الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَمَّا إِذَا ذَكَرْتَ ذَلِكَ فَاذْهَبْ فَحَدِّثْ». فكيف يعقل أن يترك أبا هريرة وهو أكثر الصحابة حَدِيثًا على الإطلاق، ثم يحبس مثل ابن مسعود وهو أقل من أبي هريرة حَدِيثًا، أو مثل أبي الدرداء وأبي ذر، وهما لم يُعْرَفَا بين الصحابة بكثرة الحديث مطلقاً.
لقد لبثت كثيراً أشك في هذه الرواية وأقلِّبُها على جميع وجوه النظر، حتى قرأت في كتاب " الإحكام " لابن حزم ما يلي:«وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ حَبَسَ ابْنَ مَسْعُودٍ مِنْ أَجْلِ الحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا الدَّرْدَاءَ وَأَبَا ذَرٍّ» .
وطعن ابن حزم في هذه الرواية بالانقطاع، «لأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَاوِيهِ عَنْ عُمَرَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَقَدْ وَافَقَهُ البَيْهَقِيُّ عَلَىَ هَذَا، وَلَكِنَّ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَثْبَتُوا سَمَاعَهُ مِنَ عُمَرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ 99 أَوْ 95 وَعُمْرُهُ (75 سَنَةً) فَيَكُونُ قَدْ وُلِدَ سَنَةَ 20 مِنَ الهِجْرَةِ فِي أَوَاخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ. فَلَا يُتَصَوَّرُ سَمَاعُهُ مِنْهُ فِيْ مِثْلِ تِلْكَ السِنِّ، وَعَلَىَ ذَلِكَ فَلَا تَكُونُ الرِّوَايَةُ حُجَّةً وَلَا يُؤْخَذُ بِهَا .. » ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: «إِنَّ الخَبَرَ فِي نَفْسِهِ ظَاهِرُ الكَذِبِ وَالتَّوْلِيدِ، لأَنَّهُ يَخْلُو عَنْ أَنْ يَكُونَ اتَّهَمَ الصَّحَابَةَ، وَفِي هَذَا مَا فِيهِ، أَوْ يَكُونَ نَهَى عَنْ نَفْسِ الحَدِيثِ وَعَنْ تَبْلِيغِ السُنَّةِ، وَأَلْزَمَهُمْ كِتْمَانَهَا وَجَحَدَهَا، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ الإِسْلامِ، وَقَدْ أَعَاذَ اللهُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلٌ لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ أَصْلاً، وَلَئِنْ كَانَ حَبَسَهُمْ وَهُمْ غَيْرُ مُتَّهَمِينَ، قَدْ ظَلَمَهُمُ فَلْيَخْتَرْ المُحْتَجُّ لِمَذْهَبِهِ الفَاسِدِ بِمِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ المَلْعُونَةِ أَيُّ الطَّرِيقَيْنِ الخَبِيثَيْنِ شَاءَ» . اهـ. (1).
هَلْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَشْتَرِطُونَ لِقَبُولِ الحَدِيثِ شَيْئًا
؟:
1 -
قال الحافظ الذهبي في " تَذْكِرَةِ الحُفَّاظِ " في ترجمة أبي بكر الصديق: «كَانَ أَوَّلُ مَنْ احْتَاطَ فِي قَبُولِ الأَخْبَارِ» . ثم روى الذهبي من طريق ابن شهاب عن قبيصة أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث.
(1)" الإحكام ": 2/ 193
قال: «مَا أَجِدُ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا، وَمَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ الْلَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ لَكِ شَيْئًا» ، ثُمَّ سَأَلَ النَّاسَ فَقَامَ المُغيرَةُ فَقَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِيهَا السُّدُسَ» . فَقَالَ لَهُ: «هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟» فَشَهِدَ مُحَمَّدٌ بْن مَسْلَمَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٌ رضي الله عنه».
2 -
وَرَوَى أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الجَرِيرِي عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ أَبَا مُوسَى سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ مِنْ وَرَاءِ البَابِ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَرَجَعَ فَأرْسَلَ عُمَرُ فِي أَثَرِهِ فَقَالَ:" لِمَ رَجَعْتَ؟ " قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُجَبْ فَلْيَرْجِعْ». قَالَ: " لتَأْتِينِيِ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَو لأَفْعَلَنَّ بِك، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى مَمْتَقِعًا لَوْنُهُ وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقُلْنَا:" مَا شَأْنُكَ؟ " فَأخْبرََنَا وَقَالَ: " فَهَلْ سَمِع أَحَدٌ مِنْكُمْ؟ " فَقُلْنَا: " نَعَمْ كُلَّنَا سَمِعَهُ " فَأَرْسَلُوا مَعَهُ رَجُلاً مِنْهُم حَتَّى أَتَى عُمَرَ فَأخْبرهُ» (1).
3 -
وَرَوَى أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الْزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَهُمْ فِي إِمْلَاصِ المَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: قَضَى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِغُرَّةٍ (2) فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: «إِنْ كُنْتَ صَادِقًَا فَائْتِ وَاحِدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ» . قَالَ: «فَشَهِدَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَىَ بِهِ» .
4 -
وَرَوَى أَيْضًا بِسَنَدِهِ إِلَى أَسْمَاءَ بْنِ الحَكَمِ الْفَزَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، نفعني الله بما شاء أن ينفعني [مِنْهُ]. وَكَانَ إِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ صَدَّقْتُهُ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٌ، - وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٌ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَاّ غَفَرَ لَهُ» (3).
(1) والحديث في " الصحيحين " عن أبي سعيد الخدري.
(2)
الغُرَّة: هي دية الجنين: عبد أو أمة.
(3)
" تذكرة الحفاظ ": 1/ 2 و6 و7 و10 وهذه الآثار ذكرها أيضاً الحاكم في " المدخل إلى أصول الحديث " ص 34.
فهم بعض الباحثين من هذه الآثار أن خِطَّةَ أبي بكر وعمر في الحديث ألَاّ يقبلا حَدِيثًا إلا ما رواه اثنان فأكثر، وأن خِطَّةَ عَلِيٍّ على تحليف الراوي، وانتقل هذا الفهم إلى كثير مِمَّنْ كتب في تاريخ التشريع الإسلامي وتاريخ السُنَّةِ في العصر الحديث، فأصبح عندهم قَضِيَّةً مُسَلَّمَةً لا يذكرون غيرها، وَمِمَّنْ ذهب إلى هذا أَسَاتِذَتُنَا الأَجِلَاّءُ مُؤَلِّفُو " مذكرة تاريخ التشريع الإسلامي " في كلية الشريعة بالأزهر، فقد ذكروا في " باب شروط الأئمة للعمل بالحديث " أن هذا كان شرط أبي بكر، وعمر، وَعَلِيٍّ، للعمل بالحديث.
والواقع أن بناء هذه القاعدة أو النظرية على تلك الآثار خطأ علمي تَرُدُّهُ الآثار الأخرى التي تشهد بأن عمر أخذ بأحاديث لم يروها له إلا رَاوٍ واحد، وأن عَلِيًّا قَبِلَ حديث بعض الصحابة دُونَ أن يستحلفه، وأن أبا بكر رُوِيَ عنه مثل ذلك.
وإليكم هذه الآثار:
1 -
أخرج " البخاري " و" مسلم " مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ - أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، فَلَمَّا جَاءَ بِـ «سَرْغَ» بَلَغَهُ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ - فَأَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَنَّ [رَسُولَ اللَّهِ] صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ [فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ] وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» فَرَجَعَ عُمَرُ مِنْ «سَرْغَ» . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: «وَأَخْبَرَنَا سَالِمٌ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا انْصَرَفَ بِالنَّاسِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ» .
2 -
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: «الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ، وَلَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا، حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَتِهِ» ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ عُمَرُ رضي الله عنه (1).
3 -
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ قَالَ: " أُذَكِّرُ اللَّهَ امْرَءًا سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الجَنِينِ شَيْئًا "، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ فَقَالَ: «كُنْتُ بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي،
(1)" الرسالة " للشافعي: ص 426 من الطبعة الحديثة وأخرجه أحمد، وأبو داود والترمذي. وقال:«حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» ، وابن ماجه ومالك.
يَعْنِي ضَرَّتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِمِسْطَحٍ (1) فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِغُرَّةٍ» (وهي العبد أو الأَمَةُ)، فَقَالَ عُمَرُ:" لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ [هَذَا] "(2).
4 -
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ، فَقَالَ:«مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: [أَشْهَدُ] لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» (3).
5 -
وَأَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ يَحْيَى الْمَخْزُومِيِّ أَنَّ رَجُلاً مِنْ ثَقِيفٍ أَتَى عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه فَسَأَلَهُ عَنِ امْرَأَةٍ حَاضَتْ، وَقَدْ كَانَتْ زَارَتِ الْبَيْتَ [يَوْمَ النَّحْرِ]، أَلَهَا أَنْ تَنْفِرَ قَبْلَ أَنْ تَطْهُرَ؟ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه:«لَا» ، فَقَالَ لَهُ الثَّقَفِيُّ:«إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْتَانِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَا أَفْتَيْتَ» ، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ رضي الله عنه يضْرِبُهُ بِالدِّرَّةِ وَيَقُولُ: «لِمَ تَسْتَفْتُونِي فِي شَيْءٍ قَدْ أَفْتَى فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟» (4).
6 -
وَرُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَضَى فِي الإِبْهَامِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا بِعَشْرٍ، وَفِي الْوُسْطَى بِعَشْرٍ، وَفِي الَّتِي تَلِي الْخِنْصَرَ بِتِسْعٍ، وَفِي الْخِنْصَرِ بِسِتٍّ» ، فلما روي له كتاب عمرو بن حزم الذي ذكر فيه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ» رجع عن قوله وصار إليه. هكذا جاء في بعض كتب الأصول ومثله في " فتح الملهم شرح صحيح مسلم " لشيخ الإسلام شَبير أحمد العثماني الهندي (5)، ولكن الذي يفهم من " الرسالة " للشافعي أن الصحابة اطَّلَعُوا على هذا الكتاب عند آل عمرو بن حزم بعد وفاة عمر فعملوا به وتركوا قول عمر.
7 -
وعمل عمر أيضاً بخبر سعد بن أبي وقاص في المسح على الخفين (6).
(1) آلة يسطح بها الخبز أي: يبسط.
(2)
" الرسالة " للشافعي: ص 427. [قارن بما ورد في صفحة 202 من هذا الكتاب].
(3)
" الرسالة " للشافعي: ص 430.
(4)
" مفتاح الجنة " للسيوطي ص 31.
(5)
" فتح الملهم ": 1/ 7 وذكر ذلك ابن حزم أيضاً في " الإحكام ": 2/ 13.
(6)
" فتح الملهم ": 1/ 7.
8 -
وأراد عمر رجم مجنونة حتى أُعْلِمَ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ» فأمر ألَاّ تُرْجَمَ (1).
هذه الآثار مستفيضة صحيحة رواها الأئمة الأثبات. وفيها ما يدل دلالةً لا تقبل الجدال أن عمر رضي الله عنه أخذ بحديث رواه صحابي واحد دُونَ توقف أو تشكك، وهي في العدد أكثر من تلك التي روت أنه طلب راوياً آخر ولا تقل في الصحة والثبوت عنها، ولما كان عمل الصحابة جميعاً على الاكتفاء بخبر صحابي واحد، كان لا بد من تأويل ما روي عن عمر مُخَالِفاً لعمله في الروايات الأخرى، ولعمل الصحابة الآخرين، وبالرجوع إلى تلك الروايات نجد أن رواية المغيرة بن شعبة في الإملاص قد رويت من طريق حمل بن مالك أيضاً، وأن عمر قبل خبره من غير تَرَدُّدٍ، ولم يبق إلا رواية استئذان أبي موسى، والاستئذان أمر يَتَكَرَّرُ فالمعهود أن تعرف أحكامه وتشيع، فلما أخبره أبو موسى بما لا يعرفه أراد أن يتثبت، فلا بد من حملها على ما عرف عن عمر من التثبت في رواية الأخبار وحمل الصحابة على ذلك، فيكون عمر في قضية أبي موسى وفي قضية المغيرة لو سلمنا أنه لا معارض لروايته، أراد أن يُعْطِي الصحابة وبخاصة صغارهم درساً في التثبت في قبول الأخبار وروايتها، فإذا كان مثل أبي موسى والمغيرة - وهما من هما في جلالة قدرهما بين الصحابة - يطلب منهما عمر أن يأتياه براوٍ آخر، كان مَنْ دُونَ أبي موسى والمغيرة من الصحابة وغيرهم من التَّابِعِينَ أحق بالتثبت وأجدر بِالتَرَوِّي في نقل الأخبار وروايتها. هذا هو المحمل الصحيح لما صنع عمر، ويدل عليه قوله لأبي موسى:«أَمَا إِنِّي لَمْ أتَّهِمْكَ وَلَكِنَّهُ الحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» .
وفي رواية أخرى أن أُبَيّاً عاتبه فقال له: «إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ» وهذا هو ما رآه الشافعي رحمه الله في " الرسالة " في صنيع عمر حين طلب راوياً آخر بعد أن ذكر الروايات الثابتة عنه أنه كان يَقْبَل حديث صحابي واحدٍ. قال رحمه الله: " أَمَّا خَبَرُ أَبِي مُوسَى فَإِلَى الاحْتِيَاطِ، لأَنَّ أَبَا مُوسَى ثِقَةٌ أَمِينٌ
(1)" الإحكام " لابن حزم: 2/ 13.
عِنْدَهُ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا دَلَّ عَلَىَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: قَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ بْنِ أَنَسٍ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ لأَبِي مُوسَى:«أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمك، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» " (1).
هذا ما يتعلق بعمر رضي الله عنه.
أما موقف أبي بكر فلم يرو عنه أنه طلب راوياً آخر إلا في تلك الحادثة (2) وهذا لا يُبَرِّرُ القول بأن مذهبه أن لا يقبل خبراً إلا إذا رواه اثنان. ولقد عُرِضَتْ على أبي بكر حوادث كثيرة رجع فيها إلى سُنّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيها أنه طلب مِمَّنْ أخبره عن رسول الله راوياً آخر يشهد له إلا هذه الحادثة، بل ذكر الرازي في " المحصول " أن أبا بكر قضى بقضية بين اثنين فأخبره بلال أنه عليه السلام قضى فيها بخلاف قضائه فرجع (3) فإن صحت هذه الرواية كان ذلك مؤكداً لما ذهبنا إليه، وقد ذكر ابن القيم عن أبي بكر خطته في القضاء فقال:«كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ حُكْمٌ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بِهِ قَضَى بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَظَرَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا مَا يَقْضِي بِهِ قَضَى بِهِ، فَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ سَأَلَ النَّاسَ: هَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِيهِ بِقَضَاءٍ؟ فَرُبَّمَا قَامَ إلَيْهِ الْقَوْمُ فَيَقُولُونَ: قَضَى فِيهِ بِكَذَا وَكَذَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سُنَّةً سَنّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ رُؤَسَاءَ النَّاسِ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى شَيْءٍ قَضَى بِهِ» (4).
والحاصل أنا لا نجد في نص من النصوص أن أبا بكر طلب مِمَّنْ حدَّثه بحديث عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم راوياً آخر إلا نص الجدة، وهذا يحتمل أن يكون من أبي بكر زيادة في الاحتياط والتثبت فقط، خصوصاً وأن توريث الجدة إثبات حكم لم يرد في القرآن فكان تشريعاً لا بد فيه من الاحتياط
(1)" الرسالة " للشافعي ص 434 ويرى ابن حزم أن عمر كان يرى ذلك أول الأمر فلما عاتبه أُبَيْ رجع عن ذلك وأصبح يقبل خبر صحابي واحد. انظر " الإحكام ": 2/ 140.
(2)
وقد أعلَّهَا ابن حزم في " الإحكام ": 2/ 141 بأنها منقطعة فلا تصح.
(3)
" المحصول " للرازي (مخطوط).
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
[انظر " المحصول " للرازي. دراسة وتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني، 4/ 369، الطبعة الثالثة: 1418 هـ - 1997 م، نشر مؤسسة الرسالة].
(4)
" إعلام الموقعين ": 1/ 51.
والتوقي، لا سيما أن أكثر أحكام المواريث شرعت بنصوص من القرآن لا أن ذلك خطة دائبة له وطريقة درج عليها أن لا يقبل حَدِيثًا إلا إذا رواه اثنان. قال الغزالي في " المستصفى ":«أَمَّا تَوَقُّفُ أَبِي بَكْرٍ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ فِي تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ فَلَعَلَّهُ كَانَ هُنَاكَ وَجْهٌ اقْتَضَى التَّوَقُّفَ، وَرُبَّمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، أَوْ لِيَنْظُرَ أَنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَقِرٌّ أَوْ مَنْسُوخٌ أَوْ لِيَعْلَمَ هَلْ عِنْدَ غَيْرِهِ مِثْلُ مَا عِنْدَهُ. لِيَكُونَ الْحُكْمُ أَوْكَدَ أَوْ خِلَافَهُ فَيَنْدَفِعَ، أَوْ تَوَقَّفَ فِي انْتِظَارِ اسْتِظْهَارٍ بِزِيَادَةٍ، كَمَا يَسْتَظْهِرُ الْحَاكِمُ بَعْدَ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ عَلَى جَزْمِ الْحُكْمِ إنْ لَمْ يُصَادِفْ الزِّيَادَةَ، لَا عَلَى عَزْمِ الرَّدِّ أَوْ أَظْهَرَ التَّوَقُّفَ لِئَلَاّ يَكْثُرَ الإِقْدَامُ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ تَسَاهُلٍ، وَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ إذْ ثَبَتَ مِنْهُ قَطْعًا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَتَرْكُ الإِنْكَارِ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهِ» (1).
أما خِطَّةُ عَلِيٍّ، فإن صح ما روي عنه من أنه كان يستحلف الراوي (2) فلا كلام لنا فيه. وإلا فهو في ذلك كبقية الصحابة، بل لقد نقل عنه صاحب " المحصول " أنه قَبِلَ رواية المقداد بن الأسود في حُكْمِ المَذْيِ (3) أي من غير تحليف، على أنه في النص الذي روي عنه لم يستحلف أبا بكر بل قال
…
«وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٌ» ، فلا تكون قاعدته عامة.
والخلاصة أن الثابت الصحيح من عمل أبي بكر وعمر وَعَلِيٍّ عملهم بخبر الراوي الواحد فقط وأنه في الحالات التي اقتضت طلب رَاوٍ آخر أو استحلافه لا يستلزم ذلك أن يكون مذهباً عَامًّا وخطة مقررة، وبهذا التوجيه والتحقيق يلتقي عمل هؤلاء الصحابة الثلاثة الكبار مع عمل الصحابة الآخرين من حيث اكتفاؤهم بِرَاوٍ وَاحِدٍ. وسيأتي نقل الشافعي لذلك في موضعه عند الكلام على حُجِيَّةِ خبر الآحاد.
(1)" المستصفى ": 1/ 154
(2)
كان في الطبعة الأولى بعد هذه العبارة «وأنا أستغرب ذلك» ثم تبين أن هذا القول المنسوب إلى عليٍّ صحيح أخرجه عنه أبو داود والترمذي وابن ماجه. ولذلك ذكره صاحب «ذخائر المواريث» 3/ 146 في مرويات أبي بكر الواردة في الكتب الستة.
(3)
" المحصول " للرازي (مخطوط).
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
[انظر " المحصول " للرازي. دراسة وتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني، 4/ 373 و6/ 72. الطبعة الثالثة: 1418 هـ - 1997 م، نشر مؤسسة الرسالة].