الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مات سعيد، وأخذ عنه مالك في كل مَرَّةٍ يأتي بها إلى المدينة، وظل يتردد بين المدينة والشام - كما قال الزُّهْرِي - خمساً وثلاثين سَنَةٍ، فلماذا لم يبغضه علماؤها؟ لماذا لم يُكَذِّبُوهُ لو صح أنه كَذَبَ للأمويين؟ لماذا لم يتبرأ منه شيخه سعيد وهو الذي لم يبال بعبد الملك في سطوته وجبروته؟ ما الذي دعاهم إلى السكوت عنه؟ أهو الخوف؟ لم يكونوا يعرفون خوفاً في نقد الرجال، من الخليفة إلى أقل رجل في المجتمع، وَهَبْ أَنَّهُمْ خَافُوهُ، فلماذا لم ينقده العلماء في دولة بني العباس؟ لماذا لم يهاجمه أنصار بني العباس، كما هاجموا خلفاء بني أمية وأمراءهم وأعوانهم؟ لماذا سكت عنه علماء الجرح والتعديل: من أحمد بن حنبل ويحيى بين معين والبخاري ومسلم وابن أبي حاتم وأضرابهم مِمَّنْ كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فكيف إذا كان النقد لرجل من أكبر رجال الدولة الأموية وأعظمهم شهرة؟ أليس في سكوت علماء المدينة وشيوخها وفي مقدمتهم شيخه سعيد، ثم في أخذهم عنه وأخذ العلماء عنه من كل فج، وفي توثيق علماء الجرح والتعديل له في العصر العباسي - رغماً عن صلته بالخلفاء الأُمَوِيِّينَ. أكبر دليل على أَنَّ الرجل كان فوق متناول الشُبَهِ، وأرفع من أَنْ تعلق به أَلْسِنَةُ السُّوءِ، وأكرم من أَنْ يُوصَفَ بِكَذِبٍ، أو وضع، أو ممالاة لأهل الظلم والباطل؟.
قِصَّةُ الصَّخْرَةِ وَحَدِيثُ «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ
…
»:
يزعم هذا المستشرق أَنَّ عبد الملك بنى قُبَّةَ الصَّخْرَةِ لِيَحُولَ بين أهل الشام والعراق وبين الحج إلى الكعبة، وأنه أراد أن يلبس عمله هذا ثوباً دينياً، فوضع له صديقه الزُّهْرِي حديث: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ
…
إلخ» فهذا لعمري عجب من أعاجيب الافتراء والتحريف والتلاعب بحقائق التاريخ:
أَوَلاً - إن المُؤَرِّخِينَ الثقات لم يختلفوا في أن الذي بنى القبة (قُبَّةَ الصَّخْرَةِ) هو الوليد بن عبد الملك، هكذا ذكر ابن عساكر والطبري وابن الأثير وابن خلدون وابن كثير وغيرهم، ولم نجدهم ذكروا ولو رواية واحدة نسبة بنائها إلى عبد الملك ولا شك أن بناءها - كما يزعم جولدتسيهر -
لتكون بمثابة الكعبة يحج الناس إليها بدلاً من الكعبة، حادث من أكبر الحوادث وأهمها في تاريخ الإسلام وَالمُسْلِمِينَ فلا يعقل أن يمر عليه هؤلاء المُؤَرِّخُونَ مَرَّ الكرام، وقد جرت عاداتهم أَنْ يُدَوِّنُوا ما هو أقل من ذلك خطراً أو أهمية، كتدوينهم وفاة العلماء وتولي القضاء وغير ذلك، فلو كان عبد الملك هو الذي بناها لذكروها، ولكنا نراهم ذكروا بناءها في تاريخ الوليد، وهؤلاء مُؤَرِّخُونَ أثبات في كتابة التاريخ، نعم جاء في كتاب " [حياة] الحيوان " للدميري نقلاً عن ابن خلكان: أن عبد الملك هو الذي بَنَى القُبَّة وعبارته هكذا: «بَنَاهَا عَبْدُ المَلِكِ وَكَانَ النَّاسُ يَقِفُونَ عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ» ورغماً عما في نسبة بنائها لعبد الملك من ضعف، ومن مخالفته لما ذكره أئمة التاريخ، فإن هذا النص لا غبار عليه، وليس فيه ما يدل على أنه بناها ليفعل الناس ذلك، بل ظاهره أنهم كانوا يفعلون من تلقاء أنفسهم، وليس فيه ذكر الحج عند القُبَّةِ بَدَلاً من الكعبة، بل فيه الوقوف عندها يوم عرفة، وهذه العادة كانت شائعة في كثير من أمصار الإسلام نص الفقهاء على كراهتها، وفرق كبير بين الحج إليها بَدَلاً من الكعبة، وبين الوقوف عندها تَشَبُّهاً بوقوف الحج في عرفة، ليشارك من لم يستطع الحج الحُجَّاجَ في شيء من الأجر والثواب، ولم يكن ذلك مقصوراً على قُبَّةِ الصَّخْرَةِ، بل كان كل مصر إسلامي يخرج أهله يوم عرفة إلى ظاهر البلد فيقفون كما يقف الحُجَّاجُ.
ثَانِياًً - إن نص الحادثة كما ساقها جولدتسيهر بَيِّنُ البطلان، لأن بناء شيء ليحج الناس إليه كُفْرٌ صَرِيحٌ، فكيف يقدم عبد الملك عليه، وهو الذي كان يلقب بـ «حَمَامَةِ المَسْجِدِ» لكثرة عبادته؟ على أن خصومه طعنوا فيه بأشياء كثيرة ولم نجدهم اتهموه بالكفر» وَلَا شَنَّعُوا عليه ببناء القبة، ولو كان الأمر ثابتاً لجعلوها في أول مَا يُشَهِّرُونَهُ بِهِ.
ثَالِثاً - أن الزُّهْرِي وُلِدَ - كما قدمنا - سَنَةَ إحدى وخمسين أو ثمان، ومقتل عبد الله بن الزبير كان سَنَةَ ثلاث وسبعين، فيكون عُمْرُ الزُّهْرِي حينذاك على الرواية الأولي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ عَامًا، وعلى الثانية خَمْسَةَ عَشَرَ،
فهل من المعقول أن يكون الزُّهْرِيُّ في تلك السن ذائع الصيت عند الأُمَّةِ الإسلامية بحيث تتلقى منه بالقبول حَدِيثًا موضوعاً يدعوها فيه للحج إلى القبة بدلاً عن الكعبة؟
رَابِِعاًً - إن نصوص التاريخ قاطعة بأن الزُّهْرِي في عهد ابن الزبير لم يكن يعرف عبد الملك ولا رآه بعد، فالذهبي يذكر لنا أن الزُّهْرِي وَفَدَ لأَوَّلِ مَرَّةٍ على عبد الملك في حدود سَنَةِ ثمانين، وابن عساكر روى أن ذلك كان سَنَةَ اثنتين وثمانين، فمعرفة الزُّهْرِي لعبد الملك لأَوَّلِ مَرَّةٍ إنما كانت بعد قتل ابن الزبير ببضع سنوات، وقد كان يومئذ شاباً بحيث امتحنه عبد الملك، ثم نصحه أن يطلب العلم من دور الأنصار، فكيف يَصِحُّ الزعم بأن الزُّهْرِي أجاب رغبة صديقه عبد الملك فوضع له حديث بيت المقدس ليحج الناس إلى القُبة في عهد ابن الزبير؟.
خامساً: إن حديث: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ
…
الخ» روته كُتُبُ السُنَّةِ كلها، وهو مروي من طرق مختلفة عن طريق الزُّهْرِي، فقد أخرجه " البخاري " عن أبي سعيد الخُدري من غير طريق الزُّهْرِي، ورواه " مسلم " من ثلاث طرق إحداهما من طريق الزُّهْرِي وثانيتهما من طريق جرير عن ابن عمير عن قزعة عن أبي سعيد، وثالثتهما من طريق ابن وهب عن عبد الحميد بن جعفر عن عمران بن أبي أنس عن سلمان الأغر عن أبي هريرة. فالزُّهْرِي لم ينفرد برواية هذا الحديث، كما يزعم جولدتسيهر، بل شاركه فيه غيره كما سمعت، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن حكم زيارة بيت المقدس والصلاة فيه - وهو مِمَّنْ ينكر السفر لأجل زيارة القبور (1) فقال: ثبت في " الصَحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ
…
الخ» وهو في " الصَحِيحَيْنِ " من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وقد رُوِيَ من طرق أخرى، وهو حديث مستفيض متلقى بالقبول، أجمع أهل العلم على صحته
(1) كان هنا في الطبعة الأولى: (وَهُوَ مِمَّنْ يُنْكِرُ زِيَارَةَ القُبُورِ) ثم عدلت، لأنه هكذا حقيقة رأيه، كما يظهر من كتبه ومنها:"الجواب الباهر " وغيره.