذلك من تكثير القرائن اللفظيّة الدّالّة على التّجوّز، ولو أنّه بعد إسناد الإتيان إلى الله تعالى ذكر الصّفات المختصّة بالله تعالى كان أبعد عند أهل الصّنعة من التّجوّز، وكان أشبه بالاستعارة المرشّحة التي يذكر بعدها صفات المشبّه به كقوله في البيت المشهور:

* له لبد أظفاره لم تقلّم *

ونحو ذلك، وقد تقدّم ذكر ذلك في المقدّمة السّادسة في المرتبة الثّانية من مراتب التّأويل (3)، وإنّما قلنا: إنّ هذا الوارد في الحديث مثل المجاز الوارد في القرآن عند أهل التأويل؛ لأنّ كلّ واحد منهما مجاز في الإسناد وحذف المسند إليه من طرق الإيجاز في الكلام، وكلّما أردف التّجوّز من صفات المحذوف أو المذكور لم يكن في ذلك شيء من التّجوّز، وإنّما تكون فيه قرائن لفظية تدلّ على المبالغة في إظهار المقصود أو المبالغة في معنى التّجوّز، وأمّا التّجوّز فليس إلا في الإسناد على ما يعرفه علماء المعاني والبيان، والله أعلم.

وقد أبرق المعترض وأرعد على البخاري رضي الله عنه

(1) في (أ) و (ي): ((ذكرت)) والمثبت من نسخة صحيحة كما في هامش (أ) و (ي) ، ومن (س).

(2)

في (ي): ((بالمجاز المجرّد)) ، وكذا في هامش (أ) في نسخة.

(3)

(ص/427).

ص: 454

لروايته في الحديث ((فيكشف عن ساقه)) وهذا من الجهل المفرط، فإنّه لا فرق بين كشف السّاق، والمجيء عند أهل التّأويل في جواز إسناد الجميع من ذلك إلى غير الله، وامتناع إسناده إليه سبحانه وتعالى، وكذلك قوله في الحديث:((فيضع الرّبّ قدمه)) أي فيضع رسول الرَّبِّ قدمه، أو نحو ذلك، وهذا النّوع من التّأويل عربي فصيح، ومنه قول جبريل عليه السلام فيما حكى الله عنه:((لأهب لك غلاماً زكيّاً)) [مريم/19] في إحدى القراءتين (1)؛ ومنه قول عيسى عليه السلام: ((وأحيي الموتى بإذن الله)) [آل عمران/49] أراد: ويحيي الله الموتى عند إرادتي لذلك، ومنه الحديث الصّحيح الذي أخرجه مسلم في ((صحيحه)) (2) عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إنّ الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني /، قال: يارب! كيف أعودك وأنت ربّ العالمين؟ قال: أما علمت أنّ عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنّك لو عدته لوجدتني عنده)) الحديث إلى آخره.

وهو صحيح صريح في صحة مجاز الحذف الذي نحن فيه، وكذلك ما ورد في الحديث من ذكر الضّحك فهو أسهل من هذا كلّه، إن شئنا جعلناه من قبيل الإيجاز وحذف المسند إليه، ويكون مسنداً في الحقيقة إلى الملك، وإن شئنا جعلنا التّجوّز في الضّحك لا في

(1) القراءة الأخرى: ((ليَهَبَ لم غلاماً)) ، وهي قراءة أبي عمرو ويعقوب، ونافع برواية وَرْش. انظر:((المبسوط)): (ص/243) للأصبهاني.

(2)

برقم (2569) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 455

الإسناد، ويبقى الضّحك المجازيّ مسنداً إلى الله تعالى، فقد صحّ نسبة العجب والغضب والرّضا إلى الله تعالى، وكلام أهل التّأويل في هذه الأمور متقارب، وقد اشتهر في لغة العرب التّجوّز في الضّحك، وشحن البلغاء أشعارهم بذكر ضحك البروق والأزهار والأنوار، وقد فسّروا ضحك الرّبّ برضاه. وذكر ابن متّويه المعتزلي ضحك الأرض في المجاز وأنشد في ذلك:

* تضحك الأرض من بكاء السّماء *

وقد اتّسع البلغاء في ذلك حتّى نسبوا الضّحك إلى القبور، فدع نسبته إلى الأنوار والزّهور! قال المعرّي (1):

ربّ قبر صار [قبراً](2) مراراً

ضاحك (3) من تزاحم الأضداد

وقد أذكرني التّجوّز في الضّحك ليلة عجيبة كانت مرّت بي، طلع القمر فيها، وهو في غاية (4) التّمام والإنارة، وكان طلوعه من الجانب الشّرقي في حال التماع بروق منيرة من الجانب الغربي، مع مطر وحنين رعود، واجتمعت الأنوار مع زهور رياض مختلفة الألوان في المكان الذي نحن فيه، وكان ذلك عقيب وداعنا لبعض إخواننا رعاه الله تعالى، فقلت في ذلك:

(1)((سقط الزند)): (3/ 971).

(2)

في (أ) و (ي): ((لحداً)) والمثبت من ((سقط الزند)) ، و ((العواصم)):(8/ 343).

(3)

في (أ) و (ي): ((ضاحكاً)) والتصويب من ((سقط الزند)).

(4)

في (س): ((نهاية)) ، وأشار إلى نحو ذلك في هامش (أ).

ص: 456

وليلة ضحكت أنوارها طرباً

بروقها (1) وزهور الأرض (2) والقمر

فكدت أضحك لولا حنّ راعدها

حنين شاكّ ولولا أن بكى المطر

فذكّر الرّعد قلبي في تحنّنه

حنين خلّي لمّا أن دنا السّفر

فنحت حتّى تباكت كلّ ضاحكة

من الثّلاث وحتّى رقّ لي الشّجر

وهذا المعنى مطروق مشهور في أشعار المتقدّمين والمتأخّرين. فإن قلت: إنّ هذه التّجوّزات التي في الأشعار تخالف ما في القرآن والسّنّة، فإنّ من سمع الآيات والأحاديث الواردة في الصّفات لم يفهم التّجوّز إلا أن يكون من العلماء الذين قد خاضوا في الكلام وسمعوا التّأويل، وأمّا الأشعار المذكورة فكلّ من سمعها فهم التّجوّز فيها من الخاصّة والعامّة.

والجواب: أنّ السّبب في ذلك ظاهر، وهو أنّ القرينة الدّالّة على التّجوّز في الأشعار معلومة بالضّرورة لكلّ سامع، فإنّ كلّ عاقل يعرف أنّ الضّحك الحقيقيّ يستحيل صدوره من الرّياض والبروق والشّمس والقمر، ونحو ذلك، بخلاف ما قدّمنا، فإن القرينة فيه خفيّة دقيقة، قد اختلف في تحرير الدّليل عليها أذكياء الخاصّة من أئمة الكلام، وردّ بعضهم دليل بعض. ومن هنا ترك أهل الحديث التّأويل مدّعين أنّ شرط حسن المجاز عندهم /سامع الكلام للقرينة الدّالّة على التّجوّز حتّى تصرفه معرفته بها عن اعتقاد ظاهر الكلام، ولذلك

(1) في هامش (ي) ما نصّه:

((كأنّ بروقها وما بعدها بدل من أنوارها، بدل تفصيل)) تمت القاضي محمد.

(2)

في ((العواصم)): ((الروض)).

ص: 457

أجمعوا على تأويل حديث: ((الرّكن يمين الله تعالى)) (1)، وحديث:((إنّي أجد نفس الرّحمن من جهة اليمن)) (2) ونحوهما.

وأجمعوا على تأويل قوله تعالى ((ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)) [ق/16] وقوله تعالى: ((إلا هو معهم أين ما)) [المجادلة/7] ونحوهما لما كانت القرينة معروفة عند المخاطب، قالوا: والمعلوم من أحوال المسلمين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم المعرفة بالأدلّة الكلاميّة الموجبة للتّأويل.

وأمّا المتكلّمون ومن اختار التّأويل؛ فإنّهم لم يشترطوا في حسن المجاز إلا تمكّن السّامع من معرفة القرينة ولو بالنّظر الدّقيق والبحث الطّويل، ولما اضطرب النّاس في هذا ودقّ الكلام فيه، وعظم الخطر، اعتصم الجماهير من أهل السّنّة بالإقرار بما ورد في الآيات والأحاديث، على الوجه الذي أراده الله تعالى، مذعنين للعلم بذلك الوجه، لا رادّين لما ورد في ذلك من السّمع، ولا مشبّهين لله تعالى بما لحقه من صفات النّقص، معتقدين أنّ الله تعالى كما وصف نفسه في قوله تعالى:((ليس كمثله شيء)) [الشورى/11] منزّهين لله تعالى

(1) أخرجه الأزرقي في ((أخبار مكة)): (1/ 32) عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً. وأخرجه ابن عدي في ((الكامل)): (1/ 342)، والخطيب في ((تاريخه)):(6/ 328) ، وفي سنده إسحاق بن بشر الكاهلي، وهو وضّاع.

وانظر: ((الضعيفة)) رقم (223)، و ((كشف الخفاء)):(1/ 417).

(2)

ذكره في ((كشف الخفاء)): (1/ 251)، وفي ((تذكرة الموضوعات)):(ص/101)، ونقلا عن العراقي أنّه قال:((لا أصل له)).

ص: 458

من كلّ ما يقتضي النّقص من شبه المخلوقين في أفعالهم وذواتهم وصفاتهم، وهذه عقيدة صالحة منجية لمن اعتقدها، ومن ضلّل أهلها لزمه تضليل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتضليل جميع المسلمين إلا طائفة المتكلّمين، وذلك يعود إلى الإدغال في الدّين والقدح على سيّد المرسلين، ونعوذ بالله من تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين.

وقد دخل تحت هذه الجملة تأويل حديثين أوردهما المعترض في هذا المعنى، ثمّ إنّه أردفهما بحديث جرير بن عبد الله البجلي في الرّؤية، وهو الحديث الثّالث، ونظمه في سلكهما، وقد تقدّم الكلام على صحته، وأنّه متواتر المعنى، وأنّ شواهده مرويّة عن أكثر من ثلاثين صحابيّاً في أكثر من ثمانين حديثاً.

وأمّا الكلام على معناه:

فأمّا أهل الحديث: فيؤمنون به كما ورد على الوجه الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأمّا المتكلّمون من الأشعرية والمعتزلة والشّيعة: فيجتمعون على أنّه تعالى لا يرى في جهة متحيزاً كما يرى القمر، ثمّ يفترقون في تفسير معناه، ولا حاجة إلى نقل ألفاظهم في ذلك فإنّه معروف في مواضعه، وإنّما غرضنا هنا بيان بطلان ما زعم المعترض من اشتمال كتب الحديث الصّحيحة على ما يجب تكذيب راويه، وهذا الحديث مما لا يمكن تكذيب راويه لأنّه حديث متواتر كما قدّمنا، ومن أنكر ذلك لم يزد على أنّه ادّعى على نفسه (1) الجهل بتواتره، ونحن نسلّم له

(1) في (ي) و (س): ((لنفسه)).

ص: 459