الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ وَهَلْ كَانَ مُغَفَّلاً
؟:
قال المؤلف ص 260 متكلماً عن الوَضَّاعِينَ في الحديث: «وبعضهم كان سليم النية يجمع كل ما أتاه على أنه صحيح، وهو في ذاته صادق فَيُحَدِّثُ بكل ما سمع، فيأخذه الناس عنه مخدوعين بصدقه، كالذي قيل في عبد الله بن المبارك فقد قيل: إنه ثقة صدوق اللسان ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر» . وأشار في هامش الكتاب إلى أن هذا القول في عبد الله بن المبارك وارد في " صحيح مسلم ".
المولف يتكلم عن الوَضَّاعِينَ في الحديث، والوضاعون هم الذين كانوا يختلقون الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأغراض متباينة ذكرِناها في مواضعها من هذا الكتاب، أما سليم النية الذي جمع كل ما أتاه وهو في ذلك صادق فهذا ليس من الوَضَّاعِينَ بحال، لأنه لم يكذب لا في سند الحديث ولا في متنه، وغاية ما يقال فيه أنه «ذو غفلة» يتلقى الحديث بلا نقد ولا تمحيص، فيتوقف في قبول حديثه إلى أن يتبين ما يرِويه، فإن كان عن ثقات وشاركه الثقات فيما ينقل قُبِلَ، وإلا فلا، أما إدراجه ضمن الوَضَّاعِينَ كما فعل المولف فهو خطأ بَيِّنٌ ناتج عن عدم الدقة في التعبير والتأليف، وأيضاًً فالكلام عن عبد الله بن المبارك في صَدَدِ الحديث عن الوَضَّاعِينَ يوهم أنه منهم، هذا نقد شكلي للعبارة، أما النقد الموضوعي، فالذي يُسْتَخلَصُ مِمَّا ذكر المؤلف ثلاثة أمور:
أَوَلاًً: أن عبد الله بن المبارك كان سليم النية يُحَدِّث بكل ما سمع من غيرِ نقد للرجال.
ثَانِياًً: أن الناس خدعوا بصدقه فتلقوا كل أحاديثه الني سمعوها عنه على أنها صحيحة.
ثالثاً: أن العبارة التي نقلها عن " صحيح مسلم " إنما هي في عبد الله بن المبارك.
والأستاذ المولف مخطىء في هذه الأمور الثلاثة كل الخطأ.
11 -
أما أن عبد الله بن المبارك كان سليم النية يُحَدِّث بكل ما سمع، فهذا ما لا يتفق مع الحق في شيء، فقد كان ابن المبارك من مشاهير أئمة عصره الذين عنوا بنقد الرجال نقداً شديداً، وهذا مسلم رحمه الله يذكرِ لنا في " مقدمة صحيحه " عدة أمثلة عن نقده للرجال، فقد ذكر بسنده إلى أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني، قال: قلت لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء: «إِنَّ مِنَ الْبِرِّ بَعْدَ الْبِرِّ أَنْ تُصَلِّيَ لأَبَوَيْكَ مَعَ صَلَاتِكَ، وَتَصُومَ لَهُمَا مَعَ صَوْمِكَ» ؟ قال: فقال عبد الله: يا أبا إسحاق عمن هذا؟ قال: قلت له، هذا من حديث شهاب بن خِراش فقال: ثقة، عمن؟ قال: قلت: عن الحجاج بن دينار، قال: ثقة، قال: قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا أبا إسحاق إن بين الحجاج بن دينار وبين النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، ولكن ليس في الصدقة اختلاف».
وأخرج مسلم في " المقدمة " أيضاً بسنده إلى عَلِيَّ بْنَ شَقِيقٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهُ بْنَ الْمُبَارَكِ، يَقُولُ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ:«دَعُوا حَدِيثَ عَمْرُو بْنَ ثَابِتٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَسُبُّ السَلَفَ» .
وَبِسَنَدشهِ إِلَى أَحْمَد بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّزَّاقِ، يَقُولُ:«مَا رَأَيْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ يُفْصِحُ بِقَوْلِهِ " كَذَّابٌ " إِلَاّ لِعَبْدِ الْقُدُّوسِ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ لَهُ: " كَذَّابٌ "» .
فهذه الأمثلة وكثيرة غيرها ذكرها مسلم في " مقدمة صحيحه " تدل على أن عبد الله بن المبارك كان نَقَّاداً للرجال، مَعْنِيًّا بأسانيد الأحاديث.
وأصرح من ذلك ما رواه مسلم أيضاًَ بسنده إلى الْعَبَّاسِ بْنُ أَبِي رِزْمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ المُبَارَكِ، يَقُولُ:«بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْقَوَائِمُ» يَعْنِي الإِسْنَادَ.
وذكر الحافظ الذهبي في " تذكرته " قال المسيب بن واضح: «سَمْعْتُ ابْنَ المُبَارَكِ وَسُئِلَ عَمَّنْ نَأْخُذُ؟ قَالَ: " مَنْ طَلَبَ العِلْمَ للهِ، وَكَانَ فِي إِسْنَادِهِ أَشَدَّ، قَدْ تَلْقَى الرَّجُلَ ثِقَةً وَهُوَ يُحَدِّث عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ، وَتَلْقَى الرَّجُلَ غَيْرَ ثِقَةٍ، وَتَلْقَى الرَّجُلَ غَيْرِ ثِقَةٍ وَهُوَ يُحَدِّث عَنْ ثِقَةٍ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ثِقَةً عَنْ ثِقَةٍ» .
وذكر الذهبي أَنَّ الرَّشِيْدَ أَخَذَ زِنْدِيقاً لِيَقْتُلَهُ، فَقَالَ:«أَيْنَ أَنْتَ مِنْ أَلْفِ حَدِيْثٍ وَضَعْتُهَا؟ فَقَالَ الرَّشِيْدُ: فَأَيْنَ أَنْتَ يَا عَدُوَّ اللهِ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ الفَزَارِيِّ، وَابْنِ المُبَارَكِ يَتَخَلَّلَانِهَا، فَيُخْرِجَانِهَا حَرْفاً حَرْفاً» . وقيل لابن المبارك: هَذِهِ الأَحَادِيثُ المَوْضُوعَةُ [المَصْنُوعَةُ]؟ فقال: «تَعِيشُ لَهَا الجَهَابِذَةُ» .
وذكر الذهبي عن إبراهيم بن إسحاق قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: «: حَمَلْتُ عَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ شَيْخٍ فَرَوَيْت عَنْ أَلْفٍ مِنْهُمْ» .
بهذا كله يتبين لك خطأ ما ذهب إليه صاحب " فجر الإسلام " من وصف هذا الإمام العظيم بسلامة القلب حتى إنه لَيُحَدِّثُ بكل ما سمع.
2 -
وأما زعمه بأن الناس خدعوا بصدقه
…
إلخ، فقد سمعت أنه كان نَقَّاداً للرجال مُتَشَِّّداً في الأسانيد، ومتى اجتمع الصدق والعدالة والتثبت في رجل فقد وجب الأخذ عنه، ولا يصح أن يقال: إن الناس خدعوا بصدقه.
هذا على أن أئمة الجرح والتعديل أجمعوا على توثيق ابن المبارك وإمامته وجلالة قدره. قال ابن مهدي: «الأَئِمَّةُ أَرْبَعَةٌ: الثَّوْرِي وَمَالِكٌ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ المُبَارَكِ» .
وقال فيه الإمام أحمد: «لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ أَطْلَبُ لِلْعِلْمِ مِنْهُ، جَمَعَ أَمْرًا عَظِيمًا، مَا كَانَ أَحَدٌ أَقَلَّ قِسْطًا مِنْهُ، كَانَ رَجُلاً صَاحِبَ حَدِيثٍ، وَكَانَ يُحَدِّث مِنْ كِتَابٍ» .
وقال ابن معين: «كَانَ كَيِّسًا مُتَثَبِّتًا ثِقَةً، وَكَانَ عَالِماً، صَحِيحَ الحَدِيثِ» .
وقال ابن سعد صاحب " الطبقات ": «كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا حُجَّةً كَِثيرَ الحَدِيثِ» .
وقال الحاكم: «هُوَ إِمَامُ عَصْرِهِ فِي الآفَاقِ، وَأَوْلَاهُمْ بِذَلِكَ عِلْمًا وَزُهْدًا وَشَجَاعَةً وَسَخَاءً» .
وقال النووي في "شرح مسلم " بعد أن ترجم له: «وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَكِبَرِ مَحَلِّهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ» (1) اهـ.
فرجل يجمع نُقَّادُ الحديث وأئمة الجرح والتعديل على تَثَبُّتِهِ وجودة حديثه وقلة سقطه، يكون من المحزن أن يجيء في آخر الزمان من يقول عنه:«إن الناس كانوا يأخذون عنه، مخدوعين بصدقه» .
وشيء آخر، وهو أن إقرارهم له بالإمامة وعلو المرتبة والمكانة في علم الحديث - كما رأيت - يُكَذِّبُ ما يلصقه به مؤلف " فجر الإسلام " من أنه كان يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ. فقد ذكر مسلم بسنده إلى الإمام مالك رحمه الله قال:«اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ، وَلَا يَكُونُ إِمَامًا أَبَدًا وَهُوَ يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ» ، وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ قَوْلَهُ:«لَا يَكُونُ الرَّجُلُ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ حَتَّى يُمْسِكَ عَنْ بَعْضِ مَا سَمِعَ» إلى ما هنالك من أقوال تدل على أن علماء هذا الشأن لا يُقِرُّونَ بالإمامة لرجل إلا إذا كان مُتَثَبِّتًا مِمَّا يحفظ، متأملاً فيما يروي، لا يُحَدِّث بكل ما سمع.
3 -
وأما العبارة التي نقلها عن " صحيح مسلم " في حق عبد الله بن المبارك فها هنا لا يكاد المرء ينتهي عجباً من صنيع المؤلف. إن عبارة الإمام مسلم في "الصحيح " هكذا: «حَدَّثَنِي ابْنُ قُهْزَاذَ، قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبًا (*)، يَقُولُ: عَنْ سُفْيَانَ (**)، عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ، قَالَ: «بَقِيَّةُ صَدُوقُ اللِّسَانِ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ عَمَّنْ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ» وأنت لا تشك حين تقرأ هذا أن القول هو قَوْلُ عبد الله بن المبارك في " بقية " وهو أحد المُحَدِّثِينَ في عصره، ولكن المؤلف فهم هذا النص على أنه قَوْلٌ فِي عَبْدِ اللهِ بن المبارك، وأنه هو الموصوف بهذه الأوصاف، مع أن سياق السند كان يفسد عليه هذا الفهم، فإن السند هكذا: عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ، أي ابن المبارك، فهو القائل وَالمُتَحَدِّثِ لَا المُتَحَدَّثِ عَنْهُ. ثم إن اللفظ " بقية " لا " ثقة " فابن المبارك
(1) وقد أفرد له ابن أبي حاتم [المُتَوَفَّى 327] في تقدمة " الجرح والتعديل " ترجمة حافلة بثناء العلماء وما كان عليه رحمه الله من علم بالرُوَاة ونقد لهم (التقدمة: 262 - 280).
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) هو وَهْبَ بْنَ زَمْعَةَ. (**) وسفيان: هو ابن عبد الملك. انظر " إكمال المعلم شرح صحيح مسلم " - للقاضي عياض، تحقيق الدكتور يحيى إسماعيل، مقدمة صحيح مسلم / باب بيان أن الإسناد من الدين: 1/ 137، الطبعة الأولى: 1419 هـ - 1998 م، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع - المنصورة. مصر. و" تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف " للمزي، تحقيق عبد الصمد شرف الدين، 13/ 261 ترجمة رقم 18929، الطبعة الثانية: 1403 هـ - 1983 م، نشر المكتب الإسلامي، والدار القيمة. بومباي. و" تاريخ دمشق " لابن عساكر: 10/ 342، طبعة سَنَةَ 1415 هـ - 1995 م، نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
يتكلم عن بقية بن الوليد المُحَدِّثَ الحِمْصِي، وهو مشهور بما وصفه به ابن المبارك ويؤكد هذا ما رواه مسلم بعد ذلك بقليل عن أبي إسحاق الفزاري:«عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ: «اكْتُبْ عَنْ " بَقِيَّةَ "، مَا رَوَى عَنِ الْمَعْرُوفِينَ، وَلَا تَكْتُبْ عَنْهُ مَا رَوَى عَنْ غَيْرِ الْمَعْرُوفِينَ» ، ويؤيده أيضاًً ما نقله الذهبي عن ابن المبارك نفسه أنه كان يقول في " بقية ":«إِنَّهُ يُدَلِّسُ عَنْ قَوْمٍ ضُعَفَاءَ وَيَرْوِي عَمَّنْ دَبَّ وَدَرَجَ» ، وهذا معنى قوله الذي رواه مسلم عنه:«عَمَّنْ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ» .
فَتَبَيَّنَ لنا مِمَّا تقدم أن المؤلف أخطأ في عبارة مسلم خطأين:
الأول - أن الكلام لغير ابن المبارك في عبد الله بن المبارك، مع أنه كلام عبد الله بن المبارك في غيره.
الثاني - أنه نقل اللفظ «ثِقَةٌ» وهي في " صحيح مسلم "«بَقِيَّةٌ» والمؤلف بين ثلاثة أمور لا رابع لها: إما أن يكون ذكر هذا في كتابه بعد أن قرأ العبارة بنفسه في " صحيح مسلم "، ولكنه لم يفهمها فوقع في تلك الأخطاء، وإما أن يكون فهمها ولكنه تَعَمَّدَ تحريفها لغاية في نفسه، وإما أنه رآها لبعض المُسْتَشْرِقِينَ الذي نقلها نَقْلاً مَمْسُوخًا من " صحيح مسلم "، فاكتفى بنقله عن خصوم الشريعة المحمدية دُونَ أن يرجع بنفسه إلى أصل النص في " مسلم "، وأنا أُرَجِّحُ هذا الأخير، إذ من البعيد على المؤلف أَلَاّ يفهم هذا النص مع وضوحه وجلائه، ومن البعيد عليه أيضاًَ أن يَتَعَمَّدَ مثل هذا التحريف في نص كتاب مشهور لا يخلو منه بيت عالم مسلم، وقد رجعت إلى النسخ المطبوعة عن " صحيح مسلم " لَعَلِّي أجد إحدى النسخ ذكَرَتْ العبارةَ خطأ كما نقلها المؤلف، فيكون له بعض العذر وإن كان سياق الكلام يفسده كما تقدم، ولكني رأيت النُّسَخَ المطبوعة كلها ذكرت النص صحيحاً من غير تحريف، فَتَرَجَّحَ عندي أن أحد أعداء الإسلام وقع في هذا التحريف، إما عَمْدًا لتشويه سيرة إمام كبير من أئمة الحديث - كما فعل جولدتسيهر مع الزُّهْرِي - وإما خطأً بحيث اشتبه عليه الأمر بين " بقية " و" ثقة " لقرب تشابههما في الرسم. وإذا كنا نجد للمستشرقين عُذْراً في ذلك لعجمته، أو عدم وفائه للإسلام، أو فقده الذوق العربي الذي يُدْرِكُ بسياق