الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المعترض: ويقال: ما تقول إذا وردت شبهات الملحدين ومشكلات المشبّهة والمجبّرة المتمرّدين، وقد ساعدك النّاس إلى إهمال النّظر في علم الكلام؟ وهل هذا إلا مكيدة للّدين؟ إلى آخر ما ذكره.
أقول: لا يخلو الكفرة إمّا أن يطالبوا (1) منّا أدلّتنا حتّى يسلموا أو يوردوا علينا شبههم حتّى نترك الإسلام، فهاتان مسألتان.
أمّا
المسألة الأولى:
وهي إذا سألونا أدلّتنا حتّى يسلموا، فالجواب من وجوه:
الوجه الأوّل: أن نقول لأهل الكلام: ما تقولون للكفرة إذا قالوا: إنّ أدلّتكم [المحرّرة](2) في علم الكلام شبهه ضعيفة وخيالات باردة، كما قد قالوا ذلك وأمثاله، فما أجبتم به عليهم بعد الاستدلال (3) والنّزاع والخصومة؛ فهو جوابنا عليهم قبل ذلك كلّه.
فإن قالوا: إنّه يحسن منا بعد (4) إقامة البراهين العقليّة (5) أن نحكم عليهم بالعناد ونرجع إلى الإعراض عنهم وإلى الجهاد، وأمّا أنتم فإنّه يقبح منكم ذلك قبل إقامة البراهين.
قلنا لهم: إنّ الحجة لله تعالى عليهم قد تمت -قبل أن تذكروا
(1) في (س): ((يطلبوا)) ، وهو كذلك في نسخة كما في هامش (أ) و (ي).
(2)
زيادة من (ي)، ووقع في (س):((المحبّرة)).
(3)
في (أ) و (ي): ((بعد الاستدلال والقول .... )) ثم وضع الناسخ على كلمة ((القول)) علامة الحذف.
(4)
سقطت من (س).
(5)
في (س): ((قبل)).
لهم تلك البراهين- بما خلق الله تعالى لهم من العقول، وأرسل إليهم من الرّسل، فكما أنّهم لو ماتوا على كفرهم قبل مناظرتكم لهم حسن من الله تعالى أن يعذّبهم بالنّار، فكذلك يحسن منّا أن نقول لهم قد أقام الله الحجّة عليكم وعرّفكم صحة ما أمركم بالإقرار به من الإسلام، وإنّما كلّفنا
…
(1أن ندعوكم إلى الإقرار مما قد عرّفكم به وكلّفنا (1) بجهادكم إن لم تجيبوا إلى ذلك، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولنا فيه أسوة حسنة في فعله وقوله؛ أمّا فعله فظاهر فإنّه معلوم من الدّين ضرورة أنّه كان يقاتل الكفّار قبل المناظرة بالأدلّة، وإنّما اختلف في قتالهم قبل الدّعوة وصحّ أنّه صلى الله عليه وسلم قاتلهم قبل الدّعوة، في آخر الأمر.
وأمّا قوله: فإنّه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلا الله)) (2) الحديث، ولم يقل فيه: أمرت أن أجادل النّاس حتّى يقولوا ذلك، وكذلك قال الله تعالى:((إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد)) [الرعد/7] وقالت الرسل الكرام عليهم السلام: ((وما علينا إلا البلاغ المبين)) [يس/17].
وتحقيق هذا الجواب: أنّ أهل الكلام إمّا أن يحكموا على الكفّار قبل المناظرة وفي خلالها بأنّهم معذورون لا إثم عليهم في الكفر، أو لا، فإن قالوا بالأوّل، خالفوا المعلوم من ضرورة الدّين وإجماع المسلمين، وإن قالوا بالثّاني قلنا/ لهم: فالحكم الذي حكمتهم عليهم به بعد المناظرة قد كان حاصلاً قبلها، فإن كان قصدكم
(1) ما بينهما ساقط من (س).
(2)
تقدّم.
بالمناظرة العلم بعنادهم فهو معلوم قبلها، إذ لو لم يكونوا معاندين كانوا معذورين غير معذّبين عند الله ولا ملومين، لأنّ التّكليف بما لا يعلم ولا يمكن غير جائز ولا واقع، على ما هو مقرّر في مواضعه، وإن كان قصدكم بالمناظرة تمكينهم من معرفة الله فقد مكّنهم الله تعالى من ذلك وهو غير متّهم في إقامة الحجّة وقطع العذر.
وفي ((صحيح البخاري)) (1) مرفوعاً: ((ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرّسل)).
الوجه الثّاني: أنّ الكفّار متى سألونا الدّليل على ثبوت الإسلام، قلنا لهم: انظروا في ملكوت السّماوات والأرض ومعجزات الأنبياء ونحو ذلك من أدلّة الإسلام على الإنصاف وطلب معرفة الحق، فإنّ نظرنا لأنفسنا لا يولّد العلم لكم (2) ، وذكرنا للأدلّة التي نظرنا في صحّتها لا ينفعكم أيضاً، فإنّ ذكرها لكم من غير أن تنظروا في صحّتها لا يولّد العلم لكم، وعلى الجملة؛ فإيجاد العلم بصحة الإسلام في قلوب الكفّار غير مقدور للمسلمين لا بأدلة الكلام، ولا بأدلّة السّلف. لأنّ وجود العلم متوقف إمّا على نظر الكفّار على الوجه الصّحيح أو على خلق الله تعالى له، وكلاهما غير مقدور لنا، فلم يبق إلا أنا نأمرهم بأن ينظروا فيما نظرنا فيه على مقتضى ما خلق الله في عقولهم السّليمة، ومقتضى ما علّمهم الله على ألسنة أنبيائه الكرام عليهم الصّلاة والسّلام، فبمجموع العقل وبعثة الرّسل تمّت الحجّة عليهم بإجماع
(1)((الفتح)): (13/ 411) ، ومسلم برقم (1499) من حديث المغيرة بن شعبة
…
رضي الله عنه
(2)
سقطت من (س).
المسلمين بل إجماع العقلاء المنصفين، قال الله تعالى:((لئلا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرّسل)) [النساء/165] وأمثال ذلك، وإذا كانت حجّة الله علينا وعليهم إنّما هي العقل، وبعثة الرّسل، ونحن فيهما على سواء في القدر الذي تقوم به الحجّة، ويحصل معه التّمكّن من الإسلام، لم يجب علينا أن نعرّفهم بأمر قد شاركونا في التّمكّن من معرفته بغير علم منّا.
ألم تر أنّه لم يجب على المفتي أن يفتي العامّيّ في حضرة الرّسول، فكذلك لا يجب علينا أن نعرّف الكفّار بمقتضى العقول مع وجود العقول، فإن قال الكافر: إنّي قد نظرت في جميع ما ذكرتم بجهدي فلم أجد شيئاً ممّا ذكرتم يدلّ على الإسلام، فإنا نقطع على أنّه كاذب معاند، مثلما أنّ المتكلّمين يقطعون على ذلك بعد المناظرة، فإنّما علمنا أنّهم معاندون في ذلك -مع أنّه غيب لا سبيل لنا إلى معرفته- لأنّ الله تعالى أخبرنا بذلك حيث يقول:((قل فلله الحجّة البالغة)) [الأنعام/149] وغير هذه الآية الكريمة. وبمعنى هذا الجواب جاء القرآن صريحاً، قال الله تعالى:((إنّ الدّين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب، فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأمّيين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ والله بصير بالعباد)) [آل عمران/19 - 20] فما تركت هذه الآية شيئاً مما ذكرناه والحمد لله.
فإن قلت: قد يكون في النّاس من هو بليد لا يستطيع أن ينظر وحده، ولا يعرف الأدلّة إلا بالتّعليم فيجب تعليمه.
والجواب/ من وجوه:
الأوّل: لا سبيل على قواعدكم إلى العلم القاطع بوجود من هو كذلك. سلّمنا، فإنّ الله تعالى حين يعلم منه النّظر وطلب الحقّ يلهمه ويمكّنه لا محالة. وسلمنا أنّ الله تعالى لم يمكّنه من ذلك لبلادته، فمن أين أنّه مكلّف بالعلم؟ وما المانع من أنّه غير مكلّف عند من لا يجيز التّقليد في هذه المعارف، ويكون لاحقاً بالصّبيان المميّزين العارفين بالعلوم الضّرورية؟ أو يكون مكلّفاً بالتقليد أو ما يقوم مقامه من الظّنّ عند من يجيز ذلك، كأبي القاسم الكعبي من المعتزلة، والمؤيّد من الزّيدية، وغير واحد من أهل السّنة.
الوجه الثّاني: أن نقول: قد يكون في النّاس من لا يفهم الأدلّة المحقّقة بالتعليم -أيضاً- لشدّة بلادته، فما أجبتم به (1) فهو جوابنا. فإن قلتم: الأدلّة تمنع وجود مثل هذا، فإن وجد فغير مكلّف، قلنا: ونحن نقول بمثل هذا فيمن لا يتمكّن من معرفة الإسلام بمجرّد خلق العقل وبعثة الرّسل.
الوجه الثّالث: أنّ الذي يعرفه أهل الجهل من المسلمين يكفي أهل البلادة من الكفّار، فإنّه لا يطالب بالأدلّة الدّقيقة -التي لا يعرفها إلا علماء الكلام- إلا أهل الذّكاء من الكفّار، وأهل الذّكاء منهم قد تمّت عليهم الحجّة ومكّنهم الله من المعرفة، ولا يجب علينا تعريفهم بما هم ممكّنون من معرفته من غير تعريفنا كما تقدّم.
(1) في (ي): ((فيه)) وفي هامش (أ) إشارة إلى أن ذلك في نسخة.
الوجه الثالث: من (الأصل)(1) أنّ (2) كلّ مسلم يبذل جهده في دعاء الكفّار إلى الله تعالى بالدّليل والموعظة، على قدر قوّة عقله وبلاغة منطقه، من متكلّم أو محدّث أو عامّيّ، ولا يجب تعلّم الكلام لذلك، فليس كلّ من قرأ الكلام تمكّن من تمييل القلوب المصرّة على الكفر إلى الإسلام، وإنّما يتمكّن من ذلك من أهل الكلام من آتاه الله تعالى صفاء الذّهن، وحسن الفهم، والبراعة في تعليم غوامض العلم، وأهل هذه الصّفة العزيزة قليل من المتكلّمين وغير محتاجين إلى تعلم الكلام، بل في فطرهم ما يكفيهم، كما كان الذين ابتكروا علم الكلام وسبقوا إليه.
الوجه الرابع: سلّمنا أنّه من عرف علم الكلام تمكّن من محاجّة الكفّار وإفحامهم دون غيره، ولكن ذلك لا يجب ولا يستحب، أمّا أنّه لا يجب فلعدم ما يدلّ على وجوبه، وأمّا أنّه لا يستحب فلما يخاف من المضرّة الحاصلة بمعرفته كما تقدّم تحقيق ذلك في (الوهم الثّاني عشر)(3).
فإن قيل: قد ورد في السّمع ما يدلّ على وجوب البيان على العلماء؛ فالجواب من وجوه:
الوجه الأوّل: أنّ المراد بذلك بيان ما لم يبيّنه الله تعالى للعامّة إلا بواسطة علماء الشّريعة، من أحكام الفروع وأركان الشّريعة، وأمّا العلوم العقلية التي ساوى الله تعالى بين الجميع فيها فلا يجب
(1) أي: من تحقيق الجواب عن المعترض انظر (ص/570، 572).
(2)
سقطت من (س).
(3)
(ص/326).
تعليمها لأنّ ما لم يتعلّق بالإسلام من ذلك لم (1) يجب إجماعاً، وما يتعلّق بالإسلام منه فقد بينه الله تعالى، وما بينه الله لم تجب إعادة البيان، ألا ترى أنّ ما بيّنه بعض العلماء لم تجب إعادة بيانه، مع أنّه ربما ظنّ أنّه قد بيّن للخصم ولم يتبيّن للخصم صحّة ما ذكره، فأولى وأحرى أن لا تجب إعادة بيان ما بينه الله تعالى، لأنّه يعلم البواطن ويعلم أنّه قد أقام الحجّة، وقد أعلمنا بذلك فعلمنا بخبره لنا قيام الحجّة على الكفّار، وكان ذلك أتمّ من مناظرتنا لهم، غاية ما في الأمر أنّ هذا تخصيص للعمومات الموجبة لتعلّم (2) الجاهل، فهو تخصيص صحيح لأنّه تخصيص بالعقل، وتخصيص العموم جائز عند جماهير (3) العلماء بالقياس الظّنّي، كيف بالدّليل العقلي!.
الوجه الثّاني: أنّا نخصّص تلك العمومات بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنّه عليه السلام لم يشتغل ببيان كيفية النّظر وتعليم العقلاء ذلك، بل دعا النّاس إلى الإسلام، وقاتلهم عليه وبلّغ ما أوحي إليه، والعلماء ليسوا أبلغ من الأنبياء، وقال تعالى في حقّ الأنبياء:((وما علينا/إلا البلاغ المبين)) [يس/17] كذلك العلماء فإنّما هم ورثة الأنبياء، وأهل السّنة قد قاموا بحقّ الوراثة للعلم النّبوي، وقد علمنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرنا بالمناظرة قبل قتال الكفّار، وإنّما أمرنا بالدّعاء قبل القتال حتّى اشتهرت الدّعوة النبوية وقاتل عليه السلام قبل الدّعوة.
ومن المعلوم أنّ الكفّار لو اعتذروا بالشّبه وجاءوا بفيلسوف
(1) في (س): ((لا)).
(2)
في (س): ((لتعليم)).
(3)
سقطت من (س).
يجادل عنهم، وطلبوا من النّبي صلى الله عليه وسلم ترك الجهاد حتّى يتعلّموا أدلّة علم الكلام، ويجيب النّبي صلى الله عليه وسلم على (1) جميع شُبه الفلاسفة القادحة في العلم حتّى يؤمنوا على يقين، ما عذرهم النّبي صلى الله عليه وسلم في الكفر يوماً واحداً، وكيف يمهلهم ويترك جهادهم حتّى يتعلّموا ذلك! وتعلّم ذلك على الوجه المرضيّ لم يحصل لأهل الّدربة في النّظر إلا في مدّة طويلة، وإذا جازت المهلة في مدّة النّظر حتّى يحصل للنّاظر العلم بما ذكره المعتزلة، وجب الرّجوع في معرفة مدّة المهلة إلى النّاظر، لأنّ النّاس يختلفون في سُرعة حصول العلم بالنّظر على حسب فطنهم، ومعرفة ذلك بالوحي بعد انقطاعه غير ممكنة، فلزم الخصم أمهال من اعتذر بذلك حتّى يقرّ بحصول العلم له وأنّه معاند، أو الرّجوع إلى ما بدأ به أهل الحديث من الدّعاء والجهاد والاكتفاء ببيان الله تعالى.
الوجه الخامس: أنّها وردت نصوص تقتضي العلم أو الظّنّ أنّ الخوض في الكلام على وجه التحكيم للأدلّة العقلية في المحارات الخفيّة، وتقديمها على النّصوص السّمعية مضرّة عظيمة، ودفع المضرّة المظنونة واجب عقلاً بإجماع الخصوم ودليل المعقول.
فإن قالوا: وفي ترك علم الكلام خوف مضرّة أيضاً.
فالجواب: أنّ تسمية المرجوح خوفاً غيرُ مسلّم، وإلاّ لسُمّينا خائفين لسقوط الأبنية القائمة الصّحيحة علينا.
وسلّمنا أنه يسمّى خوفاً. لكن دفع المضرّة الموهومة أو المجوّزة لا يجب، لا سيما إذا لم يندفع إلا بارتكاب ما فيه مضرّة
(1) في (س): ((عن)).