الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَوَلِّيهِ القَضَاءَ:
وأخيراً يعيب «جولدتسيهر» على الزُّهْرِيِّ أنه تولى القضاء ليزيد الثاني، وقد كان عليه - لو كان تَقِيًّا - أن يهرب كما هرب الشعبي والصالحون، فهل هذا النقد حق؟ أما منصب القضاء فما نعلم أحداً عَدَّهُ مُوجِباً للجرح والاتهام في العدالة، وقد وَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاء عَلِيَّ بن أبي طالب ومُعاذَ بن جبل ومعقل بن يسار وغيرهم، وتولى كثيرون من التَّابِعِينَ القضاء لبني أمية وغيرهم».
وهذا شُرَيْحٌ، وأبو إدريس الخولاني، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وكثير غيرهم تولوا القضاء في عهد بني أمية، ومنهم من تولى القضاء لِلْحَجَّاج نفسه، وما نعلم أن أحداً جَرَّحَ هؤلاء العلماء لتوليهم القضاء، أما أن الشعبي كان يهرب من القضاء، وأنه حارب الحَجَّاجَ مع ابن الأشعث، فها هنا مغالطة منكرة، إذ الواقع أن الشعبي بعد أن حارب الحَجَّاجَ تولى القضاء في عهد الحَجَّاجِ ليزيد بن عبد الملك بعد خمود فتنة ابن الأشعث، فلماذا تجاهل آخر الأمر الذي كان عليه الشعبي وهو الأولى بالاحتجاج؟
أما زعمه بأن الأتقياء كانوا يتحرزون من القضاء ويعدون توليه مُسْقِطاً للثقة بالقاضي، واحتجاجه بحديث:«مَنْ وَلِيَ القَضَاءَ أَوْ جُعِلَ قَاضِياً فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» (1) فهذا نقل عن أئمتنا لا يتفق مع الواقع، فقد نصوا على أن القضاء تعتريه الأحكام الخمسة، وأن تولي القضاء لِلْظلَمَةِ جائز بلا نزاع، وأن المراد بقوله: «مَنْ تَوَلَّى القَضَاءَ
…
الخ» حث القاضي على أن يتوقى الحُكْمَ ويعدل فيه.
قال شيخ الإسلام المرغيناني في " الهداية ": «[ثُمَّ] يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنَ السُّلْطَانِ الجَائِرِ كَمَا يَجُوزُ مِنَ العَادِلِ، لأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم[تقلَّدُوهُ] مِنْ
(1) أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة وقال: حسن غريب (6/ 66 - " سنن الترمذي بشرح ابن العربي ").
مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، وَالحَقُّ كَانَ بِيَدِ عَلِيٍّ فِي نَوْبَتِهِ، وَالتَّابِعُونَ تَقَلَّدُوا مِنَ الحَجَّاجِ وَكَانَ جَائِرًا، إِلَاّ إِذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنَ القَضَاءِ بِحَقٍّ» (1) اهـ.
وقال ابن العربي من علماء المالكية عند شرحه لكتاب القضاء في " الترمذي ": «وَالوِلَايَةُ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ عَلَى الأَعْيَانِ وَإِنِّمَا هُوَ عَلَى الكِفَايَةِ، فَلَوْ دَعَا الإِمَامُ إِلَى العَوْنِ جَمِيع النَّاسِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا لأَثِمُوا، وَإِذَا قَبِلَ بَعْضُهُمْ أُجِرُوا وَسَقَطَ الفَرْضُ عَنْ البَاقِينَ» اهـ.
وقال ابن فَرْحُون في " تبصرة الحكام ": «وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ مِنْ الأَحَادِيثِ التِي فِيهَا تَخْوِيْفٌ وَوَعَيدٌ فَإِنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ قُضَاةِ الجَوْرِ الْعُلَمَاء أَوْ الجُهَّالِ الذِينَ يُدْخِلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي هَذَا المَنْصِبِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَفِي هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ جَاءَ الوَعِيدُ» (2).
وبهذا يتبين لنا أن القضاء ليس كما أراد أن يصوره لنا جولدتسيهر مُسْقِطًا للعدالة، بل هو شرف عظيم، ولو لم يكن فيه إلا النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحُكْمِ بين الناس بما أنزل اللهُ لكفاه شرفاً وفضلاً. نَعَمْ، فَرَّ كَثِيرُونَ من العلماء من القضاء، وَتَحَمَّلَ بعضهم في سبيل ذلك بعض الأذى ولكنهم لم يفعلوا هذا لأنه مسقط للعدالة وداعية إلي الجرح، بل فعلوه بداعي الورع والزهد وتحرزهم من أن يلقوا الله وعليهم تبعات من أمور الناس، قال ابن العربي تعليلاً لامتناع بعض الصحابة عن تولي القضاء:«إِنَّ المَرْءَ فِيمَا يَعْمَلُ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجَلٍ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي شُرُوطِهَا، وَعَلَىَ تَقِيَّةٍ مِنْ عَدَمِ القَبُولِ لَهَا مِمَّا دَخَلَ فِيهَا بِمَا لَا يُحْصِيهِ، وَهَذَا فِيمَا كَانَ مِنَ الطَّاعَةِ يَخْتَصُّ بِهِ لَا يَتَعَدَّاهُ، فَكَيْفَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ العِبَادِ التِي نِيْطَتْ بِهِ وَأَلْزَمَتْ طَوْقَ عُنُقِهِ، فَالوَجَلُ فِي ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ وَالتَّقِيَّةَ يَنْبَغِي أَنْ تُتَّخَذَ أَعْظَمَ» .
وبعد فهذا بحث مستفيض حول الإمام الزُّهْرِي رضي الله عنه، وما
(1)" فتح القدير ": 6/ 364.
(2)
1/ 9 - 10 على هامش " فتح العلي المالك ".