الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رِحْلَةُ الصَّحَابَةِ طَلَبًا لِلْحَدِيثِ إِلَى الأَمْصَارِ:
انقضى عصر الشيخين وَالسُنَّةُ محفوظة في صدور الصحابة غير شائعة الانتشار كثيراً، لا في الأقطار، لأن عمر رضي الله عنه منع أكثر الصحابة من مغادرة المدينة إلا لأفراد اقتضت المصلحة خروجهم، ولا في المدينة نفسها لأن سياسته كما رَأَيْتَ كانت تقوم على توفر العناية بالقرآن وتقليل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منعاً لِلْتَزَيُّدِ فيه واحتراساً من الخطأ والوهم في روايته، فلما كان عهد عثمان سمح للصحابة أن يتفرقوا في الأمصار، واحتاج الناس إلى الصحابة وخاصة صغارهم، بعد أن أخذ الكبار يتناقصون يَوْماً بعد يوم، فاجتهد صغار الصحابة بجمع الحديث من كبارهم فكانوا يأخذونه عنهم، كما كان يرحل بعضهم إلى بعض من أجل طلب الحديث.
(1)«غُرْلاً» بضم الغين وسكون الراء جمع «أغرل» وهو الذي لم يُختن، و «بُهْماً» أي ليس معهم شيء كما جاء تفسيرها في الحديث نفسه. انظر " الأدب المفرد ": ص 252
…
وأخرج البيهقي وابن عبد البر عن عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ رَحَلَ إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجُهَنِيِّ يَسْأَلُهُ عَنْ حَدِيثٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ أَتَى مَنْزِلَ مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ الأَنْصَارِيِّ - وَهُوَ أَمِيرُ مِصْرَ - فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَعَانَقَهُ، ثُمَّ قَالَ:" مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا أَيُّوبَ؟ " فَقَالَ: " حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَتْرِ المُؤْمِنِ "، قَالَ: " نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى كُرْبَتِهِ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ثُمَّ انْصَرَفَ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَا أَدْرَكَتْهُ جَائِزَةُ مَسْلَمَةَ إِلَاّ بَعَرِيشِ مِصْرَ (1).
وبذلك ابتدأت رواية الحديث تأخذ في السعة والانتشار، وبدأت الأنظار تتجه بعناية شديدة أكثر من قبل إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحرص التابعون على لقياهم ونقل ما في صدورهم من علم، قبل أن ينتقلوا إلى الرفيق الأعلى، ولقد كانت زيارة الصحابي لمدينة من المدن الإسلامية كافية لأن تجمع أهل المدينة كلها حوله ويشتد الزحام ساعة وصوله وتشير الأصابع أن هذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد اشتهر عدد من الصحابة بأنهم أكثر الصحابة رواية عن الرسول عليه الصلاة والسلام إما لقدم صحبتهم له كعبد الله بن مسعود، أو لملازمتهم خدمته كأنس بن مالك، أو لإحاطتهم بأحواله الداخلية كعائشة، أو لعنايتهم بحديثه كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة رغم صغر الأوَلَيْنِ وتأخر إسلام الثالث. والناس في كل هذا يأخذون عن الصحابة لا يشكون ولا يترددون، والصحابة يأخذ بعضهم عن بعض لَا يُكَذِّبُ بعضهم بعضاً وَلَا يَتَحَرَّجُونَ، ولم يكن قد دُسَّ على حديث الرسول أو وُجِدَ الكَذَّابُونَ حتى وقعت الفتنة، فكانت مبدأ تحول في حياة المُسْلِمِينَ الدينية كما كانت بَدْءَ تَحَوُّلٍ في حياتهم السياسية.
(1)" جامع بيان العلم ": 1/ 93.