الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثَانِيًا:
نَقْدُ أَحَادِيثَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ:
الحَدِيثُ الأَوَّلُ: «لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ» :
هذا حديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث، وفهم منه المؤلف أن مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، الإخبار بانتهاء الدنيا بعد مائة سَنَةٍ ومن هنا حكم عليه بالوضع، لمخالفته للحوادث التاريخية والحس والمشاهدة.
ولكن هذا الحديث الذي ذكره، هو جزء من حديث كامل أخرجه البخاري في باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء من كتاب الصلاة، وهو أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةٍ سَنَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ (الْيَوْمَ) عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ» . فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ [مِنْ] هَذِهِ الأَحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ «الْيَوْمَ» عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ، فهذا نص الحديث واضح في «أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ أَصْحَابَهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ» وجاء في رواية جابر - قبل وفاته بشهر - أن من كان منهم على ظهر الأرض حَيًّا حين قال الرسول تلك المقالة لا يعمر أكثر من مِائَةِ سَنَةٍ، ولم يفطن بعض الصحابة إلى تقييد الرسول بمن هو على ظهرها - اليوم - فظنوه على إطلاقه وأن الدنيا تنتهي بعد مِائَةِ سَنَةٍ، فنبههم ابن عمر إلى القيد في لفظ الرسول وَبَيَّنَ لهم المراد منه، وكذلك فعل علي بن أبي طالب في رواية الطبراني.
وقد استقصى العلماء من كان آخر الصحابة موتاً فوجدوه أبا الطفيل عامر بن واثلة، وقد مات سَنَةَ عشر ومائة وهي رأس مائة سَنَةٍ من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون الحديث معجزة من معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث أخبر بأمر مغيب فوقع كما أخبره. ذلك هو ما يفيده نص الحديث من الوقائع المؤيدة له وإليك أقوال الشُرَّاحِ أيضاًً.
وذكر الإمام مسلم هذا الحديث بطرق متعددة وفي إحدى طرقه عَنْ جَابِرٍ [عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ]: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ (الْيَوْمَ)، تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ، وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ»
وَنَقَلَ الكَرْمَانِي عَنْ ابْنِ بَطَّالٍ قَوْلَهُ: «إِنَّمَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ تَخْتَرِمُ الْجِيلَ الَّذِي هُمْ فِيهِ، فَوَعَظَهُمْ بِقِصَرِ أَعْمَارِهِمْ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ أَعْمَارَهُمْ لَيْسَتْ كَأَعْمَارِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الأُمَمِ، لِيَجْتَهِدُوا فِي الْعِبَادَةِ» .
أما وفاة أبي الطفيل فقد قال ابن الصلاح في " مقدمته ": «آخِرُهُمْ عَلَى الإِطْلَاقِ مَوْتًا أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ، مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ» (3). وفي " أُسد الغابة ": «تُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَةٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ. وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ، مِمَّنْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» .
قال ابن حجر في " الإصابة ": «وَأَمَّا الْشَّرْطُ الْثَّانِي وَهُوَ الْمُعَاصِرَةُ،
(1) 2/ 32.
(2)
9/ 526.
(3)
" مقدمة علوم الحديث ": ص 150.
فَيُعْتَبَرُ بِمُضِيِِّ مِائَةِ سَنَةٍ وَعَشْرُ سِنِينَ مِنْ هِجْرَةِ الْنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِيْ آَخِرِ عُمُرِهِ لأََصْحَابِهِ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هذِهِ؟ فَإِنَّ عَلَى رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا، لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَيْهَا أَحَدٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ عُمَرَ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيْثِ جَابِرٍ أَنََّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ
…
وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ لَمْ تُصَدِّقْ الأَئِمَّةُ أَحَدًا ادََّعَى الصُّحَبَةَ بَعْدَ الغَايَةِ الْمَذْكُوْرَةِ، وَقَدْ ادََّعَاهَا جَمَاعَةُ فَكَذَّبُوا مِنْهُمْ رَتْنَ الْهِنْدِيََّ» (1) اهـ.
فأنت ترى أن هذا الحديث الذي كان في الواقع معجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ينقلب في منطق النقد الجديد الذي دعا إليه صاحب " فجر الإسلام " إلى أن يكون مكذوباً مُفْتَرًى!.
أما كيف وقف الأستاذ هذا الموقف، وكيف حكم بكذب هذا الحديث فَهَهُنَا محل العبرة، ذكر ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث " فيما ذكره من مطاعن النَظَّامِ وجماعته على أهل الحديث أنهم يَرْوُونَ أحاديث يُكَذِّبُهَا الواقع، وذكر فيها هذا الحديث، ثم تَعَقَّبَهُمْ ابن قتيبة وأجاب عن هذا الحديث بخلاصة ما ذكرنا من قبل، ولكن مؤلف " فجر الإسلام " الذي يحرص على أن يأتينا بنقد جديد ويثبت تقصير علمائنا في نقد السُنَّةِ، والذي يطمئن إلى حد كبير إلى طعون النَظَّامِ وغيره في السُنَّةِ قَدِيمًا، وطعون المُسْتَشْرِقِينَ فيها حَدِيثًا، لم يعجبه دفاع ابن قتيبة على ما يظهر، ولا ما كتبه الشُرَّاحُ حول هذا الحديث بل أغضى عن ذلك كله، وأغضى عن تفسير ابن عمر للحديث في " البخاري " نفسه، وعن رواية جابر في " صحيح مسلم " واقتصر على جزئه الذي ذكره " البخاري " في كتاب العلم أما البخاري فعذره ما جرى عليه من تقطيع الحديث في أبواب متعددة.
ومؤلف " فجر الإسلام " لا عذر له في اقتصاره على نقل هذا الجزء فقط مع تنبيه الشُرَّاح هنالك على ذلك. قال ابن حجر عند ذكر البخاري لهذا الجزء من كتاب العلم «قَوْلُهُ: " لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَيِ
(1)" الإصابة في معرفة الصحابة ": 1/ 8.