الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِذَا حُمِلَ الجَوْرُ عَلَىَ مُجَرَّدِ المَيْلِ لِقَرَائِنَ قَائِمَةً، حَتَّى قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ:«وَالجَمْعُ بَيْنَ أَحَادِيثِ البَابِ أَوْلَى مِنْ طَرْحِ بَعْضِهَا، وَمِنْ تَوْهِينِ الحَدِيثِ بِالاضْطِرَابِ فِي أَلْفَاظِهِ، وَوَجْهُ الجَمْعِ أَنْ تُحْمَلَ كُلُّهَا عَلَىَ النَّدْبِ» ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ حَمْلِهَا كُلِّهَا عَلَىَ النَّدْبِ فِي " شَرْحِهِ عَلَىَ صَحِيحِ مُسْلِمٍ ".
وَنَحْنُ نَرَى أَنْفُسَنَا فِيْ غُنْيَةِ عَنْ التَّوَسُّعِ هُنَا بِأَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا، لأَنَّ المَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ أَبُو حَنِيْفَةَ، بَلْ مَعَهُ جُمْهُورُ أَهْلِ الفِقْهِ. وَتَفْضِيلُ أَبِيْ بَكْرٍ لِعَائِشَةَ وَعُمَرَ لِعَاصِمٍ فِي العَطِيَّةِ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَكَذَا فَعَلَ غَيْرُهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَإِقْدَامُهُمْ عَلَىَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلَى الأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الأَمْرَ بِالتَّسْوِيَةِ لِلْنَّدْبِ» (1).
هذا مثل مِمَّا أورده ابن أبي شيبة على أبي حنيفة من تركه العمل بالأحاديث في مائة وخمس وعشرين مسألة، ومن الجواب تعلم أن الإمام لم يترك العمل بها تقديماً للرأي عليها، وإنما فعل ذلك عن اجتهاد منه، ومثله يعذر، كما يعذر كل إمام فيما يؤدي إليه رأيه من اجتهاد.
كما ينبغي أن نعلم أن ما ذكره ابن أبي شيبة من المسائل التي خالف فيها أبو حنيفة الحديث لم ينفرد وحده بما أدى إليه اجتهاده، بل أكثرها قد وافقه فيها إمام أو أكثر من أئمة الجمهور.
حَلَقَةُ أَبِي حَنِيفَةَ العِلْمِيَّةَ:
ومن علم طريقة أبي حنيفة مع تلاميذه في الاجتهاد، وما كانت تضمه حلقته من فحول العلماء أيقن أن مثله لا يصح أن يوجه إليه تلك المطاعن.
أخرج ابن أبي العوام، قال: حدثني الطحاوي قال: «كَتَبَ إِلَيَّ ابْنُ أَبِي ثَوْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي نُوحٌ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ لِي المُغِيرَةُ بْنِ حَمْزَةَ: كَانَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ الَذِينَ دَوَّنُوا مَعَهُ الكُتُبَ أَرْبَعِينَ رَجُلاً كُبَرَاءَ الكُبَرَاءِ» . اهـ.
وبسنده إلى أسد بن الفرات أنه كان في العشرة المُتَقَدِّمِينَ من
(1)" النكت الطريفة ": ص 21 - 22.
الأربعين: أبو يوسف. وزفر بن الهذيل، وداود الطائي، وأسد بن عمرو، ويوسف بن خالد السمتي، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وهو الذي كان يكتبها لهم ثلاثين سَنَةً.
وَبِسَنَدِهِ إِلَى أَسَدٍ أَيَضًا قَالَ: «كَانُوا يَخْتَلِفُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي جَوَابِ المَسْأَلَةِ، فَيَأْتِي هَذَا بِجَوَابٍ وَهَذَا بِجَوَابٍ، ثُمَّ يَرْفَعُونَهُ إِلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ عَنْهَا فَيَأْتِي الجَوَابُ مِنْ كَثَبٍ، أَيْ: مِنْ قُرْبٍ، وَكَانُوا يُقِيمُوْنَ فِي المَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَكْتُبُونَهَا فِي الدِّيوَانِ» .
وعن إسحاق بن إبراهيم، قال: كان أصحاب أبي حنيفة يخوضون معه في المسألة فإذا لم يحضر عافية بن يزيد قال أبو حنيفة: «لَا تَرْفَعُوا المَسْأَلَةَ حَتَّىَ يَحْضُرَ عَافِيَةٌ» ، فإذا حضر ووافقهم قال أبو حنيفة:«أَثْبِتُوهَا» . وإن لم يوافقهم قال أبو حنيفة: «لَا تُثْبِتُوهَا» . اهـ.
وَقَالَ يَحْيَىَ بْنُ مَعِينٍ فِي " مَعْرِفَةِ التَّارِيْخِ وَالعِلَلِ " عَنِ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ: سُمِعْتُ زُفَرَ يَقُولُ: كُنَّا نَخْتَلِفُ إِلَى أَبِي حَنِيْفَةَ وَمَعَنَا أَبُو يُوَسُفَ وَمُحَمَّدٌ بْنِ الحَسَنِ، فَكُنَّا نَكْتُبُ عَنْهُ، قَالَ زُفَرُ: فَقَالَ يَوْمَا أَبُوْ حَنِيْفَةَ لأَبِيْ يُوَسُفَ: «وَيْحَكَ يَا يَعْقُوْبُ لَا تَكْتُبُ كُلَّ مَا تَسْمَعُ مِنِّي، فَإِنِّيَ قَدْ أَرَىَ الرَّأْيَ اليَوْمَ وَأَتْرُكُهُ غَدًا وَأَرَىَ الرَّأْيَ غَدًا وَأَتْرُكُهُ فِي غَدِهِ» . اهـ.
ومن هنا نعلم صدق ما يقول الموفق المكي من أن أبا حنيفة وضع مذهبه شورى ولم يستبد فيه بنفسه دونهم، اجْتِهَادًا منه في الدين ومبالغة في النصيحة لله ورسوله والمؤمنين (1).
وَمِنْ هُنَا أَيْضًا تَعْلَمُ طَرَافَةَ مَا أَخْرَجَهُ الخَطِيْبُ (2) عَنْ ابْنِ كَرَامَةَ، قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ وَكِيعٍ يَوْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ:" أَخْطَأَ أَبُوْ حَنِيْفَةَ "، فَقَالَ وَكِيْعُ: " كَيْفَ يَقْدِرُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يُخْطِيءَ، وَمَعَهُ مِثْلُ أَبِي يُوَسُفَ وَزُفَرَ فِي قِيَاسِهِمَا، وَمِثْلُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ وَحَفْصَ بْنَ غَيَاثٍ وَحِبَّانَ وَمَنْدَلَ فِيْ حَفِظَهِمْ لِلْحَدِيثِ،
(1)" حسن التقاضي ": ص 12.
(2)
" تاريخ بغداد ": 14/ 47.