الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما إن الخلافات الفقهية والكلامية كان لها أثر في الوضع فهذا ما لا ننكره. وقد سبق الإشارة إليه عند الكلام على حركة الوضع وأسبابها، وأما الادعاء بان أبا حنيفة لم يصح عنده إلا سبعة عشر حَدِيثًا ونسبة ذلك إلى العلماء فهذا ما أخطا فيه المؤلف جانب الحق وسلك غير سبيل العلماء.
ذلك أن مذهب أبي حنيفة أوسع المذاهب الفقهية تفريعاً واستنباطاً، حتى لقد بلغت المسائل التي أثرت عنه مئات الألوف، وليس من المعقول أن يستنبط أبو حنيفة ذلك من آيات الأحكام القليلة وبضعة عشر حَدِيثًا فقط، فإن قيل: إنه استنبط هذا الفقه من القياس، قلنا: ما جمع من أحاديث أبي حنيفة في "مسانيده " التي رواها عنه أصحابه وتلاميذه: بلغت بضعة عشر مسنداً، مِمَّا يدل على أن قدراً كبيراً من فقهه مأخوذ مِنَ السُنَّةِ، ولا يصح، أن يقال: إن ما صح عنده منها بضعة عشر حَدِيثًا فقط، إذ كيف لم تصح عنده وهو يحتج بها ويفرع عليها؟
أما قول ابن خلدون، فقد ذكره بصيغة التمريض إشارة إلى أنه غير جازم بذاك: وأيضاًً فلا نعلم لابن خلدون سَلَفاً في هذه المقالة، بل نصوص العلماء متضافرة على أنه صح عند أبي حنيفة قدر من الأحاديث كبير، وسنرى ذلك عند البحث عن أبي حنيفة رحمه الله في آخر الرسالة بحثاً علمياً دقيقاً في هذا الموضوع.
تَغَالِي النَّاسِ فِي الاعْتِمَاد عَلَى السُنَّةِ:
يقول المؤلف في ص 263 متكلماً عن أسباب الوضع: «يخيل إِلَيَّ أن من أهم أسباب الوضع تغالي الناس إذ ذاك في أنهم لا يقبلون من العلم إلا على ما اتصل بالكتاب وَالسُنَّةُ اتصالاً وثيقاً وما عدا ذلك فليس له قيمة كبيرة، فأحكام الحلال والحرام إذا كانت مؤسسة على مجرد الاجتهاد لم يكن لها قيمة ما أسس على الحديث ولا يقرب منه، بل كثير من العلماء في ذلك العصر كان يرفضها ولا يمنحها أية قيمة، بل بعضهم كان يُشَنِّعُ على من ينحو هذا النحو، والحكمة والموعظة الحسنة إذا كانت من أصل هندي أو يوناني أو فارسي، أو من شروح " التوراة " و" الإنجيل " لم يؤبه له،
فحمل ذلك كثيراً من الناس أن يصبغوا هذه الأشياء كلها صبغة دينيه حتى يقبلواعليها، فوجدوا الحديث هو الباب الوحيد المفتوح على مصراعيه، فدخلوا منه على الناس ولم يتقوا الله فيما صنعوا، فكان من أثر ذلك أن نرى الحُكْمَ الفِقْهِيَّ المَصْنُوعَ، والحكمة الهندية والفلسفة الزردشية، والموعظة الإسرائيلية والنصرانية» اهـ.
أتفق المُسْلِمُونَ سلفاً وخلفاً - إلا من لا يعتد بهم من أصحاب البدع والأهواء - على أن الكتاب وَالسُنَّةُ أصلان من أصول التشريع الإسلامي، لا يجوز لأحد أن يحكم في القضاء الإسلامي بخلاف ما جاء فيهما، ولا لمجتهد أن يجتهد في مسالة بغير الرجوع إليهما، ثم انقسموا قسمين: قسم يرى الأخذ بظواهر النصوص من غير تعليل ولا توسع في القياس وَهُمْ الظاهرية وأكثر أهل الحديث.
وقسم يرى إعمال الفكر في استنباط الأحكام من النصوص فعملوا بالقياس مع الكتاب وَالسُنَّةُ، وبحثوا عن العلة وَخَصَّصُوا العَامَّ، وَقَيَّدُوا المُطْلَقَ، وَبَيَّنُوا الناسخ من المنسوخ حين تقوم القرينة على ذلك كله، وهؤلاء هم جمهور المُجْتَهِدِينَ وَحَمَلَةِ العلم منذ عصر الصحابة حتى يومنا هذا.
نعم كان هناك تفاوت بينهم في الأخذ بالقياس والتعليل، وفي الأحاطة بِالسُنَّةِ وشروط صحتها والعمل بها، ومن هنا كان الخلاف بين مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، ولكنهم متفقون جميعاً على أنه لا يصح الاجتهاد في الفقه مُجَرَّدًا غير منظور به إلى الحديث، بل أوجبوا على المجتهد أن يحيط بأحاديث الأحكام كلها لا يألو في ذلك جهداً.
عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي شَيْءٍ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ إِلَاّ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ وِجْهَةُ الْعِلْمِ مَا نُصَّ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ، أَوْ فِي الإِجْمَاعِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي ذَلِكَ فَالْقِيَاسِ عَلَى هَذِهِ الأُصُولِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا»
أخرج الحافظ ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم " عَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي شَيْءٍ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ إِلَاّ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ وِجْهَةُ الْعِلْمِ مَا نُصَّ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ، أَوْ فِي الإِجْمَاعِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي ذَلِكَ فَالْقِيَاسِ عَلَى هَذِهِ الأُصُولِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا» (1).
(1) 2/ 26.
والمجمع عليه لدى الأئمة المُجْتَهِدِينَ، أن المجتهد ينظر أَوَلاً في كتاب الله، ثم في سُّنَّةِ رسوله، وفي أقوال الصحابة، ثم ينقلب إلى الاستنباط والقياس إن لم يكن هناك إجماع، وسترى عند الكلام على الأئمة الأربعة من أصول مذاهبهم في الاجتهاد ما يؤكد لك ذلك.
فما ادعاه المؤلف من أن أحكام الحلال والحرام، إذا كانت مؤسسة على الاجتهاد لم يكن لها قيمة ما أسس على الحديث، يفيد أن هناك اجْتِهَادًا غير مؤسس على الحديث مع وجوده في يد المجتهد، وهذا لم يقع لإمام من الأئمة المُجْتَهِدِينَ قط، ومن قواعدهم المُسِلَّمَةِ لهم جميعاً أن الاجتهاد في مقابلة النص لا يجوز.
أما الحكمة والموعظة الحسنة، فلا نعلم إماماً من الأئمة رفض الأخذ بها لمجرد أنها لم ترد في القرآن والسُنّة، ما دامت لا تصادم نصوص الشريعة، ولا روحها، ولا غايتها السامية ولا آدابها المطلوبة. ومن المأثور عندهم أن الحكمة ضالة المؤمن (1) يلتقطها أنى وجدها. وقد ذكرِ الله في وصف عباده المؤمنين أنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وقص علينا كثيراً من قصص الماضين، وحكمهم ومواعظهم، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على أنه لا مانع من الأخذ عن الماضين بما لا يختلف عن مقاصد الشريعة، ومن هنا جاءت القاعدة الأصولية:«شرع من قبلنا شرع لنا إذا قصه الله أو رسوله علينا من غير نكير» .
وقد أخرِج البخاري في " صحيحه " عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» . قال الحافظ ابن حجر: «أَيْ لَا ضِيقَ عَلَيْكُمْ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُمْ لأَنَّهُ كَانَ تَقَدَّمَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم الزَّجْرُ عَنِ الْأَخْذِ عَنْهُمْ وَالنَّظَرِ فِي كُتُبِهِمْ ثُمَّ حَصَلَ التَّوَسُّعُ فِي ذَلِكَ وَكَأَنَّ النَّهْيَ وَقَعَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الأَحْكَامِ الإِسْلَامِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الدِّينِيَّةِ خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ ثُمَّ لَمَّا زَالَ الْمَحْذُورُ وَقَعَ الإِذْنُ فِي ذَلِكَ لِمَا فِي سَمَاعِ
(1) هذا نص حديث أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن.