الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد ذكرت في ((الأصل)) (1) من ذلك ست مراتب وطوّلت القول فيها، وقد رأيت الاقتصار في هذا (المختصر) على ذكر ثلاث مراتب.
المرتبة الأولى: حمل الكلام على التّخيّل
وهو رؤية مثال الشّيء في اليقظة، وهو كالمنام، إلا أنّه يكون في اليقظة، والأشعرية يجوّزون هذا، والمعتزلة تنكره إلا في حال النّوم، وعند تغيّر العقل من مرض أو غيره، ومن جوّزه يحتجّ له بأمور:
أوّلها: قوله: ((فلما ألقوا سحروا أعين النّاس واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم)) [الأعراف/116] وقوله تعالى: ((يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى)) [طه/66] وهذا مع نصّ القرآن عليه معلوم من أحوال السّحرة وخواصّ السّحر، وفيه دليل على صحّة (2) ما أنكرته المعتزلة من رؤية ما لا وجود له في الحقيقة مع صحّة العقل.
وثانيها: أنّ ذلك من العلوم الضّرورية التّجريبيّة المتواترة عن أرباب الرّياضيات وملازمة الخلوات، فإنّهم يرون في اليقظة مثل ما يرى النّاس في النّوم، ويسمعون مخاطبات من غير رؤية مخاطب، وقد ذكر الفخر الرّازي في ((المفاتيح)) أنّ هذا مما اعترفت به الفلاسفة / ولم تنكره، وإنما وقع النّزاع في ماهيّة ذلك، فأمّا جحده فعناد ودفع للضّرورة، وفيه ما يدلّ على بطلان قول المعتزلة.
وثالثها: أنّه قد ثبت بالضّرورة أنّ العاقل المستيقظ قد يتخيّل الشّيء الواحد اثنين، ويتخيّل المستقيم معوجّاً، كما يتخيّل العود في
(1)(8/ 290 - 320).
(2)
في (س): ((حجة)) وهو تحريف.
الماء، وهذا ممّا وافقت عليه المعتزلة، وهو يدلّ على جواز ما ذكرناه من صحّة تخيّل العاقل لما لا وجود له؛ لأنّ كلّ ذلك بصر كاذب في حال الصّحّة واليقظة؛ وإنّما كذب بخلل وقع وعذر اتّفق.
وهذه المرتبة الأولى من مراتب التّأويل، ذكرها أبو حامد الغزّالي وجعل منها حديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وهذا المثال غير مطابق؛ لأنّ الكلام في حال اليقظة غير (1) المنام، وكذلك أهل السّنة فإنّهم قد تأوّلوا أشياء بهذا التّأويل، ولكن بشرط المنام كما قالوا في حديث حمّاد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عبّاس في رؤية النّبي صلى الله عليه وسلم لربّه عز وجل على تلك الصّفة المنكرة، وقد ذكره الذّهبي في ترجمة حمّاد في كتاب ((الميزان)) (2) وساق طريقه ثمّ قال:((فهذه الرّؤية إن صحّت رؤية منام)).
وممّا جاء التّصريح في متن الحديث بأنّه كان في المنام قول أنس مرفوعاً في حديث المعراج: ((ثمّ دنا الجبار تعالى فتدلّى، فكان قاب قوسين أو أدنى)) (3).
(1) في (س): ((دون)).
(2)
(2/ 116 - 117) بنحوه.
(3)
أخرجه البخاري ((الفتح)): (13/ 486) من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس، وقد خالف شريك في روايته لحديث الإسراء جماعة الحفاظ بأشياء، ذكر الحافظ في ((الفتح)):(13/ 493 - 494) انها تزيد على عشرة أشياء.
منها: أن الإسراء كان مناماً.
ونسبة الدّنو والتدلي إلى الله عز وجل، والمشهور في الحديث أنه جبريل.
ومنه ما رواة التّرمذي (1) من حديث عبد الرّحمن بت عائش رضي الله عنه عن النّبي صلى الله عليه وسلم: ((أتاني ربّي في هذه اللّيلة فقال لي: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى)) ، فقد جاء في الحديث ما يدلّ على أن هذا كان في المنام، فهذا كلّه متعلّق بالمنام.
وأمّا ما ورد من ذلك عن النّبي صريحاً في اليقظة، وهو على سبيل التّخيّل؛ فلا أعلم أهل الحديث ذكروا من ذلك شيئاً، إلا ما ذكره ابن قتيبة في حديث موسى عليه السلام وأنّه فقأ عين ملك الموت عليه السلام كما سيأتي تحقيقه. قال ابن قتيبة (2):((أذهب موسى العين التي هي تخييل وتمثيل وليست حقيقة خلقته، (2وعاد ملك الموت إلى حقيقة خلقته (3) الرّوحانية كما كان لم ينقص منه شيء)) فهذا أكثر ما وجدت لأهل الحديث من التّأويل بهذا الوجه، مع أنّه لم يجعله من صريح هذا الوجه ولو جعله منه لقال: إن موسى في الحقيقة ما فقأ عيناً قط، وإنّما خيل إليه ذلك، فإن كان قصد هذا فقصرت عبارته عن مراده.
وقد جاء في الأحاديث ما هو صريح في جواز وقوع هذا الوجه، ولكنّه ورد على جهة التّصريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على جهة التّأويل
(1)((الجامع)): (5/ 343)، وقال عقبه:((هذا حديث حسن صحيح. سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح .... )) اهـ.
(2)
((تأويل مختلف الحديث)): (ص/187).
(3)
ما بينهما ساقط من (س).
من المحدّثين، /فلهذا لم أعدّه من التّأويل.
وكذلك حديث: رؤية النّاس للنّار والماء مع الدّجال، وأنّ ناره ماء وماءه نار، وهو حديث صحيح متّفق على صحّته من غير طريق.
وفي حديث حذيفة المتّفق على صحّته (1): ((فأمّا الذي يرى النّاس أنّه نار فماء بارد، وأمّا الذي يرى النّاس أنّه ماء فنار تحرق، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي هو نار فهو ماء عذب بارد)).
وكذا في الحديث الطّويل الثّابت صفة القيامة: ((فيتمثّل لكلّ فرقة معبودها فتتبعه حتّى يقدم بها في النّار ويتمثّل لمن كان يعبد عيسى فيتبعها حتّى تقذفه في النّار)) وهو ثابت في ((الصّحيح)) (2).
وقد جعل الغزّالي من هذا القبيل حديث رؤية النّبي صلى الله عليه وسلم للجنّة والنّار وهو يصلّي بأصحابه صلاة الكسوف، وهو متفق على صحّته (3)، ولكن الغزّالي بنى تأويله على أنّه ورد في الحديث: أنّ الجنّة والنّار عرضا على رسول صلى الله عليه وسلم في عرض حائط، قال: وهو يستحيل أن يتّسع الحائط لهما على تقدير الوجود الحقيقي.
قلت: ولم أجد هذه الزّيادة التي ذكرها في الكتب السّتّة
(1) أخرجه البخاري ((الفتح)): (13/ 97) ، ومسلم برقم (2934).
(2)
أخرجه البخاري ((الفتح)): (11/ 453) ، ومسلم برقم (182) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
البخاري ((الفتح)): (2/ 627) ، ومسلم برقم (907) ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.