الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَدَّ النَّقْدَ التَّارِيخِيَّ بِأَدَاةٍ ثَمِينَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ الإِسْنَادُ عِنْدَهُ أَمْرًا ضَرُورِيًّا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ فِي " المُوَطَّأِ " مِنَ المَرَاسِيلِ». اهـ.
ويتلخص مِمَّا ذكرناه مختصراً، وذكره مطولاً في كتابه، أمران:
الأول: أَنَّ مالكاً لم يكن مُحَدِّثاً.
والثاني: أَنَّ " المُوَطَّأَ " ليس كتاب حديث بل كتاب فقه.
جَوَابُ الشُّبْهَةِ:
1 -
أما أن مالكاً لم يكن مُحَدِّثاً فهذا تَجَنٍّ، على الحق ومخالفة لما يعرفه العلماء جميعاً، فقد كان مالك من كبار المُحَدِّثِينَ في عصره، وكانت مجالسه للتحديث معروفة مشهورة، وكانوا يقصدونه من مختلف البقاع لأخذ حديثه، ولا ينازع في هذا إلا مكابر.
ولقد كان - مع حديثه وإمامته في الحديث - فقيهاً من أئمة الفقهاء، فلم يكن مِمَّنْ يجلس للتحديث فقط دُونَ أن يتكلم في فقه الحديث، أو تكون له آراء في المسائل الاجتهادية، أي أنه لم يكن كيحيى بن معين والأعمش مثلاً، وكذلك كان فقهاء التَّابِعِينَ يجمعون - غالباً - بين الحديث والفقه، فالاستدلال بأنه كان يستعمل رأيه فيما ليس فيه نص على أنه لم يكن مُحَدِّثاً بل كان فقيهاً، تجاهل لميول المُحَدِّثِين منذ عصر الصحابة، فابن مسعود وهو من أكبر رُواة الحديث كان يجتهد فيما ليس فيه نص، في حين كان ابن عمر - وهو من كبار المُحَدِّثِين أيضاًً - وَقًَّافاً عند النصوص، فليس كل من يجتهد، ويستنبط، يخرج من دائرة الحديث، كما أنه ليس كُلُّ مُحَدِّثٍ لا يستعمل رأيه فيما بين يديه من النصوص، وخذ لذلك مثلاً في التَّابِعِينَ، الثوري، أو الأوزاعي، فقد كانا أئمة الحديث، فى الوقت الذى كانا فيه من أئمة الفقه، ولا مانع يمنع من الجمع بين الناحيتين لمن آتاه الله فهماً وحفظاً.
أما أنه أخرج في "موطئه " المراسيل فذلك لأن مذهبه صحة الاحتجاج
بالمرسل والمنقطع، لا لأنه لم يكن مَعْنِيًّا بالأسانيد كما يُعْنَى المُحَدِّثُونَ، كيف وقد روي عنه «رُبَّمَا جَلَسَ إِلَيْنَا الشَّيْخُ فَيُحَدِّثُ جُلَّ نَهَارِهِ مَا نَأْخُذُ عَنْهُ حَدِيثًا وَاحِدًا» ، وهو القائل: «لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَنْ أَرْبَعَةٍ،
…
الخ» وقد نقلناه لك من قبل.
ويزيدك ثقة بما نقول أن أقران مالك اعترفوا له بالإمامة في الحديث والتثبت فيه، يقول سفيان بن عينة:«كان مالك لا يبلغ من الحديث إلا صحيحاً، ولا يُحَدِّث إلا عن ثقات الناس» وقال يحيى بن سعيد القطان: «كان مالك إماماً في الحديث» ، ويقول ابن قدامة:«كان مالك أحفظ أهل زمانه» .
ْ2 - وأما أن " المُوَطَّأ " ليس كتاب حديث، فينقضه عناية العلماء به على اختلاف مذاهبهم، فهذا هو محمد بن الحسن يرويه بعناية وهو من أصحاب أبي حنيفة، وهذا هو الأوزاعي، يرويه عن مالك، وهو إمام مذهب معروف وها هو الشافعي يأخذه عن مالك أيضاًً، وها هم علماء من الحَنَفِيَّة والشافعية يشرحونه أو يختصرونه. نعم لقد كان للمالكية عناية به أكثر من غيرهم، لأنه كتاب إمامهم وصاحب مذهبهم.
ولو كان " المُوَطَّأ " كتاب فقه لما لقي هذا الإجماع على العناية به من مختلف المذاهب، أما أن أبوابه جاءت طبقاً لمقاصد الفقه وبحوثه، فهذا لا يخرجه عن أن يكون كتاب حديث كما فعل البخاري، وهو - بالاتفاق - قد صنف كتابه الصحيح ليكون كتاب حديث، ومع ذلك فقد بَوَّبَهُ على أبواب الفقه، وفعل مثل ما فعل مالك من ذكر اَراء الصحابة والتَّابِعِينَ في " صحيحه "، وقل مثل ذلك في " الترمذي " الذي حرص على أن يذكر في كل باب ما فيه من الخلاف بين العلماء وتفاصيل أقوالهم، وكذلك فعل أبو داود.
ولا يلزم من ذكر رأي الصحابي أو التابعي في كتاب حديث أن يخرج الكتاب عن زمرة كتب الحديث، خصوصاً عند من يرى إطلاق الحديث على كل ما أُثِرَ عن الرسول أو الصحابة أو التَّابِعِينَ.
وأما عدم عده مع الكتب الستة فلما أكثر مالك فيه من المراسيل، وهو وإن كان يرى العمل بها، ولكن غيره من المُحَدِّثِينَ لا يرون ذلك. فهذا هو الذي منع عَدَّهُ في "الكتب الستة " على أن الأنظار والآراء في ذلك متفاوتة كما سبق، وأمامنا " مسند الإمام أحمد " فإنه - باتفاق الناس جميعاً - كتاب حديث ومع ذلك فلم يعده كثبر من العلماء من " الكتب الستة " لاعتبارات خاصة.
واما أن تقوى المتأخرين هي التي جعلتهم يعدونه من كتب الصحاح، فهذه أساليب المُسْتَشْرِقِينَ وعباراتهم، وإلا فما معنى تقوى المتأخرين هنا؟ ألم يكن للمتقدمين تقوى تحملهم على ذلك؟ وما دخل التقوى هنا؟ وكيف يصح هذا القول والشافعي هو الذي قال:«مَا أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ كِتَابًا فِي العِلْمِ أَكْثَرَ صَوَابًا مِنْ كِتَابِ مَالِكٍ» ، وأجاب ابن الصلاح بأن ذلك قبل أن يظهر كِتَابَا البخاري ومسلم (1).أليس في هذا تقدير المُتَقَدِّمِينَ من علمائنا لـ " مُوَطَّأِ " مالك ونظرهم إليه على أنه كتاب حديث لا كتاب فقه؟ وإلا لما كان هنالك حاجة لأن يعتذر عن الشافعي بما اعتذر به ابن الصلاح، ولكان الجواب الطبيعي أن يقال: إن كتاب مالك كتاب فقه، وكان كتابا البخاري ومسلم كِتَابَيْ حديث ..
(1)" مقدمة علوم الحديث ": ص 9.