الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مروان وهو محتلم، ثم اتصل بعبد الملك بعد مقتل عبد الله بن الزبير، واتصل بالخلفاء من بعده: الوليد وسليمان، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد الثاني وهشام بن عبد الملك، وكان يتردد إلى العراق ومصر، حتى وافته المَنِيَّةُ بضيعته في (أدامي) آخر عمل الحجاز، وأول عمل فلسطين، سَنَةَ أربع وعشرين ومائة على الأرجح، وعمره اثنان وسبعون سَنَةً، وأوصى أنْ يدفن على قارعة الطريق حتى يَمُرَّ به مَارٌّ فيدعو له رحمه الله ورَضِيَ عَنْهُ -.
أَبْرَزُ أَخْلَاقِهِ وَصَفَاتِهِ:
كان قصيراً قليل اللحية، خفيف العارضين، يصبغ رأسه ولحيته بِالحِنَّاءِ، أُعيمش، فصيح اللسان، وكان يقال:«فُصَحَاءُ أَهْلُ زَمَانِهِمْ ثَلَاثَةٌ: الزُّهْرِيُّ، وَعُمَرَ بِنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ» ومن أشهر أخلاقه الكرم والسخاء فقد كان في ذلك آيةً عجباً، قال الليث بن سعد:«كَانَ ابْنُ شِهَابٍ مِنْ أَسْخَى مَنْ رَأَيْتُ، يُعْطِي كُلَّ مَنْ جَاءَ يَسْأَلُهُ، حَتَّىَ إِذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يَسْتَلِفُ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيُعْطُونَهُ، حَتَّىَ إِذَا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ شَيْءٌ اسْتَلَفَ مِنْ عَبِيدِهِ، وَرُبَّمَا جَاءَهُ السَّائِلُ فَلَا يَجِدُ مَا يُعْطِيهِ فَيَتَغَيَّرُ عِنْدََ ذَلِكَ وَجْهُهُ وَيَقُولُ لَهُ: أَبْشِرْ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِخَيْرٍ، فَيُقَيِّضُ اللهُ لابْنِ شِهَابٍ عَلَىَ قَدْرِ صَبْرِهِ وَاحْتِمَالِهِ، إِمَّا رَجُلاً يُهْدِي لَهُمْ مَا يَسَعُهُمْ وَإِمَّا رَجُلاً يَبِيعَهُ ويُنظِرُهُ» .
وكان يمد للناس على الطريق موائد الثريد والعسل، نزل مَرَّةً بماء من المياه فشكا إليه أهل الماء أَنَّ لهم ثمانية عشر عجوزاً ليس لهن خادم ولم يكن معه شيء، فاستلف ثمانية عشر ألفاً، وأخدم كل واحدة منهن جارية، وكان إذا أبى أحد من أصحاب الحديث أنْ يأكل معه طعامه حَلَفَ ألَاَّّ يُحَدِّثَهُ عشرة أيام، وله رحلات تعليمية إلى الأعراب يُعَلِّمُهُمْ وَيُفَقِّهُهُمْ، فإذا كان في الشتاء أطعمهم عسلاً وزبداً وإذا كان الصيف أطعمهم عسلاً وسمناً، وبمثل هذا الكرم العجيب كانت تركبه الديون مَرَّةً بعد مَرَّةٍ، فيقضيها عنه خلفاء بني أميَّة تارة، وأصدقاؤه تارة أخرى.
ومن أبرز صفاته التي مَكَّنَتْ له في العلم وأكسبته شُهْرَةً فِي الآفَاقِ وَتَفَوُّقًا على الأقران اثنتان:
الأولى: عَنَاؤُهُ في طلب العلم، فقد كان شديد الحرص على لُقْيَا العلماء، وتدوين ما يسمع منهم، يسهر الليالي الطويلة على ما سمع، يحفظه وَيُتْقِنُهُ، وإليك ما يُحَدِّثُنَا به أقرانه في الطلب:
قال ابو الزناد: «كُنَّا نَكْتُبُ الحَلَالَ وَالحَرامَ، وَكَانَ ابنُ شِهَابٍ يَكْتُبُ كُلَّ مَا سَمِعَ، فَلَمَّا احْتِيجَ إِلَيْهِ عَلِمْتُ أَنَّهُ أَعْلَمَ النَّاسِ» .
وقال إبراهيم بن سعد: «قُلْتُ لأَبِي: بِمَ فَاتَكُمْ ابْنِ شِهَابٍ؟ قَالَ: كَانَ يَأْتِي المَجَالِسِ مِنْ صُدُورِهَا، وَلَا يَلْقَى فِي المَجْلِسِ كَهْلاً وَلَا شَابًّا إِلَاّ سَأَلَهُ، حَتَّى يُجَادِلَ رَبَّاتَ الحِجَالِ» .
وبلغ من حرص الزُّهْرِيِّ على العلم أنه كان يخدم عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ليأخذ عنه، حتى كان يستقي له الماء ثم يقف بالباب، فيقول عُبَيْدُ اللهِ لجاريته:«مَنْ بِالبَابِ؟» ، فتقول له:«غُلَامَكَ الأَعْمَشُ» (تعني الزُّهْرِي وكان به عمش) وهي تظنه غلامه لكثرة ما ترى من خدمته له ووقوفه ببابه، ويحدثون عنه أنه كان إذا خلا في بيته وضع كتبه واشتغل بها عن كل أمر من أمور الدنيا إلى أنََََََْ ضاقت به امرأته ذرعاً، فقالت له ذات ليلة:«وَاللَّهِ لَهَذِهِ الْكُتُبُ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ ثَلَاثَ ضَرَائِرَ» ، وكان من عادته أنه إذا سمع من بعض الشيوخ وعاد إلى بيته أيقظ جاريته وقال لها:«اسْمَعِي حَدَّثَنِي فُلَانٌ بِكَذَا، وَحَدَّثَنِي فُلَانٌ بِكَذَا» ، فَتَقُولُ لَهُ:«مَا لِي وَلِهَذَا الحَدِيثِ؟» فَيَقُولُ لَهَا: «قَدْ عَلِمتُ أَنَّكِ لَا تَنْتَفِعِينَ بِهِ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ الآنَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَسْتَذكِرَهُ» .
الثانية: حِفْظُهُ وَقُوَّةِ ذَاكِرَتِهِ، فقد كان آية عجباً في ذلك، وَقَدْ سَمِعْتَ ابن أخيه من قبل، يُحَدِّثُ عنه أنه حفظ القرآن في ثمانين ليلة، ويروي الليث عن الزُّهْرِي أنه قال:«مَا اسْتَوْدَعْتُ قَلْبَي عِلْمًا فَنَسِيتُهُ» ، وروى عنه عبد الرحمن بن إسحاق:«مَا اسْتَعَدْتُ حَدِيثًا قَطُّ، وَمَا شَكَكْتُ فِي حَدِيثٍ إِلَاّ حَدِيثًا وَاحِداً، فَسَأَلْتُ صَاحِبِي، فَإِذَا هُوَ كَمَا حَفِظْتُ» .