الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث النّبويّ على صاحبه السّلام، لأنّ ظاهره يقتضي أن يحتجّ العصاه بالقدر على الله تعالى، وذلك ممنوع بإجماع المسلمين، وإنّما يحتجّ به من تاب من ذنبه عند أهل السّنّة كما ذكره شرّاح الحديث على صاحبه السّلام.
وعندي في الجواب عنه وجه واضح، وقبل الكلام عليه أشير إلى تمهيد (قاعدة)، وهي: أن الأمّة أجمعت على عصمة الأنبياء عليهم السلام عن الجهل بالله تعالى وصفاته وقواعد شرائعه، وعلى صحّة عقائدهم فيما يتعلّق بأفعال الله وحكمته وجلاله. وهذه القاعدة تقتضي المنع من تجويز وقوع المنازعة بين الأنبياء عليهم السلام في أمر من الأمور الدينية، فإن وقع بينهم ما يشبه ذلك علمنا أنّه ليس على طريق دفع الحقّ بالمماراة، ولا على سبيل اللّجاجة في المجادلة، وإنّما يكون على سبيل الموعظة والمعاتبة وطلب الزّيادة في المعرفة، مثال ذلك: ما جرى بين موسى وهارون، وبين موسى والخضر -سلام الله عليهم-، فمناظرتهم على /سبيل الموعظة والعتاب، لا على سبيل الجهل بالحقّ في أمر الدّين ولا الدّفع له، فهم معصومون عن ذلك، وإذا (1) كانت محاجّتهم من هذا القبيل، لم تدخلها البراهين العقلية، ولم تقرّر على القواعد القطعيّة، وحسن منهم فيها الاسترواح إلى الاحتجاج بما يجري به الاعتذار في مألوف العادات ولطيف المخاطبات، فلنتكلّم في ثلاثة فصول:
الفصل الأول:
في الدّليل على أنّ محاجّتهما عليهما السلام
(1) سقطت من (س).
ليست برهانية، والدّليل على ذلك: أنّهما لم يتنازعا في أمر يصح فيه من مثلهما الجهل المحض الذي لا يغسل أدرانه إلا صريح البراهين القاطعة، ولا يجلو ظلامه إلا شروق الأدلّة الصّادعة، وقد ظهر هذا من كلامهما ظهوراً لا يخفى.
أمّا موسى فإنه هو الذي بدأ الخطاب، وفتح هذا الباب، فسأل آدم عليه السلام عن كيفية ذنبه، وأكله الشّجرة وأتى بكيف الإنكارية، ولا شكّ أنّ السّؤال عن الكيفية المحقّقة غير مقصود، فإنّه يعرف كيف أكل الشّجرة، فلم يقصد حقيقة السّؤال، وإنّما قصد إظهار التّعجّب والاستنكار (1) لما فعله آدم عليه السلام وورود ((كيف)) بمعنى ذلك كثير شهير، من ذلك قوله تعالى:((كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم)) [البقرة/28] فإنّه تعالى لم يرد محض السّؤال عن كيفية الكفر، ويؤيّد ما ذكرته: أنّ موسى عليه السلام قدّم قبل السؤال، عن كيفية أكل الشجرة، السّؤال عن اصطفاء الله تعالى لآدم، ثمّ عقب ذلك السّؤال عن كيفية وقوع الذّنب منه، فظهر أنّه أراد كيف كان منك الذي كان من الذّنب، وأنت من الله تعالى بتلك المنزلة الرّفيعة والمحلّ العظيم!؟ ويؤيّد ما ذكرته من أنّ موسى عليه السلام قصد المعاتبة، أو معرفة هذا السّبب العجيب الذي أوقع آدم عليه السلام في ذلك مع جلالة قدره: أنّ موسى عليه السلام أجلّ من أن يجهل أنّ التّائب من الذّنب غير مستحق للذّمّ، وأدنى أهل
(1) في (س): ((والاستشكال)).
التّمييز يعرف ذلك في جميع العصاة، فكيف لا يعرفه موسى عليه السلام في حقّ أوّل أنبياء الله عليهم السلام الذي أسجد الله له الملائكة الكرام!؟ فيجب ألا يكون قصد موسى عليه السلام مجرّد اللوام، وإنّما أخرج الكلام مخرج التّعجّب والاستغراب من وقوع مثل ذلك من أهل مقام النّبوّة، سيّما ممّن أسكنه الله الجنّة وأسجد له الملائكة، وعلّمه الأسماء، وهداه واصطفاه، وحذّره من الشّيطان، ونهاه عن الشّجرة بعينها، وقطع معه الأعذار كلّها، فأراد موسى السّؤال عن السّبب الموقع /في ذلك مع استغراب شديد لوقوع الذّنب ممّن هذه حاله، واستطراف عظيم يهيج أسباب التنديم والتّحزين على ما كان.
وأمّا آدم عليه السلام فجوابه يحتمل وجهين:
الوجه الأول: أن يكون قصد تهوين ما ظهر من موسى عليه السلام من عظيم الاستغراب، وشديد الاستطراف لوقوع الذّنب منه، فأتى بما يمحو آثار الاستغراب والتّعجّب، ويحسم مادّة الاستنكار العتابي، وهو: سبق العلم، وجفوف القلم بجميع ما كان منه، ولا شك أنّها حجّة مسكتة للمتعجّب من وقوع الشّيء المستغرب له السّائل عن وقوعه بكيف الإنكارية، وبيان ذلك: أنّ الله تعالى لو أخبرنا بوقوع أمر من أفعالنا في وقت ثمّ لم يقع لكان هذا بالضّرورة ممّا يتحيّر العقلاء في الجواب عنه، ويتبلّد الأذكياء في معرفة وجهه، فإذا تقرّر ذلك؛ ثبت أنّ وقوع الشّيء مطابقاً لما مضى فيه من علم الله تعالى غير مستنكر في العقل ولا يدفع في النّظر، إذ من المستقبح أن يقول القائل: كيف وقع ما أخبر الله به مثل ما أخبر؟ أو كيف وقع الذي علم