الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الحادي عشر في الفرق بين نفي المشترك أو النهي عن مطابقة وبين النفي أو النهي عنه التزاما
أما المطابقة فيهما، فقد تقدمت في الباب الذي قبل هذا الباب مبسوطا.
وأما (وقوعهما) في بطريق الالتزام، فهو المقصود في هذا الباب، وينبني على الفرق بينهما مسائل وفوائد جليلة في الفقه وغيره.
وبيانه: أن القائل إذا قال لعبده: ألزمتك النهي، أو التحريم، أو المنع، فإن هذه الصيغ تقتضي محرما غير معين، حتى لو قال السيد بعد ذلك: المنهي عنه هو كلام زيد، أو الممنوع الذي أردته: هو شرب الخمر، لم يعد مبطلا لشيء من كلامه السابق، بل مقيد لما كان مطلقا في مدلول لفظه التزاما. فاللفظ حينئذ اقتضى وقوع نهي، أو منع في أمر، يصدق بأي فرد كان، وهذا المعنى هو قدر مشترك بين جميع المفهومات، وقد حصل النهي فيه والمنع، ولم يحصل فيه عموم؛ لأنه نهي عنه، أو منع، بلفظ دال عليه بطريق الالتزام، ولو حصل فيه النهي، أو المنع بلفظ دال (عليه) بطريق المطابقة لوجب تحريم كل فرد منه، وتحصيل العموم في أفراده، ولما لم يتناوله الحكم التزاما، لم يحصل فيه حكم العموم، بل كان مطلقا في المنهي عنه، والممنوع
(منه)، هذا إذا ذكر النهي أو المنع معرفا باللام المقتضية للعموم، كقوله: ألزمتك المنع، أو النهي، بناء على قاعدة ستأتي- إن شاء الله تعالى- وهي: أن العام في الأشخاص، مطلق في الأحوال، والأزمنة، والبقاع، والمتعلقات، وهي أربعة/ يكون الإطلاق حاصلا فيها، إذا حصل العموم في الذي هي متعلقا به.
أما لو ذكر المنع أو النهي بصيغة التنكير، كقوله: ألزمتك نهيا، أو منعا، لكان اقتضاؤه للإطلاق في المنهي عنه وعدم العموم بطريق الأولى، مع أنه واقع في مفهوم مشترك فيه، ولو وقع الإطلاق في اللفظ الدال بالمطابق على النهي عن مشترك يحصل العموم فيه نحو قوله: نهيتك عن المفهوم المشترك بين أفراد الخمور، أو بين أفراد الخنازير، لاقتضى ذلك تحريم كل خمر، وكل خنزير، فإنه لو دخل من الخمور ومن الخنازير فرد لدخلت الماهية في ضمنه، مع انه أمر بإعدامها.
وقوله: نهيتك، أو منعتك، فعل في سياق الإثبات، والفعل في سياق الإثبات مطلق، كالنكرة في سياق الإثبات، لكنه لما دل مطابقة على تحريم المشترك عم أفراده، ولم يقدح إطلاق اللفظ في حصول التعميم في المنهي عنه، بخلاف لو دل بطريق الالتزام، هذا في النهي، والمنع، ونحو ذلك من الألفاظ.
وكذلك النفي، إذا نطق بمدلول التزامي نحو قولنا:(النفي في الدار، والسفر في البلد، والخروج حصل من الدار، وكذلك) جميع الألفاظ التي معناها النفي مطابقة، فإنها مقتضية نفيا، ومسافرا، وخارجا غير معين، حتى لو فسر المتكلم لفظه في ذلك بنفي زيد، أو سفره، أو خروجه، لم يعد مناقضا لكلامه الأول ولا معارضا له، بل مقيدا بزيادة التعيين في المنطق، لا مخرجا لبعض أفراد دل عليها اللفظ.
وكذلك إذا قال القائل: فقدت من داري، أو من ملكي، فإن السامع إنما يفهم منه أنه فقد شيئا معينا في نفس الأمر، غير معين عند السامع، ولذلك (نسأله فنقول): أي شيء الذي فقدته؟ فيقول له المتكلم: ثوبا، مثلا، ولا يحصل في الكلام تنافر، ولا تخصيص إخراج، بل تخصيص تقييد.
فظهر أن اللفظ إذا دل على نفي مشترك بطريق الالتزام، لا يقتضي نفي جميع المفهومات من أشخاص ذلك المشترك، بل يقتصر على فرد منه، بمقتضى دلالة هذا اللفظ، حتى يدل دليل على الزيادة عليه، وظهر لك الفرق بين المدلول مطابقة، والمدلول التزاما، وأن النهي والنفي في ذلك سواء.
فائدة: إذا قال لأربع نسوة: إحداكن طالق، طلقن كلهن عند مالك، خلافا/ للشافعي، وأبي حنيفة- رضي الله عنهم أجمعين، وقد تقدم تقرير هذه المسألة في الباب الذي قبل هذا، سؤالا وجوابا.
وإذا قال: الطلاق يلزمني لا فعلت كذا، ولا نية له في تعميم الطلاق في الزوجات، ثم حنث، عم الطلاق جميع الزوجات عندنا وعند الشافعي وأبي حنيفة، رضي الله عنهما، مع أنه لم يصرح بالزوجات، ولا تناولهن لفظ (الطلاق)، ولا نية (له)، ولفظ الطلاق بلام التعريف ليس للعموم إجماعا في صورة الطلاق وإن كان عند الفقهاء للعموم في غير الطلاق، فيكون مطلقا في الطلاق، والمطلق لا يتناول إلا فردا واحدا من حيث الوضع، فيلزم الحنفية والشافعية أن يخيروه في النوة، فيختار واحدة للطلاق، كما قالوه في قوله: إحداكما طالق، طريق الأولى، لأن (إحداكما (صرح فيه بالزوجات من حيث الجملة، وها هنا لم يصرح بشيء منهن، بل اللفظ يدل بالالتزام على مطلقة غير معينة؛ لأن من ضرورة الطلاق مطلقة، والدال بالمطابقة الذي هو قوله: إحداكن طالق أقوى من الدال بالالتزام، فكان القول بالتخيير ها هنا (أولى)، لكنهم لم يقولوا به، فيلزم أمران:
أحدهما: أنهم نقضوا أصلهم، والثاني: قيام الحجة عليهم في صورة التصريح بقوله: إحداكن طالق، أن الطلاق يعم، ولا يختار قياسا على هذه الصورة بطريق الأولى، هذا، إذا فرعنا على الواقع في الصيغة أنها مطلقة، لا عموم فيها، ولو قلنا: إن لام التعريف في الطلاق للعموم، حصل المقصود أيضا، بسبب قاعدة وهي: أن العام في أشخاص، جنس مطلق في أحواله وظروفه الزمانية والمكانية ومتعلقاته، والزوجات ها هنا متعلقات للفظ الطلاق فتكون صيغة العموم في الطلاق مطلقة فيها، فيكون اللفظ دالا بالالتزام على زوجة واحدة غير معينة، فيلزم التخيير أيضا لعدم مقتضى العموم، فتأمل ذلك فهو سؤال قوي، بعد فهم هذه القواعد، ولكن فهمها عزيز على أكثر الناس.
تنبيه: ينبني أيضا على هذا الباب في الفرق بين دلالة الالتزام ودلالة المطابقة في نفي المشترك أو تحريمه، كما في الطلاق، وهو/ أنك ستقف عليه- إن شاء الله تعالى- على الفرق بين النية المؤكدة، التي لا تؤثر تخصيصا في العموم، وبين النية المخصصة المؤثرة في التخصيص وأن النية متى كانت
موافقة للفظ في كل مدلوله، أو في بعضه، لا تكون مخصصة (ولا مخرجة لذلك الذي وافقت اللفظ فيه، وإنما يخصصه) ويخرجه إذا عارضت اللفظ فيه.
وإذا حققت الفرق، فقال: إحداكن طالق، وقلنا بالتعميم في النسوة من غير تخيير على ما تقدم تقريره في الباب الذي قبل هذا الباب، وقال: نويت بعض النسوة غافلا عن باقيتهن قلنا له: لا تفيدك هذه النية شيئا، بسبب أن الصيغة عامة في النسوة، فيلزمك الطلاق في المرأة التي نويتها للطلاق، باللفظ والنية معا، فإن النية مؤكدة للفظ فيها، ويلزمك الطلاق فيمن عداها من النسوة بعموم اللفظ السالم عن معارضة النية له، فإنك لم تتعرض لإخراج بعض النسوة ألبتة، واللفظ اقتضى إطلاق فيهن بعمومه، فإنك لم تتعرض لإخراج بعض النسوة ألبتة، واللفظ اقتضى إطلاقه فيهن بعمومه، فلزم الطلاق في الجميع أما لو نوى إخراج بعض النسوة عن اللفظ، وأن الطلاق لا يلزم في ذلك البعض، نفعه ذلك، لمعارضة هذه النية للفظ في ذلك البعض، فإن اللفظ اقتضى الطلاق، والنية اقتضت نفيه، فكانت هذه النية مخصصة؛ لان من شرط المخصص أن يكون منافيا، وهذه منافية، فكانت مخصصة؛ بخلاف أن
يقصد بعضهن بالطلاق، غافلا عن غيرها، هذا إذا قال: إحداكن طالق، أما إذا قال: الطلاق يلزمني، وحنث، فإن الطلاق لم يعم في هذه الصورة؛ لاقتضاء اللفظ العموم، بل لعدم الأولوية في إحداهما دون الأخرى، إذ لا لفظ، ولا نية، فيتعين أن يكون هذا هو المدرك، عملا بالأصل النافي لغيره.
وإذا كان هذا هو مدرك المسألة، وقال: نويت واحدة بعينها، وغفلت عن غيرها، فقد ترجحت المئوية بالنية على غيرها، وصارت أولى من غيرها، فانتفت عدم الأولية بوجود الأولوية، فبطل التعميم، لبطلان مدركه، وقضينا بالطلاق في واحدة فقط، وهي المنوية، مع أن هذه النية ليست مخصصة، لعدم منافاتها للفظ، غير أنها وإن لم تكن مخصصة فهي مقيدة لمطلق، فإن اللفظ إنما دل بالالتزام على مطلق في النسوة/ ولا في عموم الطلاق فيهن، وتقييد المطلق معين للحكم له دون غيره، ولا يشترط فيه المنافاة، بل يشترط فيه الموافقة، وهذه النية موافقة لدلالة هذا اللفظ، ولم يوجد للفظ دلالة على غير هذا المطلق حتى يلزم فيه الطلاق بعموم اللفظ السالم عن المعارض، لأجل عدم العموم.
فلأجل هذه القواعد أيضا، قبلنا النية الموافقة في هذه المسألة، وأبطلنا الطلاق في غير المنوية من النساء، دون المنوية، بخلاف المسألة.
وسر الفرق بينهما- مع هذه القواعد- العموم في تلك المسألة، والإطلاق (في هذه)، فتأمل هذا أيضا، فهو قل أن يقع في تفاريع الفقه، وقل أن يتنبه له المفتي، فيغلط، فيسوي بين المسألتين، مع حصول هذا الفرق العظيم، وامتناع التسوية بينهما.
***