الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله كما علم؟ ولا شك أنّه إذا ثبت أنّ تقدير وقوع خلاف معلوم الله تعالى محارة للعقول، مضلّة للأفهام، لم يصح أن يكون نقيضه كذلك، إذ يستحيل في الشّيء ونقيضه أن يكون وقوع كلّ واحد منهما غريباً في العقل بديعاً في النّظر، فثبت بهذا أنّه لا معنى لاستغراب موسى عليه السلام لوقوع ما كتبه الله تعالى على آدم وتعجّبه من ذلك، وثبت بذلك صحّة قول من أوتي جوامع الكلم ((فحجّ آدم موسى)) والله أعلم.
الاحتمال الثاني: أن يكون آدم عليه السلام فهم من موسى عليه السلام أنّه أراد إثارة أحزانه على فعل الذّنب، فقصد التّسلّي بالقدر؛ لأنّه قد خرج من دار التّكليف، ولم يبق عليه (1) أن يندم، وهذا وجه لا غبار عليه، أمّا على أصول السّنّة؛ فظاهر، وأمّا على أصول المعتزلة؛ فإنّ تألّم آدم عليه السلام في تلك الحال ممكن بشرط العوض من الله تعالى والاعتبار وهما حاصلان، أمّا العوض: فظاهر، وأمّا الاعتبار: فلأنّه يمكن أن يعتبر بذلك أحد من الملائكة عليهم السلام أو يعتبر به أحد من المكلّفين الذين عرفوا ذلك بتعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فظهر بذلك بطلان ما توهّمه المعترض على كلّ مذهب، وسقوطه على كلّ تقدير.
الفصل الثّاني:
في بطلان احتجاج الجبريّة بقدر الله تعالى الذي هو علمه السّابق وقضاؤه النّافذ، ولنورد في هذا الفصل فوائد نفيسة من كلام علماء السّنّة وأئمة الحديث، يشتمل على تعريف ماهيّة القدر
(1) كذا في جميع ((الأصول)).
عندهم، ويردّ على من يقول بالجبر ممّن ينتحل مذهبهم، فمن ذلك: قول الخطّابي في ((معالم السّنن)) (1) ما لفظه: ((قد يحسب كثير من النّاس أنّ معنى القدر من الله سبحانه والقضاء [منه، معنى] الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدّره، ويتوهّم أنّ قوله: ((فحجّ آدم موسى)) من هذا الوجه، وليس كذلك، وإنّما معنى القدر الإخبار عن تقدّم علم الله تعالى بما يكون من /أفعال العباد وصدورها من تقدير منه وخلق لها.
وكذا ذكر هذا أبو السّعادات ابن الأثير في ((جامع الأصول)) (2) ومحيي الدّين النّووي في ((شرح مسلم)) (3).
وقال الإمام الجويني في كتابه ((البرهان)) (4) ما لفظه: ((إن قيل: ما علم الله أنّه لا يكون، وأخبر عن وفق علمه بأنه لا يكون فلا يكون، والتّكليف بخلاف المعلوم جائز. قلنا: إنّما يسوغ ذلك لأن خلاف المعلوم مقدور في نفسه وليس امتناعه بالعلم بأنّه لا يقع، ولكن إذا كان لا يقع مع إمكانه في نفسه؛ فالعلم يتعلّق به على ما هو عليه، وتعلّق العلم بالمعلوم لا يغيّره ولا يوجبه، بل يتبعه في النّفي والإثبات، ولو كان العلم يؤثّر في المعلوم لما تعلّق العلم بالقديم. وتقرير ذلك في فنّ الكلام)) انتهى كلامه.
(1)(7/ 69) مع ((مختصر المنذري)).
(2)
(10/ 126 - 127).
(3)
(16/ 202).
(4)
(1/ 105).
وفي كلام الفخر ابن الخطيب الرّازي أشياء في ذلك فاتني لفظها، وقد ذكرت جملة صالحة ممّا يدلّ على براءة أئمة السّنّة من الجبر، ونقلت في ذلك ألفاظهم من كتبهم الشّهيرة، وأشرت إلى معنى قولهم بخلق أفعال العباد، وقد تقدّم ذلك في ((الوهم الثالث عشر)) من هذا ((المختصر)) (1) فخذه من هنالك، فإنّه قد يتوهّم أن قولهم بالاختيار مع قولهم بخلق الأفعال مناقضة صريحة، وليس هذا بلازم من مجرّد إطلاق هذا اللّفظ، مع فرقهم بين خلق الله تعالى وفعله، وقولهم: إن أفعال العباد لا توصف بأنّها فعل الله تعالى، فقد عنوا بخلق الأفعال غير ما توهّمه منهم المعتزلة، ومما يدلّ على ذلك: أنّ العلم لو كان يخرج القادر عن القدرة لقدح ذلك في كونه تعالى قادراً، ولكان تعالى غير قادر على ترك ما علم أنّه سيخلقه، ولا على خلق ما علم أنّه لا يخلقه، ولكان العلم كافياً في إيجاد المخلوقات من غير قدرة ولا خلق، ونحو ذلك مما أجمعت الأمّة بل العقلاء على بطلانه، وقد وردت الآيات الكريمة والأحاديث الصّحيحة بما يدلّ على نفي الجبر وثبوت الاختيار:
قال الله تعالى: ((لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها)) [البقرة/286] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القسم للنساء: ((اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك)) رواه أبو داود في ((السّنن)) (2) ، قال
(1)(ص/354).
(2)
(2/ 601).
وليس من أفراده فقد أخرجه النسائي: (7/ 63)، والترمذي:(3/ 446) ، وابن ماجه (1/ 634) ، من حديث عائشة رضي الله عنها.