الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجمع جميع صواغ الوجود، وغايته أنه يلزم المجاز، وقد بينا أن الدليل دل عليه.
وعن الحادي عشر: أن قوله: لبست الثوب ونحوه مجاز، وقد دل الدليل عليه، وهو أنه لو لم يكن للعموم لما صح الاستثناء في قوله تعالى:{إن الإنسان لفي خسر إلا الذين} لكنه صح، فيكون للعموم؛ لأن الاستثناء عبارة عما لولاه لوجب اندراجه، وذلك يدل على أن ما استثنى لو لم يستثن لكان مندرجا، واتفقنا على أن المستثنى عموم؛ لأن صيغة (الذين) للعموم عنده، وما يندرج فيه العموم أولى أن يكون للعموم؛ ولأن الألف واللام فيه للتعريف، وليس لتعريف الماهية فإن ذلك قد حصل بالاسم قبل اللام، ولا لتعريف واحد بعينه، فإن اللفظ لا يشعر به إلا عند العهد، ولا/ عهد بيننا، ثم الكلام مفروض إذا لم يكن هنالك عهد، ولا لتعريف بعض مراتب الخصوص، لقصور اللفظ عنه، فتعين صرف التعريف إلى الكل، وهو المطلوب.
وعن الثاني عشر: أن
العرب تشترط في التأكيد والنعت المناسبة اللفظية
0 وإن استوى المعنى- فلا يؤكد ولا ينعت مفرد بتثنية، ولا تثنية بمفرد،
ولا جمع بتثنية، إلى غير ذلك من الاختلاف، بل المفرد للمفرد، والتثنية للتثنية، والجمع للجمع، فلذلك لا يقال: جاءني الرجل (القصار)، ولا الفقيه الفضلاء، لعدم المناسبة في اللفظ، وأن المعنى فيهما واحد، وكذلك نعلم أن قولهم: أهلك الناس الدرهم البيض، والدينار الصفر مجاز في التركيب، فإن الجمع ركب من غير اللفظ الذي يصلح له في أصل الوضع.
وعن الثالث عشر: أن قوله: البيع جزء من مفهوم (هذا البيع)، إن أراد بالبيع الذي هو جزء، مطلق البيع، الذي يصدق بفرد، من جهة أنه جنس، وهذا هو الظاهر من كلامه؛ لأن المفهوم إشارة إلى المعنى، لا اللفظ، فحينئذ يبطل قوله أخيرا أنه يلزم من إحلال هذا البيع إحلال كل بيع، فإن المطلق لا يلزم منه كل فرد، بل فرد واحد فقط، وإن أراد بقوله: البيع جزء من مفهوم هذا البيع اللفظ المحلي بلام الجنس، أي هذا اللفظ جزء من مجموع هذا اللفظ، وحينئذ يبطل أيضا قوله: إنه يلزم من إحلال هذا البيع إحلال كل بيع؛ لأن القضاء على المجموع لا يلزم منه القضاء على جزئية، بل الصواب ها هنا له أن يقول: إن لفظ البيع الذي يدعون فيه العموم موجود في هذا المركب، فإما أن يثبت له حكمه على العموم أو لا، والأول يلزم منه أن يكون إحلال هذا البيع يلزم منه إحلال كل بيع عملا بالعموم، والثاني وهو ألا يثبت له حكم العموم، يلزم وجود الدليل بدون المدلول وهو بعض الدليل على خلاف الأصل، ويكون حينئذ ترك هذا الدليل مضافا إلى هذه الضميمة وهي
قولنا هذا فيلزم/ التعارض، وهو على خلاف الأصل، وحينئذ يكون جوابه أن الصيغة تكون مجازا في هذه الصورة؛ لأجل هذه الضميمة وهي قولنا هذا، وهو مجاز، دل عليه ما تقدم من الأدلة على أن هذه الصيغة للعموم.
تنبيه: وأما قوله الجبائي: إن الجمع المنكر للعموم، فقد استدل عليه بأن حمله على الاستغراق حمل له على كل حقائقه.
وجوابه: أن مسمى هذا الجمع إنما هو الثلاثة أو الاثنان على الخلاف على أقل الجمع، فهو يفيده من غير بيان للزائد عليه، ولا شك أنه قدر مشترك بين الثلاثة والأربعة والخمسة وهلم جرا، واللفظ الدال على (ما به) الاشتراك غير دال على (ما به) الامتياز، ولا على نوع من أنواعه، فضلا عن أن يكون حقيقة في جميعها، فبطل قوله: إنه حمل له على كل حقائقه. ويؤكد ذلك أن الجمع المنكر يمكن نعته بأي عدد شئنا، فيقال: رجال ثلاثة وأربعة وخمسة إلى غير ذلك من مراتب العدد، فمفهوم قولك: رجال، يمكن أن يجعل مورد التقسيم لهذه الأقسام، فيكون مغايرا لكل واحد من تلك الأقسام، وغير مستلزم لها، واللفظ الدال على ذلك المورد لا يكون له إشعار بتلك الأقسام، فلا يكون دالا عليها، وأما الثلاثة فيدل عليها؛ لأنها من ضرورة المسمى الذي هو القدر المشترك؛ لأنها أدنى الرتب على الخلاف في أقل الجمع ما هو؟
مسألة: إذا قال الله تعالى: {يا أيها النبي} ، لا يتناول الأمة، وقال قوم: يتناولهم، بمعنى ما ثبت في حقه عليه الصلاة والسلام يثبت في حقهم، إلا ما دل الدليل على أنه من خواصه عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء إن زعموا أنه مستفاد من اللفظ فهو جهالة، وإن زعموا أنه مستفاد من دليل آخر وهو قوله تعالى:{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وما يجري مجراه فهو خروج عن هذه المسألة.
وكذلك القول إذا كان الخطاب لا يتناول إلا الأمة لا يتناول النبي عليه الصلاة والسلام من حيث اللفظ، بل بدليل خارج كما تقدم.
مسألة: / قال أصحابنا وأصحاب الشافعي رضي الله عنهم أجمعين: إن الفعل في سياق النفي يعم، نص عليه القاضي عبد الوهاب في كتاب
الإفادة، ونص عليه غيره أيضا، ومنكروا العموم ينكرون ذلك.
لنا: قوله تعالى: {لا يموت فيها ولا يحيى} لا يفهم منه إلا نفي جميع مصادر هذين الفعلين، لأن نفي الفعل نفي لمصدره، وكذلك قول القائل: لا أبيع هذه السلعة، أو: لا أطلق هذه المرأة، لا يفهم منه إلا نفي أفراد هذا الجنس من البيع أو الطلاق، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فوجب أن يكون نفي الفعل حقيقة في عموم نفي جميع المصادر، وهو المطلوب.
احتجوا: بأن جعله للعموم في نفي المصادر إنما هو قياس على التصريح بنفي المصدر، فإذا قال: لا أجلس، مثل قوله: لا جلوس، نكرة في سياق النفي تعم، فكذلك ها هنا، فهو من باب قياس نفي الفعل على نفي المصدر المنكر، والقياس في اللغة ممنوع.
والجواب: أنا لا نسلم أن القياس ممنوع في اللغة، فقد قال جماعة من الأصوليين والأدباء: إنه هو الصحيح.
سلمناه، ولكن لا ندعي أنه قياس، بل اللفظ موضوع لذلك بنفسه؛ لأنه المتبادر منه كسائر صيغ العموم.
مسألة: قال الإمام فخر الدين في المحصول: (المشهور من قول فقهائنا
أنه إذا قال: والله لا آكل، فإنه يعم جميع المأكولات، والعام يقبل التخصيص، فلو نوى مأكولا دون كأكول صحت نيته، وهو قول أبي يوسف، وعند أبي حنيفة- رضي الله عنه أجمعين- أنه لا يقبل التخصيص، وقال الغزالي في المستصفى: الفعل الذي له مفاعيل هل يعم مفاعيله أم لا؟ حكى الخلاف في ذلك، فهذه المسألة خاصة بالأفعال المتعدية، فيعم نفي المصادر والمفاعيل، فيعم من وجهين، والتي قبلها لا تختص بالفعل المتعدي، بل تعم القسمين، فإن كان الفعل قاصرا عم المصادر، ومتعديا، عم القسمين المصادر والمفاعيل.
احتج أبو حنيفة (رحمه الله تعالى) أن العموم لو ثبت لثبت إما في
الملفوظ أو في غيره، والقسمان باطلان، فالقول/ بالعموم، وقبول نية التخصيص باطل، أما الملفوظ، فلأن الملفوظ به ماهية الأكل، وماهية الأكل واحدة؛ لأنها قدر مشترك بين أكل هذا الطعام وذلك الطعام، (وما به) الاشتراك غير [ما به] الامتياز، وغير مستلزم له، فالأكل من حيث كونه أكلا مغاير لقيد كونه هذا الأكل وذلك، وغير مستلزم له، والمذكور إنما هو الأكل من حيث هو أكل، وهو بهذا الاعتبار ماهية واحدة، والماهية من حيث إنها هي [لا تقبل] العدد، فلا [تقبل] التعميم ولا التخصيص، بل الماهية إذا اقترنت بها العوارض الخارجية حتى صارت هذا أو ذاك (تعددت)، حينئذ تصير عامة وقابلة للتخصيص، ولكنها قبل تلك العوارض لا تكون متعددة ولا تقبل التخصيص، فالحاصل أن الملفوظ به الماهية ليس إلا، وهي غير قابلة له، وإذا أخذ بقيود زائدة عليها (تعددت) وحينئذ يحصل التعميم وقبول التخصيص، ولكن تلك [الزوايد] غير ملفوظة، فالمجموع الحاصل من الماهية ومنها غير ملفوظ، فيكون العموم وقبول التخصيص إنما هو في غير ملفوظ، وهذا هو القسم الثاني.
فنقول: هذا القسم- وإن كان ثبوت هذه الأحكام جائزة فيه عقلا- إلا أن الدليل الشرعي منع منه، وهو: أن إضافة ماهية (الأكل) إلى الخبز تارة وإلى اللحم أخرى إضافات تعرض له بحسب اختلاف المفعول (به)، وإضافتها
إلى هذا اليوم، وهذا الموضع، وذاك إضافات لها بحسب اختلاف المفعول فيه، وقد أجمعنا على عدم العموم وعدم قبول التخصيص بالمكان والزمان، وأنه لو نوى زمانا معينا، أو مكانا معينا لم يصح ذلك، فكذلك المفعول به، والجامع أن كل واحد منهما متعلق الفعل، أو (الجامع) الاحتياط في تعظيم اليمين.
الثاني: قالت الحنفية: قاعدة أبي حنيفة رحمه الله: أن النية لا تؤثر إلا في ملفوظ نحو قوله: والله لا كلمت رجلا، أو: لا لبست ثوبا، فماهية الرجل والثوب ملفوظ بهما مدلول عليهما مطابقة، فيصح أن ينوي بعض الرجال أو الثياب إجماعا، أما ما كان مدلولا/ عليه بطريق الالتزام فلا تدخله النية، ولا تؤثر فيه كالمفاعيل إذا اقتصر على ذكر الفعل خاصة، فإنها مدلول عليها التزاما؛ لأن الفعل من لوازمه الزمان والمكان والفاعل وكذلك المفعول إن كان متعديا.
والجواب عن الأول: أن الماهيات- ماهية الأكل وغيرها- لها حالتان: تارة تكون في سياق الإثبات نحو: في الدار رجل، ولآكلن، ونحو ذلك، وتارة تكون في سياق النفي.
أما الحالة الأولى: فهو- كما قال أبو حنيفة- لا عموم فيها،
وتكون مطلقة لا يعرض لها العدد والعموم إلا بحسب القيود والشخصيات.
أما الحالة الثانية: فإن العموم حاصل بنفس اللفظ، وتكون الدلالة عليه مطابقة، فإنه يلزم من نفي المشترك نفي جميع أفراده عند الحنفية، واللفظ عندنا موضوع للقضاء للنفي على كل فرد فرد. فالدلالة عندهم التزاما، وعندنا مطابقة. وقد تقدم بسط ذلك سؤالا، وجوابا في نفي الكل، وعلى التقديرين العموم حاصل.
وكذلك النهي كالنفي فإن النهي أمر بإعدام تلك الماهية، ولن تعدم تلك الماهية وفرد من أفرادها موجود، لاستلزام ذلك الفرد الماهية المشتركة لوجوب حصول الأعم في جميع أفراد الأخص، ومسألتنا: الماهية في سياق النفي، فيكون العموم حاصلا، فلا يتم كلامه، وإنما يتم (أن) لو كان الكلام في سياق الإثبات.
وعن الثاني: أن التحكم في هذه القاعدة لا دليل عليه، لا لغة ولا شرعا، ولم لا تكون النية معتبرة إلا في دلالة المطابقة، وأن ذلك ممتنع في دلالة الالتزام! بل قوله عليه الصلاة والسلام:(الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى) يقتضي اعتبار النية مطلقا؛ لأن ما نوى أعم من المدلول مطابقة أو التزاما، هذا من جهة الشرع.
وأما من جهة المعقول: فلأن المدلول المطابقي أقوى من المدلول التزاما، والمقتضى لثبوت الحكم فيه أرجح من المقتضى لثبوت الحكم في المدلول/ التزاما، فإذا جوزنا في النية أن نصرف اللفظ عما دلت عليه مطابقة مع قوة الدلالة على ثبوت الحكم هنالك، فأولى أن نصرفه عما دلت عليه التزاما بطريق الأولى، لضعف الدلالة، ولأن النية صفة مخصصة لأحد طرفي الجائز على الآخر، وهذا (هو) حكم ثابت لها لذاتها، فمن ادعى تأخر ذلك عنها في صورة من الصور فعليه الدليل، فإن الأصل بقاء أحكام المعاني والصفات على ما هي عليه.
وأما قولهم: (إن الأمور الخارجية من المفعول به يقاس على المفعول فيه) فهو باطل من وجهين.
الأول: أنا نمنع الحكم في الأصل، فإن عندنا وعند الشافعية يجوز دخول التخصيص في الأزمنة والبقاع، وله أن ينوي زمانا معينا، وبقعة معينة، ويلغي غيرها في حكم يمينه، وما عملت في ذلك خلافا في المذهبين.
سلمنا امتناع الحكم في الظرفين، والفرق: أن الظرفين لازمين للفعل قطعا، لتعذر حصول الفعل لا في زمان ولا في مكان، أما المفعول به فقد يوجد مع الفعل إن كان متعديا، ولا يوجد إن كان قاصرا، حينئذ المفعول به
إنما يلزم النوع، والظرفان يلزمان الجنس، ولازم الجنس أقوى من اللزوم من لازم النوع؛ لأنه لازم للنوع أيضا، وإذا كان المفعول فيه أقوى في اللزوم كان التقاضي له أشد، فصرفه بالنية (يكون) أبعد، فهذا فرق يبطل به ما ذكره من القياس.
ثم ينتقض جميع ما ذكروه بما وقع الاتفاق عليه، وهو ما إذا قال: والله لا أكلت أكلا، أنه يصح دخول نية التخصيص فيه، مع أن (أكلا) مصدر، والمصدر إنما يذكر مع الفعل مؤكدا له؛ لأنه مذكور أولا بلفظ الفعل، وشأن المؤكد إنما يثبت معه يكون ثابتا قبله، وإذا ثبت معه جواز التخصيص بالنية اتفاقا وجب أن يكون ذلك قبله، فقد انتقض ما ذكروه من الدليل بهذه الصورة.
وأجاب الإمام فخر الدين عن هذا النقض بأن قوله: (أكلا) - في الحقيقة- ليس مصدرا؛ لأنه يفيد أكلا/ واحدا منكرا، والمصدر ماهية الأكل، وقيد كونه منكرا خارج عن الماهية، والذي يكون معينا في نفسه، لكن الإنسان ما عينه، فلاشك أنه قابل للتعيين، فإن نوي التعيين فقد نوى ما يحتمله الملفوظ.
قلت: وهذا الجواب ضعيف، فإن النحاة أجمعوا على أنه مصدر، وقوله:(ليس مصدرا في الحقيقة) يشير إلى أنه أراد به مفعولا به، وهذا خلاف نص النحاة، وخلاف الظاهر، بل هذا مصدر مؤكدا ليس إلا، والمفعول به ليس
ملفوظا به ألبتة، ولا فردا من أفراده، ويحصل من ذلك أن ما قاس عليه الشافعي والمالكي وهو النطق بالمصدر قياس صحيح، وما قاس عليه الحنفي وهو ظرف الزمان والمكان ليس بصحيح؛ لأن الحكم (فيه ليس) بثابت عند المنازع، فيتجه مذهب الجماعة أكثر من مذهب أبي حنيفة، رحمة الله عليهم أجمعين.
قلت: والذي عندي في هذه المسألة أن الفعل المذكور عام في أفراد المصادر، مطلق في المفاعيل، وقد تقدمت قاعدة وهي: أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات، والمفاعيل من جملة المتعلقات، فيكون اللفظ مطلقا فيها، وشأن المطلق أن يتأدى حمله بكل فرد منه، ما لم يلحقه التقييد كما لو قال: والله لأكرمن رجلا، أو: لأعتقن رقبة، فإنه يخرج من العهدة بأي رجل كان، وأي رقبة كانت، فإن نوى في يمينه رجلا معينا، أو رقبة معينة، اختص الحكم بها دون غيرها.
هذا هو شأن المطلقات، وكذلك هاهنا متعلق قوله:(لا آكل) مطلق، فإن لم يكن له نية حنث بأي مأكول أكله، فإن نوى مأكولا معينا لم يحنث بغيره، وتكون هذه النية مقيدة لهذا المطلق، فإنه ينوي لحما و (مأكول) مطلق وتعيينه في اللحم تقييد له، كتقييد الرقبة بالإيمان، فعلى هذا تكون هذه المسألة مع الحنفية في تقييد المطلق هل يجوز في غير الملفوظ فيما دل اللفظ عليه التزاما أم لا؟ وليست في أن اللفظ عام/ أم لا؟ ويكون التقدير والجواب ما تقدم.
فائدة: ما الفرق بين هذه المسألة وبين قولنا: المقتضى لا عموم له، فإن الغزالي قال في المستصفى: الحنفية يقولون: هذه المسألة من باب الاقتضاء، لا عموم فيها، فإذا قال: أنت طالق، ونوى عددا، لا يلزمه العدد، قال: وليس هذا من باب الاقتضاء؛ لأن الاقتضاء هو الذي يضمن التصديق نحو: (رفع عن أمتي الخطأ) والفعل المتعدي يدل على
مفعوله، وليس البعض أولى من البعض، فيعم بدلالة اللفظ، لا لأجل التصديق.
قلت: وقول الغزالي هذا ليس بلازم، لأنه إذا لم يكن البعض أولى من البعض اقتصرنا على مفعول واحد، وهو ما دل اللفظ عليه التزاما، كسائر المطلقات، فإنا لا نعممها، مع أنه ليس البعض أولى من البعض.
مسألة: أطلق القاضي عبد الوهاب المالكي في كتاب الإفادة القول بأن خطاب التذكير يتناول النساء، ويكون اللفظ عاما في القسمين، وفصل الإمام فخر الدين في المحصول فقال: إن اختص الجمع بالذكور كالرجال، أو اختص بالمؤنث كالنساء، فهذا لا يتناول فيه اللفظ المختص بأحد الفريقين الآخر، وإن لم يختص فهو على قسمين:
أحدهما: ألا يبين فيه تذكير ولا تأنيث كلفظ (من)، فهذا يتناول الرجال والنساء، ومنهم من أنكر تناوله للنساء.
لنا: انعقاد الإجماع أنه إذا قال: من دخل داري من أرقائي فهو حر، فهذا لا يختص بالعبيد، بل يعتق الداخل من الرجال والنساء، وكذلك إذا أوصى بهذه الصيغة كقوله: أعتقوا من (في) ملكي، أو ربط بها توكيلا كقوله:
وكلتك أن تعتق من في ملكي أو تبيعه، فإنه يصح منه بيع الرجال والنساء.
احتجوا: بأن العرب إذا قصدت التأنيث في (من) أنثت، فتقول: من، منة، منتان، منات، منان، منون، فدل ذلك على أن اللفظ لا يتناول المؤنث إلا بعلامة التأنيث.
والجواب: أن العرب لا تقصد بهذا أصل الكلام، إنما تأتي به في الحكاية خاصة، ليحصل الشبه بين كلام الحاكي وبين كلام المخبر، فإذا قال القائل: جاءني امرأة، يقول المستفهم: منة؟ للمحاكاة، لا لأن اللفظ/ لا يتناول المؤنث، وإذا وصلت الكلام تقول: من يا فتى، في المذكر والمؤنث فدل على أن اللفظ يتناول المؤنث.
وإن تبين فيه علامة تذكير أو تأنيث اختص، كلفظ الفعل فإنك تقول فيه: قام ثم تخصصه بالتأنيث فتقول: قمن، ولا يتناول الذكور، أو: قاموا، فلا يتناول النساء. وهذا تفصيل حسن، وقد زدته بعض عبارة زائدة على لفظ المحصول للبيان.
ثم قال: واتفقوا في هذا القسم على أن خطاب الإناث لا يتناول الذكور، واختلفوا في أن خطاب الذكور هل يتناول الإناث أو لا؟ قال: والحق أنه لا يتناول؛ لأن الجميع تضعيف الواحد (وقولنا: قام، الذي هو تضعيف، لا يتناول المؤنث اتفاقا).
فقولنا: قاموا، الذي هو تضعيف الواحد، لا يتناول المؤنث.
احتجوا: بأن أهل اللغة قالوا: إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر على المؤنث، فدل ذلك على أن لفظ التذكير يتناول التأنيث.
والجواب: ليس المراد ما ذكرتموه، بل المراد أنه متى أريد أن يعبر عن الفريقين بعبارة واحدة كان الجواب أن يذكر لفظ التذكير كقولنا: زيد والهندات قاموا، ولا تقول: قمن، لأجل زيد المذكر، والكلام في هذه المسألة في أصل وضع اللغة وما يقتضيه، لا ما ينشأ عن قصد المتكلم؛ لأنه أمر عارض بعد الوضع، متكرر في كل زمان بحسب إرادات اللافظين، فأين أحدهما من الآخر.
مسألة: قال الإمام فخر الدين: إذا لم يكن إجراء الكلام على ظاهره إلا بإضمار شيء فيه- ثم هنالك (أمور) كثيرة يستقيم الكلام (بإضمار أيها) كان- لم يجز جميعها، وهذا المراد من قول الفقهاء:(المقتضى لا عموم له) كقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ) فهذا الكلام لا يمكن إجراؤه على ظاهره؛ لأن الخطأ واقع، والواقع يستحيل رفعه، بلا لابد وأن يقول: رفع عن أمتي حكم الخطأ، ثم ذلك الحكم قد يكون في
الدنيا وهو وجوب الضمان، وقد يكون في الآخرة وهو التأثيم.
فنقول: إنه لا يجوز إضمارهما معا؛ لأن الدليل ينفي الإضمار، خالفناه في الحكم الواحد، لأجل الضرورة، ولا/ ضرورة في غيره: فيبقى على الأصل.
وللمخالف أن يقول: ليس إضمار أحد الحكمين أولى من الآخر. فإما أن لا تضمر حكما أصلا- وهو غير جاز، أو يضمر الكل- وهو المطلوب.
قلت: هذا المقام يتعين التفصيل فيه، فنقول: إن كان كل حكم يضمر يحتاج له لفظ يخصه، فلاشك أن تكثر الألفاظ المضمرة خلاف الأصل. وإن كان جميع الأحكام يعمها لفظ، والحكم الواحد لابد له من لفظ، فعلى هذا، التردد إنما هو بين إضمار لفظ عام أو إضمار لفظ خاص، وحينئذ إن إضمار اللفظ العام خلاف الأصل، فإن العام مرجوح بالنسبة إلى اللفظ الخاص، فإن الجميع اشتركا في مخالفة الأصل، وامتاز اللفظ العام الشامل بزيادة الفائدة، فوجب تقديمه؛ لأن المحذور هو كثرة اللفظ المضمر، أما كثرة الفائدة في اللفظ المضمر فلا.
وعلى هذا يضمر ها هنا الحكم مضافا تقديره: رفع عن أمتي حكم الخطأ، واسم الجنس إذا أضيف عم، فيعم أحكام الدنيا والآخرة، ولا يلزم تكثير مخالفة الأصل ويكون اللفظ أكثر فائدة، واجتمعت المقاصد كلها بهذا الإضمار.
تنبيه: هذه المسألة هي فرع من دلالة الاقتضاء؛ لأن دلالة الاقتضاء: هي
اقتضاء معنى غير المنطوق به، يتوقف عليه التصديق والصدق في الكلام، ويكون تركيب اللفظ صحيحا في نفسه.
وإذا قلنا بها، وتوقف التصديق على الإضمار لأمور، هل تضمرها كلها؟ هو هذه المسألة، فهي فرع على تلك.
واعلم أنه قد يتفق في بعض المواد (أن يكون) أحد ما يمكن إضماره، راجحا بالعادة أو السياق؛ لاقتضاء خصوص ذلك الحكم له، أو بقرينة حالية أو مقالية، فلا ينبغي الخلاف في تعيينه للإضمار أو لرجحانه. وهل يمتنع إضمار غيره ينبني على هذه الإضمارات- إذا قلنا بالعموم فيها- هل هو عموم لغة أو لضرورة الحاجة؟ وقد اندفعت بالواحد.
فإن قلنا بالعموم؛ لأنه مقتضى اللغة، يتعين إضافة غير الراجح للراجح؛ لأن العام لغة إذا كان بعضه أرجح من بعض، يتعين اعتبار المرجوح مع الراجح، كقوله: من دخل داري فأكرمه، ولاشك أن إكرام العلماء والأقارب أرجح من إكرام غيرهم، / ومع ذلك يتعين إكرام الجميع، لعموم اللفظ.
وكذلك إذا قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ، ومعلوم أن سارق المال العظيم ليس مثل سارق المال الحقير. والسارق مع الغني والسعة ليس كالسارق مع الحاجة والضرورة. ومع ذلك فلا يعتبر
شيء من هذه الفوارق، بل يقطع الجميع.
وكذلك سائر العمومات لا يعتبر فيها فارق ألبتة، بل اللفظ على عمومه حتى يرد المخصص. هذا هو قاعدة الشرائع واللغات. أما إذا قلنا: ليس في اللغة ما يقتضي العموم، فيتعين الاقتصار على الراجح؛ لاندفاع الضرورة.
واعلم أن هذه المسألة بينها مشابهة، وبين الحقيقة إذا تعددت، وبقيت مجازات مستوية أو بعضها أرجح، فهل يتعين الحمل على الكل كما قاله الشافعي رضي الله عنه في المشترك إذا تجرد عن القرائن ويتعين الراجح؟ أو يبقى اللفظ مجملا حتى تأتي القرينة المميزة؟ .
وينبغي أيضا أن يعلم أن القائلين بأنه لا يعم الإضمار في هذه المسألة، فكيف يصنعون إذا استوت الإضمار؟ هل يرجحون من غير مرجح
ويضمرون بعضها تحكما من غير دليل؟ - وهو بعيد في مجال النظر- أو لا يضمرون إلا ما دل الدليل عليه وعلى تعيينه فيصير حينئذ أرجح، فلا ينبغي أن يخالفوا في ذلك؟ . فهذه كلها مواقف ينبغي للفضلاء تأملها في هذه المسألة.
فائدة: قال الشيخ سيف الدين رحمه الله محتجا للخصم: بأن لفظ الرفع دال على رفع جميع الأحكام؛ لأن رفع الحقيقة مستلزم لرفع جميع أوصافها وأحكامها، تعذر العمل بهذا الرفع في (نفي) الذات- بسبب أن رفع الواقع محال- بقى مستعملا فيما عداها. هذا من حيث اللغة، ومن حيث العرف أيضا فإنه يقال: ليس للبلد سلطان ولا حاكم، وفيه حاكم ردئ أو سلطان مهمل، والمراد نفي جميع الصفات الجيدة.
وأجاب عن ذلك: بأن العموم إنما نشأ عن نفي الذات، والذات لم تنتف، وانتفاء المؤثر يوجب انتفاء الأثر.
وأما قول أهل العرف في الحاكم ونحوه: أن المقصود سلب صفة التدبير، وليس المقصود سلب جميع الصفات بدليل/ أن السلطان حي عالم، له صفات كثيرة لم يتعرض المتكلم لنفيها.
وأجاب عن قول المخالف: ليس إضمار البعض أولى من البعض.
أن هذا إنما يلزم أن لو أضمرنا حكما ميعنا، ونحن إنما نضمر حكما ما، والتعيين إلى الشارع. وأورد على هذا الجواب سؤال الإجمال.
أجاب عنه: بأن الإجمال على خلاف الأصل، والإضمار أيضا على خلاف الأصل، فيتساقطان. وكلامه هذا يقتضي أن القائلين بعدم العموم لم يعينوا شيئا معينا للإضمار إلا بدليل شرعي، وهو الصواب.
مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ترك الاستفصال في حكايات الأحوال، مع قيام الاحتمال يتنزل منزلة العموم في (المقال)، مثاله: أن غيلان أسلم على شعرة نسوة، فقال عليه الصلاة والسلام:(أمسك أربعا وفارق سائرهن)، ولم يسأل عن كيفية ورود عقده عليهن في الجمع والترتيب. فكان إطلاقه عليه الصلاة والسلام القول دالا على أنه لا فرق بين أن تقع تلك العقود معا أو على الترتيب.
فإن أبا حنيفة رحمه الله يقول: إنما يتجه التخيير ويشرع إذا عقد عليهن عقدا واحدا حتى يحصل الاستواء، فيحسن التخيير، أما إذا كانت عقودهن مترتبة، فإن الأربعة المتقدمة موافقة للشريعة، والخامس باطل، لبطلان العقد على الخامسة والتخيير لا يكون بين الصحيح والباطل، وإنما يحسن إذا كانت
مستوية، وهي قاعدة إنما تكون بين المستويات لا بين المختلفات، ولذلك جعل العلماء التخيير بين مجهول الحكم وما عرف فيه حكم، أن حكم ذلك المجهول حكم معلوم. فالتخيير بين الواجب وغيره يدل على وجوب ذلك الغير، أو مندوب وغيره يدل على ندبية ذلك الغير، أو مباح وغيره يدل على إباحة ذلك الغير. وجعلوا ذلك طريقة لمعرفة حكم أفعاله عليه الصلاة والسلام، فيعلم بالتخيير وجه ذلك الفعل من وجوب أو غيره.
وقال الشافعي وغيره: إن الأمر لو كان كما قاله أبو حنيفة رضي الله عنه لما حسن إطلاق الحكم بالتخيير إلا بعد معرفة الحال في المحل المخير فيه هل يقبل ذلك الحكم أم لا؟ / لأن الإطلاق في محل يتعين فيه التفضيل لا يجوز. ولما أطلق عليه الصلاة والسلام، علمنا أن العقود لا تفصيل فيها، وهو المطلوب. وهو معنى قول الشافعي رضي الله عنه: إنه يتنزل منزلة العموم في المقال. وهذا النقل عن الشافعي رضي الله عنهما نقل عنه: إن حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال. وسألت بعض فضلاء الشافعية عن ذلك فقال: يحتمل أن يكون ذلك قولا
للشافعي في هذه المسألة.
قلت: والحق أنه لا تناقض فيه، والكلامان حق بنيا على قاعدتين.
القاعدة الأولى: أن الاحتمال تارة يكون في دليل الحكم. وتارة يكون في المحل المحكوم عليه، لا في دليله، ويكون الدليل في نفسه سالما عن ذلك.
مثال ما في الدليل: قوله عليه الصلاة والسلام: (فيما سقت السماء العشر) يحتمل أن يريد وجوب الزكاة في كل شيء حتى الخضروات كما قاله أبو حنيفة، ويكون العموم مقصودا له عليه الصلاة والسلام؛ لأنه نطق بلفظ دال عليه وهو صيغة (ما) ويحتمل أنه لم يقصده؛ لأن القاعدة: أن اللفظ إذا سيق لبيان معنى لا يحتج به في غيره، فإن داعية المتكلم منصرفة لما توجه له دون الأمور التي تغايره، وهذا الكلام إنما سبق لسان المقدار الواجب (دون بيان الواجب فيه، فلا يحتج به على العموم في الواجب) فيه. وإذا تعارض الاحتمالات سقط الاستدلال به على وجوب الزكاة في الخضروات.
هذا في الأدلة العامة.
وأما في وقائع الأحوال، فكما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي جاء يضرب صدره وينتف شعره (اعتق رقبة)، فيحتمل أن يكون أمره بذلك، لكونه أفسد صومه، ويحتمل أن يكون ذلك، لكونه أفسده بالجماع، أو لكونه أفسد مجموع الصومين، كل هذه الاحتمالات مستوية بالنسبة إلى دلالة اللفظ، ولا يتعين أحدها من جهة اللفظ، بل من جهة مرجحات العلل وقوانين القياس. فهذه احتمالات في نفس الدليل، فيسقط الاستدلال به على ما الاحتمالات فيه متقاربة، /ونظائره كثيرة.
ومثاله في المحل المحكوم عليه قوله تعالى: {فتحرير رقبة} هذا لفظ صريح في إيجاب إعتاق رقبة، غير أن تلك الرقبة يحتمل أن تكون بيضاء أو سوداء أو غير ذلك، والمعتق يحتمل أن يكون شيخا أو كهلا أو غير ذلك من الأحوال والاحتمالات فيعم الحكم جميع الاحتمالات، بمعنى أنها كلها قابلة لذلك الحكم؛ لأنه يتعين ثبوت الحكم في جميع تلك الموارد، فهو عام عموم الصلاحية، لا عموم الشمول، غير أنه لا يختص ببعض تلك الصور. فهذا مقصود الشافعي في أنه يتنزل منزلة العموم في المقال.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (في أربعين شاة شاة)، ويعم أحوال الشياه من البيضاء والسوداء، فأي شاة أخرجها أجزأت، وكان الإجزاء عاما في جميع تلك الأحوال في المحكوم عليه. فتأمل هذا الفرق. فهذه المسألة حيث يكون لفظ الشارع ظاهرا أو نصا، والاحتمالات إنما هي في محل الحكم وذلك النقل الذي أفتى به رضي الله تعالى عنه بالاحتمال وعدم الاستدلال إنما هو إذا تعارضت الاحتمالات في نفس الدليل، ولاشك أن الدليل المجمل لا يثبت به حكم، وسقط الاستدلال به. ولفظ الحديث لا إجمال فيه،
فلذلك قال الشافعي رضي الله عنه: إنه يتنزل منزلة العموم في المقال، فهذا وجه الجمع بين القولين من غير تناقض.
القاعدة الثانية: التي ينبني عليها هذا الفرق وهذه المسألة: أن مراد العلماء من تطرق الاحتمال في الدليل حتى يصير مجملا: الاحتمال المساوي أو القريب من المساواة، أما الاحتمال المرجوح فلا عبرة به، ولا يقدح في صحة الدلالة، ولا يصير اللفظ به مجملا إجماعا، فإن الظواهر كلها كذلك فيها احتمال مرجوح، ولا يقدح في دلالتها.
مسألة: قال الأصوليون: العطف على العام لا يقتضي العموم؛ لأن مقتضى العطف الجمع في أصل الحكم الذي سيق الكلام لأجله (وذلك) جائز بين العام والخاص.
مثاله: قول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} وهذا عام في/ جميع المطلقات، لأجل لام التعريف، وقوله تعالى:{وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} خاص بالرجعيات، فلا يقال: إن العطف اقتضى التعميم، والإجماع المنعقد في قصره على الرجعيان موجب لتخصيصه، وأن
التعارض واقع بينهما، غير أن ها هنا قاعدة أخرى وهي: أن الضمير الذي يعود إلى ظاهر الأصل أن يكون هو نفس الظاهر، لكن الضمير في (بعولتهن) يعود على جميع المطلقات، فيكون هو أيضا يدل على أن جميع المطلقات، بعولتهن أحق بردهن، إلا أن ذلك خلاف الإجماع، فيكون الإجماع هو المانع من إجرائه على عمومه؛ لأن العموم منتف، وهذا إشكال في الآية نشأ من جهة الضمير والظاهر، لا من جهة العطف، فإن النحاة قد نصوا على أن العطف إنما يقتضي التشريك في أصل الحكم، لا في أربعة:(ظرف الزمان)، وظرف المكان، والمتعلقات، والأحوال، فالزمان، كقولك: أكرمت زيدا يوم الجمعة وعمرا، لا يلزم أنك أكرمته (يوم الجمعة، وظرف المكان، كقوله: أكرمت زيدا مسرورا وعمرا لا يلزم أنك أكرمته) مسرورا، والمتعلقات، نحو قولك: اشتريت هذا الثوب بدرهم والفرس، لا يلزم أنك اشتريته أيضا بدرهم.
والعموم والخصوص ونحوهما من المتعلقات، فإنها من المدلولات، والمدلول هو متعلق اللفظ، فلا يلزم حصول الاشتراك فيه، بل إن حصل فيه عموم أو خصوص فمن دليل غير العطف.
مسألة:
كل حكم ورد بصيغة المخاطبة كقوله تعالى: {يا أيها الين آمنوا} ، {يا أيها الناس} قال العلماء: هو خطاب مع الموجودين في عصر الرسول عليه
الصلاة والسلام، وذلك لا يتناول من يحدث بعدهم إلا بدليل منفصل يدل على أن حكم من يأتي بعد ذلك كحكم الحاضرين؛ لأن الذين سيوجدون بعد ذلك لا يصدق عليهم (أنهم موجودون في زمن الخطاب) ومن ليس بموجود لا يكون إنسانا ولا مؤمنا، ومن لا يكون كذلك لا يتناوله لفظ الناس ولفظ المؤمنين.
وإنما عممنا أحكام الشريعة لوجهين:
أحدهما: أن ذلك معلوم من الدين بالضرورة، وإن كان ما وقع في زمان عليه الصلاة والسلام يشمل الإعصار والأمصار إلى يوم القيامة.
وثانيهما: قوله تعالى: {وما أرسلناك/ إلا كافة للناس} ، وقوله عليه الصلاة والسلام:(بعثت إلى الناس كافة) وقوله صلى الله عليه وسلم: (بعثت إلى الأسود والأحمر).
(حكمي على الواحد حكمي على الجماعة)؛ ولأنه عليه الصلاة والسلام متى أراد التخصيص بينه، كما قال عليه الصلاة والسلام لأبي بردة بن نيار في جذع المعز لما ذكر أضحية له (تجزيك ولا تجزيء أحدا بعدك، فحيث لا يبين عليه الصلاة والسلام التخصيص كان ذلك دليلا على التعميم؛ لأنه القاعدة.
فإن قلت: الأحمر والأسود والجماعة إلى غير ذلك مما ورد في هذه الأحاديث إنما يصدق في الموجود دون المعدوم، فلا دلالة في هذه الأحاديث. واعلم أنك تحتاج في هذا المقام إلى بيان قاعدتين:
القاعدة الأولى: في بيان خطاب المشافهة من الخلق إذا ورد، وبيانه من الله تعالى إذا ورد، وتحقيق الفرق بينهما:
إن النداء في لسان العرب لا يكون إلا مع القريب الموجود، أما البعيد جدا كالمشرق من المغرب لا تناديه العرب إلا على سبيل المجاز، وكذلك من يصلح للنداء كقوله تعالى حكاية عن الكافر:{يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله} ، فنداؤه الحسرة ونحوها مما لا يعقل، للعلماء فيه تأويلات مذكورة في موضعها، فأولى المعدوم، غير أن فهرست هذه المسألة أعم من النداء، فإن خطاب المشافهة يحصل بضمائر الخطاب من غير نداء نحو قوله تعالى:{عليكم أنفسكم} ، {ولا يغتب بعضكم بعضا} ونحو ذلك مما
يصدق عليه أنه خطاب مشافهة ولا نداء فيه، وكذلك قوله تعالى:{كونوا قوامين بالقسط} ، {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ونحوه من ضمائر الواو، فهو كالكاف خطاب مشافهة أيضا، وعلى كل تقدير فلا يتناول ذلك إذا صدر من الخلق إلا الموجود القريب؛ لأن المنادى من الخلق متميز بجهة، وصوته إنما يبرز من جهته ويسمعه من قرب منها دون من بعد، فصارت الجهات القريبة منه والموجود فيها أولى من غيره، لهذا المرجح، ولم يتناول الخطاب منه البعيد جدا، لعدم السماع، وعدم/ الفائدة، هذا في حق الخلق، أما في حق الله تعالى فلا، بسبب أن الله تعالى ليس في جهة ولا يحز، فنسبة جميع الجهات والأحياز إليه نسبة واحدة، فلو خصصنا بعض الجهات أو بعض الأقطار بخطابه تعالى، لزم الترجيح من غير مرجح، فما لأجله ثبت التخصيص في حق الخلق منتف في حق الله تعالى، فتعين التعميم، فلا يقال: الجهة الفلانية أقرب إليه من غيرها، فكذلك خطابه تعالى يعم أهل السماوات والأرض ممن يصلح له ذلك الحكم المذكور في الخطاب كقوله تعالى:{يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} وكقوله تعالى: {يا عبادي الذين آمنوا} ، إلى غير ذلك من صيغ
المشافهة، يعم كل من يصلح له ذلك الحكم من جميع أجزاء العالم.
فهذا هو الفرق بين خطاب الله تعالى وخطاب الخلق، وهل هذا التناول مجاز لأن العرب إنما وضعت لغتها لما جرت به عادتها، وإما متكلم لا يختص بجهة فليس من عادتها، فيكون مجازا، أو هو حقيقة لتعذر اختصاصه ببعض الجهات، لئلا يلزم الترجيح من غير مرجح؟ فيه نظر.
القاعدة الثانية: التي يتوقف عليها ثبوت العموم في هذه المسألة والخصوص وهي: أن الفرق واقع في لسان العرب بين كون المشتق محكوما به وبين كونه متعلق الحكم، وبه يظهر لك الفرق بين قوله تعالى:{يا أيها الناس} ، وبين قوله تعالى:{ولله على الناس حج البيت} ، والفرق بين قوله تعالى:{يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} وبين قوله تعالى: {إنه لا يحب المسرفين} أن الأول: يشترط فيه الوجود والاتصاف بتلك الصفة المذكورة في الخطاب حالة الخطاب حتى يكون حقيقة.
والثاني: لا يشترط فيه الوجود ولا حصول ذلك الوصف حالة الخطاب في كونه حقيقة، بل يصدق اللفظ حقيقة في المعدوم أيضا.
وسر الفرق أن المشتق تارة يكون محكوما به، وتارة يكون متعلق الحكم.
فالأول: كقولنا: زيد صائم، حكمنا عليه بوصف الصائم الذي هو مشتق من الصوم، فهذا نص الأصوليون على أنه ثلاثة أقسام: حقيقة إجماعا، ومجازا/ إجماعا ومختلف فيه.