الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دالة على ما كان عليه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من فعل أو حال، ولا يعتبر عملهم حُجَّةً إلا إذا كانوا مجمعين عليه متوارثين العمل به جيلاً بعد جيل حتى عهد الرسول الكريم، وهو يرى أنهم لا يلتزمون أمراً ويعملون به جميعاً إلا إذا كان أمراً مشروعاً عمل به الصحابة في عهد الرسول وأقرهم عليه ثم توارثه من بعدهم ودرجوا عليه.
وعمل أهل المدينة عنده أقوى من حديث الَاحاد، فإذا تعارض خبر الواحد مع عمل أهل المدينة رجح الثاني، ومن هنا استدرك عليه الليث بن سعد سبعين سُنَّةً ترك الأخذ بها وهي في " موطئه "، ولم يوافقه بقية الأئمة والعلماء من بعده على هذا. وَمِمَّنْ ناقشه في ذلك الإمام الشافعي رحمه الله، وتتالى العلماء من بعده يناقشونه في ذلك، ومن أشهر من رَدَّ عليه حُجِيَّةَ عمل أهل المدينة ابن حزم، فقد ناقشه في كتابه " الإحكام في أصول الأحكام " نقاشاً قوياً، وكذلك رَدَّ عليه في بحوث متفرقة من كتابه " المُحَلَّى " وهو شديد الوطأة في نقاشه العلمي مع كل من يخالفهم (1).
وقد انتشر مذهب مالك في كثير من أقطار العالم الإسلامي وخاصة في المغرب (*) ومصر.
"
المُوَطَّأُ ": - مَكَانَتُهُ - رِوَايَاتُهُ وَأَحَادِيثُهُ - شُرُوحُهُ:
ولعل أشهر ما عرف به الإمام مالك رحمه الله، كتابه " المُوَطَّأ " الذي ألفه بإشارة من المنصور حين حج وطلب إليه أن يُدَوِّنُ كتاباً جامعاً في العلم يتجنَّبُ فيه شدائد ابن عمر وَرُخَصَ ابن عباس، وأن يُوَطِّئَهُ للناس، فألف كتابه هذا، وسمَّاه " المُوَطَّأ " وذكر السيوطي لهذه التسمية سبباً آخر، وهو ما روي أن مالكاً قال:«عَرَضْتُ كِتَابِي هَذَا عَلَى سَبْعِينَ فَقِيهًا مِنْ فُقَهَاءِ المَدِينَةِ فَكُلُّهُمْ وَاطَأَنِي عَلَيْهِ فَسَمَّيْتُهُ " المُوَطَّأ "» ثم جاء المهدي حَاجًّا فسمعه منه وأمر له بخمسة آلاف دينار ولتلاميذه بألف، ثم رحل إليه الرشيد في
(1) انظر " الإحكام ": 2/ 97 - 120.
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*)[يقصد الدكتور السباعي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - ما يسمى اليوم بالمغرب العربي، والعبارة (المغرب) إذا أطلقت في السابق فتشمل كل من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى وموريتانيا].
إحدى حججه، مع أولاده وسمعه منه، ورغب أن يعلقه في الكعبة ويحمل الناس على العمل بما جاء به فأجابه رحمه الله:«لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اخْتَلَفُوا فِي الفُرُوعِ وَتَفَرَّقُوا فِي البُلْدَانِ، وَكُلٌّ مُصِيبٌ» فَعَدَلَ الرَّشِيدُ عَنْ ذَلِكَ، رواه أبو نعيم في " الحِلْيَةِ ".
وقد وضع الله له القبول في قلوب الناس، فأقبلوا عليه دراسة وسماعاً، ومن أشهر الأئمة الذين سمعوه من مالك: الأوزاعي، والشافعي، ومحمد، ورواية محمد له هي إحدى روايات " المُوَطَّأ " المشهورة والمعتبرة كما سيأتي.
وقد عني مالك رحمه الله بتأليفه وتدوين الأحاديث الصحيحة فيه حتى قالوا: إنه مكث فيه أربعين سَنَةً يُهَذِّبُهُ وَيُنَقِّحُهُ، ويستدل لذلك بما رواه السيوطي في مقدمة " شرحه للموطأ " عن الأوزاعي، أنه قال:«عَرَضْنَا عَلَى مَالِكٍ " المُوَطَّأَ " فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَقَالَ: كِتَابٌ أَلَّفْتُهُ فِي أَرْبَعِينَ سَنَةٍ، أَخَذْتُمُوهُ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَا أَقَلَّ مَا تَفْقَهُونَ فِيهِ» .
وقد جرى في " المُوَطَّأ " على أن يُبَوِّبَهُ على أبواب العلم المختلفة، ويذكر في كل باب ما جاء فيه من الحديث عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثم ما ورد من الآثار عن الصحابة والتَّابِعِينَ، وكانوا في جمهرتهم من أهل المدينة، لأن مالكاً رحمه الله لم يغادرها، وأحياناً يفسر كلمات الحديث بعد سرده، وَيُبَيِّنُ المراد من بعض عباراته، وكان ينص على عمل أهل المدينة في الأبواب التي جاء فيها من حديث الآحاد ما يعارض ذلك العمل.
أما درجة " المُوَطَّأ " في السُنَّة فقد اختلفت آراء العلماء.
فقال قوم: بأنه مُقَدَّمٌ على " الصَحِيحَيْنِ " لمكانة الإمام مالك رحمه الله، ولما عرف عنه من التثبت والتمحيص، وحسبك أنه أَلَّفَهُ في أربعين سَنَةٍ، وَمِمَّنْ ذهب إلى هذا الرأي ودافع عنه، ابن العربي، وهو رأي جمهور المالكية.
ومنهم من جعله مع " الصَحِيحَيْنِ " في مرتبة واحدة، وإليه يشير كلام
الدهلوي في " حُجَّةُ اللهِ البَالِغَةُ " حيث تحدث في طبقات كُتُبِ السُنَّةِ، وجعل في الطبقة الأولى منها، " المُوَطَّأ " و" الصَحِيحَيْنِ ".
ومنهم من رأى مرتبته دُونَ مرتبة " الصَحِيحَيْنِ "، وهو رأي جمهور المُحَدِّثِينَ، وَيُعبِّرُ عن سِرِّ ذلك ابن حجر حيث يقول:«إِنَّ كِتَابَ مَالِكٍ صَحِيحٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَنْ يُقَلِّدُهُ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ مِنَ الاحْتِجَاجِ بِالمُرْسَلِ وَالمُنْقَطِعِ وَغَيْرِهِمَا» وقد عرفت عدم اعتداد المُحَدِّثِينَ بالمرسل والمنقطع وما عدا المتصل، فلا جرم إن كانت مرتبة " المُوَطَّأ " - عندهم - دُونَ مرتبة " الصَحِيحَيْنِ ".
وقد أجاب أصحاب القولين عن وجود المرسل والمنقطع في " المُوَطَّأ " بأنها متصلة السند من طرق أخرى، فلا جرم أنها صحيحة من هذا الوجه.
ومِمَّنْ عَنِيَ بِوَصْلِ مَا فِيْ " الْمُوَطَّأِ " مِنْ مُرْسَلٍ وَمُنْقَطَعٍ وَمُعْضَلٍ، الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَمِمََّا قَالَهُ: «وَجَمِيِعِ مَا فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ " بَلَغَنِيَ "، وَمِنْ قَوْلِهِ " عَنْ الثِّقَةِ " عِنْدَهُ مِمََّا لَمْ يُسْنِدْهُ، وَاحِدٌ وَسِتُّونَ حَدِيثًا كُلُّهَا مُسْنَدَةٌ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ مَالِكٍ، إِلَاّ أَرْبَعَةَ، لَا تَعْرِفُ وَهِيَ:
1 -
«إِنِّي لَا أَنْسَى وَلَكِنْ أُنَسَّىَ» .
2 -
3 -
4 -
«إِذَا أَنْشَأَتْ بَحْرِيَّةً (أَيْ سَحَابَةٌ) ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنٌ غُدَيْقَة» أَيْ: (كَثِيرَةَ المَاءِ).
(1) هو موضع الركاب من رحل البعير.
وقد دافع العلماء عن هذه الأحاديث الأربعة بأن معاني هذه الأحاديث صحيحة واستشهدوا لها بما في كُتُبِ السُنَّةِ، ولكن الشيخ الشنقيطي في كتابه " إضاءة الحالك " نقل عن ابن الصلاح أنه وصل هذه الأحاديث الأربعة، والذي استظهره السيوطي «إِطْلَاقُ أَنَّ " المُوَطَّأَ " صَحِيحٌ لَا يَسْتَثْنِي مِنْهُ شَيْءٌ لأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ المَرَاسِيلِ مَعَ كَوْنِهِ حُجَّةً عِنْدَهُ بِلَا شَرْطٍ، وَعِنْدَ مَنْ يُوَافِقُهُ مِنْ الأَئِمَّةِ فِي الاحْتِجَاجِ بِالمُرْسَلِ، فَهُوَ أَيْضًا حُجَّةَ عِنْدَنَا لأَنَّ الْمُرْسَلَ - عِنْدَنَا - حُجَّةَ إِذَا اعْتُضِدَ، وَمَا مِنْ مُرْسَلٍ فِيْ " المُوَطَّأَ " إِلَاّ وَلَهُ عَاضِدٌ أَوْ عَواضِدَ» (1).
هذا وقد زعم ابن حزم أَنَّ في " المُوَطَّأ " أحاديث ضعيفة، وَهَّاهَا العلماء، وقد تَعَقَّبَهُ اللَّكْنَوِي:«بِأَنَّهَا لَمْ تَصِلْ إِلَى حَدِّ السُّقُوطِ وَالوَضْعِ، وَلَعَلَّ مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ تَوْهِينِ العُلَمَاءِ لِبَعْضِ تِلْكَ الأَحَادِيثِ نَاشِئٌ مِنْ حُكْمِهُمُ عَلَيْهَا بِالنَّظَرِ إِلَى الطُّرُقِ التِي وَصَلَتْهُمْ، أَمَّا بِالنَّظَرِ لِطَّرِيقِ مَالِكٍ فَهِيَ عِنْدَهُ صَحِيحَةٌ، وَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ رَأْيُِهُ فِيْ شُيُوخِهِ وَمَنْ رَوَىَ عَنْهُمْ إِذْ هُوَ أَدْرَى? بِهِمْ وَأَعْرَفُ» .
وقد بلغت روايات " المُوَطَّأ " المتداولة نحواً من ثلاثين نسخة من أشهرها: "موطأ يحيى بن يحيى الليثي " و"موطأ ابن بُكَيْرٍ " و"موطأ أبي مُصعب " و"موطأ ابن وَهْبٍ " و"موطأ الإمام محمد بن الحسن " وهذه النسخ تختلف فيما بينها تقديماً وتأخيراً وزيادة ونقصاً لاختلاف الزمن الذي رويت فيه عن مالك، مع ما كان عليه رحمه الله من إدامة النظر في " موطئه " فلا يبعد أن يزيد فيه أحياناً، وأن ينقص منه أحياناً حسبما يتراءى له من النظر.
ولهذا اختلفت الأقوال في عدد أحاديث " المُوَطَّأ " نظراً لاختلاف النسخ المتداولة، فأبو بكر الأَبْهُرِي يقول: «جُمْلَةُ مَا فِي " المُوَطَّأِ " مَنَ الآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، أَلْفٌ وَسَبْعُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا، المُسْنَدُ
(1)" شرح الموطأ ": ص 8.