الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ف
الحقيقة بالإجماع:
إطلاقه باعتبار الحال كتسمية الصائم في نهار رمضان صائم، وننطق بذلك في الوقت.
ومجاز بالإجماع: تسميتنا زيدا صائما، باعتبار أنه سيصوم في المستقبل من الزمان، فهذا مجاز إجماعا، ومنه قوله تعالى:{إني أراني أعصر خمرا} سماه باعتبار ما يؤول إليه، فيكون مجازا، ومنهم من جعله على حذف مضاف تقديره: أعصر عنب خمر (فلا يكون) مجازا، غير أنه إذا تعارض المجاز والإضمار كان المجاز أولى.
وإطلاقه بحسب الماضي: فيه مذهبان: أصحهما المجاز كتسمية الخل خمرا، باعتبار أنه كان كذلك ثم تخلل، ومنه تسمية الإنسان نطفة وعلقة باعتبار ما كان عليه، فهذا هو المنقسم إلى الأقسام الثلاثة.
أما إذا كان متعلق الحكم، نحو قولنا: اصحب الصالحين، فإنا حكمنا بوجوب صحبة الصالحين، والصالحون هم متعلق هذا الحكم.
وكذلك قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} حكم بوجوب قتل المشركين ولم يحكم بأن أحدا أشرك، فهو متعلق وجوب القتل.
وكذلك قوله تعالى: {والسارق والسارقة} ، و {الزانية والزاني} ، لم يحكم بأن أحدا سرق ولا زنى، بل حكم بوجوب القطع والجلد خاصة، وهذه الطوائف متعلق هذا الحكم، فهذا الطور كله حقيقة مطلقا في المستقبل وغيره، ولولا ذلك لسقط الاستدلال بالكتاب والسنة في مواطن الأحكام.
بيانه: وذلك أن قولنا: ماض وحال ومستقبل في المشتق (إنما هو) بحسب زمن التخاطب وصدور الصيغة، ولا خفاء أن صيغ الكتاب والسنة إنما صدرت في زمنه عليه الصلاة والسلام، فزماننا مستقبل بالنسبة إلى ذلك الزمان قطعا، فلا يكون لفظ القرآن متناولا لسراق زماننا وزناتهم ومشركيهم وغير ذلك من الطوائف التي أضيف إليها الأحكام وتعلقت بها إلا على سبيل المجاز، فعلى هذا متى ادعينا ثبوت حكم/ في صورة اليوم من هذه الصور.
ويمكن أن يقال: تناول اللفظ لهذه الصورة إنما هو على سبيل المجاز، والأصل عدم المجاز حتى يدل الدليل عليه، فيحتاج كل دليل إلى دليل، ويقف منها جميع ألفاظ الكتاب والسنة، لأجل تطرق المجاز، وهذا لم يقل به أحد، فدل ذلك على أن المراد بقول العلماء: إنه مجاز، باعتبار المستقبل إجماعا، إنما هو إذا كان محكوما (به)، وهو الذي جرت عادتهم أن يمثلوا به، والمذكور في سياق كلامهم أبدا، فيحصل حينئذ الجمع بين الإجماعين: الإجماع على
أنه بحسب المستقبل إجماعا، والإجماع على أن هذه الألفاظ في مشتركي زماننا وسراقهم وزناتهم حقيقة.
وإذا ظهر لك الفرق بين كون المشتق محكوما به أو متعلق الحكم، اندفع عنك اشكال عظيم جدا، وهو السؤال الوارد على هذه النصوص كلها.
ولما عرض لي هذا السؤال أقمت مدة طويلة من الزمان لا أجد له جوابا- وأنا أستشكله واستصعبه- وكذلك جماعة من الفضلاء، حتى فتح الله (علي) بهذا الجواب وهذا الفرق، فذكرته لهم، فأستحسنوه وسروا به.
وحينئذ يظهر لك أن قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} ، وقوله تعالى:{إنه لا يحب المسرفين} يتناول في هذه النصوص متعلق الحكم، لا أن صفاتهم محكم بها، بخلاف قوله تعالى:{يا أيها الناس} ، و {يا أيها الذين آمنوا} و {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} ، فإن المعنى ها هنا محكوم به، لا أنه متعلق الحكم. ويظهر لك أن قوله تعالى:{وما أرسلناك إلا كافة للناس} أنه عام في الناس إلى يوم القيامة، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام:(بعثت إلى الناس كافة)، و (بعثت إلى الأحمر
والأسود، ونحو ذلك، فإن هذه الصفات كلها لم يحكم بها، وإنما هي متعلق الحكم، فتكون عامة، وحقيقة في جميع الأزمنة بخلاف قولنا:(هذا أحمر) وهذا أسود.
وإذا أحطت بهذه القاعدة وهذا الفرق اتضح لك التعميم في هذه المسألة، وفهمت مواضع/ كثيرة في الكتاب والسنة، وتعرف بها الحقيقة من المجاز في مواطن كثيرة التبست على جماعة من الفضلاء، حتى ينبغي أن نجعل هذا من جملة الفروق المذكورة بين الحقيقة والمجاز وأن قوله تعالى:{فاقتلوا المشركين} يتناول كل مشرك إلى (يوم القيامة)، بخلاف قولنا: هؤلاء مشركون، فإنا حكمنا بشركهم، ولم نجعلهم متعلق الحكم، فكان التقسيم إلى المجاز والحقيقة بحسب الأزمنة واقعا بهم.
سؤال: أورد النقشواني في شرح المحصول على هذه المسألة فقال:
هذه المسألة تناقض قول الأصوليين أن المعدوم يكون مخاطبا بالخطاب السابق، فلم يجوزوا أن يكون الخطاب الموجود في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناول من يأتي بعده، وإن كان معدوما كما قالوه في تلك المسألة، فنسبوا خطاب المشافهة بها.
وهذا السؤال مندفع بسبب أنا إنما قلنا: إن خطاب المشافهة لا يتناول المعدوم من جهة وضع اللغة، فإن العرب لم تضع (قوموا) ولا {عليكم أنفسكم} لتناول المعدوم ولا كل الموجود، بل الموجود الحاضر القريب كما تقدم تقريره، فهذا بحث في وضع لغة وتعلق ألفاظ بحسب وضعها.
وقولنا: (المعدوم يكون مأمورا ومنهيا) إلى غير ذلك، معناه: أن الكلام، النفساني له تعلق بمن سيوجد على تقدير وجوده، وتعلق الكلام النفساني ليس من باب أوضاع اللغات في شيء، بل هو أمر عقلي كما تقول: العلم يصح فيه التعلق بالأمور المستقبلة، ليس معناه بالوضع، بل دال له لذاته، كذلك ها هنا هذا الكلام النفساني بذاته لا بوضع واضع، كما يجد أحدنا في نفسه طلب الاشتغال بالعلم والفضيلة وسبل الخيرات من ولده إن وجد له، كذلك يطلب الله تعالى الصلاة من زيد على تقدير وجوده بالطلب النفساني، وينهاه عن الغيبة على تقدير وجوده، وكذلك بقية الأحكام، فهذا بابه الأحكام العقلية ومسألتنا بابها الأوضاع اللغوية.
/والعقليات لا ترد نقضا على اللغات، ولا اللغات نقضا على العقليات، وإنما يكون النقض على كل باب منه وعلى كل مادة بوجود تلك المادة بعينها مع انتفاء ذلك الحكم بعينه، وأما مع تغاير الأحكام والمواد فلا.
مسألة: قال الإمام فخر الدين رحمه الله في المحصول:
قول الصحابي: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر) لا يفيد العموم؛ لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية، والذي (رآه) الصحابي (حتى) روى النهي (عنه) يحتمل أن يكون خاصا بصورة واحدة، وأن يكون عاما، ومع الاحتمال لا يجوز القطع بالعموم.
وكذلك قول الصحابي: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين) لا يفيد العموم، وكذلك إذا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قضيت بالشفعة للجار)؛ لاحتمال كونه حكاية عن قضاء لجار معروف، وتكون (الألف
واللام) للعهد، وقوله: قضيت (عن) فعل معين ماض.
قلت: تقرير هذا الكلام أن هذا اللفظ ليس لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لفظ الراوي، والحجة إنما تكون بقوله عليه الصلاة والسلام لا بقول الراوي.
ويرد عليه أن هذا رواية بالمعنى، ومن شرطها المساواة في اللفظ، في الزيادة والنقصان، والخفاء والجلاء، والعموم والخصوص، كذلك نص عليه هو في المحصول ونص عليه غيره، وأنه لا تجوز الرواية بالمعنى إلا بهذه الشروط، إذ لو ذهب بعض هذه الشروط لتعين معنى الحديث.
أما في الزيادة والنقصان فظاهر، فإن الراوي حينئذ إذ لم يلتزم ذلك زاد في شرع الله تعالى أو نقص، وكذلك العموم والخصوص.
أما الجلاء والخفاء مع استواء المعنى؛ فلأن الجلاء والخفاء معتبرين عند
التعارض، فيقدم الجلي في الدلالة على ما دلالته خفية، ويكون ذلك هو حكم الله تعالى في شرعه، فإذا بدل الجلاء بالخفاء أو بالعكس، فقد غير حكما في الشريعة، وذلك فسوق يقدح في العدالة ويسقط الرواية.
فعلى هذا متى كان لفظ/ الراوي عاما وجب (أن يعتقد) أن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، وأن لا يكون الراوي قد فعل في الرواية بالمعنى ما لا يجوز، وذلك مخل بالعدالة، والمقدر عدالته، فيتناقض.
والراوي قد أتى في لفظه (بالغرر) معروفا بلام التعريف المقتضية للعموم، وجب أن يكون لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، لما تقدم هذا في لفظ (نهي) ونحوه، ما يكون من باب الفتاوى والتبليغ عن الله تعالى، فإنه يتصور فيه العموم حكاية ومحكيا.
وأما قوله: (قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين)، فالقضاء له معنيان:
أحدهما: الحكم، بمعنى الفتيا، كقوله تعالى:{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} ، أي شرع لكم ذلك وأمركم به.
وثانيهما: الحكم بمعنى فصل الخصومات بين الناس، كأحوال القضاة في الوقائع الجزئية.
فالمعنى الأول يتأتى فيه العموم؛ لأن شرع كل شاهد ويمين حجة إلى يوم
القيامة ممكن، وإذا وردت صيغة العموم في محل يقبل العموم وجب حمله على العموم؛ لأن الأصل في الاستعمال الحقيقة كما تقدم في النهي عن الغرر.
وأما الثاني: وهو فصل الخصومات الجزئية فيتعين فيه الخصوص، فإن القضاء بكل شاهد وبكل يمين على المعنى يستحيل عادة، وإنما يقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض شهود زمانه، فضلا عن شهود غير زمانه، وفي وقائع معينة لا كل الوقائع، وذلك معلوم بالضرورة في حقه عليه الصلاة والسلام وفي حق غيره.
وهذا القسم الثاني هو الظاهر من إرادة الراوي، وكذلك فهمه الفقهاء من هذا الحديث، وأن القضية كانت في واقعة مالية، وعلى هذا التقدير يكون الراوي قد اعتمد على قرينة الحال الدالة على المراد بالشاهد واليمين، فأطلق (لام) التعريف، ومراده حقيقة الجنس لاستغراقه ويكون معنى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر هذين الجنسين في فصل الخصومات المالية، وهو كلام/ صحيح ولا يحمل على العموم بخلاف النهي عن الغرر، وهو ظاهر في الفتيا العاملة إلى آخر الدهر، واللام فيه للعموم الشامل لكل غرر من جميع أنواعه وأفراده.
وكذلك قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قضيت بالشفعة للجار)، يحتمل القسمين المذكورين في الشاهد واليمين، وعلى هذا يكون المدرك في عدم الدلالة على العموم تردده بين العموم والخصوص، أما حيث لا تردد
كقوله: (نهى عن بيع الحصاة) و (حبل الحبلة) ونحو ذلك، فالتردد بعيد، فيدل على العموم، ويؤكد حمل قوله عليه الصلاة والسلام:(قضيت بالشفعة للجار) على العموم، أنه كلام ظاهر في تأسيس قاعدة وتمهيد أصل عظيم في الشريعة، وشأن صاحب الشرع في تأسيس القواعد وتمهيد الأصول الكلية أن يوسع في بيانها ويزال إجمالها ويوضح حقائقها حتى يذهب خفاؤها، وأن يكون ذلك كذلك حتى تحمل الألفاظ على ظواهرها، وتبقى العمومات على عمومها، فبهذه التلخيصات والفروق يظهر الحق فيما يتعين حمله على العموم مما لا يحمل.
مسألة: قال الإمام فخر الدين في المحصول: قول الراوي:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر)، لا يقتضي العموم؛ لأن لفظ (كان) لا يفيد إلا تقدم الفعل، أما التكرار فلا، ومنهم من قال: إنه يفيد التكرار في العرف؛ لأنه لا يقال: فلان كان يتهجد بالليل إذا تهجد مرة واحدة في عمره.
قلت: العموم في هذه المسألة ليس هو على بابه، بل المراد التكرار في الزمن الماضي خاصة، أما الحال والمستقبل فلا سبيل إليه، وأصل (كان) أنها فعل ماض، والفعل الماضي إنما يدل على أصل مصدره مرة واحدة، أما الزيادة على ذلك فلا تعرض له بنفي ولا لإثبات، غير أن العرف خالف بين (كان) وغيرها من بين سائر الأفعال، فصارت لا تستعمل إلا حيث يكون التكرار واقعا في الزمن الماضي، ويصدق ذلك بأدنى رتب (التكرار) من غير إشعار برتبة معينة من التكرار وعدده، والإشعار/ بالاستغراق ألبتة، بل كثرة ذلك من حيث الجملة في أكثر من الماضي خاصة.
مسألة: إذا قال الراوي: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الشفق.
قال الإمام فخر الدين في المحصول: إذا قال القائل: إن الشفق شفقان، الحمرة والبياض، (وأنا أحمله) على (وقوعه) - بعدهما جميعا- فهذا خطأ؛ لأن اللفظ المشترك لا (يمكن حمله) على مفهوميه معا.
قلت: تقرير هذا الكلام وتحقيق الصواب فيه أن لفظ الشفق موضوع للحمرة والبياض، وهما ضدان، فيكون مشتركا؛ لأنه سمع من العرب في الثوب الأحمر: هو أشد حمرة من الشفق، وصيغة أفعل تقتضي المشاركة في أصل المعنى، والبياض أيضا يسمى شفقا، نقله أئمة اللغة، وقال بعضهم: هو من الشفقة التي هي الرقة، والحمرة أرق وأصفى من الظلمة، والبياض أصفى من الحمرة، فيكون على هذا مشككا، ويكون في البياض أقوى، فلا يكون مشتركا، وعلى هذا يعم الشفقين؛ لأن صيغة العموم إذا دخلت على مشكك عم المختلفات، فإذا قلنا: خلق الله النور، عم نور الشمس الذي هو أقوى،
ونور السراج الذي هو أضعف، فقوله:(بعد الشفق) يعم الشفقين، لأجل لام التعريف الموضوعة للعموم.
وإذا فرعنا على الاشتراك وعدم الاشتقاق فخرجت المسألة على الخلاف بين العلماء في أن الصيغة المشتركة هل تعم أم لا؟
وبالعموم قال الشافعي وجماعة من الأصوليين، حتى أنهم لا يذكرون استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه إلا في باب العموم.
ومذهب مالك والقاضي أبي بكر الباقلاني وجماعة من الفقهاء والمعتزلة جواز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا.
قال النقشواني: يمكن الخصم أن يحمل لفظ الشفق على المتأخر منهما، ولا يكون استعمالا للمشترك في مفهويمه بل في أحدهما عينا وهو المتأخر زمانا، ويلزم من ذلك أن تقع الصلاة بعدهما، لأنه استعمل اللفظ فيهما.
مسألة: قال الإمام فخر الدين في المحصول:
إذا قال الراوي: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم / في الكعبة ......
فهذا متواطيء، لا يمكن أن يستدل به على أداء الفرض في الكعبة؛ لأنه إنما يعم لفظ الصلاة لا فعلها، فذلك الواقع إن كان فرضا لم يكن نفلا، وإن كان نفلا لم يكن فرضا، فلا يدل على العموم.
قلت: وتقرير هذا الكلام أن قوله (صلى) فعل في سياق الإثبات كالنكرة في سياق الإثبات لا تعم، بخلاف الفعل في سياق النفي (أو النكرة في سياق النفي)، وإذا لم يكن عاما مطلقا، والمطلق إنما يدل على صورة واحدة، ولا إشعار له بالشمول، ولا بالعدد، ولا بشيء معين، بخلاف (ما) لو قال: أوقع الصلاة، أو أمر بالصلاة في الكعبة، فإن الألف واللام موضوعان للعموم، وهو معنى قوله:(إنما يعم لفظ الصلاة لا فعلها) أي: المعرف باللام يعم، والفعل الذي هو (صلى) لا يعم.
مسألة: قال الغزالي: المفهوم لا عموم له؛ لأن العموم لفظ تتشابه دلالته بالنسبة إلى مسمياته، ودلالة المفهوم ليست لفظية، فلا يكون لها عموم.
قال الإمام فخر الدين: إن كان، لا نسميه عموما؛ لأن لفظ العموم لا نطلقه إلا على الألفاظ، فالنزاع لفظي، وإن كان يعني به أنه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع أفراد المسكوت عنه فهو باطل؛ لأن البحث عن المفهوم هل له عموم أم لا، فرع عن كون المفهوم حجة؛ ومتى ثبت كونه حجة لزم القطع بانتفاء الحكم (عن جميع أفراد المسكوت عنه؛ لأنه لو ثبت الحكم) في المسكوت لم يكن للتخصيص بالذكر فائدة.
قلت: المفهوم حجة عند الغزالي، وظاهر كلامه أن مراده القسم الأول، وأن نزاعه إنما هو في التسمية، وتصريح الإمام بأن المفهوم عام في السلب فيه تفصيل، فإن مفهوم الصفة نحو قوله عليه الصلاة والسلام:(في الغنم السائمة الزكاة)، ومفهوم الحصر كقوله عليه الصلاة والسلام (إنما الماء من الماء)
(وإنما الأعمال بالنيات) و (إنما الربا في النسيئة) ونحو هذه المفهومات، فإن السلب والمفهوم وهو ثبوت أو إثبات نقيض (حكم المنطوق للمسكوت عنه) من ذلك الجنس، عام في جميع أفراد المسكوت عنه.
وقولي: من ذلك الجنس، إشارة إلى الخلاف في مثل قوله عليه الصلاة/ والسلام (في سائمة الغنم الزكاة)، هل يقتضي مفهومه أن ما ليس بسائمة من الغنم لا زكاة فيه، أو ما ليس بسائمة من جميع الأجناس، حتى يستقيم الاستدلال بمفهوم هذا الحديث على عدم وجوب الزكاة في الحلى المتخذ لاستعمال مباح؛ لأنه ليس بسائمة من الغنم؟
وأما مفهوم الغاية كقولنا: لا تصل صلاة حتى تتوضأ، ولا تصم صوما حتى تنوي، ونحو ذلك من السياقات، فإنه يقتضي المنطوق فيها العموم
في النفي والنهي حتى تحصل هذه الغاية وهي الوضوء والنية. فإذا حصلت هذه الغاية يقتضي أ، ذلك النهي يزول عن جميع الصلوات، ولا يلزم من عدم النهي عن جميع أفراد الصلاة أو الصوم أن يثبت الأمر فيها أو في بعضها.
فإن عدم النهي أعم من ثبوت الأمر، وسلب النهي عن وجه العموم أعم من الأمر على وجه العموم؛ لأن النهي على العموم والأمر على العموم ضدان يمكن ارتفاعهما، والمفهوم إنما هو نقيض المنطوق لا ضده، ونقيض السالبة الكلية إنما هو الموجبة الجزئية، لا الموجبة الكلية.
وإذا قال القائل: لا أسافر حتى يخرج البرد، فالمعنى: قبل خروج البرد كل سفر، ولا يلزم بمقتضى مفهوم هذه الغاية، إذا خرج البرد أن يسافر كل سفر. وقد تقدمت أقسام المفهوم مستوعبة في باب الموجبات للعموم من حيث الوضع والفعل وغيرهما.
مسألة: قال الشيخ سيف الدين رحمه الله: اختلف العلماء في عموم قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} هل يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من أنواع مال كل مالك، أو أخذ صدقة واحدة من كل نوع واحد؟ ، قال بالأول الأكثرون وقال بالثاني الكرخي.
حجة الأولين: أن الله تعالى أضاف الصدقة إلى جميع الأموال، والجمع المضاف إليه من صيغ العموم، فتتعدد الصدقة بتعدد الأموال.
حجة الثاني: أن (صدقة) نكرة في سياق الإثبات، فتصدق بأخذ صدقة واحدة من مال واحد، لاسيما أن لفظ (من) يقتضي التبعيض، ويصدق أنه أخذ من بعض الأموال.
قلت: /أما أن النكرة في سياق الإثبات لا تعم فمتجه، (وأما أن (من) للتبعيض، وأ، ذلك يصدق بفرد، لأنه بعض، فمتجه) أيضا، كما لو قال الله تعالى: اقتلوا من المشركين رجلا، خرجنا من العهد بقتل رجل واحد، فيظهر ما قاله الكرخي هو الصواب.
غير أن ها هنا بحثا وهو أن (من) المبعضة هل تبعيضها في الأموال فيصدق ما قاله الكرخي؟ أو في كل مال فيصدق ما قاله الأكثرون؟
فإذا أخرجنا من كل مال صدقة وهي ربع عشر مثلا، صدق التبعيض، فإذا أحرجنا من بعض الأموال صدقة وتركنا الباقي من الأموال، صدق التبعيض أيضا، فالتبعيض صادق بطريقين، والأول هو الظاهر من حيث القرينة الحالية، فإن الله تعالى لم يرد بعض الناس بالصدقة دون بعض، واللفظ أيضا يعضده.
فإن التقدير: خذ صدقة كائنة من أموالهم، فلو أخذت من بعض
الأموال لم تكن كائنة من أموالهم، بل من بعض أموالهم، وهو خصوص مع أن اللفظ عام، وهذا المجرور في موضع نصب على الحال من (صدق)؛ لأنه نعت نكرة تقدم عليها، فلابد أ، تكون كائنة من كل مال حتى لا يبقى مال، وهذا هو شأن العموم.
وبهذا التقدير يظهر أن الصواب ما عليه الجمهور، ويظهر أيضا الفرق بين الآية وبين قولنا: اقتلوا من المشركين رجلا، فإنه يصدق برجل واحد ولا يعم، بسبب أن الرجل الواحد يتعذر أن يكون بعضا من كل [مشترك]، والصدقة لا تتعذر أن تكون بعضا من كل مالأ، وهو فرق ظاهر.
مسألة: قال الشيخ سيف الدين رحمه الله: اللفظ العام إذا قصد به المخاطب المدح أو الذم كقوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} ، وكقوله تعالى:{والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} ، منع الشافعي عمومه وأن يتمسك به في زكاة الحلي لأن العموم لم يقع مقصودا في الكلام، بل المدح والذم هو
المقصود، وقال الأكثرون: يصح التمسك به؛ لأن قصد ذلك لا يمنع من إرادة العموم.
قلت: وكذلك منع الشافعي التمسك بقوله عليه الصلاة والسلام/: (فيما سقت السماء العشر) على وجوب الزكاة في الخضروات، كما قاله أبو حنيفة رضي الله عنهم أ} معين، وقال: إن الكلام إنما سيق لبيان الجزء الواجب، لا لبيان الواجب فيه. وهذه قاعدة وهي:(أن الكلام إذا سيق لأجل معنى لا يكون حجة في غيره)؛ لأن العادة قاضية أن المتكلم يكون مقبلا على ذلك المعنى، معرضا عن غيره، وما كان المتكلم معرضا عنه لا يستدل بلفظه عليه، فإنه كالمسكوت عنه، فإذا قال القائل: نفقات الأقارب إنما تجب في اليسار، فمقصوده بيان الحالة التي جب فيها النفقة، وهي حالة اليسار، وليس مقصوده أن كل قريب تجب له النفقة؛ لأنه لم يتوجه لهذا العموم ولا لهذا الحكم بباله. ونظائره كثيرة في عرف الاستعمال، حتى أن من أخذ يقول لهذا المتكلم: أنت أثبت النفقة لكل قريب، ينكر ذلك عليه، ويقول: إن كلامي لم يكن في هذا السياق، ولا لهذا القصد. وهي قاعدة حسنة اعتمد عليها الشافعي، وقوله في هذه المواطن هو الظاهر.
مسألة: قال إمام الحرمين رحمه الله تعالى في البرهان قولهم: النكرة
في سياق الثبوت لا تعم، ليس على إطلاقه، بل النكرة في سياق الشرط تعم، كقول القائل: من جاءني بمال جازيته عليه، يعم جميع الأموال؛ لأنها في سياق النفي إنما عمت لعدم اختصاص النفي بمعنى في غرض المتكلم، وكذلك في سياق الشرط فتعم.
قلت: وفي التحقيق ليس هذا نقضا؛ لأن الشرط في معنى الكلام المنفي؛ لأن المشترط لم يجزم بوقوع الشرط حيث جعله شرطا، وإنما مرادهم بالنكرة في سياق الثبوت قولنا: في الدار رجل ونحوه. وأما النفي والاستفهام والشرط فهو عند النحاة كله كلام غير موجب، مع أن الأبياري في شرح البرهان رد عليه وأنكر العموم، وقال: لو كان للعموم كما قال لم يستحق المجازاة إلا من أتى بكل مال، كما لو قال: من جاءني بكل مال جازيته، فإنه لا يستحق ببعض الأموال.
قلت: / وهذا الرد من الشيخ شمس الدين الأبياري لا يستقيم، بسبب أن العموم ها هنا معناه أن أي مال كان على وجه كان، فإن الشرطية حاصلة فيه، ولا يخرج فرد من أفراد الأموال عن كونه يستحق المجازاة إذا جاء
به، وليس المراد بالعموم شمول الأموال بالمجيء بها جملة كما قاله الأبياري، بل المراد بالعموم ما تقدم من شمول الشرط المال، كيف جيء به مجموعا أو متفرقا.
وكذلك قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} هو نكرة في سياق الشرط، وهو عام بمعنى: أي مشرك استجار به صلى الله عليه وسلم وجبت له الإجارة؛ [لا أن] اجتماعهم في الاستجارة شرط، بل معناه: أن معنى الشرطية شامل لكل فرد من أفرادهم، بحيث لا يبقى فرد منهم إلا وقد حصل معنى هذا الاشتراط فالصحيح ما قاله إمام الحرمين، وإن النكرة في سياق الشرط تعم بهذا التفسير، لا بمعنى ما قاله الشيخ شمس الدين، فتأمل ذلك.
ومن هذه المادة عموم الاستفهام في قولنا: من عندك؟ فتقول: زيد، ومعناه: أنه لم [يوجد] من العقلاء مجتمعا أو متفرقا إلا وأنا مستفهمك عنه، فشمول الاستفهام لجميع الأفراد كشمول الشرط في النكرة لجميع الأفراد، فهما سواء من هذا الوجه.
فهذا ما تيسر لي رؤيته من مسائل العموم التي تحدث (عليها الفضلاء)، وهي نحو ثلاثين مسألة، فقد نقلتها، وحررتها، وتقريرا، وسؤالا وجوابا، بما يسره الله فيها، فهذا هو مقصود هذا الفصل.
ومقصود الفصل الثاني: أن أتحدث على ما يلحق بهذه (المسائل) من الصيغ فيما رأيته، فإنها أكثر مما رأيته، وقد تقدم سردها.
وها هنا- في الفصل الآتي بعد هذا- (نعرض) لبيان إقامة الحجة على أنه للعموم- كما تقدم في المنصوص عليه في الفصل- إن شاء الله تعالى.