الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثَالِثاًً - صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه توقف في خبر ذي اليدين حين سَلَّمَ النَّبِيُّ على رأس الركعتين في إحدى صلاتي العشاء، وذلك قوله:«أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟» ولم يقبل خبره حتى أخبره أبو بكر وعمر ومن كان في الصف بصدقه فأتم وسجد للسهو، ولو كان خبر الواحد حُجَّةً لأَتَمَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ من غير تَوَقُّفٍ وَلَا سُؤَالٍ.
رَابِعاًً - قد روي عن عدد من الصحابة عدم العمل بخبر الآحاد. فقد رَدَّ أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجَدَّةِ حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة، وَرَدَّ عمر خبر أبي موسى في الاستئذان حتى انضم إليه أبو سعيد، وَرَدَّ أبو بكر وعمر خبر عثمان في إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رَدِّ الحَكَمِ بن أبي العاص، وَرَدَّ عَلِيٌّ خبر أبي سنان الأشجعي في المفوضة، وكان عَلِيٌّ لا يقبل خبر أحد حتى يحلفه سوى أبي بكر، وَرَدَّتْ عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله (1).
الجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُبَهِ:
وقد أجاب العلماء عن هذه الشُبَهِ بما نوجزه فيما يلي:
أما الجواب عن الشُبْهَةِ الأولى: فهي أن ذلك في أصول الدين وقواعده العامة كما ذكرنا، أما في فروع الدين وجزئياته فالعمل بالظن واجب ولا سبيل إليها إلَاّ بالظن غالباً، ألَا ترى أنَّ الأفهام تختلف في نصوص القرآن، والمجتهدون يذهبون فيها مذاهب متعددة، وليس أحد منهم يقطع بصحة اجتهاده، ومع ذلك فالإجماع قائم على وجوب العمل بما أدى إليه اجتهاده، وليس لذلك سبيل إلَاّ الظن. وأيضاًً فإن حُجِيَّة خبر الآحاد ليست ظنية بل هي مقطوع بها لانعقاد الإجماع على ذلك بين العلماء منذ عصر الصحابة فمن بعدهم - ولا يضر دعوى الإجماع مخالفة هؤلاء فإنه خلاف لا يعتد به - فلايكون العمل بها دليلاً ظنياً بل بدليل مقطوع به مفيد
(1)" الأحكام " للآمدي: 1/ 94 و1/ 175 - 176 و" التقرير ": 2/ 272 - 273.
للعلم بذلك وهو الإجماع (1).
وأما الجواب عن الشبهة الثانية: فهو أن الإجماع منعقد على أن أصول الدين والعقائد لا يجوز أخذها من طريق ظَنِّيٍّ قَطْعاً، وليس الأمركذلك في الفروع.
وقال الآمدي: «[مِنَ الْمَعْقُولِ] أَنَّهَا مُنْتَقِضَةٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْفَتْوَى وَالشَّهَادَةِ، كَيْفَ وَالْفَرْقُ حَاصِلٌ. (أي بين الفروع والأصول) وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرَطَ فِي إِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ وَالأُصُولِ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ، فَلَمْ يَكُنِ الدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ مُعْتَبَرًا فِيهَا، بِخِلَافِ الْفُرُوعِ» (2) والحق أنَّ قياس الفروع على الأصول في وجوب القطع تحكم ومحال، إذ لا سبيل إلى ذلك في الفروع والأمر على العكس في الأصول، ولا يجادل في هذا إلا مكابر.
وأما الجواب عن الشُبْهَة الثالثة: فهو أنه عليه الصلاة والسلام إنما توقَّف في خبر ذي اليدين لِتَوَهُّمِهِ غَلَطَهُ، لبعد انفراده بمعرفته ذلك دُونَ من حضره من الجمع الكثير، ومع ظهور أمارة الوهم في خبر الواحد يجب التوقف فيه، فحيث وافقه الباقون على ذلك ارتفع حكم الأمارة الدالة على وَهْمِ ذي اليدين، وعمل بموجب خبره، كيف وَأَنَّ عمل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بخبر أبي بكر وعمر وغيرهما مع خبر ذي اليدين عمل بخبر لم ينته إلى حد التواتر، وهو موضع النزاع، في تسليمه تسليم المطلوب.
وأما الجواب عن الشُبْهَةِ الرابعة: فالثابت الذي لا شك فيه أنَّ الصحابة عملوا بخبر الآحاد، وتواتر عنهم ذلك، وسنسرد بعض الأدلة والوقائع التي عملوا فيها بخبر الواحد، فإذا روي عنهم التوقف في بعض خبر الآحاد، لم يكن ذلك دَلِيلاً على عدم عملهم به، بل لريبة أو وَهْمٍ أو رغبة في التَثَبُّتِ، وخذ لذلك مثلاً ما استدل به المخالفون من رَدِّ أبي بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة، فالواقع أَنَّ أبا بكر لَمْ يَرُدَّ خبر المغيرة لأنه لا يقبل خبر الآحاد، بل تَوَقَّفَ إِلَى أَنْ يأتي ما يؤيده ويزيده اعتقاداً بوجود
(1)" الأحكام " للآمدي: 1/ 169، و" الإحكام " لابن حزم: 1/ 114.
(2)
" الإحكام " للآمدي: 1/ 177.
هذا التشريع في الإسلام وهو إعطاء الجَدَّةَ السُدُسَ، ولما كان هذا تشريعاً لم ينص عليه القراَن كان لَا بُدَّ للعمل به وإقراره من زيادة في التثبت والاحتياط، فلما شهد محمد بن مسلمة أنه سمع هذا من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَتَرَدَّدْ أبو بكر في العمل بخبر المغيرة. ومثل ذلك يقال في رَدِّ عمر خبر أبي موسى فهو في الحقيقة - كما قَدَّمْنَا - درس بليغ للصحابة ومَنْ بعدهم مِمَّنْ نشأ حَدِيثًا في الإسلام أو دخل فيه بوجوب الاحتياط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عُمَرُ لأبي موسى:«أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمك وَلَكِنِّهُ الحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» ، ومثل ذلك يقال في كل ما ورد من هذا القبيل، ليس وَارِداً مورد عدم الاحتجاج بخبر الآحاد، وإلا لما كان انضمام صحابي آخر إلى الصحابي الأول مُوجِبًا للعمل به، إذ هو لم يخرج عن حَيِّزِ الآحاد، ولو انضم إليه اثنان أو ثلاثة، وسيأتي معنا ما يبين لك أن الصحابة كان يسأل بعضهم بعضاً، ويرد بعضهم على بعض، وَيُخَطِّىءُ بعضهم بعضاً، اجْتِهَادًا في دين الله، وَتَحَرِّيًا لنقل أحاديث الرسول خالية من كل غلطة أو وَهْمٍ، قال الآمدي:«وَمَا رَدُّوهُ مِنَ الأَخْبَارِ أَوْ تَوَقَّفُوا فِيهِ إِنَّمَا كَانَ لأُمُورٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ مِنْ وُجُودِ مُعَارِضٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ، لَا لِعَدَمِ الاحْتِجَاجِ بِهَا فِي جِنْسِهَا، مَعَ كَوْنِهِمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَلِهَذَا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ ظَوَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حُجَّةٌ، وَإِنْ جَازَ تَرْكُهَا وَالتَّوَقُّفُ فِيهَا لأُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْهَا» (1).
وبعد فهذه هي شُبَهُ المُنْكِرِينَ لِحُجِيَّةِ خبر الآحاد كما ذكرها العلماء، بقي أن نذكر ما تقوم به الحُجَّةُ على أن خبر الآحاد واجبٌ العملُ به، لا يجوز لمسلم أن يخالفه إذا صح عنده، وقد ذكر علماء الأصول أدلة كثيرة في بعضها مَقَالٌ وَأَخْذٌ وَرَدٌّ (2) فرأيت أن أذكر لك من كتاب " الرسالة " للإمام الشافعي رحمه الله كلامه في هذا الشأن على طوله، لأنه - على ما أعلم -
(1)" الإحكام ": 1/ 177.
(2)
انظر كتاب " الإحكام " للآمدي: 2/ 275 فما بعدها وانظر " التقرير شرح التحرير ": 2/ 272 وانظر بهامشه " شرح الإسنوي على المنهاج ": 2/ 294.