الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّالِثُ: السُنَّةُ مَعَ مُنْكِرِي حُجِيَّتِهَا قَدِيمًا:
لم يكد يُطِلُّ القرن الثاني الهجري حتى امتحنت السُنَّةُ بمن ينكر حُجِيَّتَهَا كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي، وبمن ينكر حُجِيَّةَ غير المتواتر منها، مِمَّا يأتي عن طريق الآحاد، وبمن يكر حُجِيَّةَ السُنَّةِ التي لا تُرَدُّ بياناً لما في القرآن أو مُؤَكِّدَةً له، بل تأتي بحكم مستقل.
وأول من تعرض لهذه المذاهب - فيما نعلم - الإمام الشافعي رحمه الله، فقد جاء في كتاب "جماع العلم " من كتاب " الأُم " فصل خاص، ذكر فيه الشافعي مناظرة بينه وبين من يُنْسَبُ إلى العلم بمذهب أصحابه مِمَّنْ يرون رَدَّ الأخبار كلها، كما عقد رحمه الله فصلاً طويلاً في " الرسالة " لحُجِيَّةِ خَبَرِ الآحَادِ، وإليك ما ذكره في كتاب " الأم "(1).
قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: «قَالَ: لِي قَائِلٌ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ بِمَذْهَبِ أَصْحَابِهِ: أَنْتَ عَرَبِيٌّ وَالقُرْآنُ نَزَلَ بِلِسَانِ مَنْ أَنْتَ مِنْهُمْ، وَأَنْتَ أَدْرَى بِحِفْظِهِ، وَفِيهِ لِلَّهِ فَرَائِضُ أَنْزَلَهَا لَوْ شَكَّ شَاكٌّ قَدْ تَلَبَّسَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِحَرْفٍ مِنْهَا اسْتَتَبْته، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلْته وَقَدْ قَالَ: عز وجل فِي الْقُرْآنِ {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) فَكَيْفَ جَازَ عِنْدَ نَفْسِك أَوْ لأَحَدٍ فِي شَيْءٍ فَرَضَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ مَرَّةً: الفَرْضُ فِيهِ عَامٌّ، وَمَرَّةً: الفَرْضُ فِيهِ خَاصٌّ، وَمَرَّةً: الأَمْرُ فِيهِ فَرْضٌ، وَمَرَّةً: الأَمْرُ فِيهِ دَلَالَةٌ؟ وَإِنْ شَاءَ ذُو إبَاحَةٍ وَأَكْثَرُ مَا فَرَّقْت بَيْنَهُ مِنْ هَذَا عِنْدَك حَدِيثٌ تَرْوِيهِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ آخَرَ أَوْ حَدِيثَانِ
(1)" جماع العلم " المطبوع مع " الأم ": 7/ 250 في باب حكاية قول الطائفة التي ردّت الأخبار كلها.
(2)
[سورة النحل، الآية: 89].
أَوْ ثَلَاثَةٌ حَتَّى [يَبْلُغَ] بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ وَجَدْتُك وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَك
لَا تُبَرِّئُونَ أَحَدًا لَقِيتُمُوهُ وَقَدَّمْتُمُوهُ فِي الصِّدْقِ وَالْحِفْظِ، وَلَا أَحَدًا لَقِيت مِمَّنْ لَقِيتُمْ مِنْ أَنْ يَغْلَطَ وَيَنْسَى وَيُخْطِئَ فِي حَدِيثِهِ، بَلْ وَجَدْتُكُمْ تَقُولُونَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَخْطَأَ فُلَانٌ فِي حَدِيثِ كَذَا، وَفُلَانٌ فِي حَدِيثِ كَذَا، وَوَجَدْتُكُمْ تَقُولُونَ: لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِحَدِيثٍ [أَحْلَلْتُمْ] بِهِ وَحَرَّمْتُمْ مِنْ عِلْمِ الخَاصَّةِ: لَمْ يَقُلْ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَخْطَأْتُمْ، أَوْ مَنْ حَدَّثَكُمْ وَكَذَبْتُمْ أَوْ مَنْ حَدَّثَكُمْ، لَمْ تَسْتَتِيبُوهُ، وَلَمْ تَزِيدُوهُ عَلَى أَنْ تَقُولُوا لَهُ: بِئْسَمَا قُلْت، أَفَيَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ القُرْآنِ وَظَاهِرُهُ وَاحِدٌ عِنْدَ مَنْ سَمِعَهُ بِخَبَرِ مَنْ هُوَ كَمَا وَصَفْتُمْ [فِيهِ]، وَتُقِيمُونَ أَخْبَارَهُمْ مَقَامَ كِتَابِ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تُعْطُونَ بِهَا وَتَمْنَعُونَ بِهَا؟
قال الشافعي:»
ثم أخذ الشافعي رحمه الله في التدليل على ذلك فقال: قال الله
قال (الخصم): «فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الكِتَابَ كِتَابُ اللَّهِ فَمَا الحِكْمَةُ؟» .
قُلْتُ: «سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .
قَالَ (الخَصْمُ): قَالَ: «أَفَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ، يُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ جُمْلَةً، وَالْحِكْمَةَ خَاصَّةً وَهِيَ أَحْكَامُهُ؟»
قَالَ (الخَصْمُ): «إنَّهُ لَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ!» .
قَالَ (الخَصْمُ): «فَإِنْ ذَهَبْت مَذْهَبَ تَكْرِيرِ الْكَلَامِ؟» .
قَالَ: «وَأَيْنَ [هِيَ]؟» .
(1)[سورة الجمعة، الآية: 2].
(2)
[سورة الأحزاب، الآية: 34].
قَالَ (الخَصْمُ): «فَهَذَا الْقُرْآنُ يُتْلَى فَكَيْفَ تُتْلَى الْحِكْمَةُ؟» .
قُلْتُ: «إنَّمَا مَعْنَى التِّلَاوَةِ أَنْ يَنْطِقَ بِالقُرْآنِ وَالسُنَّةِ، كَمَا يَنْطِقُ بِهَا» (1).
قَالَ (الخَصْمُ): «فَهَذِهِ أَبْيَنُ فِي أَنَّ الْحِكْمَةَ غَيْرُ القُرْآنِ مِنْ الأُولَى» .
وَقُلْتٌ: «افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم» .
قال (الخصم): وأين؟
قلت: قال الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) وقال الله عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3) وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4)
قُلْتُ: «لَقَدْ فَرَضَ اللهُ - جَلَّ وَعَزَّ -[عَلَيْنَا] اتِّبَاعَ أَمْرِهِ فَقَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (5).
قال (الشافعي) قُلْتُ: «وَالفَرْضُ عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ هُوَ قَبْلَنَا وَمَنْ بَعْدَنَا وَاحِدٌ؟» .
(1) هكذا العبارة في جماع العلم المطبوع مع " الأم ": 7/ 250 ولعل صوبها: «أَنْ يَنْطِقَ بِالسُنَّةِ كَمَا يَنْطِقُ بِالقُرْآنِ» .
(2)
[سورة النساء، الآية: 65].
(3)
[سورة النساء، الآية: 80].
(4)
[سورة النور، الآية: 63].
(5)
[سورة الحشر، الآية: 7].
قَالَ (الخَصْمُ): «نَعَمْ» .
قَالَ: «نَعَمْ!» .
وهنا ذكر الشافعي له أيضاًً: كيف ينسخ القرآن بعضه بعضاً ولا سبيل إلى ذلك إلا بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ قَالَ (الخَصْمُ): «وَالحُجَّةُ لَك ثَابِتَةٌ بِأَنَّ عَلَيْنَا قَبُولَ الخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ صِرْت إلَى أَنَّ قَبُولَ الخَبَرِ لَازِمٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِمَا ذَكَرْت وَمَا فِي مِثْلِ مَعَانِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ» .
ثم أعلن الخَصْمُ الرجوع عما كان يعتقده إلى ما تبين له أنه الحق.
ثم سأل الخَصْمُ الشَّافِعِيَّ عن العام كيف يكون في القرآن مَرَّةً عَامًّا ومَرَّةً خَاصًّا! فَبَيَّنَ له الشافعي رحمه الله أن لسان العرب واسع وقد تنطق بالشيء عَامًّا وتريد به خَاصًّا، وأن القول بخصوصية العام لا تكون إلا بِحُجَّةٍ من قرآن أو سُنَّةٍ، ثم ذكر له على ذلك أمثلة من عموم القرآن خُصَّتْ بأخبار السُنَّةِ كعموم الصلاة على المُكَلَّفِينَ خصت منها ذوات الحيض، والزكاة على الأموال عَامَّةً وخُصَّ منها بعض الأموال، والوصية للوالدين نسخت بالفرائض، والمواريث للآباء والأمهات والولد على العموم وخُصَّ منها الكافر لا يرث من المسلم، والعبد من الحر والقاتل من المقتول وكل ذلك بِِالسُنَّةِ، فاعترف الخصم بأنه لا سبيل لعلم ذلك إلا بِالسُنَّةِ.
ثُمَّ قَالَ (الخَصْمُ): «[نَعَمْ] وَمَا زِلْت أَقُولُ بِخِلَافِ هَذَا حَتَّى بَانَ لِي خَطَأُ مَنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَبَ، وَلَقَدْ ذَهَبَ فِيهِ أُنَاسٌ مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ لَا يَقْبَلُ خَبَرًا وَفِي كِتَابِ اللَّهِ البَيَانُ» .
قُلْتُ: «فَمَا لَزِمَهُ؟» .
[قَالَ]: «وَمَذْهَبُ الضَّلَالِ فِي هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ وَاضِحٌ لَسْتُ أَقُولُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَكِنْ هَلْ مِنْ حُجَّةٍ فِي أَنْ تُبِيحَ المُحَرَّمَ بِإِحَاطَةٍ بِغَيْرِ إحَاطَةٍ؟» (أَيْ تُبِيحُ المُحَرَّمَ قَطْعًا بِالظَنِّ).
قُلْتُ: «نَعَمْ» .
قَالَ: «مَا هُوَ؟» .
قُلْتُ: «مَا تَقُولُ فِي هَذَا [لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ] أَمُحَرَّمُ الدَّمِ وَالْمَالِ؟» .
قَالَ: «نَعَمْ» .
قَالَ: «أَقْتُلُهُ قَوَدًا وَأَدْفَعُ مَالَهُ الذِي فِي يَدَيْهِ إلَى وَرَثَةِ المَشْهُودِ لَهُ» .
قُلْتُ: «أَوَيُمْكِنُ فِي الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَشْهَدَا بِالْكَذِبِ وَالْغَلَطِ؟» .
قَالَ: «نَعَمْ» .
قَالَ: «أُمِرْت بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ» .
قُلْتُ: «أَفَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَصًّا أَنْ تَقْبَلَ الشَّهَادَةَ عَلَى القَتْل؟» .
قَالَ: «لَا. وَلَكِنْ اسْتِدْلَالاً أَنِّي لَا أُؤْمَرُ بِهَا إلَاّ بِمَعْنًى» .
ثم قال الشافعي له: «فَإِنْ كُنْت أُمِرْت بِذَلِكَ عَلَى صِدْقِ الشَّاهِدَيْنِ فِي
الظَّاهِرِ فَقَبِلْتَهُمَا عَلَى الظَّاهِرِ وَلَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلَاّ اللَّهُ، وَإِنَّا لَنَطْلُبُ فِي الْمُحَدِّثِ أَكْثَرَ مِمَّا نَطْلُبُ فِي الشَّاهِدِ فَنُجِيزُ شَهَادَةَ البَشَرِ لَا نَقْبَلُ حَدِيثَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَنَجِدُ الدَّلَالَةَ عَلَى صِدْقِ الْمُحَدِّثِ وَغَلَطِهِ مِمَّنْ شَرِكَهُ مِنْ الحُفَّاظِ، وَبِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَفِي هَذَا دَلَالَاتٌ وَلَا يُمْكِنُ هَذَا فِي الشَّهَادَاتِ».
وأخيراً يعلن الخصم اقتناعه بأن قبول خبر الرسول قبول عن اللهِ. اهـ. باختصار بسيط جِدًّا، ولا بد من إبداء الملاحظات الآتية:
أَوَلاً - لم يُبَيِّنْ لنا الشافعي رحمه الله من هي هذه الطائفة التي رَدَّتْ الأخبار كلها، ولا من هو الشخص الذي ناظره في ذلك، وقد استظهر الشيخ الخضري رحمه الله أنه يعني بذلك المعتزلة حيث قال في كتابه " تاريخ التشريع الإسلامي ":«وَلَمْ يُظْهِرِ لَنَا الشَّافِعِيُّ شَخْصِيَّةَ مَنْ كَانَ يَرَىَ هَذَا الرَّأْيَ وَلَا أَبَانَهُ لَنَا التَّارِيخُ، إِلَاّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ فِي مُنَاظَرَتِهِ لأَصْحَابِ الرَّأْيِ الآتِي (الذِينَ يَرُدُّوْنَ خَبَرَ الخَاصَّةِ) قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا المَذْهَبِ (مَنْ يَرُدُّ الأَخْبَارَ كُلَّهَا) مَنْسُوبٌ إِلَى البَصْرَةِ، وَكَانَتْ البَصْرَةُ مَرْكَزًا لِحَرَكَةٍ عَمَلِيَّةٍ كَلَامِيَّةٍ، وَمِنْهَا نَبَعَتْ مَذَاهِبُ المُعْتَزِلَةِ، فَقَدْ نَشَأَ بِهَا كِبَارُهُمْ وَكُتَّابُهُمْ، وَكَانُوا مَعْرُوفِيْنَ بِمُخَاصَمَتِهِمْ لأَهْلِ الحَدِيثِ، فَلَعَلَّ صَاحِبَ هَذَا القَوْلِ مِنْهُم) وَقَد تَأَيَّدَ عِنْدِي هَذَا الظَّنُّ بِمَا رَأَيْتُهُ فِي الكِتَابِ المَوْسُوْمِ بـ " تَأْوِيْلِ مُخْتَلَفِ الحَدِيثِ " لأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بْن مُسْلِمٍ بْنِ قُتَيْبَةَ (276) فَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ مَوْقِفَ شُيُوخِ المُعْتَزِلَةِ مِنَ السُّنَّةِ وَتَطَاوَلَهُمْ عَلَى الصََّحَابَةِ وَكِبَارِ المُفْتِينَ مِنْهُمْ» .
واستنتج «الخضري» من ذلك أن غارة شعواء شُنَّتْ في عصر الشافعي أو قبله بقليل من المُتَكَلِّمِينَ على أَهْلِ السُنَّةِ، وأكثر المُتَكَلِّمِينَ كان بالبصرة، فمن المُؤَكَّدِ أن يكون الذي ناظر الشافعي من هؤلاء (1) وهذا الذي استظهره الشيخ «الخضري» قوي في النظر.
ثَانِياً - لَا يُخَالِجَنَّكَ ذَرَّةٌ من الشك في أن المراد بإنكار حُجِيَّةِ السُنَّةِ
(1)" تاريخ التشريع الإسلامي " للشيخ محمد الخضري بك: ص 197.
إنكار ذلك من حيث الشك في طريقها، وما يلحق رُوَّاتَهَا من خطأ أو وهم، وما يندس بينهم من وَضَّاعِينَ وكذّابين، ومن هنا قال من قال بوجوب الاقتصار على القرآن وعدم الاعتماد عَلَى السُنَّةِ، لا أنهم أنكروها من حيث أقوال النَّبِيِّ وأفعال وتقريرات، فإن مسلماً لا يقول بذلك، ولم ينقل عن طائفة من طوائف المُسْلِمِينَ أنها قالت بأن اتباع أمر رسول الله ليس بواجب، وأن أقواله وأفعاله ليست من مصادر التشريع، ولا شك أن في القول بذلك رَدًّا لأحكام القرآن وما أجمع عليه الصحابة وَالمُسْلِمُونَ، نعم نسب القول إلى طائفة من غُلَاةِ الرَّوَافِضِ التي تنكر نُبُوَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا لا كلام لنا فيه، فالبحث إنما هو في آراء الطوائف الإسلامية، لَا المُرْتَدِّينَ وَالمَلَاحِدَةَ وأشباههم، وإليك من نصوص العلماء ما يؤكد هذا الذي قلناه.
وَلَا شك أنك لمحت من النقاش أن مدار الإنكار هو الظن في ثبوتها بحيث لا تقف أمام القرآن المقطوع ونسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى الله عز وجل.
وقال ابن حزم (1): «لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ القُرْآنَ هُو الأَصْلُ المَرْجُوعِ إِلَيْهِ فِي الشَّرَائِعِ نَظَرْنَا فِيهِ فَوَجَدْنَا فِيهِ إِيجَابَ طَاعَةِ مَا أَمَرَنَا بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
(1)" الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم الأندلسي: 1/ 96.
وَوَجَدْنَاهُ عز وجل يَقُولُ فِيهِ وَاصِفًا لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} (1) فَصَحَّ لَنَا بِذَلِكَ أَنَّ الوَحْيَ يَنْقَسِمُ مِنَ اللهِ عز وجل إِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَحْيٌ مَتْلُوٌّ مُؤَلَّفٌ تَأْلِيفاً مُعْجَزَ النِّظَامِ وَهُوُ القُرْآنُ، وَالثَّانِي: وَحْيٌ مَرْوِيٌّ مَنْقُولٌ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ وَلَا مُعْجَزَ النِّظَامِ وَلَا مَتْلُوٌّ لَكِنَّهُ مَقْرُوءٌ، وَهُوَ الخَبَرُ الوَارِدُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ المُبَيِّنُ عَنْ اللهِ عز وجل مُرَادُهُ مِنَّا، قَالَ تَعَالَى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) وَوَجَدْنَاهُ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ طَاعَةَ هَذَا القِسْمَ الثَّانِي كَمَا أَوْجَبَ طَاعَةَ القِسْمِ الأَوَّلِ الذِي هُوَ القُرْآنُ وَلَا فَرْقَ، فَقَالَ تَعَالَى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (3) فَكَانَتْ الأَخْبَارُ التِي ذَكَرْنَا أَحَدَ الأُصُولِ الثَّلَاثَةِ التِي أَلْزَمَنَا طَاعَتَهَا فِي الآيَةِ الجَامِعَةِ لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ أَوَّلُهَا عَنْ آخِرِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ} (4) فَهَذَا أَصْلٌ وَهُوَ القُرْآنُ {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (4) فَهَذَا ثَاٍن وَهُوَ الخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (4) فَهَذَا ثَالِثٌ وَهُوَ الإِجْمَاعُ المَنْقُولُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُكْمُهُ».
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (5): «وَلَوْ أَنَّ امْرُءًا قَالَ: لَا نَأْخُذُ إِلَاّ مَا وَجَدْنَا فِي القُرْآنِ لَكَانَ كَافِرًا بِإِجْمَاعِ الأُمَّةِ، وَلَكَانَ لَا يَلْزَمُهُ إِلَاّ رَكْعَةً وَاحِدَةً مَا بَيْنَ دُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ، وَأُخْرَى عِنْدَ الفَجْرِ، لأَنَّ ذَلِكَ هُوَ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ صَلَاةٍ، وَلَا حَدَّ لِلأَكْثَرِ فِي ذَلِكَ، وَقَائِلٌ هَذَا كَافِرٌ مُشْرِكٌ حَلَالُ
(1)[سورة النجم، الآيتان: 3، 4].
(2)
[سورة النحل، الآية: 44].
(3)
[سورة المائدة، الآية: 92] و [سورة التغابن، الآية: 12].
(4)
[سورة النساء، الآية: 59].
(5)
" الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم الأندلسي: 2/ 80.
الدَّمِ وَالمَالِ، وَإِنِّمَا ذَهَبَ إِلَىَ هَذَا غَالِيَةٌ الرَّافِضَةِ مِمَّنْ اجْتَمَعَتْ الأُمَّةُ عَلَى كُفْرِهِمْ».
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ: «إِنَّ مِنْ غَالِيَةٌ الرَّافِضَةِ مَنْ ذَهَبُوا إِلَى إِنْكَارِ الاحْتِجَاجِ بِالسُنَّةِ وَالاقْتِصَارِ بِالقُرْآنِ لأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ لِعَلِيٍّ وَأَنَّ جِبْرِيلَ أَخْطَأَ فِي نُزُولِهِ إِلَى سَيِّدِ المُرْسَلِينَ صلى الله عليه وسلم» (1).
ثَالِثاً - تتلخص حُجَّةُ من يَرُدُّ الأخبار كلها كما حكاه الشافعي في قولهم: إن القرآن جاء تِبْيَانًا لكل شيء فإن جاءت الأخبار بأحكام جديدة لَمْ تَرِدْ في القرآن، كان ذلك معارضة من ظَنِيِّ الثبوت، وهي الأخبار لِقَطْعِيِّهِ - وهو القرآن - والظَّنِيِّ لا يقوى على معارضة القَطْعِيِّ، وإن جاءت مُؤَكِّدَةً لحكم القرآن كان الاتباع للقرآن لا لِلْسُنَّةِ، وإن جاءت لبيان ما أجمله القرآن، كان ذلك تِبْيَانًا لِلْقَطْعِيِّ الذي يَكْفُرُ مُنْكِرُ حَرْفٍ مِنْهُ بِظَنِّيٍّ لَا يَكْفُرُ مَنْ أَنْكَرَ ثُبُوتَهُ، وهذا غير جائز.
وربما يتبادر إلى الذهن أنهم على هذا يقبلون المتواتر من الأخبار لأنها قطعية الثبوت فكيف عَمَّمَ الشافعي بقوله: «رَدَّ الأْخْبَارَ كُلَّهَا» ؟ والذي يظهر أنهم لا يعتبرون المتواتر قَطْعِيًّا أَيْضًا بل هو عندهم ظني، لأنه جاء من طرقٍ آحادها ظنية، فاحتمال الكذب في رُوَّاتِهِ لا يزال قائماً، ولو كانوا جمعاً عظيماً، وإذا صَحَّ ما ذهب إليه «الخضري» من أن قائل هذا القول معتزلي، وَصَحَّ ما نسب إلى النَظَّامِ مِمَّا يأتي معنا بَعْدُ من إنكاره إفادة المتواتر القطع، تأكد لك ما نقوله ويؤكده اعتراف الخصم بأن من لا يقبل الخبر يلزمه بأن من جاء بما يقع عليه اسم صلاة فقد أدى ما عليه، ومعنى ذلك أنه يلزمهم عدم القول بعدد الركعات في الصلاة وهي من المتواتر المُجْمَعِ عَلَيْهَا.
أما قوله: «لَا أَقْبَلُ مِنْهَا شَيْئًا إِذَا كَانَ يُمْكِنُ فِيهِ الوَهْمُ وَلَا أَقْبَلُ إِلَاّ مَا
(1)" مفتاح الجنة ": ص 3.
أَشْهَدُ بِهِ عَلَى اللهِ
…
الخ. فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهِ المُتَوَاتِرَ لأَنَّهُ عِنْدَهُ مِمَّا يُمْكِنُ فِيهِ الوَهْمُ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عَلَى الله ِ».
رَابِعاًً - يتلخص جواب الشافعي رحمه الله بما يلي:
1 -
أن الله أوجب علينا اتباع رسوله، وهذا عام لمن كان في زمنه وكل من يأتي بعده. ولا سبيل إلى ذلك لمن لم يشاهد الرسول إلا عن طريق الأخبار فيكون الله قد أمرنا باتباع الأخبار وقبولها، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
2 -
أنه لا بد من قبول الأخبار لمعرفة أحكام القرآن نفسه، فإن الناسخ فيه والمنسوخ لا يعرفان إلا بالرجوع إلى السُنَّةِ.
3 -
أن هنالك أحكاماً متفقاً عليها من الجميع حتى الذين يَرُدُّونَ الأخبار، ولم يكن من سبيل لمعرفتها إلا عن طريق الأخبار.
4 -
أن الشرع قد جاء بتخصيص القطعي بِظَنِّيٍّ، كما في الشهادة على القتل والمال باثنين، مع أن حرمة المال والدم مقطوع بهما. وقد قبلت فيهما شهادة الاثنين وهي ظنية بلا جدال.
5 -
أن الاخبار وإن كان فيها احتمال الخطأ والوهم والكذب، ولكن هذا الاحتمال - بعد التثبت والتأكد من عدالة الراوي، ومقابلة روايته بروايات أقرانه من المُحَدِّثِينَ - أصبح أقل من الاحتمال الوارد في الشهادات. خصوصاً إذا عضد الراوية نص من كتاب أو سُنَّةٌ، فإن الاحتمال يكاد يكون معدوماً.
خَامِساً - أن الشافعي رحمه الله لم يَتَعَرَّضْ في الجواب لقول الخصم: إن الله أنزل الكتاب تبياناً لكل شيء، إلا أن يكون نص القرآن على اتباع الرسول متضمناً إقراره وتشريعه لكل ما جاء عن الرسول، وهذا أحد وجوه خمسة للعلماء سنذكرها في الباب الثالث إن شاء الله تعالى.