الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شبهة يعلق بها ليؤكد باطله، لا عن «بَاحِثٍ» علمي يسعى وراء الحقيقة بكل تجرد وإخلاص.
إن المرء حيث يضع نفسه، وقد شاء «أَبُو رَيَّةَ» ، بهذا «التحقيق العلمي الذي لم ينسج أحد من قبل على منواله!» أن يضع نفسه مع الكَذَّابِينَ وَالمُفْتَرِينَ من أهل الريب والأهواء، فليكن له ما أراد
…
أما أبو هريرة فقد بَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا رماه به هذا المُحَقِّقُ العلمي الذي لم يسبقه أحد إلى هذا التحقيق! ..
تَاسِعًا - كَثْرَةُ أَحَادِيثِهِ:
انتقد أبو رية على أبي هريرة كثرة أحاديثه التي بلغت على ما جاء في «مسند بقي بن مخلد» 5374 - مع أن طرقها إلى أبي هريرة ليس كلها محل التسليم عند علماء الحديث - واستغرب ذلك أبو رية مع أن أبا هريرة لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاث سنين.
َوقد قدمنا فيما مضى سبب ذلك ونزيد هنا ما رواه ابن كثير أن مروان بن الحكم قال لأبي هريرة مغضباً حين نازعه في دفن الحسن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ قَالُوا إِنَّك أَكْثَرْتَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» الحديث (*)، " وَإِنَّمَا قَدِمْتَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بِيَسِيرٍ "، فقال أبوهريرة:" نَعَمْ! قَدِمْتُ وَرَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ زِدْتُ عَلَى الثَّلَاثِينَ سَنَةً، سَنَوَاتٍ، وَأَقَمْتُ مَعَهُ حَتَّى تُوُفِّيَ، أَدُورُ مَعَهُ فِي بُيُوتِ نِسَائِهِ وَأَخْدِمُهُ، وَأَنَا وَاللهِ يَوْمَئِذٍ مُقِلٌّ، وَأُصَلِّي خَلْفَهُ، وَأَحُجُّ وَأَغْزُو مَعَهُ، فَكُنْتُ وَاللَّهِ أَعْلَمَ النَّاسِ بِحَدِيثِهِ، قَدْ وَاللَّهِ سَبَقَنِي قَوْمٌ بِصُحْبَتِهِ وَالهِجْرَةِ إِلَيْهِ مِنْ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ، وَكَانُوا يَعْرِفُونَ لَزَوَمِي لَهُ فَيَسْأَلُونِي عَنْ حَدِيثِهِ، مِنْهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَلَا وَاللَّهِ مَا يَخْفَىَ عَلَيَّ كُلُّ حَدِيثٍ كَانَ بِالمَدِيْنَةِ، وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ، وَكُلُّ صَاحِبٍ لَهُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٌ صَاحِبَهُ فِي الغَارِ، وَغَيُّرُهُ قَدْ أَخْرَجَهُ رَسُولُ الْلَّهِ أَنْ يُسَاكِنَهُ (1) - يُعَرِّضُ بِأَبِي مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ " - ثُمَّ قَالَ أَبُوْ هُرَيْرَةَ: " لَيَسْأَلْنِيْ
(1) أي كراهية أن يساكنه ويكون معه في المدينة.
---------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*)[انظر الصفحة 345 من هذا الكتاب].
أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ (كُنْيَةَ مَرْوَانَ) عَنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ فَإِنَّهُ يَجِدُ عِنْدِي مِنْهُ عِلْمًا جَمًّا وَمَقَالاً "، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَ مَرْوَانُ يُقَصِّرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيَتَّقِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَخَافُهُ وَيَخَافُ جَوَابَهُ».
وفي رواية أن أبا هريرة قال لمروان: «إِنِّي أَسْلَمْتُ وَهَاجَرْتُ اخْتِيَارًا وَطَوْعًا، وَأَحْبَبْتُ رَسُولَ اللَّهِ حُبًّا شَدِيدًا، وَأَنْتُمْ أَهْلُ الدَّارِ وَمَوْضِعَ الدَّعْوَةِ، أَخْرِجْتُمْ الدَّاعِي مِنْ أَرْضِهِ، وآذَيْتُمُوهُ وَأَصْحَابَهُ، وَتَأَخَّرَ إِسْلَامَكُمْ عَنْ إِسْلَامِيِ فِي الوَقْتِ المَكْرُوْهِ إِلَيْكُمْ» ، فَنَدِمَ مَرْوَانُ عَلَىَ كَلَامِهِ لَهُ وَاتَّقَاهُ -. اهـ (1).
ولا شك في أن التفرغ للشيء، المهتم به، المتتبع له، يجتمع له من أخباره والعلم به في أمد قليل، ما لا يجتمع لمن لم يكن كذلك، ونحن نعلم من أحوال بعض التلاميذ مع أساتيذهم ما يجعل بعضهم - على تأخره في التلمذة والصحبة - مصدراً موثوقاً لكل أخبار أستاذه ما دق منها وما جل، وقد يخفى من ذلك على
كبار تلاميذه وقدمائهم ما لا يشكون معه في صدق ما يُحَدِّثُهُمْ به متأخرهم صحبة وتلمذة. فأي غرابة في هذا الوضوع؟ المُهِمُّ عندنا هو الصدق، وصدق أبي هريرة لم يكن محل شك عند إخوانه من الصحابة ولا عند معاصريه وتلاميذه من التَّابِعِينَ، هذا هو حكم التاريخ الصحيح الصادق، وكل ما يحكيه أَبُو رَيَّةَ من تكذيب بعض الصحابة أو شَكِّهِمْ فِي (صِدْقِهِ) فَكَذِبٌ مَفْضُوحٌ مُسْتَقًى من كتب يستحي طالب العلم أَنْ يَدَّعِي أنها «مصادر علمية» فكيف بمن يَدَّعِي أنها لا يرقى إليها الشك ولا يتطرق إليها الوهن؟
وإليك كشف الستار بإيجاز عن حقيقة ما زعمه في ذلك (2).
1 -
زعم أن عمر ضربه بِالدِّرَّةِ وقال له: «أكثرت يا أبا هريرة من الرواية وَأحْرِ بِكَ أن تكون كاذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
(1)" البداية والنهاية ": 8/ 108.
(2)
لقد اشتدت بنا العلة أثناء كتابة هذا البحث من حيث اشتد إلحاح الناشر في إرسال هذا البحث لإتمام طبع الكتاب فلم نر بُداً من الإيجاز على أن نفرد لأبي هريرة رضي الله عنه كتاباً مستقلاً نتعقب فيه ونمحص أقاويل هؤلاء الطاعنين ونبين تهافتها وتجرُّدها من القيمة العلمية إن شاء الله.
ونحن نَتَحدَّاهُ أَنْ يُثْبِتَ هذا الخبر من كتاب علمي محترم إلا أن يكون من تلك الكتب الأدبية الي تروي التالف والساقط من الأخبار، أوتلك الكتب الشيعية التي عرفت ببغض أبي هريرة والافتراء عليه، وليس لهذه الكتب قيمة علمية عند من يشم رائحة العلم.
على أنه كثير الإحالة إلى الكتب التي ينقل عنها - ولو كانت نقوله مُحَرَّفَةً كما يتأكد ذلك لمن يطالع كتابه - ومع ذلك فهذا الخبر لم يسنده إلى كتاب (1) فلماذا؟
2 -
وزعم أن عمر تَهَدَّدَهُ بالنفي إلى بلاده أو إلى أرض القردة إن استمر يُحَدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أن ذلك منقول عن ابن عساكر وابن كثير.
أما نَهْيُ عمر عن التحديث، فلم يكن خَاصًّاً بأبي هريرة، ولم يثبت أنه هَدَّدَهُ بالنفي إلى بلاده لأن ذلك - في ذلك العصر- غير جائز، وقد حكينا صنيع عمر ورأيه في كتابة الحديث وروايته في صدر هذا الكتاب.
وأما قول عمر لأبي هريرة: «لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ القِرَدَةِ» . فذلك دَسٌّ من أَبِي رَيَّةَ وعبارة ابن كثير: وقال - عمر- لكعب الأحبار: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ (عَنْ الأُوَلِ) أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ القِرَدَةِ» (2) فهو تهديد من عمر لكعب الأحبار ترك الحديث عن بني إسرائيل وأخبارهم لا تهديد لأبي هريرة بترك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
على أن ابن كثير بعد أن ذكر نَهْيَ عمر لأبي هريرة عن التحديث قال: «وَهَذَا مَحْمُولٌ مِنْ عُمَرَ عَلَىَ أَنَّهُ خَشِيَ مِنَ الأَحَادِيْثِ التِي قَدْ تَضَعُهَا النَّاسُ عَلَىَ غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، وَأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ عَلَىَ مَا فِيهَا مِنْ أَحَادِيثِ الرُّخَصِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَكْثَرَ مِنَ الحَدِيثِ رُبَّمَا وَقَعَ فِي أَحَادِيثِهِ بَعْضُ الغَلَطِ أَوِ الخَطَإِ
(1) يظهر أنه منقول عن الإسكافي كما نقله ابن أبي الحديد في "شرحه لنهج البلاغة " 1/ 360 وكفى بهما حُجة عند أَبِي رَيَّةَ.
(2)
" البداية والنهاية ": 8/ 108.
فَيَحْمِلُهَا النَّاسُ عَنْهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَدْ جَاءَ أَنَّ عُمَرَ أَذِنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التَّحْدِيثِ»، وذكر ابن الأثير بعد ذلك ما يؤيد هذا (1).
فهذا هو حقيقة موقف عمر لا كما شَوَّهَهُ «المُحَقِّقُ العِلْمِيُّ» أَبُو رَيَّةَ!.
3 -
وزعم أَبُو رَيَّةَ أن الصحابة اتهموا أبا هريرة بالكذب وأنكروا عليه وَمِمَّنْ أنكر عليه عائشة، وَمِمَّنْ كَذَّبَهُ أبو بكر وعمر وعثمان وعَلِيٌّ
…
ثم زعم أَبُو رَيَّةَ أن قائل هذا القول هو ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث "(2).
وقد كَذَبَ أَبُو رَيَّةَ في نسبة هذا القول الفظيع إلى ابن قتيبة، وإنما يحكيه ابن قتيبة عن النظام وأمثاله ثم يَكُرُّ عليهم بالرد والتفنيد ويدافع عن أبي هريرة دفاعاً مجيداً. ومن حسن الحظ أن أَبَا رَيَّةَ ليس وحده الذي ينفرد بنسخة من كتاب " تأويل مختلف الحديث " حتى يستطيع أن يكذب على ابن قتيبة وينسب إليه ما نسبه ابن قتيبة إلى النظام، ولكن الكتاب مطبوع متداول في أيدي العلماء، فهل تبلغ الجرأة بأحد مِمَّنْ ينتسب إلى العلم أن يكذب هذا الكتاب المفضوح ثم يزعم أنه جاء من التحقيق العلمي «ما لم ينسج أحد على منواله» وحقا إن أحداً لم يسبق أَبَا رَيَّةَ في مثل هذا الكذب وتحريف النصوص حتى المُسْتَشْرِقِينَ أنفسهم.
فلا حول ولا قوة إلا بالله.
إنا نَتَحَدَّاهُ وَنَتَحَدَّى كُلَّ مَنْ يَتَجَرَّأُ على أبي هريرة أن يثبت لنا نصاً تاريخياً موثوقاً بصحته أن أبا بكر أو عمر أو عثمان أو عَلِيّاً أو عائشة أو أحداً من الصحابة نسب إلى أبي هريرة الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وستنقطع أعناق هؤلاء الحاقدين دُونَ العثور على نص من هذا القبيل ويأبى الله لهم ذلك.
أما إن كانت النصوص من كتابٍ كـ "عيون الأخبار "، و"بدائع الزهور "، وَرُوَّاةٍ كابن أبي الحديد والاسكافي، ومتهمين كَالنَظَّامِ وأمثاله .. فهيهات أن يكون ميدان هذه الكتب وهؤلاء الرُوَاةِ وهؤلاء الطاعنين هو ميدان العلم والعلماء! ..
(1) و (2) ص 48.
إن عائشة كانت «تَسْتَغْرِبُ» من أبي هريرة بعض الأحاديث لأنها لم تعلم بها، فكان يجيبها أحياناً بأنها كانت تلازم البيت وتشتغل بالزينة بينما كان هو يدور مع رسول الله ويلازمه ويسمع حديثه، فلم يسعها إلا أن تعترف بذلك وتقول:«لَعَلَّهُ» وهذا أدب من أم الؤمنين واعتراف بالحق لأهله وفضيلة حُرِمَ مِنْهَا أَبُو رَيَّةَ وأمثاله.
واعتراض عائشة على أبي هريرة بقضية «المهراس» حَقَّقْنَا القول في أنها ليست هي التي اعترضت، وإنما هو رجل يقال له:«قين الأشجعي» من أصحاب عبد الله بن مسعود.
واعتراضها عليه في حديث صوم الجُنُبِ واعترافه بأنها أعلم بما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في البيت مع نسائه فهذا هو أيضاً فضيلة لأبي هريرة حيث اعترف بالحق لأهله - وقد حُرِمَ هذه الفضيلة أَبُو رَيَّةَ - على أَنَّ أبا هريرة كان يروي حَدِيثًا فَبَيَّنَ أنه سمعه من صحابي آخر- وقد قدمنا القول في ذلك - وبقول أبي هريرة قال عدد من فقهاء التَّابِعِينَ وَالمُجْتَهِدِينَ رغم قول عائشة وَتَعَقُّبِهَا.
4 -
ونقل أَبُو رَيَّةَ عن ابن كثير أن الزبير لما سمع أحاديثه قال: صدق، كذب.
وأَبُو رَيَّةَ في هذا النقل صنع ما قص الله علينا من صنيع بعض أهل الكتاب الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ..
فابن [كثير](*) نقل عن الزبير بعد قوله ذاك ما يلي: فَقَالَ عُرْوَةُ لأَبِيهِ الزُّبَيْرُ: «قُلْتُ: يَا أَبَهْ مَا قَوْلُكَ، صَدَقَ كَذَبَ؟ قال: (الزبير) «يَا بُنَيَّ! أَمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِعَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا أَشُكُّ، وَلَكِنَّ مِنْهَا مَا وَضَعَهُ عَلَى مَوَاضِعِهِ، وَمِنْهَا مَا وَضَعَهُ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهِ» (1).
فهلْ ترى الزبير هنا يُكَذِّبُ أبا هريرة كما يزعم أَبُو رَيَّةَ أم يعترف له بالصدق؟
(1) البداية والنهاية: 8/ 109.
-----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*)[ورد في المطبوع خَطَأً (ابن الأثير) وإنما هو (ابن كثير)]. وهو نفس الخطأ في طبعة المكتب الإسلامي ولم يقع تداركه في هذه الطبعة.
وأما قول الزبير: «وَمِنْهَا مَا وَضَعَهُ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهِ» ، أي يفهمه على غيرما ينبغي فهمه من وُجُوبٍ أَوْ إِبَاحَةٍ أَوْ نَدْبٍ، ولا حرج على أبي هريرة في هذا .. ولا مدخل منه للطعن في صدقه وأمانته لن يفهم الكلام العربي
…
5 -
ونقل أَبُو رَيَّةَ أن ابن مسعود أنكر عليه قوله: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» وَقَالَ فِيهِ قَوْلاً شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَنْجَسُوا مِنْ مَوْتَاكُمْ» .. ونقل ذلك عن ابن عبد البر في " جامع بيان العلم ".
وهذا أيضاًً مِمَّا يدل على قِلَّةِ الأمانة العلمية عند هذا الرجل، وولعه بالتضليل وتغرير القارىء وقلب الحقائق له.
إن ابن عبد البر في كتابه المذكور عقد فَصْلاً ذكر فيه ما خَطَّأَ فيه بعض العلماء بعضاً وما أنكر بعضهم على بعض من الفُتْيَا، وذكر في هذا الفصل رَدَّ أبي بكرعلى الصحابة حين خالفوه في قتال أهل الردة، وَرَدَّ عائشة على ابن عمر في قوله:«الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ [عَلَيْهِ]» . وقالت: «وَهِمَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْ أَخْطَأَ أَوْ نَسِيَ» ، وكذلك رَدَّتْ عليه في عدد عُمْرَاتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَرَدَّ ابن مسعود على أبي موسى وسلمان بن ربيعة في قضية من قضايا المواريث وهكذا، وفيما ذكر من ذلك، قال: وأنكر ابن مسعود على أبى هريرة قوله: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» الخ
…
فأنت ترى أن أبا هريرة إنما يُفْتِى في المسالة وأن ابن مسعود يَرُدُّ عليه «قوله» لا «حديثه» فأين تكذيب ابن مسعود لأبي هريرة في الحديث؟
على أن عدداً من الفقهاء قال بقول أبي هريرة، فمنهم من أوجب، ومنهم من استحب.
6 -
وقد ختم أَبُو رَيَّةَ «تحقيقه العلمي الفذّ» ! .. بقوله: «ولا يستوفي ذكر انتقاد الصحابة له والشك في رواياته لأن كتابنا يضيق عن ذلك
…
الخ».
هذا من الكذب والبهتان .. فقد تَقَصَّى كل ما قيل عن أبي هريرة حتى من الكتب التي ليست لها قيمة علمية، فما الذي قصر به شأوه عن تتبع أبي هريرة هنا؟
على أنا نقول كلمة مجملة في موضوع رَدِّ بعض الصحابة على أبي هريرة: إن أبا هريرة كان يفتي بظاهر ما يعلمه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل وكان بعض الصحابة يخالفونه فيما يفهم من ذلك الحديث فيردون عليه «فتواه» لا «حديثه» وهذا وقع كثيراً بين الصحابة بعضهم مع بعض، وَقَعَ لِعُمَرَ وَعَلِيٍّ وابن مسعود وابن عمر وأبي موسى وعائشة ومعاذ وغيرهم. يعلم ذلك من تتبع أخبارهم، وقد أفرد ابن عبد البر لذلك فَصْلاً في كتابه "جامع بيان العلم " كما ذكرنا وما زال أهل العلم يَرُدُّ بعضهم على بعض من غير أن يكون ذلك طَعْنًا من بعضهم في صدق بعض أو دينه أو أمانته.
وقد ذكر ابن القيم في " إعلام الموقعين " وغيره كذلك أن أبا هريرة كان من المفتين من الصحابة وقد جمع بعضهم جزءاً كبيراً في فتاويه.
7 -
وبعد أن افترى أَبُو رَيَّةَ ونقل المفتريات عن الصحابة في تكذيب أبي هريرة انتقل إلى رواية غير صحيحة عن أبي حنيفّة بأنه كان لا يأخذ بأحاديث أبي هريرة.
ونحن نجزم قطعاً بأن هذه الرواية عن أبي حنيفة غير صحيحة، فالفقه الحنفي المأثور عن أبي حنيفة نفسه مليء بالأحكام التي لا مستند لها من الأحاديث، إلا أحاديث أبي هريرة، وأما نقله عن فقهاء الحَنَفِيَّةِ بأنهم يعتبرون أبا هريرة غير فقيه، فهذا نقل رجل لم يَشُمَّ رائحة العلم والفقه، وقد حَقَّقْنَا القول في رَدِّنَا على أحمد أمين أن فقهاء الحَنَفِيَّةِ متفقون على فقاهته إلا مثل عيسى بن أبان ومن وافقه (1).
(1) لشمس الأئمة السرخسي بحث واف في هذا الموضوع يَتَبَيَّنُ منه إجلال أئمة الحَنَفِيَّةِ لأبي هريرة واعترافهم به بالعدالة والضبط والحفظ.
8 -
وزعم أَبُو رَيَّةَ أن ما كان يفعله أبو هريرة - وكذلك كان يفعل غيره كأنس ومعاذ وعبد الله بن عمر - من روايتهم عن أكابر الصحابة ثم إسناد هذه الرواية إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن هذا تدليس من أبي هريرة ثم ساق أقوال علماء الحديث في التدليس والمُدَلِّسِينَ.
وهذا لممري تدليس - بالمعنى اللغوي - قبيح من أَبِي رَيَّةَ!
إن رواية الصحابي عن الصحابي وإسناده إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لا تسمى «تدليساً» وإنما تسمى «إِرْسَالاً» وبإجماع علماء الحديث إن مُرْسَلَ الصحابي مقبول لأن الصحابي لا يروي عن صحابي، والصحابة كلهم عدول، واحتمال أن يروي الصحابي عن تابعي غير وارد ولامعقول، ولذلك قبلوا بالإجماع ما رواه الصحابي عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولو كان يرويه عن صحابي آخر.
فَادِّعَاءُ أَبَي رَيَّةَ أن هذا تدليس وَنَقْلِهِ ما قاله العلماء عن التدليس وَالمُدَلِّسِينَ إنما هو التدليس بمعناه الصحيح، ولئن كان التدليس في علم الحديث بمعناه المصطلح عليه عندهم لَا يُسْقِطُ صاحبه عن رتبة العدالة ولا الثقة، وكان من المُدَلِّسِينَ كبار أئمة الحديث، فإن تدليس أَبِي رَيَّةَ يسقطه عن رتبة «العُلَمَاءِ المُحَقِّقِينَ» وينتزع الثقة بفهمه بعد انتزاع الثقة بأمانتة .. وهكذا يتهافت المُبْطِلُ ويكثر عثاره ..
وما نقله عن شُعْبَةَ نَصٌّ مُحَرَّفٌ في الطباعة ولا يمكن أن يكون أصله صحيحاً ولم يرد عن إمام من أئمة انحديث ويستبعد أن يقوله طالب علم مبتدئ فضلاً عن إِمَامٍ كَشُعْبَةَ.
9 -
وزعم أَبُو رَيَّةَ أن أبا هريرة رضي الله عنه سَوَّغَ لنفسه أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بانه ما دام لا يُحِلُّ حَرَاماً ولا يُحَرِّمُ حلالاً فإنه لا بأس بذلك، واستشهد لزعمه هذا بأحاديث رُوِيَتْ عن أبي هريرة مرفوعة إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مثل:«إِذَا لَمْ تُحِلُّوا حَرَامًا، وَلَمْ تُحَرِّمُوا حَلَالاً، وَأَصَبْتُمُ الْمَعْنَى فَلَا بَأْسَ» ومثل: «مَنْ حَدَّثَ حَدِيثًا هُوَ لِلَّهِ عز وجل رِضىً، فَأَنَا قُلْتُهُ. وَإِنْ لَمْ أَكُنْ قُلْتُهُ» .
ومثل هذه الأحاديث قد مَحَّصَهَا أئمة السُنّةِ وَبَيَّنُوا وَاضِعِيهَا والضعفاء من رُوَاتِهَا الذين نسبوها إلى أبي هريرة، ولم يصح نسبة حديث واحد منها إلى أبي هريرة، فما ذنب أبي هريرة إِذاً، وهل إذا كُذِبَ على إنسان بشيء ما يكون من التحقيق العلمي أن يسند هذا القول المكذوب إلى الذي كُذِبَ عليه!
ومن الغريب أنه نسب إلى ابن حزم في كتاب " الإحكام " حَدِيثًا من هذا القبيل بَيَّنَ ابن حزم نفسه أنه موضوع وَشَنَّعَ على من وضعه وقد تحدثنا عنه في فصل سابق، فماذا نسمي صنيع أَبِي رَيَّةَ إلا أن يكون تضليلاً للقارىءغير العَالِمِ بالحديث ليغتر به ولو كان من كبار الأدباء؟!
10 -
وزعم أَبُو رَيَّةَ أن أبا هريرة كان يأخذ من كعب الأحبار الحديث ثم ينسبه إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. وهذه دعوى فاجرة لم يستطع أن يجد لها دليلاً سوى التخيل وتحريف نصوص العلماء على دأبه وعادته.
فقد ذكر أن علماء الحديث ذكروا من رواية الأكابر عن الأصاغر رواية أبي هريرة والعبادلة ومعاوية وأنس وغيرهم عن كعب.
وعبارته تفيد أنهم رَوَوْا عن كعب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا كذب مضحك لأن كعباً لم يدرك الرسول عليه السلام فلا يعقل أَنْ يَرْوِي صحابة الرسول أحاديثه عمن لم يدركه، وإنما يذكر ذلك في بيان أخذهم عن كعب - وغيره من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا - أخبار الأمم الماضية وتواريخها. وقد صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ» فتُرْوَى أَخْبَارُهُمْ على جهة العِظَةِ والاعتبار لا على أنها حاكمة على ما جاء في القرآن أو مهيمنة، بل أخبار القرآن هي الحاكمة والمهيمنة ..
وذكر أَبُو رَيَّةَ ثناء كعب على أبي هريرة بأنه يعلم ما في التوراة مع أنه لم يقرأها وهذا إن صح، فلا شيء فيه، لأن كثيراً من الناس يستمعون الأخبار من المجالس والندوات دُونَ أن يقرؤوا الكتب.
وهكذا استمر أَبُو رَيَّةَ في عرض أدلته «العلمية» التي يحاول فيها أن يوقع في ذهن القارىء أن أبا هريرة كان يسمع من كعب، ثم ينسب ما سمعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وطالب العلم يعلم تفاهة ما كتب في هذا الموضوع.
ومن أطرف أدلته التي أوردها في مكان آخر ما رواه " مسلم " عن بُسْرٍ (1)«اتَّقُوا اللهَ، وَتَحَفَّظُوا [مِنَ] الحَدِيثِ، فَوَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا نُجَالِسُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَيُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَيُحَدِّثُنَا عَنْ كَعْبٍ (الأحبار)، ثُمَّ يَقُومُ، فَأَسْمَعُ بَعْضَ مَنْ كَانَ مَعَنَا يَجْعَلُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ عَنْ كَعْبٍ، وَيَجْعَلُ حَدِيْثَ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» (*)، فَاتَّقُوا اللهَ، وَتَحَفَّظُوا [مِنَ] الحَدِيثِ.
أي قارئ يفهم العبارة العربية يمكن أن يفهم من هذا النص طعناً في أبي هريرة أو اتهاماً له بأنه كان يُحَدِّثُ بما سمعه عن كعب وينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
إن بُسْر بن سعيد صاحب هذا الخبر يتحدث عن قوم كانوا يستمعون إلى أبي هريرة فيخلطون بين حديثه عن الرسول وحديثه عن كعب، فالذي كان ينسب حديث كعب إلى الرسول هُمْ بعض الذين كانوا يستمعون إلى أبي هريرة، لا أبو هريرة نفسه ـ ولكن شيخ التحقيق العلمي الذي لم ينسج أحد من قبل على منواله! .. ذكره دليلاً على كذب أبي هريرة فيما يرويه عن رسول الله وأنه كان يسمع من كعب ثم ينسب ذلك إلى الرسول، أترى هذا قلة فهم؟ أم قلة دين وقلة حياء من الله ومن التاريخ ومن قرائه الأذكياء؟
(1) هذا هو الصواب في اسمه وكان في الطبعة الأولى (بشير بن سعيد) فَصُحِّحَ، وهو بُسْرٌ بن سعيد مولى ابن الحضرمي المدني العابد، روى عن سعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وأبي هريرة وغيرهم وروى عنه أبو سلمة وزيد بن أسلم ومحمد بن إبراهيم التيمي وغيرهم، قال ابن معين:«ثقة» ، وقال ابن سعد (* *):«كان من العُبَّادِ المنقطعين وأهل الزهد في الدنيا والورع» ، قال الواقدي:«مات سَنَةَ 100 هـ» (" الخلاصة " للخزرجي).
-----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*)" التمييز " للإمام مسلم، د. محمد مصطفى الأعظمي، ص 175، الطبعة الثالثة: 1410 هـ، نشر مكتبة الكوثر - المربع - المملكة العربية السعودية.
(**) هو ابن سعد وكتب في المطبوع خطأ (ابن سعيد)، وإنما هو ابن سعد صاحب " الطبقات ". انظر " خلاصة تذهيب تهذيب الكمال " للخزرجي، ص 47، طبعة سَنَة 1301 هـ، المطبعة الميرية ببولاق. مصر.