الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فظهر أن الإخبار عن نفي المشترك، والنهي عن المشترك يدلان على إعدام كل فرد من أفراد ذلك المشترك، بحيث لو دخل فرد الوجود لكان مخالفا لدلالة اللفظ، فظهر أن نفي المشترك، والنهي عنه يقتضي العموم في طرف العدم، وأنه يشمل من المحال ما لا يتناهي، وهذا هو العموم اللفظي، أن يكون لنا لفظ دال على ثبوت حكمه لما لا يتناهي من الأفراد، وظهر أن ثبوت الحكم في المشترك مطلق يصدق بفرد واحد، ولا دلالة للفظ على فرد آخر، وظهر لهذا التقرير الفرق الجلي الواضح بين ثبوت الحكم في المشترك وبين نفيه عن المشترك، وأن أحدهما يقتضي العموم دون الآخر.
و
ينبني على هذا الفرق ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى:
أنه قد وقع الخلاف بيننا وبين الحنفية في قول العرب: لا رجل في الدار، مع (أن) الاتفاق على اقتضائه للعموم: هل العموم حصل فيه النفي؟ لان النفي فيه موضوع لنفي الحقيقة الكلية التي هي مفهوم الرجل، / ولزم من نفيه نفي كل فرد؛ لأنه لو ثبت فرد لما كانت حقيقة الرجل منفية؛ لاستلزام ذلك الفرد الحقيقة الكلية، هذا هو المذهب المحكي عن الحنفية، وظاهر قولنا وقول الجمهور: أن العرب وضعت هذا التركيب، وهو قولنا: لا رجل في الدار
ونحوه، للقضاء بالنفي على فرد فرد من أفراد الرجال، فتكون الخصوصيات في كل رجل على رأينا منفية للفظ مطابقة، وعلى رأيهم تكون منفية التزاما، وما ذكرناه أولى بالصواب لوجوه:
الأول: أن المتبادر في العرف، وأن المتكلم قصد بنفيه هذا نفي كل رجل، لا نفي المشترك، وإذا كان هذا هو المتبادر عرفا، وجب أن يكون في اللغة كذلك؛ لأن الأصل عدم النقل والتغيير.
الثاني: أن ما ذكرناه يقتضي الدلالة المطابقية، وما ذكروه يقتضي دلالة الالتزام، والمطابقة أولى من الالتزام.
فإن قلت: دلالة الالتزام لازمة للفريقين، فإن الأفراد عندهم منفية بطريق الالتزام، وعندهم بطريق المطابقة، وعندكم الماهية (الكلية) مدلول عليها بطريق الالتزام؛ لأنه يلزم من نفي كل فرد نفي المشترك قطعا، والماهية الكلية عندهم مدلولة بطريق المطابقة، فكلا الفريقين له مدلول مطابقة ومدلول التزام، فبطل الترجيح.
قلت: المطابقة الكلية وإن كانت في المذهبين والالتزام في المذهبين، إلا
أن مذهبنا أرجح على هذا التقدير أيضا؛ بسبب أن دلالة المطابقة عندنا في كل فرد، وهو عدد غير متناه، وهي عندهم في شيء واحد، وهو المفهوم الكلي غلط، وعندنا الدلالة الإلتزامية في شيء واحد وهو المفهوم الكلي، وعندهم في أفراد لا نهاية لها، فنصيبها حينئذ من الدلالة الراجحة أكثر، ومن المرجوحية أقل، ونصيبهم من المرجوحة أكثر، ومن الراجحة أقل، فكان مذهبنا أولى؛ لأن الذي نصيبه من الأرجح أرجح (هو ارجح)، فمذهبنا أرجح.
الثالث: اتفاقنا على دخول الاستثناء على هذه الصيغة، فعلى رأيهم لم يخرج الاستثناء شيئا من مدلول اللفظ، فإن مدلوله عندهم إنما هو الماهية الكلية، وما عداها إنما حصل/ بطريق اللزوم، فالمدلول مطابقة لا يقبل الاستثناء، فإن زيدا المستثنى أو العدد الكثير نحو قولنا: لا رجل في الدار إلا بني تميم، لا يتصور دخوله في الماهية الكلية حتى يخرج منها، فيكون الاستثناء عندهم إنما يصح من لازم المدلول مطابقة، وهي نفي الأفراد اللازم لنفي المشترك، ومتى كان النفي من لازم مسمى اللفظ، دون مسمى اللفظ، كان منقطعا، وعلى رأينا يكون من مسمى اللفظ؛ لأن مسمى اللفظ عندنا
الكلية، والجزئية داخلة فيها، وكل فرد يشار إليه داخل فيها، فيكون الاستثناء من مدلول اللفظ، فيكون متصلا، ومتى دار الاستثناء بين أن يكون متصلا أو منقطعا، كان جعله مصلا أرجح بالاتفاق، ومذهبنا حينئذ يستلزم الأرجح، ومستلزم الأرجح أرجح، فمذهبنا أرجح.
الرابع: قال النحاة: قولنا: لا رجل في الدار، جواب لمن قال: هل من رجل في الدار؟ ، وكان الأصل في الجواب أن يقول: لا من رجل في الدار، فيدخل لفظ النفي على ما كان في لفظ المستفهم، ولما حذفت (من) - وهي مرادة- تضمن الكلام معنى النفي، وهو مع، فبني الاسم مع لا لذلك، وهذا الكلام من النحاة يقتضي: أن (من) في الكلام، و (من) لا تدخل إلا فيما يقبل التبعيض، والحقيقة الكلية ليس فيها كثرة أفراد حتى تتبعض، فتعين حينئذ أن (من) إنما تدخل على أفراد هذه الحقيقة، وتلك الأفراد هي المقصود بالجواب، فيكون قول العرب: لا رجل في الدار، مقصودة الأفراد لا الحقيقة الكلية، وهو المطلوب، فثبت بهذه الوجوه أن الحق
في هذه المسألة مع الجمهور دون الحنفية.
الفائدة الثانية: المبنية على نفي الحكم عن المشترك، وهو نفي المشترك، والفرق بينه وبين ثبوت المشترك: هو أنا اختلفنا نحن والشافعية في قول القائل لأحد نسائه: إحداكن طالق، قلنا نحن: يطلقن كلهن، وقال الشافعية: يختار واحدة منهن، ووافقهم الحنفية على ذلك، وعامة المالكية يعللون هذه المسألة بالاحتياط في الفروج، وبتغليب التحريم على التحليل، وربما (استدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام:(ما اجتمع) / الحرام والحلال، إلا غلب الحرام الحلال) ـ
وفي المسألة غور عظيم، ومدرك جميل، أولى من هذه الوجوه.
ولقد اتفق اجتماعي يوما بقاضي القضاة صدر الدين، رئيس الحنفية، وكان رحمه الله إماما في مذهبه، متفننا في عدة من العلوم، كثير الاستحضار لنوادر المسائل وشوارد المباحث، حسن الأخلاق والديانة، فقال لي: رآني اجتمعت ببعض فضلاء المالكية فسألته عن مذهب مالك في
هذه المسألة، فقال: يطلقن كلهن، قال: قلت له: لماذا؟ قال: احتياطا للفروج، قال: قلت له: يلزم من مذهب من مسالك خلاف الإجماع، لأن الكلام في هذه المسألة حيث لا نية للمتكلم بل أضاف حكم الطلاق إلى مفهوم (إحداهن)، وقد أضاف (الله) تعالى حكم الكفارة في ليمين إلى إحدى الخصال الثلاث، فنقول: إضافة الحكم إلى أحد الأمور: إما أن يكون مقتضاه لغة التعميم، أو لا يكون، وإنما (كان) يلزم خلاف الإجماع، فإن كان مقتضاه تعميم الحكم يلزم وجوب جميع الخصال ويعم الحكم فيها، وهو خلاف الإجماع، وإن لم يكن مقتضى هذا اللفظ تعميم الحكم يون التعميم في مسألة الطلاق بغير مقتضى ولا مستند، والحكم بغير مستند خلاف الإجماع (فعلم بأن مذهب مالك- رحمه الله يلزم منه على التقدير خلاف الإجماع).
قلت له- رحمه الله: هذا السؤال غير لازم بسبب ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى: أن مفهوم أحد الأشياء قدر مشترك بينهما، لصدقه على كل واحد منها، والصادق (على أمور) يجب أن يكون مشتركا بينهما، وإلا لتعذر صدقه عليها كلها، فإذا اجتمع في البيت ألف رجل كان مفهوم أحد الرجال صادقا على كل واحد من تلك الرجال، فزيد أحدهم، وعمرو أحدهم، وكذلك إلى آخرهم، فيكون مفهوم أحدهم مشتركا بينهم.
القاعدة الثانية: أن إيجاب المشترك الماهية الكلية يكفي في صدق حكمه
بالخروج عن عهدته فرد واحد، كما أوجب الله رقبة في الظهار، وهي مفهوم مشترك فيه بين رقاب الدنيا، خرج المكلف عن عهدة هذا التكليف برقبة واحدة/ من الرقاب، من غير احتياج إلى ثانية، وكذلك شاة من أربعين شاة، ودينار من أربعين دينار، وإذا حرم الله تعالى ماهية كلية مشتركا فيها حرمت جميع أفراد تلك الماهية، كما إذا حرم الله تعالى مفهوم الخنزير، الذي هو قدر مشترك بين جميع الخنازير (حرم الله)(تعالى) هذا الخنزير
وكل خنزير، وكذلك إذا حرم [الله تعالى] مفهوم السم القاتل، حرم كل سم، وعم ذلك جميع الأفراد الواقعة من ذلك المفهوم المشترك، بخلاف إيجاب المشترك، هذه القاعدة مجمع عليها في الشريعة أيضا، معلومة الصحة.
القاعدة الثالثة: أن الطلاق تحريم رافع للإذن الحاصل للعقد السابق، فمعنى قوله: أنت طالق، أي زال قيد عصمتي عنك، وانطلقي مني، وصرت محرمة علي.
وإذا تقررت هذه القواعد الثالث فنقول: قوله: (إحداكن طالق) إضافة للحكم إلى مفهوم مشترك، عملا بالقاعدة الأولى، وهو تحريم، عملا بالقاعدة الثالثة، فيعم جميع الأفراد، عملا بالقاعدة الثانية، فحرم النسوة كلهن، عملا بهذا القواعد الثلاث.
وأما إيجاب الكفارة وهو إيجاب في مشترك فيكفي منه فرد، فلا جرم خرج عن العهدة بخصلة واحدة من خصال الكفارة الثلاث، فافترق المسألتان افتراقا شديدا، وتباين البابان مباينة عظيمة، بفرق عظيم مبني على قواعد عقلية، ومقدمات قطعية يقينية، لا من باب التخيلات الضعيفة والمقدمات الواهية.
فإن قلت: هذا البرهان عليه أسئلة:
السؤال الأول: أن لفظ (إحداكن)[هو] مؤنث (أحد) الذي معناه (واحد)، وألفه منقلبة عن واو؛ لأنه من (الوحدة) مشتق، فهي حينئذ من معنى (واحد)، و (واحد) مقتضاه الماهية بوصف الوحدة، وعلى هذا ينافي أن يتعدى الحكم لاثنين من تلك الماهية، وإلا لبطل معنى الوحدة، وعلى هذا التقدير يكون اللفظ ظاهرا أو نصا في أن حكم الطلاق لا يتعدى
لاثنين منهن، والقول بتعميم الطلاق فيهن مبنيا على خلاف ظاهر اللفظ، فتكون باطلة، إلا لا لفظ يعضدها، ولا نية تعمها.
السؤال الثاني: نص النحاة على أن قول/ العرب: لا رجل في الدار، برفع رجل وتنوينه إنما هو نفي لماهية الرجل بقيد الوحدة المنافية للكثرة، ولذلك يحسن أن يقال: لا رجل في الدار بل اثنان، ولو صح ما ذكرتموه لكان قوله: بل اثنان، مناقضا لقوله أولا: لا رجل، مع أنهم قالوا: إنه ليس مناقضا له، بل تفسير اللازم اللفظ، وإذا كان نفي الماهية بوصف الوحدة المدلول عليها ضمنا من غير تصريح بها يمنع التعميم فأولى أن يمتنع التعميم إذا صرح بلفظ الوحدة المناقضة للكثرة بقوله:(إحداكن)، فالقول بالتعميم حينئذ يكون على خلاف التصريح المنافي له، فيكون القول به باطلا.
السؤال الثالث: أنا نمنع أن الطلاق تحريم، بل هو حل للعصمة الثابتة بمقتضى العقد السابق، كما أن العتق حل للملك في الرقيق الكائن بمقتضى السبب السابق للملك، ولما قال مالك: إنه في العتق يختار أحد العبيد ويعينه للعتق دون بقيتهم، إذا قال: أحدكم حر، فكذلك هاهنا، يلزم أن يخيره كما خيره في العتق.
والفرق بينهما في غاية الإشكال، فإن العبد أو الأمة إذا عتق، يحرم وطء الأمة، بعد إباحته في الملك قبل العتق، ويحرم إكراه العبد على العمل، كما كان قبل العتق، فقد ثبت التحريم في الرقيق، كما ثبت في النسوة سواء، وكلاهما تحريم، وكلاهما إزالة منفعة شرعية، مع أنكم قد فرقتم بينهما، فقلتم: يختار في العتق إذا قال: (أحدكم حر، ولا يختار في النسوة) إذا قال: إحداكن طالق.
والجواب عن السؤال الأول:
أن الأمر كما ذكرتموه في الاشتقاق والتأنيث، ومع ذلك فليس هو معينا للفرد الواحد من تلك الماهية، بل ورد ما ذكرتموه واحدة، واختلف في حاله بين النفي والإثبات والكتاب والسنة ولسان العرب. قال الله تعالى:{فخذ أحدنا مكانه} ، والمراد هنا: الماهية بقيد الوحدة،
ولكن في سياق الثبوت، وقال تعالى:{قالت إحداهما يا أبت استأجره} ، والمراد: الماهية بقيد الوحدة، ولكن في سياق الثبوت، (وقال تعالى:{أما أحدكما فيسقى ربه خمرا} ، والمراد: الماهية بقيد الوحدة، ولكن في سياق الثبوت)، وقال تعالى حكاية عن [سيدنا] شعيب عليه السلام:{إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} ، والمراد: الماهية بوصف الوحدة، ولكن في سياق الثبوت، وقال تعالى:{أن تضل إحداهما/ فتذكر إحداهما الأخرى} ، والمراد: الماهية بقيد الوحدة، ولكن في سياق الثبوت. وقال تعالى:{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين} ، والمراد: الماهية بقيد الوحدة، ولكن في سياق الثبوت وقال تعالى:{إنها لإحدى الكبر} ، والمراد: الماهية بقيد الوحدة، وإلا لكانت هي الكبر كلها، وذلك محال، ولكن الكلام في سياق الثبوت.
(وقال صلى الله عليه وسلم في حديث المتلاعنين: (إن أحدكما كاذب، فهل فيكم من
تائب)، والمراد: الماهية بقيد الوحدة ولكن في سياق الثبوت)، (ولذلك استجيبت الدعوة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكن الكلام في سياق الثبوت)، وقال صلى الله عليه وسلم (في) النفر الثلاثة الذين قدموا فآوى أحدهم إلى الحلقة، وجلس الآخر دونها، (وأعرض الآخر):(أما أحدهما فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر، فاستحى من الله، فاستحى الله منه، وأعرض الآخر عن الله، فأعرض الله عن)، والمراد: الماهية بقيد الوحدة، ولكن
الكلام في سياق الثبوت، فهذا كله على ما ذكرتموه مؤيد للسؤال.
وأما ما ورد على خلاف ذلك فقوله تعالى: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه} ، والمراد: العموم، لا الماهية بقيد الوحدة، وأن المخاطب واحد دون بقية الناس، بل معنى هذا الكلام أن هذا الاستفهام معناه النفي، وهذه النكرة في سياق النفي تعم.
وثانيهما: قوله تعالى: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب} الآية، وهذا الاستفهام أيضا المراد به العموم؛ لأن معناه النفي؛ ولأنه لا يقصد أحدكم أن تكون له هذه الجنات، وقد أصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، فتهلك هذه الجنات- والحالة هذه- فحصل العموم، لأنه نكرة في سياق النفي.
وثالثهما: قوله تعالى: قوله تعالى: {وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} ، والمراد: أن أي امرأة أعطيت شيئا، وإن عظم، لا يؤخذ منه شيء، وليس المراد أن واحدة من النساء حكمها كذلك، دون بقيتهن، وحصل هذا العموم
من جهة أن معنى الكلام النهي، والنهي في معنى النفي/ يعم (في) النكرة كما يعم في النفي، فلا فرق (بين قولك: ما رأيت أحدا)، وبين قولك: لا تضرب إحدا، في أن الجميع صيغة عموم، وتقدير الآية من جهة المعنى: لا تأخذوا من إحداهن شيئا، وإن عظم، إذا قررتموه لها، وإن كان اللفظ لفظ ثبوت، لكن المعنى على النفي، (فلذلك عم).
ورابعها: قوله صلى الله عليه وسلم في القصة المشهورة في الصحابة رضوان الله عليهم: (ادعوا لي أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه)، وليس المراد واحدا من الرفيقين دون بقية ذلك الفريق، بل الحكم عام في الفريقين، وعم؛ لأن معناه النفي، وتقدير الكلام: لا يصل أحدكم إلى رتبة أحدهم ولو أنفق ما عسى أن ينفق، ومعلوم أن هذه العبارة لو صرح بها اقتضت العموم في الفريقين.
وخامسها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبع أحدكم على بيع أخيه)، وليس المقصود الماهية بقيد الوحدة، بل العموم؛ لأنه نهي، والنهي (كالنفي) كما تقدم تقريره.
وسادسها: قوله صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يقل: دعوت فلم يستجيب لي)، وليس المقصود واحدا دون بقية الناس، بل العموم، وهو خبر مقصوده النهي (من أن يقول أحد هذه المقالة: دعوت فلم يستجب لي، فهي نكرة في سياق النهي)، والنهي كالنفي كما تقدم تقريره.
وسابعها: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى (يكون) بينه وبينها ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار
فيدخلها
…
) الحديث، وليس المراد أن كل واحد من الأمة كذلك، وإلا لكان إياسا من الخير، وليس المقصود واحدا دون بقية الناس، بل هذا المعنى يكثر في الناس من غير استيعاب، هذا مدلول اللفظ، ومقصود الكلام عام، أي: لا يغتر أحد من الناس بما هو عليه من خير أو شر، فإن العاقبة مجهولة له، فهو حض لكل الناس على الخوف، وسؤال حسن العاقبة.
وثامنها: لا يقل أحدكم عبدي، ولا أمتي، بل فتاي، وفتاتي)، وهذا عام صريح، وليس المقصود بقيد الوحدة دون بقية الناس، لأنه نكرة في سياق النهي، ولا أثر لوصف التوحد ألبتة.
وتاسعها: قوله صلى الله عليه وسلم /: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرقه أحب إليه من أن يجلس على قبر)، وليس المقصود واحدا بقيد الوحدة، دون بقية الناس، بل العموم؛ لأن معناه النهي عن الجلوس على القبر، ومعناه المقصود: لا يجلس أحدكم على قبر.
وعاشرها: قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم أهله فليقل: اللهم ارزقني خيرها وخير ما حملتها
…
) الحديث، وليس المقصود واحد دون بقية الناس، بل هذا أمر صرف وثبوت محض، لا نفي فيه، ولا نهي، ومع ذلك فالمقصود العموم، وهو أبلغ من جميع ما تقدم.
وحادي عشرها: قوله صلى الله عليه وسلم: (تمكث إحداكم شطر عمرها لا
تصلي وليس (المقصود واحدة دون بقية النساء)، وصدر الحديث يقتضي العموم وهو قوله صلى الله عليه وسلم في ذم النساء على العموم:(ناقصات عقل ودين)، وذكر ترك الصلاة في شطر العمر تعليلا لنقصان الدين لمن ذكر بصيغة العموم، فيتعين العموم مع أنه ثبوت صرف، لا نفي فيه، ولا نهي، وهو أبلغ من الثبوت المتقدم في الشرط، لأن الشرط غير مجزوم به، وهذا مجزوم به، ولذلك يعد النحاة الشرط فيما يشبه النفي، فهو أبلغ من جميع ما تقدم في الجواب عن السؤال، وإن طال ما ذكره السائل.
وثاني عشرها: قوله صلى الله عليه وسلم: (قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول)، وليس المراد أن واحدة من النساء
(كانت) تفعل ذلك، دون بقية النساء، بل المراد أن جميع النسا كن يفعلن في العدة ذلك، فقد استعملت الصيغة في العموم مع أن الكلام في الثبوت المحض، فأولى في النفي والنهي.
وهذا يدل- أيضا- على أن (أحدا) يستعمل استعمال أسماء الأجناس المطلقة، فإنه يعم بالإضافة، كما يعم جميع (أسماء) الأجناس إذا أضيفت نحو قولنا: مالي صدقة، وقوله عليه الصلاة والسلام:(هو الطهور ماؤه، الحل ميتته، فإنه عام في جميع أفراد الماء وأفراد الميتات، وإن لفظ (أحد) في هذه الصورة حصل العموم بإضافته، كإضافة النكرات، كما حصل التعميم بكونه نكرة في سياق النفي أو النهي، وهو يدل على بطلان ما قاله السائل من أنه/ موضوع للماهية بقيد الانفراد، بحيث يمنع اجتماع اثنين في الحكم، وهذه الصورة التي وقع فيها التعميم في هذه النصوص، يمكن أن يجعل كل واحد منها دليلا عرلى ثبوت الحكم في صورة النزاع.
فإن قلت: ليس اعتبار هذه النصوص أولى من اعتبار ما قبلها، فيتعذر الاستدلال لحصول المعارض وعدم الأولوية.
قلت: جعله حقيقة في العموم أولى لوجوه:
أحدهما: أنه أكثر فائدة؛ لحصول الحكم فيما لا يتناهى من الأفراد.
وثانيها: انه إذا استعمل مجازا في الخصوص، تكون العلاقة أقوى مما إذا اعتقدنا أنه مجاز في العموم، حقيقة في الخصوص؛ لاستلزام العموم الخصوص من غير عكس.
وثالثها: أنه لو لم يكن حقيقة في العموم لكان إما حقيقة في الخصوص، إما للماهية بقيد الوحدة كما ذكره الخصم، أو للماهية من حيث هي هي، والأول باطل، وإلا لحصل التعارض في صورة التعميم بين موجب التعميم وقيد التوحد، والتعارض باطل لوجهين:
أحدهما: أن الأصل عدمه.
وثانيهما: أنا إذا عرضنا قوله عليه الصلاة والسلام: (كان كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول)، وما ذكره معه من النصوص، لا نجد فيها تعارضا ألبتة.
والثاني: باطل، وهو أن تكون الصيغة موضوعة للماهية من حيث هي هي؛ لأن يقتضي أن تكون هذه الصيغة كسائر أسماء الأجناس والنكرات، فتعم حينئذ إذا أضيفت، وإذا نفيت أو نهي عنها، فيحصل العموم حينئذ،
والمقدر أنها ليست للعموم على ما قاله الخصم، فتكون للعموم وليست للعموم، وهو جمع بين النقيضين وهو محال، فظهر حينئذ أن الحق ما ذكرناه، وأن السؤال مندفع، وهو جل ما اعتمد عليه الشافعية والحنفية في عدم تعميم الطلاق.
فائدة:
قال النحاة والأدباء: إذا قلنا: أحد القوم جالس، فألفه منقلبة عن واو (ومؤنثه:(أحد)، وإذا قلنا: ما جاءني أحد، فألفه ليست منقلبة عن واو)، ولا يجوز استعماله في الثبوت، بخلاف الأول.
وورد عليه سؤال مشكل، وهو أن اللفظين صورتهما واحد، ولفظ الوحدة يتناولهما، والواو فيها أصلية، فيلزم قطعا (أن) الألف فيها
منقلبة عن واو، وأن يكونا مشتقين من الوحدة/ معا. أما أن أحدهما مشتق والآخر ليس بمشتق فمشكل جدا، وهو ترجيح من غير مرجح، ويمتنع علينا بعد ذلك أن نقضي على شيء بأنه مشتق من شيء؛ لأنه لا طريق لنا إلا المشابهة، فإذا كانت توجد مع عدم الاشتقاق اختل الوثوق بسبب الاشتقاق في جميع الصور.
وعرض هذا السؤال على (جمع) كثير من الفضلاء الأعيان، فأشكل عليهم، وأقمت مدة وهو مشكل علي، ثم أطلعني الله على وجه الجواب عنه، وهو أن (أحدا) في قولنا: ما جاءني أحدا، الذي لا يستعمل إلا في النفي، مسماه في اللغة إنسان إجماعا، ولذلك أحال النحاة هذه المسألة في قولنا: ما كان مثلك أحد، وقالوا: إن المماثل لزيد إنسان قطعا فسلب أحد عنه مع أن معناه إنسان، جمع بين النقيضين، وأجازوا عكس
هذه المسألة، وهو قولنا: ما كان أحد مثلك، فإن النفي والإثبات إنما ينصرفان أبدا للإخبار، فإذا نفينا مماثلة عن كل إنسان، لم يكن ذلك محالا، فإنه قد يكون أعلى الناس رتبة.
وإذا تقرر أن (أحدا) هذا معناه: إنسان، و (أحد) الذي يستعمل في الإثبات معناه: الفرد من العدد، الذي هو نصف الاثنين، وهو أبين العدد، ومنه يتركب مراتبها، وهو نسبة خاصة، وهو معنى ذهني، لا خارجي، فإن الأعداد كلها وأجزاءها أمور ذهنية، لا وجود لها في الأعيان، فهذا المسمى ليس بإنسان قطعا، وإذا كان مسمى أحد اللفظين غير مسمى الآخر في اللغة، مع أن ضابط الاشتقاق أن نجد بين اللفظين مناسبة في المعنى والتركيب، وحينئذ نحكم بالاشتقاق كما قاله العلماء حيث حدوه وضبطوه، فإذا لم تحصل المشاركة في المعنى أو في اللفظ كما في المترادفة كالحنطة والبر، أو فيهما معا كإنسان وفرس، بطل الاشتقاق قطعا، وقد ظهر في هذين اللفظين
أن معنى أحدهما (إنسان)، ومعنى الآخر (جزء العدد) فبطل الاشتقاق قطعا.
واعلم أن حصول المشاركة في اللفظين بالنسبة إلى لفظ ثالث قليل في اللغة حتى أني لا أعلم (له) نظيرا غير هذا، ومثله بطريق الفرض والتقدير أن تكون العرب قد وضعت لفظ (ضارب) أو (بائع) للفرص أو الحجر ابتداء، / ولم تضعهما من حصل له الضرب، أو البيع، فإنهما حينئذ لا يكونان مشتقين في المعنى، وأما من غيرهما، فلعدم المشاركة في اللفظ والمعنى معا، وكذلك جميع المشتقات من أسماء الفاعلين والمفعولين وغيرها، متى فرض فيها هذا الفرض، لكن من شرطه أن يكون واقعا في أصل اللغة، أما لو فرضنا أن أهل العرف نقلوا (ضاربا)، و (بائعا) للفرس، أو الحجر، لم يمنع من ذلك الاشتقاق، لوقوع المشاركة فيهما بحسب اللغة، فيكون ضابط الاشتقاق حاصلا، فيثبت الاشتقاق بخلاف إذا وقع عدم الشركة في المعنى في أصل الوضع اللغوي، فإنه لا سبيل إلى الاشتقاق ألبتة، كما في مسألتنا في (احد)، و (واحد).
وبهذا التقرير يتجه ل كان تعلك ما هو (احد) الذي (لا) يستعمل إلا في النفي)، وألفه ليست منقلبة عن واو، وإن وجدت المقصود باللفظ: الذي هو نصف الاثنين من العدد، فقل: هذا اللفظ هو الصالح للإثبات والنفي، وألفه منقلبة عن واو.
والجواب عن السؤال الثاني من وجوه:
الأول: أنا نمنع أن قولنا: لا رجل في الدار، بالرفع والتنوين، ليس للعموم، بل للعموم، مع تسليم ما ذكرتموه من النقل، وبيانه: أن قولنا: لا رجل في الدار بالرفع والتنوين، يقتضي أنه لا رجل في الدار، بوصف الوحدة، فيقتضي ألا يكون زيد وحده في الدار، ولا عمرو وحده في الدار، وكذلك سائر أفراد الرجال، لا يكون واحد منهم في الدار وحده، بل إما ألا يكون أحد في الدار ألبتة، أو يكون فيها أكثر من واحد، أما رجل بوصف الوحدة، فهذا منفي عن جميع الرجال، فقد صارت هذه الصيغة تقتضي حكما عاما في جميع الرجال، وهو الكون بوصف الوحدة، وهذا هو حقيقة العموم أن يشمل حكم ما لا يتناهى، على سبيل الجمع والشمول، لا على سبيل البدل، الذي هو الإطلاق، فهو عموم محقق.
ومعنى قول النحاة: عدم العموم: أنه في أفراد الرجال، أي: لا تقتضي هذه الصيغة/ نفي جميع الرجال عن لدار، فالصيغة ليست عامة في الرجال باعتبار نفي الكون، وهي عامة في الرجال باعتبار نفي التوحيد بالكون. ونفي التوحيد بالكون غير نفي الكون، والأول أعم من الثاني؛ لأنه نفي الأخص، ونفي الأخص أعم من نفي الأعم، كما أن نفي الأعم أخص من نفي الأخص. ولما كان نفي التوحيد بالكون أعم من نفي الكون، لم يكن مستلزما له؛ لأن الأعم لا يستلزم الأخص، فلا جرم حصل العموم باعتبار نفي التوحيد بالكون، ولم يحصل باعتبار الكون.
وإذا تقرر أنهما حكمان، وقد حصل العموم باعتبار أحدهما، ولم يحصل باعتبار الآخر، حصل العموم قطعا، ونحن لا ندعي (إلا أصل) العموم، باعتبار ما ذكرناه من الحكم، وحصل الجمع بين ما ذكرناه من العموم وبين نقل النحاة من غير تناقض.
الوجه الثاني: سلمنا أنه ليس للعموم، لكن ذلك لأن الكلام جواب لمن قال: هل رجل واحد في الدار؟ والجواب يجب أن يكون منطبقا على السؤال، فلذلك لم يحصل العموم في نفي الكون عن جميع الرجال، وفي مسألتنا ليس هنالك سؤال يضبط بعدم العموم، فنفينا فيه على قاعدة نفي المشترك بين الأفراد، وأنه للعموم بالإجماع.
الثالث: أنا قد بينا في الجواب عن السؤال الأول أن لفظ (أحد) و (واحد) لا يمنع من العموم، وأنهما يستعملان للعموم في تلك الآيات والأحاديث المتقدم ذكرها، وها هنا اللفظ موضوع لنفي الكون بقيد الوحدة، وهذا الخصوص مانع من العموم، ولا مانع في مسألتنا، ولا يلزم من القول بعدم العموم عند قيام المانع منه عدم القول به عند عدم المانع.
تنبيه:
نظير هذه الصيغة في لسان العرب، وأنها للعموم من وجه دون وجه: صيغة (من) الاستفهامية، فإنك تقول: من في الدار؟ فيقول لك المجيب: زيد، فيكون قوله:(زيد) جوابا منطبقا على السؤال، مع أن زيدا يستحيل
أن ينطبق على العموم فكيف يمكن الجمع بين كون الصيغة للعموم، وأن الجواب بزيد منطبق عليه؟ وهو إشكال قوي.
وجوابه: أن العموم حصل باعتبار/ الاستفهام، وأن جميع المراتب من أفراد العقلاء، الاستفهام واقع فيها، وشامل لها، ولم يحصل العموم باعتبار الكون في الدار، والجواب منطق على حكم الكون الذي ليس عاما، لا على الاستفهام، ففي اللفظ حكمان، حصل العموم باعتبار أحدهما، ولم يحصل باعتبار الآخر، والجواب إنما هو بحسب ما ليس فيه عموم، ولذلك يقول لك المجيب: لا أحد في الدار، لا زيد ولا غيره، ويكون جوابا منطبقا، فحكم الاستفهام واقع في جميع الصور، والكون لم يقع في صورة، ولا تناقض في ذلك، لا رجل في الدار، بالرفع والتنوين، فيه حكمان، حصل العموم في أفراد الرجال باعتبار أحدهما دون الآخر، فتأمل هذه (الدقائق، وهذه الفروق)، وسيأتي بقية بسطها، إن شاء الله تعالى.
والجواب عن السؤال الثالث: أن الطلاق حل للعصمة، كما قاله السائل، ولا يمنع ذلك أن الطلاق سبب في الشرع للتحريم؛ لأن الأجنبية محرمة إجماعا، وعقد النكاح رافع لهذه الحرمة، وموجب للإباحة إجماعا، والطلاق سبب رافع لهذه الإباحة، ورافع الإباحة محرم، فالطلاق سبب للتحريم
جزما، والعتق. سبب مزيل للملك الذي هو المكنة من منافع الرقيق، فإذا ارتفعت هذه المكنة بالعتق، لا يقال: حرمت منفعة العبد على السيد، بل حرم عليه جبره على خدمته وإكراهه عليها.
وتحقيق هذا الفرق: أن عقد النكاح مبيح، لا مملك، وشراء العبد مملك، ولملك أخص من الإباحة، فإن كل مملوك مباح، وليس كل مباح مملوكا، ألا ترى أن الضيافة إذا قدمت للضيف أبيحت ولم تملك، إذا لو ملكها لجاز له هبتها وبيعها كسائر الأملاك، وليس كذلك، بل أبيح له أن يأكل أو يترك، كالجلوس في المساجد، والسكون في المدارس، والخوانك.
وإذا ظهر أن عقد النكاح إنما يفيد الإباحة التي هي أعم، وشراء الرقيق (إنما) يفيد الملك، الذي هو أخص، ورافع الأخص لا يلزم أن يرفع
الأعم؛ لأنه لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فلا يلزم من نفي الملك بالعتق نفي الإباحة فلا يلزم ثبوت التحريم، بخلاف ما يقتضي رفع الإباحة، (فإنه) يقتضي التحريم/ قطعا.
فهذا هو الفرق، وهو معنى قولنا: إن الطلاق تحريم، وهو سر الفرق، وسبب ثبوت التخيير العتق دون الطلاق؛ لأنه في العتق لم يحرم المشترك المستلزم تحريمه تحريم جميع الأفراد، وهي الطلاق حرم المشترك فحرمت جميع الأفراد.
وأما قول السائل: إن الأمة حرم وطؤها بالعتق كما حرم وطء المرأة بالطلاق، فمسلم، غير أن سبب ذلك أمر فيه دقة، وهو أن الملك كما تقدم أخص من الإباحة، وأنه لا يلزم منه إذا عدم وجود الإباحة ولا عدمها، وأن الأمة والزوجة الأصل فيهما أنهما أجنبيتان محرمتا الوطء، ولا يباح إحداهما
إلا بعقد نكاح أو ملك، والطلاق رافع للإباحة الكائنة من العقد، والعتق مبطل للملك، فالأمة بعد العتق محرمة؛ لأنه لم يكن فيها من أسباب الإباحة إلا الملك، وقد بطل، فيبطل ما كان مترتب عليه وهو الإباحة الخاصة الناشئة عن الملك، وليس فيها عقد نكاح، فحصل التحريم لذلك، لا لأن العتق رافع لمطلق الإباحة.
فإن قلت: إذا لم يرفع مطلق الإباحة وجب ثبوتها؛ لأن الملك لما كان يفيد إباحة خاصة والمفيد للخاص مفيد للعام، فيكون العام ثابتا بعد انتفاء الخاص، عملا بالاستصحاب، وذلك خلاف الإجماع، فيكون العتق حينئذ رافعا لمطلق الإباحة، فيكون محرما كالطلاق.
قلت: الإباحة في الملك تثبت تبعا، (وتنتفي تبعا)، أما ثبوتها تبعا: فلأن الملك يقتضي جواز البيع، والإجارة، والعارية، والهبة، والصدقة، والوقف، وغير ذلك في العين المملوكة، كانت رقيقا أو غيرها، فإن اتفق أن الرقيق أثنى، سالمة من موانع الراضع والنسب وغير ذلك، جاز
له وطؤها، ولا تقسم بقية آثار الملك، دون إباحة الوطء، فإباحة الوطء حينئذ إنما تثبت تبعا في ضمن آثار الملك، إن صادفت محلا قابلا، فإذا ورد العتق المنافي للملك وجميع آثاره، انتفت تلك الإجابة، لانتفاء متبوعها، لا قصدا بالذات، فمناقضة العتق لها بطريق العرض.
أما الإباحة في النكاح: فثبت أصالة، وتنتفي أصالة، / أما ثبوتها أصالة: فلأنها جملة أثر عقد النكاح، (دون البيع والعارية)، وبقية ما هو ثابت في الملك من الآثار، فهي حينئذ تثبت أصالة، وأما انتفاؤها أصالة، فإن الطلاق يرفع ما هو مقتضى عقد النكاح، فلما كان مقتضاه هو هذه الإباحة، كان ارتفاع هذه الإباحة أصالة، وكان الطلاق مناقضا للإباحة بالذات، والمناقض للإباحة بالذات هو التحريم، فكان الطلاق تحريما.
أما العتق فمناقض لمجموع الإباحة، فقد تثبت فيه تبعا، فلم يتعين أن يكون مناقضا لإباحة النكاح، فلا يلزم أن يكون محرما، ولذلك أن العبد المعتق لو أذن في منافعه بعد العتق صح؛ لأنه لم تحرم منافعه، وإنما ثبت استيلاؤه عليها وانتفاء استيلاء السيد فقط، والمطلقة لو أذنت في وطئها بعد الطلاق، لم يصح، والأمة أيضا لو أذنت في وطئها، ما صح الإذن، لكن ذلك لكونها أجنبية حالها قبل ورود سبب الملك عليها، لا لأن العتق مناقض للإباحة.
فنحن نسلم ثبوت التحريم في الصورتين، وإنما ننازع في كون العتق سبب تحريم الوطء، بل ذلك قد يعرض له في بعض الصور، والطلاق تحريم محض، ولم يوضع في الشرع إلا لذلك.
فهذا هو سر الفرق، فتأمله، فإنه يحتاج إلى نظر دقيق، وتأمل جميل، ولاحظ أن المناقص لمجموع أمور لا يلزم مناقضته لفرد منها، لاسيما إذا كان إنما يثبت بناء عارضا في بعض الصور، والمناقض لغير ذلك الفرد هو المناقض له حقيقة.
الفائدة الثانية:
المبنية على نفي المشترك، أو ثبوت الحكم في المشترك، مسألة وقعت في كتب الخلاف، وكتب الأصول، وهي في الحقيقة يليق ثبوتها في مسائل الخلاف؛ لأنها مسألة جزئية، والأصل ألا يثبت في أصول الفقه إلا القواعد الكلية، أما نص جزئي فإنما يبحث في الفقه والخلاف، لكن لما عظمت شهرتها، وانتشر البحث فيها، تولع الأصليون بها، وهي: أن الحنفية قالوا: إن المسلم يقتل بالذمي، وقال غيرهم: لا يقتل به. واستدلوا بقوله
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} ، فلو/ ثبت القصاص بينهما، وقتل المسلم بالذمي، كما يقتل الذمي بالمسلم، استوى أصحاب النار وأصحاب الجنة، لكن النص دل على نفي الاستواء، فلا يثبت القصاص، فأثبت الأصوليون- صاحب المحصول وغيره- هذا النص في باب العمومات، وجعلوه مسألة مستقلة من مسائل العموم لتوقف صحة هذا الاستدلال على عموم النفي في وجوه الاستواء، من القصاص وغيره حتى يندرج القصاص في تلك الوجوه المنفية.
واعلم أن البحث في تحقيق مسمى (استوى) في صيغة الثبوت، فإن النفي يتفرع على الثبوت، فأي شيء كان مسمى الثبوت هو الذي يقضى عليه بالنفي؟ .
فمنهم من اعتقد أن مسماه هو (الاستواء) في وجه ما، و (وجه ما (قدر مشترك بين جميع الوجوه، فإذا ورد النفي عليه، ورد على المشترك، ونفي المشترك مستلزم لنفي جميع أفراده، ومن جملة أفراده القصاص (فتنتفي)، هذه طريقة الشافعية.
وقال الحنفية: مسمى استواء زيد وعمرو، أي من جميع الوجوه، فمسماه المجموع، ولا يلزم من نفي المجموع نفي جزء معين من أجزائه، فلا يلزم نفي استواء الفريقين في القصاص.
والذي أعتقده في المسألة: أن الحق غير القولين، وأن مسمى (استوى (إنما هو الاستواء في المعنى الذي سيق الكلام لأجله، لا في مطلق المعنى، ولا في جميع المعاني، فإذا قالت العرب: استوى الماء والخشبة، فليس المراد من جميع الوجوه حتى يحصل الاستواء في مائية الماء وخشبية الخشب، بل التباين واقع قطعا في هذين الوجهين، وفي وجوه كثيرة جدا، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فيكون الكلام حقيقة فيما سيق الكلام لأجله، وهو الاستواء في الارتفاع عن الأرض، بسبب كثرة الماء، وليس المراد مطلق المعنى؛ لأن ذلك حاصل والماء بعيد من الخشبة في كونهما جسمين، أو متحيزين، أو مرئيين، أو ممكنين، أو معلومين إلى غير ذلك من الوجوه التي حصل الاستواء فيها، مع أن العرب لا تقول في هذه الحالة: استوى الماء والخشبة، ألبتة، فلو كان ما ذكره الشافعية صحيحا، لقالت ذلك وكذلك الآية المذكورة،
فنفي الاستواء إنما وقع فيها باعتبار ما سيق الكلام لأجله، وهو حالة النعيم والعذاب، وإلا فأصحاب/ الجنة والنار مستوون من وجوه كثيرة، لو صح قول الشافعية فإنهم أجسام، ومجزأون ومكلفون، ومدركون، إلى غير ذلك من الوجوه التي وقعت الشركة فيها، فكان لا يصح النفي بمقتضى قولهم: لكن النفي صحيح قطعا، ولكن باعتبار ما ذكرته، هو ما سيق الكلام لأجله.
وكذلك القول في المماثلة، فإذا قلنا: زيد مثل الأسد شدة، إنما تريد العرب بهذه العبارة المماثلة في الشدة فقط، وكذلك السواد مثل البياض في الافتقار للمحل، لو قلنا: هو يساويه في ذلك، لا بقول أئمة اللغة إن العبارة مجاز، بل حقيقة، وعلى هذه الطريقة لا تكون الآية تقتضي نفي القصاص، لأن الأمر إذا كان مقيدا بما دل عليه السياق، كان ما عداه مسكوتا عنه.
احتج الشافعية: بأن نفي الاستواء أعم من نفي الاستواء من جميع الوجوه
أو من بعض الوجوه، والدال على الأعم غير دال على شيء من أنواعه، وغير مستلزم له، فيكون اللفظ موضوعا للقدر المشترك بين النوعين، وهو مطلق المعنى كيف كان، فيكون نفيه مستلزما لنفي جميع جزئياته، ومنها القصاص، فينفى، وهو المطلوب.
وللخصم أن يمنع المقدمة الأولى، وهو: أن نفي الاستواء أعم، بل هو عنده موضوع لنفي الاستواء من جميع الوجوه، ومدلول الاستواء عنده في الثبوت كل لا كلي، فالمصادرة على مذهبه غير متجهة، أو نقول: هو لما دل عليه السياق، فيختص النفي به، فلا يكون أعم.
احتج التبريزي للحنفية بأن قال: نفي التساوي بين الشقين وإثباته لا يقتضي العموم في الأحكام، فلا يقتضي القصاص نفيا، ولا إثباتا؛ لأن الشيء لا يساوي غيره مطلقا، وإلا لكان هو هو فيتحدان، ولا يباينه مطلقا، وإلا لما اشتركا في المحكومية والمعلومية، فإذن لابد من تقييد التساوي بما فيه التساوي، فإذا لم يذكره كما في الآية كان مجملا، لا عاما.
ويؤكد هذا التقرير أن الفعل في سياق الإثبات مطلق إجماعا، وفي سياق النفي فيه قولان: هل هو للعموم، أو هو مطلق؟ والصحيح أنه للعموم، وعلى تقدير كونه للعموم، فيكون متعديا للمفعول بحرف جر أو بغير (حرف) جر، ويكون مطلقا في ذلك المفعول، وأن له مفعولا غير/ معين، محتمل لأمور غير متناهية، فإذا قلنا: لا تضرب زيدا، والمضروب غير معلوم، وإن كنا نعلم أن له مضروبا في نفس الأمر، فهو مجمل في المضروب، كذلك ها هنا:{لا يستوون} فعل في سياق النفي، فيكون عاما في نفي مصادره، ومفعوله الذي يقع الاستواء فيه لم يذكر، فهو محتمل لما لا يتناهى عن المفاعيل، ولم يتعين شيء منها، وكان مجملا في المفاعيل، إلا أن يقال: يتعين بالسياق، فلا يكون مجملا، غير أنه يسقط الاستدلال به على سقوط القصاص، وأن السياق ليس في القصاص.