الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسول على أنه حكم عام نَبَّهَتْهَا إلى هذه الحقيقة، وَأَفهَمَتْهَا أن الحُكْمَ خاص بها. وقد ثبت في " مسلم ": أَنَّ فَاطِمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلَاثًا، وَأَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ، قَالَ:«فَأَمَرَهَا، فَتَحَوَّلَتْ» ، وأكد هذا ما جاء في بعض روايات " البخاري " أن عائشة قالت:«أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ لَهَا خَيْرٌ فِي ذِكْرِ هَذَا الحَدِيثِ» ، «إِنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ فِي مَكَانٍ [وَحْشٍ] (*)، فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا، فَلِذَلِكَ أَرْخَصَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» (1).
والذي اتضح لنا بعد أن رددنا شُبَهَ المؤلف واحدة بعد أخرى، أنه لم ينفع من الصحابة شك ولا نقد قائم على التكذيب من فريق نحو فريق، وكل ما أثر عنهم - مِمَّا ذكره المؤلف وما لم يذكره - لا يخرج عن كونه نقاشاً علمياً في فهم الحديث، أو يكون تعليماً للجيل الناشئ لينشأ على ما كان عليه الصحابة من التَحَرِّي وَالتَثَبُّتِ، وكل ذلك يدل على حرصهم على الحق، وإخلاصهم للعلم، واهتمامهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأديته إلى الأُمَّةِ من بعدهم خالياً من اللُبْسِ والوهم، فرضي الله عن هذا الجيل الممتاز في تاريخ الإنسانية وجزاهم عنا أكمل الجزاء.
اخْتِلَافُ العُلَمَاءِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ:
قال المؤلف في [ص 266]: «وكان للاختلاف المذهبي أثر في التعديل والتجريح، فَأَهْلُ السُنَّةِ يُجَرِّحُون كثيراً من الشِيعَة حتى إنهم نَصُّوا على أنه لايصح أنْ يروى عن عَلِيٍّ ما رواه عنه أصحابه وشيعته، إنما يصح أنْ يُرْوَى ما رواه عنه أصحاب عبد الله بن مسعود، وكذلك كان موقف الشِيعَة من أَهْلِ السُنَّةِ، فكثير منهم لا يثق إلا بما رواه الشِيعَةُ عن أهل البيت، وهكذا. ونشأ عن هذا أنَّ من يُعدِّلُهُ قوم قد يُجَرِّحُهُ آخرون، قال الذهبي: «لَمْ يَجْتَمِعْ اثْنَانِ مِنْ عُلَمَاءِ هَذَا الشَّأْنِ عَلَى تَوْثِيقِ ضَعِيفٍ وَلَا عَلَى تَضْعَيفِ ثِقَةٍ» ومع ما في قوله هذا من المبالغة فهو يدلنا على مقدار اختلاف الأنظار في التجريح والتعديل، ولنضرب لك مثلاً محمد بن إسحاق - أكبر مُؤَرِّخٍ
(1) سيأتي معنا تأويل آخر عند حديثنا عن أمثلة للإلحاق عن طريق القياس.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) ورد في المطبوع خطأ (وَحْشِيٍّ)، وتكرر كذلك في طبعة دار الوراق، والصواب (وَحْشٍ)، مَكَانٌ وَحْشٌ - بفتح الواو وسكون الحاء - أي: خلاء لا ساكن به، موحش مقفر، انظر: البخاري " الجامع الصحيح ": (68) كتاب الطلاق (41) باب قصة فاطمة بنت قيس
…
حديث رقم 5325، [فتح الباري "، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، 9/ 477، نشر دار المعرفة - بيروت، طبعة سَنَةَ 1379 هـ]. وكذلك، أبو داود، " السنن "، تحقيق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، (7) كتاب الطلاق (40) باب من أنكر ذلك على فاطمة بنت قيس، حديث رقم 2291، 2/ 497، الطبعة الأولى: 1418 هـ - 1997 م، نشر دار ابن حزم. بيروت - لبنان.
في حوادث الإسلام الأولى - قال فيه قتادة: «لَا يَزَالُ فِي النَّاسِ عِلْمٌ مَا عَاشَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ» ، وقال النسائي:«لَيْسَ بِالقَوِيِّ» ، وقال سفيان:«مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَتَّهِمُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ، وقال الدارقطني: «لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَبِأَبِيهِ» ، وقال مالك: «أَشْهَدُ أَنَّهُ كَذَّابٌ
…
».
والكلام هنا في موضعين:
الأول: - في قواعد الجرح والتعديل.
والثاني: - في عبارة الذهبي، والآراء في محمد بن إسحاق.
أما الموضع الأول، فقد أجمل المؤلف الكلام هنا عن قواعد الجرح والتعديل كما أجمل الكلام عن أثر االاختلاف المذهبي وأوهم ظاهر قوله: «وَنَشَأَ عَنْ هَذَا أَنَّ مَنْ يُعَدِّلُهُ
…
إلخ»، أن منشأ الاختلاف في التجريح والتعديل هو الاختلاف المذهبي. وتفصيل الكلام أن الاختلاف في التجريح والتعديل، إما أن يكون فيما بين أَهْلَ السُنَّةِ بعضهم مع بعض، أو بين أهل السُنَّة وبين من خالفهم من الفرق الأخرى.
أما الاختلاف فيما بين أَهْلَ السُنَّةِ، فمنشؤه تباين الأنظار في صدق الراوي وكذبه، وعدالته وفسقه، وحفظه ونسيانه.
وأما الاختلاف بين أَهْلَ السُنَّةِ وغيرهم فليس ناشئاً عن تباين المذاهب بل إن أهل السُنَّة كما قدمناه - في بحث الجرح والتعديل - لا يُجَرِّحُونَ مخالفهم إلا إذا كانت بدعته تؤدي إلى كفر، أو وقوع في صحابة رسول الله، أو كان داعية إلى بدعته، أو لم يكن داعية ولكن حديثه موافق لما يدعو إليه، ويرون في ذلك كله ما يشكك في صدقه وأمانته، فالخلاف في التجريح بين أهل السُنَّة وغيرهم راجع في الحقيقة إلى الشك بصدق الراوي أو الثقة به لا إلى مجرد الخلاف المذهبي، ولهذا أخرجت كُتُبُ السُنَّة وفي مقدمتها " الصحيحان " لجماعة من المبتدعة الذين دَلَّ تاريخهم على أنهم لا يكذبون، كعِمران بن حطان الخارجي، وأبان بن تغلب الشيعي،
قال الحافظ الذهبي رحمه الله في ترجمة أبان بن تغلب: «شِيعِيٌّ جَلِدٌ، فَلَنَا صِدْقُهُ، وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ» .
أما إن أهل السُنَّة لا يقبلون رواية أصحاب عَلِيٍّ عنه فذلك لأنهم أفسدوا علمه وَدَسُّوا عليه آراء لم يذهب إليها وَقََوَّلُوهُ ما لم يقله، وقد روي عَنْ [أَبِي] إِسْحَاقَ (*)، قَالَ:«لَمَّا أَحْدَثُوا تِلْكَ الأَشْيَاءَ بَعْدَ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ: قَاتَلَهُمُ اللهُ، أَيَّ عِلْمٍ أَفْسَدُوا؟» فلما فشا عليه الكذب بين أصحابه تركوا روايتهم احتياطاً وتثبُّتاً. وبهذا تعلم ما في عبارة المصنف من إجمال وغموض فضلاً عما فيها من إيهام أن الاختلاف في التجريح والتعديل منشؤه الاختلاف المذهبي فحسب.
أما الموضع الثاني فهو قوله: «ونشأ عن هذا أن من يُعَدِّلُهُ قوم يُجَرِّحُهُ آخرون» واستشهد بعبارة الذهبي وساق دليلاً على ذلك خلافهم في محمد بن إسحاق وها هنا أخطاء متلاحقة.
أَوَلاًً - إن تمثيله لأثر الاختلاف المذهبي بالاختلاف في أمر ابن إسحاق غير صحيح، فإن الاختلاف في أمره ليس ناشئاً عن اختلاف مذهبي، فإن محمد بن إسحاق من أهل السُنَّة، والذين اختلفوا فيه جميعاً من أهل السُنَّة، فلا يصح التمثيل في هذا المقام.
ثَانِياًً - إنه فهم عبارة الذهبي على غير ما تؤدي إليه، وعلى غير ما أرادها الذهبي نفسه، فقد فهمها المؤلف على أنها دليل على شِدَّةِ اختلاف الأنظار، وأن معناها لم يتفق اثنان على توثيق رجل ولا على تضعيفه، بل من يوثقه هذا يُجَرِّحُهُ ذاك، والعكس بالعكس، ولكن المتأمل في عبارة الذهبي أدنى تأمل، يفهم منها خلاف ما فهمه المؤلف تماما، فالذهبي يريد أن يقول: إن علماء هذا الشأن متثبتون في نقد الرجال، فلم يقع منهم أن اختلفوا في توثيق رجل اشتهر بالضعف، ولا في تضعيف رجل عرف بالتثبت والصدق، وإنما يختلفون فيمن لم يكن مشهوراً بالضعف أو التثبت وحاصله أنهم لا يذكرون الرجل إلا بما فيه حقيقة. أَلَا ترى إلى قوله:
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) ورد في المطبوع خَطَأً (ابن إسحاق) والصواب (أبي إسحاق) وهو أبو إسحاق السبيعي: (1).
أبو إسحاق عمرو بن عبد الله بن علي بن أحمد بن ذي يحمد بن السبيع السبيعي الهمداني الكوفي من أعيان التابعين؛ رأى عَلِيًّا وابن عباس وابن عمر وغيرهم من الصحابة، رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ -، وروى عنه الأعمش وشُعبة والثوري وغيرهم، رضي الله عنهم، وكان كثير الرواية. ولد لثلاث سنين بقين من خلافة عثمان، رضي الله عنه، وتوفي سَنَةَ تسع وعشرين، وقيل سبع وعشرين، وقيل ثمان وعشرين ومائة. وقال يحيى بن معين والمدائني: مات سَنَةَ اثنتين وثلاثين ومائة، والله أعلم، رضي الله عنه.
والسبيعي: بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها عين مهملة، هذه النسبة إلى سبيع، وهو بطن من همدان.
وكان أبو إسحاق المذكور يقول: «رَفَعَنِي أَبِي حَتَّى رَأَيْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، رضي الله عنه، يَخْطُبُ وَهُوَ أَبْيَضَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ» .
(1)
انظر ترجمته في " طبقات ابن سعد ": 6/ 313، و" تاريخ أصبهان " 2/ 26 و" حلية الأولياء ": 4/ 338، و" ميزان الاعتدال ": 3/ 270، و" غاية النهاية ": 1/ 602 و" تهذيب التهذيب " لابن حجر: 8/ 63. نَقْلاً عن " وفيات الأعيان " لابن خلكان، تحقيق إحسان عباس، نشر دار صادر. بيروت - لبنان.
توثيق (ضَعِيفٍ) وتضعيف (ثِقَةٍ) ولو كان مراده كما فهم المؤلف لقال: لم يجتمع اثنان على توثيق رَاوٍ ولا على تضعيفه (1).
ثَالِثاًً - إن الخلاف في محمد بن إسحاق ليس فيه تأييد لعبارة الذهبي بل هو وارد عليها مورد الاعتراض وأصل المسالة، أن صاحب "مسلم الثبوت " بعد آن ذكر عبارة الذهبي اعترض عليه الشارح بأن هذا التعميم غير صحيح، والاستقراء ليس تاماً فقد اختلفوا مثلاً في محمد بن إسحاق وذكر أقوال العلماء فيه بين تعديل وتجريح ثم قال:«فانظر فإن كان هو ثقة فقد اجتمع أكثر من اثنين على تضعيفه. وإن كان ضعيفاً فقد اجتمع أكثر من اثنين على توثيقه» ولكن المؤلف لم يعجبه فهم الشارح ولا فهم صاحب "المُسَلَّمِ " ولا مراد الذهبي نفسه، بل ساق ما قيل في ابن إسحاق تَأْكِيدًا، لما حاول فهمه من عبارة الذهبي، فانظر هل هو في الحقيقة لم يفهم عبارة الذهبي، ولم يفهم عبارة الشارح، ولم يفهم أن ما قيل في ابن إسحاق اعتراض على ما يُسْتَفَادُ من عموم عبارة الذهبي، أو هو فهم ذلك كله، لكنه تجاهله وَحَمَّلَ عبارة الذهبي عكس ما تحتمله ليصل من ذلك كله إلى تهوين أمر علماء الجرح والتعديل، وإفهام القارىء أنهم مضطربون متناقضون، وأنهم في أحكامهم على الرُوَاةِ يصدرون عن تباينهم في النزعات والمذاهب، وأن أي رَاوٍ وَثَّقَهُ أحد أئمة الحديث، هنالك من يُضَعِّفُهُ غالباً، فلسنا ملزمين بان نقبل حَدِيثًا اعتبر البخاري - مثلاً - حال رواته ووثَّقَهُم؟ أنظر في هذا وتأمله.
(1) وهناك تفسير آخر لمراد الذهبي من تلك العبارة وهو أنه لم يقع الاتفاق على توثيق رَاوٍ حقه التضعيف بل الذي يقع هو أن يوثقه بعضهم ويضعفه بعضهم كما لا يتفقون على تضعيف رَاوٍ شأنه التوثيق، بل ربما يضعفه بعضهم ويوثقه آخرون. وقوله:«لم يجتمع اثنان» أي: لم يحصل اجتماع من علماء الجرح والتعديل ولا يريد من لفظ (اثنان) التقييد بل مراده مطلق الاجتماع والاتفاق كما يقولون: «هذا أمر لا يختلف فيه اثنان» أي: لا يُحَدِّث فيه اختلاف لا من اثنين ولا من أكثر. فالمراد هنا نفي مطلق الاختلاف. والمراد في عبارة الذهبي نفي مطلق الاجتماع على توثيق ضعيف أو تضعيف ثقة.