الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَقُولُ: «اجْلِسُوا» فَجَلَسَ بِبَابِ المَسْجِدِ - أَيْ حَيْثُ سَمِعَ النَّبِِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ -، فرآه النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام فَقَالَ لَهُ:«تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ» .
وهكذا كان الصحابة مع الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته، يعتبرون قوله وفعله وتقريره حُكْمًا شَرْعِيًّا لا يختلف في ذلك واحد منهم، ولا يجيز أحدهم لنفسه أن يخالف أمر القرآن، وما كان الصحابة يراجعون رسول الله في أمر إلَاّ إذا كان فِعْلُهُ أَوْ قَوْلُهُ اجْتِهَادًا منه في أمر دنيوي، كما في غزوة بدر حين راجعه الحباب بن المنذر في مكان النزول، أو إذا كان اجْتِهَادًا منه في بحث ديني قبل تقرير اللهِ له أو نهيه عنه، كما راجعه عمر في أسرى بدر وصلح الحديبية، أو إذا كان غريباً عن عقولهم فيناقشونه لمعرفة الحكمة فقط، أو كانوا يظنون فعله خَاصًّاً به فلا يلزمون أنفسهم اتِّبَاعَهُُ، أو إذا أمرهم بأمر فظنوا أنه للإباحة وأن غير المأمور به أولى. أما ما عدا ذلك فكان منهم التسليم المطلق والاتباع التام والالتزام الكامل.
وُجُوبُ طَاعَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ:
وكما وجب على الصحابة بأمر الله في القرآن اتِّبَاعَ الرسول وطاعته في حياته، وجب عليهم وعلى من بعدهم من المُسْلِمِينَ اتِّبَاعَ سُنَّتِهِ بعد وفاته، لأن النصوص التي أوجبت طاعته عامة لم تقيد ذلك بزمن حياته، ولا بصحابته دُونَ غيرهم، ولأن العلة جامعة بينهم وبين من بعدهم، وهي أنهم أَتْبَاعٌ لرسول أمر اللهُ بِاتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ، ولأن العلة أيضاً جامعة بين حياته ووفاته، إذ كان قوله وَحُكْمُهُ وفعله ناشئاً عن مُشَرِّعٍ معصوم أمر الله بامتثال أمره، فلا يختلف الحال بين أن يكون حَيًّا أو بعد وفاته، وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى وجوب اتباع سُنَّتِهِ حيث يغيب المسلم عنه حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن. فقال له:«كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟» قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللهِ، قَالَ:«فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ؟» قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، قَالَ:«فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ؟» قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِيِ وَلَا آلُو، فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَىَ صَدْرِهِ، وَقَالَ: «الحَمْدُ للهِ الذِي وَفَّقَ رَسُولَ
رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ» وأخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدارمي، والبيهقي في " المدخل "، وابن سعد في " الطبقات "، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله "».
كما حَثَّ على وجوب العمل بِسُنَّتِهِ بعد وفاته في أحاديث كثيرة جِدًّا بلغت حد التواتر المعنوي، منها ما رواه الحاكم وابن عبد البر عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي» (1) وأخرجه أيضاً البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرج البخاري والحاكم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَاّ مَنْ أَبَى» قالوا يَا رَسُولَ اللهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» وأخرج أبو عبد الله الحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ، وَلَكِنْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَاحْذَرُوا، إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ» .
وأخرج ابن عبد البر عن عرباض بن سارية قال: صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقيل: يا رسول الله كأنها موعظة مُوَدِّع فأوصنا، قال:«عَلَيْكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» (2).
من أجل هذا عني الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - بتبليغ السُنَّةِ لأنها أمانة الرسول عندهم إلى الأجيال المتلاحقة من بعدهم، وقد رَغَّبَ
(1)" جامع بيان العلم ": 2/ 24.
(2)
" جامع بيان العلم ": 2/ 182 وأخرجه الترمذي أيضاً وأبو داود والإمام أحمد وابن ماجه، وقال الحافظ أبو نعيم: هو حديث جيد، من صحيح حديث الشاميين.