الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا بخلاف الأمر بالمجموع، والإخبارعن ثبوت المجموع، لأن وجوب المجموع يقتضي وجوب كل فرد من أراده، والإخبار عن ثبوته إخبار عن ثبوت جميع أفراده، فظهر الفرق بين النهي ، والنفي، والأمر، وخبر الثبوت، فلذلك يثبت الإلزام في الأولين دون الآخرين.
الاحتمال الخامس: أن تكون صيغة العموم موضوعة للمشترك بين أفراده بقيد العدد
، وهو أيضاً باطل، لأن مفهوم العدد أمر كلي، ومفهوم المشترك أمر أيضاً كلي، والقاعدة العقلية: أن إضافة الكلي إلى الكلي يكون المجموع المركب منها كلياً، فيكون الموضوع له كلياً، فيكون اللفظ مطلقاً يقتصر بحكمه على فرد من أفراده، لأن هذا هو شأن المطلق، والمطلق كان هو فهو كلي، وكون العام مطلقاً يقتصر به على فرد من أفراده باطل لما تقدم.
وأما
الاحتمال السادس: أن يكون مسمى لفظ العموم هو القدر المشترك بقيد سلب النهاية
فهو باطل أيضاً، لأن المعنى حينئذ يكون في مثل قوله تعالى:((ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)) ، لا تقتلوا النفوس بقيد سلب النهاية، فمن قتل ألفا لم يخالف ها النهي، فيؤول البحث إلى عدم الاستدلال به على ثبوت حكمه لفرد من أفراده في النفي والنهي، دون الأمر وخبر الثبوت، وقد تقدم إبطاله.
وعلى هذا بطلت هذه الاحتمالات كلها التي يمكن أن تتوهم في مسمى العموم، وأشكل حينئذ مسمى العموم غاية الإشكال، وظهر أن اللازم فيها حينئذ أحد ثلاثة أمور: الاشتراك، أو الإطلاق، أو تعذر الاستدلال بها على ثبوت حكمها لرد من أفرادها في النفي والنهي، وأن جميع ما يتخيل من هذه الأمور لا يخرج عن الثلاثة، وكل واحد منها ينافي صيغة العموم، وحينئذ يتعين كشف الغطاءعن المعنى الذي وضعت له صيغ العموم، فأقول: إن صيغة العموم موضوعة للقدر المشترك مع قيد يتبعه بحكمه في جميع موارده.
فبقولي: للقدر المشترك، خرجت الأعلام، لأن ألفاظها موضوعة بإزاء أمور جزئية لا كلية كزيد وعمرو ونحوهما، كل واحد من هذه المسميات لا يقبل الشركة، فليس كلياً، وأعني بالعلم هاهنا علم الشخص، دون علم الجنس، فإن علم الجنس مسماه، على ما نقرره في شرح المحصول وغيره
وخرج بقولي: بقيد يتبعه بحكمه في جميع موارده: المطلقات، لأن المطلق يقتصر بحكمه على فرد من أفراده، ولا يتبع موارده، كإعتاق الرقبه، إذا حصل في مورد لا يلزم إعتاق إخرى، والعموم حيث وجد فرد من أفراده وجب أن يثبت له ذلك الحكم وإن تقدم أمثاله، كما إن قتلنا مشركاً وآلافاً من المشركين ثم وجدنا أمثاله وجب قتلهم أيضا.
وأعني بقولي: إنه يتبع بحكمه: القدر المشترك بين الأمر والنهي والاستفهام والترجي والتمني والخبر، وغير ذلك من الأحكام، لا أخصه بحكم معين، بل كل حكم يقصد في تركيب اللفظ، وعلى هذا التقدير لا يلزم واحد من تلك المفاسد الثلاثة فلا يلزم الاشتراك، لأن الاشتراك لابد فيه من تعدد المسمى، وها هنا االمسمى واحد وهو المشترك بوصف التتبع، فالمسمى مركب من هذين القيدين، وهو واحد، ولا يكون اللفظ مطلقا، لأن المطلق لا يتبع، وها هنا يتبع، ويستدل به على ثبوت حكمه لكل فرد من أفراده، لأن هذا معنى التتبع، فاندفعت جميع الإشكالات بهذا التحرير، فتأمله، وهو صعب الإشكال، وصعب التحرير، ويمكبك أن تجعل العبارة المتقدمة حدا لصيغة العموم، فإنها جامعة مانعة.
وهأنا أورد لك حدود الجماعة، لتنظر فيها، وتحيط بها، وتطلع على فاسدها من صحيحها، فأقول:
الحد الأول: قال الإمام فخر الدين في المحصول: العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد، كقولنا: الرجال، فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له، ولا يدخل عليه النكرات كقولهم: رجل، لأنه يصلح لكل واحد من الرجال ولا يستغرقهم، ولا التثنية ولا الجمع، لأن لفظ: رجلين ورجال يصلح لكل اثنين وثلاثة، ولا يفيد الاستغراق، ولا ألفاظ العدد كقولنا: خمسة، لأنه صالح لكل خمسة ولا يستغرقها، وقولنا: بحسب وضع واحد احترازا من اللفظ المشترك، أو الذي له حقيقة، ومجاز، فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معاَ، هذا كلامه.
ويرد عليه أن يقال: ما المراد بقولكم: المستغلاق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد، الوضع أو ما هو أعم منه؟ فإن كان المراد بالصلاحية الوضع، صار معنى الكلام: المستغرق لجميع ما وضع له، ولا شك أن ألفاظ العدد كذلك كلها، فإن لفظ المائة والألف وضع لعشرة من العشرات، أو المئين، وهو عند الإطلاق يتناولها جميعاً، فلا يبقى من العشرات التي وضع لها لفظ المائة والألف شيء حتى يتناوله، لاسيما وقد قيل إنها نصوص لا
تقبل المجاز، وكذلك لفظ رجلين وضع لرجلين وهو يتناولهما عند الإطلاق، فيكون الحد باطلا، لأنه غير مانع.
وإن أردتم بالصلاحية ما هو أعممن الوضع، فيصير معنى الكلام: العام هو المستغرق لحقيقته ومجازه، فإن كان لفظ يصلح لمجازه، ولا يكاد يوجد عام كذلك إلا نادرا، فيكون الحد غير جامع، وفي التقدير الأول غير مانع، وكلاهما يقتضي بطلان الحد، فبكون الحد باطلا، فظهر أن قوله: بحسب وضع واحد، لا يتم معه المقصود في هذا الحد.
وقوله: بحسب وضع واحد، وقال: احترزت به عن اللفظ المشترك، والحقيقة والمجاز وعليه سؤلان:
الأول: أن المراد بالاستغراق من جهة الددلالة يشمل ما وضع له وأن المشترك لا دلالة له، ولأنه مجمل، والمجمل قسيم الدال، وكذلك اللفظ لا يدل على مجازه من حيث الوضع وإنما ترشد إليه القرينة، أما اللفظ من حيث هو لفظ فلا، فقد خرج هاتان الصورتان بقولكم: المستغرق في أول الحد، فكان ذكر هذا القيد بعد ذلك حشو لا يصلح في الحدود.
السؤال الثاني: سلمنا أن اللفظ المشترك له دلالة وأن اللفظ يدل على مجاز، لكن الذي اختاره الإمام فخر الدين، صاحب هذا الحد وغيره من الجماهير أن اللفظ المشترك لا يستعمل في مفهوميه، وأن اللفظ لا يستعمل في حقيقته ومجازه، وأن العرب لا تجيز ذلك أصلا، وإذا منعته العرب في لغتها، كيف يقال له مستغرق لذلك في لغة العرب؟ ! فانظر إلى هذا الحد مع ما وقع فيه من التحرير، وأن قائله من المتأخرين المحررين، وقصد الأحتراز عما يرد على حدود المتقدمين، ومع ذلك فهو باطل من أوله إلى آخره.
الحد الثاني: اختاره الإمام فخر الدين في المحصول أيضاً فقال: وقيل في حده: إنه اللفظ الدال على شيئين فصاعدا من غير حصر قال: واحترزنا باللفظ عن المعاني العامة، وعن الألفاظ المركبة، واحترزنا بقولنا: الدال عن الجمع المنكر، فإنه يتناول جميع الأفراد ، لكن على وجه الصلاحية، لا على وجه الدلالة، واحترزنا بقولنا: على شيئين عن النكرة في الإثبات، وبقولنا: من غير حصر عن أسماء الأعداد.
وينبغي أن نقرر المقصود من هذا الكلام أولاً، ثم ننبه على مايرد عليه ثانياً، أما تقريره: أن العموم يصدق على المعاني كما يصدق على الألفاظ، كما تقدم أن الحيوان عام في أنواعه، وكذلك جميع الأجناس والأنواع، ويقال: سفر عام، ومطر عام، وغير ذلك مما فيه العموم بحسب المعاني فقط، فإذا قال: اللفظ، خرج المعنى الذي هو ليس بلفظ، وأما الألفاظ المركبة كقولنا: زيد قائم، وعمرو خارج، والقصيدة الطويلة، لا يصدق عليه أنه لفظ، بل لفظات عديدة، فخرج هذا كله عن الحد وينبغي إخراجه، لأنه ليس من صيغ العموم الموضوع للكليات.
وأما الجمع المنكر: فإنه يتناول جميع الجموع على البدل، والعام هو الذي يتناول على جهة الشمول كقولنا: رجال، يصلح لكل ثلاثة على البدل، لكن لا يجمع بين ثلاثة وثلاثة، بل ثلاثة فقط، والعام هو الذي يتناول ما لا يتناهى على الجمع والشمول.
وقوله: النكرة في الإثبات، احترزو به عن النكرة في النفي، فإنها تعم، نحو لا رجل في الدار، فإنها تعم الرجال كلهم، بخلاف الإثبات نحو في الدار رجل، فإنه لا يتناول أكثر من فرد واحد ولا يجمع بين اثنين.
واحترز بقوله: من غير حصر، عن أسماء الأعداد نحو العشرة والمائة ونحوهما، فإن العشرة تتناول أفراد محصورة، لا تقبل الزيادة ولا النقصان، وهي محصورة متناهية في خمستين لا تتجاوزهما إلى أحد عشر ولا أكثر، بخلاف صيغة العموم فإنها تتناول ما لا يتنهى من الأفراد نحو المشركين، فيتعين إخراج أسماء الأعداد، لأنها تتناول شيئين فصاعدا لكن على وجه الحصر، فهذا تقرير كلامه.
وأما ما يرد عليه فأقول: إن اللفظ مصدر، يصدق عليه القليل والكثير من جنسه، إلا إذا حدد بالتاء نحو ضربة، فإنه لا يتناول إلا المرة الواحدة، وإذا قلنا: ضربة، لا يتناول غير الضرب مرة واحدة، هذا هو تقل النحاة وهم أهل العلم ومحرروه، فعلى هذه القاعدة لا يتناول هذا الحد ولا الحرف الواحد، فإنه لفظة لفظها اللسان، وحينئذيخرج جميع أفراد المحدود
من الحد، بل لو قال: اللف بغير تحديد بالتاء كان أقرب للصواب، حتى يبقى قابلاً لعدة لفظات وهي عدد حروف التي يتركب منها صيغ العموم، فإن صيغة العموم لابد فيها من عدة حروف تركب على وزن خاص، ولما حدد لفظ المصدر الذي هو اللفظ بالتاء فقال: اللفظة امتنع قوله ذلك لأن يدخل فيه ضيغة العموم، فإن العرب لم تضع حرفا واحدًا للعموم.
وقوله على شيئين أيضا مفسد للحد ألبتة، قال الإمام سيف الدين في الإحكام: الشيء اسم الموجود فقط، فلا يتناول هذا الحد إلا الموجودات، مع أن العموم يقع في المعدومات كما يقع في الموجودات، فإنك لو قلت: المعدومات والمستحيلات داخلة في معلومات الله تعالى يقال: عم ذلك كل معدوم وكل مستحيل، لأجل الألف واللام، فلا يكون الحد جامعاً، لاشتراطه فيه الموجود.
وأيضا فيقتضي قوله: فصاعدا أن يكون أول مراتب العموم شيئان فإن الموكل إذا قال لوكيله: بع هذا بدرهمين فصاعداً، كان الدرهمانهما أول مراتب الثمن المأذن في البع به، حتى لو باع بها صادف إذن الموكل، فكذلك هاهنا، إذا دل اللفظ على شيئين يلزم أن يكون عاماً.
وقوله بعد ذلك: من غير حصر لا يبطل ورود السؤال عليه، لأن معناه أن المحل يبقى قابلاً للزيادة ولا يتعين، كما أنها في لفظ الموكل لا تتعين، بل تقبل الزيادة فقط، مع أن العام لا يجوز أن يكون مقتصرا في دلالته على شيئين، بل يجب أن يكون مدلوله كلية غير متناهية الأفراد، هذا ما يرد على مفردات حده.
أما مجموع حده فينتقض بأمور:
منها جموع الكثرة المتنكرة نحو رجال ودنانير ودراهم، فإن مجموع التكسير على قسمين: ما هو موضوع القلة من الثلاثة إلى العشرة ولا يتجاوزها كما في قول الشاعر:
يأفعل، وأفعال، وأفعلة وفعلة يعرف الأدنى من العدد.
فأفعل نحو أفلس، وأكلب، وأفعال محو أحمال، وأجمال، وأفعلة نحو أقفزة، وأجربة، وفعلة نحو صبيةظو وغلمة.
ومنها ما هو موضوع للكثرة، وهو ماعدا هذه الأربعة، وماعدا جموع السلامة، مذكرة، ومؤنثة نحو مسلمين، ومسلمات، لأنها موضوعة للعشرة فما دونها فهي موضوعة لما فوق العشرة فيصدق عليها أنها موضوعة لاثنين فصاعدا من غير حصر، لأنها تذهب لغير حصر.
وقوله: لاثنين، لا يأتي الموضوع للزيادة، فالموضوع للزيادة أيضاً يتناوله اللفظ، كقول الموكل لوكيله: بع بدرهمين فصاعدا، فإنه كما يتناول البيع بدرهمين، كذلك هاهنا يتناول الموضوع للزائد غير محصور وهو جموع الكثرة، فيكون الحد غير مانع، فيبطل.
ومنها ألفاظ نكرات مفردات وهي وضعت لما فوق الاثنين، مع أنها ليست للعموم إجماعاً، مع صدق الحد عليها نحو كثير ومتكثر، وعدد، فإن عدداً يدل على شيئين فصاعدا من غير حصر.
ومنها نوع آخر من هذا النمط نحو طائفة، يتناول الثلاثة فصاعداً من غير حصر، وكذلك فرقة، ورهط، وما أشبه ذلك.
فظهر أن هذه الحدود غير وافية بالمقصود، مع أنها للمتأخرين، وقد احترزوا فيها غاية الاحتراز، فما ظنك بغيرها.
وإذا حاولت حد العموم بما ذكرته لك من التلخيص المتقدم، وجدته منطبقا جامعا ما يرد عليه سؤال الاشتراك ألبته.
أما سؤال الاشتراك فلا يرد عليه، لأن المسمى واحد وهو القدر المشترك مع وصف التتبع، والمجموع هو مسماه لاغير، والاشتراك إنما يجيء من تعدد المسمى، فحيث لا تعدد لا اشتراك.
وأما سؤال الإطلاق والاقتصار على فرد واحد، فيندفع أيضا بوصف التتابع، فإنه مناقض للاقتصار.
وأما سؤال امتناع الاستدلال باللفظ على ثبوت حكمه لفرد من أفراده، فمندفع أيضا بسبب أنه إنما ينشأ عن وضع اللفظ المجموع المركب من
الأفراد، وها هنا اللفظ موضوع للقدر المشترك بين الأفراد، وهو المجموع المركب من القيدين المتقدم ذكرهما، لا لمجموع الأفراد.
والأسئلة وإن كثرت التفاسير والتشكيكات لا تخرج عن هذه الثلاثة الأسئلة وهذا الحد سالم عنها، فتسلم مطلقًا وهو المطلوب، فينبغي أن يعتمد على هذا الحد، ويعلم مقدار تلخيصه وسلامته عن الشكوك.