الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأستاذ بعد كلامه هذا بصحيفتين كلاماً عن ابن أبي الحديد في شرح الخطبة المذكورة مما يدل على أنه مطلع عليها بيقين، ولكن إن كان لغُلَاة الشِيعَة هوى في تجريح الصحابة ورميهم بالكذب، ليخلصوا إلى إمامة عليٍّ وعصمة الأئمة من بعده، فما هو هوى الأستاذ في هذا إلا أن يكون غرضه التشكيك بهم وهم نقلة السُنَّة إلينا وعنهم أخذناها؟
أَحَادِيثُ التَّفْسِيرِ:
وقال في ص 529: «وحسبك دليلاً على مقدار الوضع أن أحاديث التفسير التي ذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: «لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ» ، قد جمع فيها آلاف الأحاديث، وأن البخاري وكتابه يشتمل على سبعة آلاف حديث منها نحو ثلاثة آلاف مُكَرَّرَةٌ، قالوا: إنه اختارها وَصَحَّتْ عنده من ستمائة ألف حديث كانت متداولة في عصره».
كثرة الوضع في الحديث مِمَّا لا ينكره أحد، ولكنه أراد أن يستدل على مقدار الوضع فاستشهد بشيئين: أحاديث التفسير، وأحاديث البخاري. وظاهر عبارته في أحاديث التفسير أنه يُشكِّكُ فيها كلها إذ ينقل عن الإمام أحمد أنه قال:«لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا شَيْءٌ» (1). مع أنهم قد جمعوا فيها مئات الأحاديث، والإمام أحمد لا تخفى مكانته في السُنَّةِ، فإذا قال في أحاديث التفسير: لم يصح منها شيء كان كل ما روي فيها شُكُوكاً بصحته إن لم يحكم عليه بالوضع، أليست هذه نتيجة منطقية لكلام الأستاذ؟ والكلام معه في مقامين.
الأول: في أحاديث التفسير.
والثاني: فيما نقله عن الإمام أحمد.
أما أحاديث التفسير، فلا يخفى على كل من طالع كُتُبَ السُنَّةِ أنها
(1) وقد سبق له أن نقل هذا القول عن أحمد في بحثه السابق عن القرآن في كتابه " فجر الإسلام ".
أثبتت شيئاً كثيراً منها بطرق صحيحة لاغبار عليها، وما من كتاب في السُنَّة إلا وقد أفرد فيه مؤلفه باباً خاصاً لما ورد في التفسيرعن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين، وقد اشترط علماء التفسير على من يفسِّر كتاب الله عز وجل أن يعتمد فيه على ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك.
قال الإمام أبو جعفر الطبري في " تفسيره ": «إِنَّ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا لَا يُوصَلُ إِلَى عِلْمِ تَأْوِيلِهِ، إِلَاّ بِبَيَانِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ تَأْوِيلُ جَمِيعِ مَا فِيهِ، مِنْ وجُوهِ أَمْرِهِ: وَوَاجِبِهِ، وَنَدْبِهِ، وَإِرْشَادِهِ» . إلى آخره (1).
وقال أبوحيان الأندلسي المُفَسِّرُ صاحب " البحر المحيط " في صدد ما يحتاج إليه المُفَسِّرُ: (الوجه الرابع) تعيين مبهم، وتبين مجمل، وسبب نزول، ونسخ. ويؤخذ ذلك من النقل الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك من علم الحديث، وقد تضمنت الكتب والأمهات التي سمعناها ورويناها ذلك كالصحيحين، والجامع للترمذي، وسنن أبي داود
…
وأخذ يعدد كتب السُنَّة.
وفي " الاتقان " للسيوطي (2) قال ابن تيمية: «يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لأَصْحَابِهِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَلْفَاظَهُ، فقوله تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3) يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا.
هذاو قد قسَّم الزركشي القرآن إلى قسمين: قسم ورد تفسيره بالنقل، وهو إما عَنْ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة والتَّابِعِينَ، وقسم لم يرد.
فأنت ترى أنهم جعلوا التفسير بين منقول وغير منقول، وأوجبوا على المُفَسِّرِ أن يرجع إلى الأول ويعرفه، ولو لم يصح فيه شيء بل لو لم يصح منه شيء كثير لما فعلوا ذلك، وهنالك من العلماء من ذهب إلى أنه لا يجوز التفسير إلا بما ورد عَنْ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم.
(1) 1/ 25 من الطبعة الأميرية.
(2)
2/ 176 طبع مصطفى البابي - الطبعة الثانية.
(3)
[سورة النحل، الآية: 44].
قال السيوطي في " الإتقان "(1): «اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ هَلْ يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ الْخَوْضُ فِيهِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ لأَحَدٍ أَنْ يَتَعَاطَى تَفْسِيرَ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَدِيبًا مُتَّسِعًا فِي مَعْرِفَةِ الأَدِلَّةِ وَالْفِقْهِ وَالنَّحْوِ وَالأَخْبَارِ وَالآثَارِ وَلَيْسَ لَهُ إِلَاّ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ
…
إلخ».
وهذا وإن كان خلاف المعتمد إلا أنه يدل على أن هنالك آثاراً في التفسير لايصح تجاهلها ولا يسوغ لأي عالم إنكارها، كيف وقد ذكر الشافعي في " مختصر البُوَيْطِي" أنه لا يحل تفسير المتشابه إلا بِسُنَّةٍ عَنْ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم، أو خبر عن أحد من أصحابه: أو إجماع العلماء، نعم إن الذي نقل عَنْ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم تفسيره، أقل مِمَّا لم ينقل، وأن ما صح عنه أقل مِمَّا لم يصح، ولكن هذا لايجوز تشكيك الناس في جملته.
وأما ما نقله عن الإمام أحمد في أحاديث التفسير، فهو يشير إلى ما روي عنه من قوله:«ثَلَاثَةُ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ: التَفْسِيرُ، وَالمَلَاحِمُ وَالمَغَازِي» ، وفي رواية:«[ثَلَاثَةُ] كُتُبٍ لَا أَصْلَ لَهَا: المَغَازِي وَالمَلَاحِمُ وَالتَفْسِيرُ» والكلام عن هذه العبارة من وجوه:
أَوَلاًً - أن في النفس من صحتها شَيْئًا، فإن الإمام أحمد نفسه قد ذكر في " مسنده " أحاديث كثيرة في التفسير. فكيف يعقل أن يُخْرِجَ هذه الأحاديث ويثبتها عن شيوخه في " مسنده "، ثم يحكم بأنه لم يصح في التفسير شيء؟ وأيضاًً فمقتضى هذه العبارة أن يكون كل ما روي عن أخبار العرب ومغازي المُسْلِمِينَ مكذوباً من أصله، ومن يقول بهذا؟
ثَانِياًً - إِنَّ نفي الصحة لا يستلزم الوضع أو الضعف، وقد عرف عن الإمام أحمد خاصة نفي الصحة عن أحاديث وهي مقبولة، وقالوا في تأويل ذلك: إن هذا اصطلاح خاص به، قال اللَّكْنَوِي في " الرفع والتكميل " (2):
(1) 2/ 180.
(2)
ص 86 من طبعة حلب.
«كَثِيراً مَا يَقُولُونَ " لَا يَصِحُّ "، وَ " لَا يَثْبُتُ " هَذَا الحَدِيثُ، وَيُظَنُّ مِنْهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ، أَوْ ضَعِيفٌ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَهْلِهِ بِمُصْطَلَحَاتِهِمْ وَعَدَمِ وُقُوفِهِ عَلَى مُصَرَّحَاتِهِمْ» ، فقد قال علي القاري في " تذكرة الوضوعات ":«لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الثُّبُوتِ وُجُودُ الوَضْعِ» . وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الأذكار المسمى بـ " نتائج الأفكار ": ثبت عن أحمد ابن حنبل أنه قال: «لا أعلم في التسمية (أي التسمية بالوضوء) حَدِيثًا ثابتاً» ، قلت:(أي ابن حجر): «لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ العِلْمِ ثُبُوتُ العَدَمِ، وَعَلَى التَنَزُّلِ: لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الثُّبُوتِ ثُبُوتُ الضَّعْفِ، لاِحْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بَالثُّبُوتِ الصِحَّةَ، فَلَا يَنْتَفِي الحُسْنُ» اهـ.
ثَالِثاًً - الإمام أحمد لم يقل: إنه لم يصح في التفسير شيء، وإنما قال:«ثَلَاثَةُ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ» ، والظاهر أن مراده نفي كتب خاصة بهذه العلوم الثلاثة، بدليل ما جاء في الرواية الثانية مُصَرِّحاً به «ثَلَاثَةُ كُتُبٍ» . وهذا المعنى هو ما فهمه الخطيب البغدادي، حيث قال:«وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى كُتُبٍ مَخْصُوصَةٍ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ [غَيْرِ مُعْتَمَدٍ عَلَيْهَا لِعَدَمِ عَدَالَةِ نَاقِلِيهَا وَزِيَادَاتِ الْقُصَّاصِ فِيهَا فَأَمَّا كُتُبُ الْمَلَاحِمِ فَجَمِيعُهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلْيَسَ يَصِحُّ فِي ذِكْرِ الْمَلَاحِمِ الْمُرْتَقَبَةِ وَالفِتَنِ الْمُنْتَظَرَةِ غَيْرُ أَحَادِيثَ يَسِيرَةٍ، وَأَمَّا كُتُبُ التَّفْسِيرِ] فَمِنْ أَشْهَرَهَا كِتَابَا الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي " تَفْسِيرِ الْكَلْبِيِّ ": " مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ كَذِبٌ [قِيلَ لَهُ: فَيَحِلُّ النَّظَرُ فِيهِ؟] قَالَ: لَا "» .
رَابِعاًً - يحتمل أن يكون مُرَادُ الإمام أحمد في عبارته المذكورة أن ما صح من التفسير قليل بالنسبة لما لم يصح، وعلى هذا المعنى حملها كثير من أهل العلم. ففي " الإتقان "(1)، قال ابن تيمية:«وَأَمَّا القِسْمُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ كَثِيرًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَإِنْ قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: " ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ: التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي" وَذَلِكَ لأَنَّ الغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ» .
وقال الزركشي في " البرهان "(2): «لِلْنَّاظِرِ فِي القُرْآنِِ لِطَالِبِ التَّفْسِيرِِ مَآخِذُ
(1) 2/ 178 الطبعة السابقة.
(2)
كذا نقله السيوطي عنه في " الإتقان ": 2/ 178 الطبعة السابقة.